- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠31برنامج الإيمان هو الخلق - قناة سوريا الفضائية
الأستاذ علاء :
تقديم وترحيب :
أيها السادة المشاهدون ، أهلاً ومرحباً بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم الإيمان هو الخلق ، ويسعدنا أن نكمل مشوارنا مع أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين في دمشق .
أهلاً وسهلاً دكتور ، وحياكم الله .
بكم أستاذ علاء ، جزاك الله خيراً .
تذكير بما سبق :
سيدي الكريم ، وصلنا عند مسألة هامة ، وحططنا الرحال عندها ملياً ، وهي تستحق أن نخصص لها الكثير من الحلقات ، لأنها مسألة مشكِلة عند الكثير من الناس ، ومسألة فيها أخذ ورد ، وفيها مفاهيم خاطئة ، وفيها قراءات خاطئة ، وقفنا عند مسألة الشهوة مقومًا من مقومات التكليف ، وتبينا من خلال حديثك في الحلقات الماضية بأن الشهوة طاقة ، وهذه الطاقة إما أن تكون خلاقة مبدعة ، هي أحد النواهض الأساسية للتقدم والنمو ، وحركة البناء ، وعمارة هذه الأرض ، وحمل الأمانة والرسالة من خلالها حملاً صحيحاً ، بفهم صحيح ، وإما أن تكون هذه الطاقة المتولدة عن الشهوة مدمرة قاسمة كالريح التي لا تبقي ولا تذر .
هل الشهوة معصيةٌ وذنبٌ ؟
الآن : هل في الأصل الشهوة ذنب ؟ هل الشهوة معصية ؟ هل الشهوة التي أودعها الله في الإنسان في جبلته ، في تكوينه ، هي إن كانت موجودة وأودعها الله فيه فقد أصبح مذنباً لمجرد وجود هذه الشهوة فيه ؟ أم أن هذه الشهوة هي شيء طبيعي ، ومن خلال الاستخدام ، ومن خلال التقنين نفرز بين خطين ، بين مدمر وخلاق ، بين موصل إلى الجنة وخط متردٍّ يوصل إلى الهاوية ، وإلى الدرك الأسفل من النار ، نسأل الله اللطف .
كيف نفهم هذه المسألة ؟ نفهم الجانب السلبي فيها ، وسيدي الكريم إذا سمحت لي ، وقد أطلت الشهوة في كل الدنيا تتركز في مسألتين في النساء وفي المال ، إما أن ينزلق الإنسان وراء فضيحة أخلاقية ، أو فضيحة مالية ، كيف نقرأ هذه اللوحة سيدي ؟
الدكتور راتب :
الشهوة حيادية :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ علاء جزاك الله خيراً ، عنوان هذا البرنامج الإيمان هو الخلق ، وقد تحدثنا واتفقنا في حلقاته الأولى أن الخلق هو الضبط ، لأن الإنسان أودع الله فيه الشهوات ، هذه الشهوات ليست خيرة ولا شريرة ، إنها حيادية ، إما سلم نرقى بها ، وإما دركات نهوي بها قال تعالى :
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ﴾
هذه الشهوات ما أودعها الله فينا إلا لنرقى بها إلى رب الأرض والسماوات ، هي قوة دافعة ، فإن لم يحسن الإنسان توجيهها كانت قوة مدمرة ، إذاً : ليست الشهوة معصية ، إنها شيء طبيعي فطري ، بل إن الله سبحانه وتعالى أشار في آية دقيقة إلى أن الخطأ الكبير هو أن تمارس هذه الشهوات بعيداً عن منهج الله :
﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾
المعنى المخالف أستاذ علاء : أنك إذا اتبعت هواك وفق منهج الله فلا شيء عليك ، لأنه ليس في الإسلام حرمان ، لكن في الإسلام تنظيم .
خطر الشهوة يأتي من سوء الاستخدام :
كنت أضرب هذا المثل كثيراً : أن الخطأ يأتي من سوء الاستخدام ، الملح مادة قيمة نافعة ، إن وضعته في الحلويات أفسدناها ، والسكر شيء أساسي في حياتنا ، إن وضع في الطعام أفسدناه ، ومسحوق الغسيل نحن بأمسّ الحاجة إليه أيضاً ، إن وضع في الطعام أفسدناه أيضاً ، فالخطأ يأتي من سوء الاستخدام ، والخطأ لا يحتاج إلى خالق :
(( وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ ))
هذا فحوى حلقات الشهوات السابقة .
ولكن الآن ينبغي أن نفهم أن عظمة هذا الدين أنه دين الفطرة ، وأن عظمة هذا الدين أنه دين الحياة ، فموقف الإسلام موقف وسطي ، بين أديان أرضية أنكرت هذه الشهوة كلياً ، وبين حضارة حديثة أطلقت لهذه الشهوات العِنان ، فبين حرمان وكبت وعقد نفسية ، وبين تفلت وإباحية أنهت المجتمع .
الأستاذ علاء :
من حالة مَرَضية إلى حالة مَرَضية .
الدكتور راتب :
أنا أذكر أن رئيساً في أمريكا ، والقصة القديمة ، قال : يتهدد أمريكا خمسة أخطار ، إلى أن سمعت بقية الخبر توهمت خطر الصين ، خطر أوربا ، خطر اليابان ، فإذا بالأخطار من نوع آخر ، خطر تفكك الأسرة ، خطر شيوع الجريمة ، خطر انتشار المخدرات ، حينما يتحرك الإنسان بلا منهج ، بلا وحي من السماء ، بلا ضوابط ، بلا قيم يكون الانحلال ، ويكون سقوط الإنسان في الحياة الدنيا ، والإنسان يعلو ، ويعلو ، ويعلو ، فتشرئب الأعناق إلى علوه ، ويسقط ولا نرى سقوطه أحياناً ، تترفع عن أفعاله الحيوانات العجماوات .
فلذلك الإسلام وسطي ، الشهوة سمح بها ، وحض عليها ، سيد الخلق وحبيب الحق ، قال :
(( أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ))
الإسلام وسطي ، كما أننا نقول دائماً : نحن نصغر أمام إنسان يموت في سبيل الله ، لكننا في الوقت نفسه نريد إنساناً يعيش في سبيل الله ، يقدم نموذجاً صارخاً للإنسان المسلم المتوازن ، الذي نما عقله ، ونما وجدانه ، وقوي جسمه ، فنحن حينما نعتني بجانب دون جانب نتطرف ، أما حينما نتحرك في الخطوط الثلاثة ، وننمي عقولنا بالعلم ، وننمي قلوبنا بالقيم والمبادئ ، وننمي أجسامنا بالغذاء الجيد ، والرياضة ، والاعتناء بالجسم عندئذٍ نتفوق .
النقطة الدقيقة أن هذه الشهوة كما بينا في الحلقات السابقة فيها جوانب إيجابية ، إنسان تزوج امرأة صالحة ، أنجب أولاداً صالحين ، بيته قطعة من الجنة ، ترك عناصر للمجتمع واعية نظيفة منضبطة مستقيمة بناءة ، ترى أن هذه الأسرة خير كلها ، العلاقة بين الزوجين خير كله ، الأولاد خير كله ، لكن حينما تمارس هذه الشهوة بخلاف منهج الله يكون الدمار ، يكون الطلاق ، تكون الخيانة الزوجية ، يكون تشرد الأولاد ، لعل هذا اللقاء الطيب يجب أن يتوجه إلى الوسائل التي يمكن أن نتوقى من خلالها الجانب المدمر من الشهوة .
الأستاذ علاء :
وخاصة الشهوة المتعلقة بالنساء ، لو سمحت لي أن نفرد في هذه الحلقة هذا الجانب .
سيدي الكريم ، هذا الجانب ، طالما الله أودع الشهوة في الإنسان الرجل الذكر والأنثى ، هي تشتهي الرجل ، وهو يشتهيها ، الله عز وجل جعل منهاجا للقاء الرجل والمرأة من خلال الزواج ، والزواج في الإسلام له أيضاً بحبوحة واسعة في مسألة التعدد ، وفي مسألة الإنجاب ، وفي مسألة العدل ، هذه قضية ، سيدي الكريم هنالك من يقول : نحن في مجتمع كلما لفت نظره ، كلما نزل إلى الشارع ، ذهب إلى السوق ، ذهب إلى المطعم ، ذهب إلى عمله ، فالعرض البانورامي إن صح التعبير الواسع للنساء مِن حوله واسع ، ويمايز ما بين مظاهر قد تكون مظاهر حقيقية ، أو غير حقيقية من الجمال ، أو التي تأخذ منه مأخذاً ، فتعمل في داخله ما تعمل ، ينساق ، ويرى نفسه بأنه موثق ، هكذا الخطوات باتجاه الانحراف ، ماذا نقول ؟
الدكتور راتب :
التفلت وضعٌ غير طبيعي :
الحقيقة حينما قال الله عز وجل :
﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً ﴾
أنا أركز على كلمة :
﴿ جَمِيعاً ﴾
﴿ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ﴾
أوضح هذه الآية بالمثل التالي :
لو أنك تملك هاتفاً ، ولك خمسون صديقا لا يملكون هاتفاً ، فما قيمة هذا الهاتف ؟ لا قيمة له إطلاقاً ، لا تقطف ثمار الهاتف إلا إذا كان عند كل من تحتاج إلى أن تتصل بهم هواتف .
حينما يتفلت المجتمع من منهج الله نحن نغض البصر ، لكن الوضع غير طبيعي ، لو أن إنسانا أكل باستمرار ، ما الذي يحدث له ؟ تخمة قاتلة ، وكذلك هذه الإثارة في الطريق ، وفي أي مكان ، في السوق هذا غير طبيعي ، هذا وضع استثنائي ، حتى في العالم الغربي ، العمل عمل ، والنزهة نزهة ، والفرح فرح ، أمّا في كل لحظة ، في كل دقيقة ، في كل مكان وزمان ، في الصحيفة ، في المجلة ، في الطريق ، هذا شيء غير طبيعي .
الإسلام أمر المرأة بالاحتشام والرجل بغض البصر :
لذلك منهج الله في هذا أنه أمرَ المرأة بالاحتشام ، وأمر الرجل بغض البصر ، فهذه الفتاة المؤمنة بالله عز وجل حينما تسهم في إعفاف الشباب تؤدي أعظم عبادة أنيطت بها ، إن مفاتنها لمن تحل له فقط ، لا لمن لا تحل له ، الفتاة حينما ترتدي ثياباً محتشمة إنما تؤدي عبادة كما يقال للرجال عبادة الجهاد ، حينما تؤدي هذه العبادة ، وهي إعفاف الشباب تكون في أعلى درجة من القرب إلى الله عز وجل ، فلا تسهم هذه الفتاة بتبذلها وتفلتها وخروجها عن نظام الحشمة ، عندئذٍ لا تسهم هذه الفتاة في إفساد الشباب ، أما إذا فعلت ذلك فقد أسهمت في إفساد الشباب .
الأستاذ علاء :
تقول المرأة وهي تجلس مع الفتيات : أنا ما لبست هكذا من أجل أن أفسد أحداً ، أنا ما خرجت بهذا الزي وبهذه الطريقة المتبرجة حتى أغوي أحدا ، لكن لماذا خرجت هكذا ؟ أنا أحب هذا الشيء ، ألبسه لي ، طيب ألبسيه في بيتك .
الدكتور راتب :
الفساد بتبرج المرأة واقع أريد له أم لم يقصَد :
هذا فهم قاصر للحرية ، أنا تنتهي حريتي حينما تبدأ حرية الآخرين ، فحينما أفسد مَن حولي قصدتُ أو لم أقصد ، الفساد وقع ، هناك أشياء في حياتنا يقع فساد كبير منها ، فالقصد لا قيمة له ، ما دام قصدت أو لم أقصد فعندنا قاعدة : هذا المحرك لو وضع فيه سكر يفسد فوراً ، يحتاج إلى خمسين ألفًا لإصلاحه ، قصد هذا العلم أم لم يقصد ، فسد المحرك .
الأستاذ علاء :
الأمر الآخر سيدي ، الأشياء التي يمارسها الإنسان لنفسه ، في منزله ، في بيته ، هذه القضايا هنا فعلاً لا تجرّ على غيره شيئا ، لكن عندما ينزل إلى المجتمع فهو جزء من هذه الكتلة ، مِن هذه اللوحة .
الدكتور راتب :
لا تنقل الفساد إلى الأماكن العامة :
الطريق ملكُ الجميع ، أنا أذكر امرأة في مركبة عامة ، يبدو أن السائق وضع أغنية ساقطة ، ممنوع أن تذاع ، ساقطة جداً ، وقفت امرأة ، وقالت له : هذا الشريط تسمعه في بيتك ، لأنك حر في سماعه ، أما هذه فمركبة عامة .
فالإنسان في بيته يفعل ما يشاء ، ويحاسب على أفعاله في بيته ، لكن لا ينتقل الأذى إلى الشأن العام ، فنحن نكون مقيَّدين بمنهج الله ، الرجال يغضون أبصارهم ، وقد قال الله عز وجل :
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾
غض البصر والتقيد بالشرع دليل خوفٍ من الله :
هنا ملاحظة رائعة جداً ، في كثير من الأحيان تلتقي شرائع الأرض مع شرائع السماء ، فلو أن إنسانا لم يمد يده للحرام فبماذا تعلّل ذلك ؟ قد أعلله بخوفه من الله ، وقد أعلله بخوفه من ضبط محكم في هذه المؤسسة ، أنا لا أعلم لماذا لم يأخذوا المال الحرام ، خوفاً من خالق الأكوان ؟ أم من نظام محاسب دقيق جداً يكشف اختلاسه ؟ لكن لحكمة بالغة بالغةٍ بالغة في الدين بعض الأوامر والنواهي لا علاقة لها بالقوانين إطلاقاً ، فالذي يأتمر بها حتماً يخاف من الله ، منها غض البصر ، فما في الأرض تشريع يمنعك أن تنظر ، فإذا غض الإنسان بصره معنى ذلك أنه يؤكد لنفسه أنه يخاف من الله عز وجل .
الأستاذ علاء :
بالعكس سيدي ، الأشياء الأرضية الموجودة هي تحض على ألا يغض الإنسان بصره ، سواء بإعلان طرقي ، أو بإعلان تلفزيوني ، أو بصحيفة ، أو حتى في الحالة المبسوطة في الشارع ، فلذلك عندما يغض بصره هو كما تفضلت يخاف الله عز وجل .
الدكتور راتب :
لو تعمقنا قليلاً لوجدنا ، الإنسان في أيام الصيف الحارة ، إذا كان رمضان في الصيف ، وعند الساعة 12 ، كاد يموت عطشاً ، ودخل إلى بيته ، والأبواب مغلقة ، والستائر مغلقة ، وفتح باب الثلاجة ، والماء عذب فرات بارد لا يستطيع أن يضع في فمه قطرة ماء .
هذه عظمة الدين ، لكن إذا كان التشريع أرضيًا يُخترق ، مثلاً : المواطن متى لا يستخدم المحمول وهو يقود مركبته ؟ إذا كان هناك شرطي مرور ، أما إذا كان وحده فيستخدمه .
كنت مرة في أمريكا ، سمعت من سيارة صوت ، سألت صاحبها ، قال لي : هذا الصوت ينبهني إلى أن هناك جهازًا لكشف السرعة الزائدة ، فواضع القوانين إنسان ذكي ، والمواطن أذكى ، وهي معركة بين عقلين .
أما حينما يأتي ابن سيدنا عمر لراعٍ ، يقول له : "يعني هذه الشاة ، وخذ ثمنها ، يقول : ليست لي ، يقول له : قل لصاحبها : ماتت ، أو أكلها الذئب ، يقول : والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها ، ولو قلت لصاحبها : ماتت ، أو أكلها الذئب لصدقني ، فإني عنده صادق أمين ، ولكن أين الله ؟! " .
الأستاذ علاء :
البنت التي رفضت أن تخلط الحليب بالماء ، مع أمرِ أمّها لها في الهزيع الأخير من الليل .
الدكتور راتب :
يمكن لإنسان مصاب بمرض الكبد وبائي ، هذا مرض وبائي قاتل ، إذا لم ينظف يديه جيداً ، يمكن أن يصيب 300 من رواد المطعم بهذا المرض القاتل إذا لم يخف الله .
ما الذي يضبط الإنسان في خلوته ؟ من الذي يضبط الإنسان في بيته ؟ في غرفته ؟ الدين يصل معك إلى فراش غرفة النوم ، الدين مبادئه تنطلق من فراش غرفة النوم إلى العلاقات الدولية ، فهو منهج دقيق جداً .
لأن هذه الشهوة عميقة ، متغلغلة في نفس الإنسان ذكراً كان أو أنثى ضبطها الإسلام بثياب محتشمة ترتديها المرأة ، وضبطها بآية غض البصر للرجل .
الأستاذ علاء :
غض الرجلُ البصر ، واحتشم من احتشم ، ولم تحتشم من لم تحتشم يا سيدي ، هل من مساعدات على الجانب السلبي من شهوات الإنسان ؟
الدكتور راتب :
الاستعانة بالصلاة على اجتناب الشهوات فيما لا يرضي الله :
قال تعالى :
﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾
أستاذ علاء ، هذا الهاتف المحمول يحتاج إلى شحن ، إذا شحنته ترى رنته قوية ، وصوته واضحا ، أما إذا ضعف الشحن انقطع الصوت ، وانطفأت الشاشة ، معنى ذلك أن الشحن يحتاج إلى استمرار .
الموضوع العلمي :
الأستاذ علاء :
كنت أود أن نستمر في الموضوع ، ولكن حان وقت الفلم العلمي ، والاختيار اليوم وقع على أي شيء سيدي ؟
الدكتور راتب :
تكوُّنُ الجنين في رحم الأم :
لا زلنا في تكوِّن الجنين ، وهو من أعظم الموضوعات الدالة على عظمة الله ، نعيش في عالمنا الذي هو كوكب مليء بالحياة لأنواع لا تحصى من الكائنات ، وحيدة الخلية وحيدات الخلية جميعها تتكاثر عن طريق الانقسام ، وتكون نسخة عنها في أثناء انقسامها ، جميع الكائنات الحية تتكاثر خلاياها عن طريق الانقسام ، أما البويضة ، أما الجنين النامي في رحم الأم فيبدأ الحياة بخلية واحدة كما ترون ، تتكاثر هذه الخلية بنسخ نفسها كذلك ، هنا لولا تدخل تنظيم خاص للزم جراء انقسام الخلايا ظهور كتلة لحم مؤلفة من خلايا متشابهة ، وليس إنساناً ، لكنه لا يحصل شيء كهذا ، لأن الخلايا ليست عاطلة إلى هذا الحد ، بل تبدأ النطفة والبويضة بعد الالتقاء بأسابيع بالتمايز عن بعضها بأمر خفي كما نرى ، أُعطِيَ لكل منهما .
والآن نشاهد هذا التغيّر الذي يعد معجزة لدى العلماء ، فالخلايا التي لا وعي لها شرعت في إنشاء الأعضاء الداخلية والهيكل والدماغ ، ها هنا بدأ تكون خلايا الدماغ داخل هذين الفراغين ، هذا المشهد الذي ترونه ملتقط بمجهر إلكتروني يبين بداية تشكل الدماغ ، وفي نهاية هذا الإنشاء سيصبح الجنين ذا عشرة مليارات من خلايا الدماغ ، الآن نشاهد تكوّن خلايا الدماغ ، يضاف لمجموعة هذه الخلايا في كل دقيقة مئة ألف خلية جديدة ، كل خلية جديدة تعلم مسبقاً كيف تتصرف ، وإلى أين ترجع ، ومع أي الخلايا يجب أن ترتبط ، كل خلية تجد مكانها بين احتمالات لا حصر لها ، وترتبط مع الخلايا التي يجب أن ترتبط معها ، وكأن لها عقلاً راجحاً .
الحقيقة الدقيقة : أنه يولد في الدماغ مئة مليون وصلة عصبية ، أو وصلة من الخلايا ، هذه الخلايا صنعت بطريقة عجيبة ، والمنطق يقول : يجب أن تملك هذه الخلايا عقلاً يفوق عقل الإنسان ، لكن هذه الخلايا ليس لها أي عقل ، ليس فقط خلايا الدماغ ، بل كل واحدة من الخلايا المتكاثرة بانقسامها داخل الجنين تقوم برحلة من أول مكان تكونت فيه نحو النقطة التي يجب أن تتواجد فيها ، وكل واحدة تجد المكان الذي يجب أن تكون فيه ، وهنا تقوم بالارتباط بالخلايا التي يجب أن ترتبط معها ، هذه الخلايا ليس لها أي وعي ، فمن يلهم هذه الخطط ؟.
يقول دكتور متخصص في علم الأجنة : " تقوم جميع هذه الخلايا المتشابهة مع بعضها برحلة فجأة ، وكأنها تلقت أمراً من مكان واحد ، وتذهب كلها إلى أماكن مختلفة تعمل على تكوين أعضاء مختلفة ، هذه الخلايا المتماثلة خلايا لا تعرف ما ستفعله ، وتبدأ بعد الخلايا المتغيرة ، هذه عضلة القلب ، بالانقباض والانبساط فجأة ، وبعد ذلك تجتمع مئات آلاف الخلايا في مكان واحد لتكون القلب ، هذا القلب يستمر بالخفقان حتى نهاية الحياة " .
الأستاذ علاء :
إذاً : بعد التمايز اجتمعت المتمايزة من جنس واحد .
الدكتور راتب :
ارتباط خلايا الجنين مع بعضها إعجاز عظيم :
الآن نشاهد معجزة كبيرة جداً في هذه الخلايا المستقلة عن بعضها ، ففي الأصل هي خلايا العروق ، ثم فجأة تبدأ هذه الخلايا بالتماسك ببعضها ، وتقيم ارتباطات فيما بينهما وتشكل خلايا العروق ، تُرى من أين تعلمت هذه الخلايا وجوب تكوين العروق ؟ وكيفية القيام بهذا ؟ هذه من الأسئلة التي لن تجد جواباً لها في الأوساط العلمية ، الخلايا تتقارب ، وتتواصل إلى أن تشكل شبكة العروق ، وكأنها عاقلة .
في النهاية تصنع خلايا العروق نظام أنبوب رائعاً ، ليس عليه أي ثقب أو شق ، السطح الداخلي للعروق أملس ، وكأنه صنع يد صانع ماهر ، نظام العروق هذا سيبدأ بعد مدة بنقل الدم إلى جميع أنحاء الجسم ، ويبلغ طول شبكة العروق كلها أربعين ألف كيلومتر ، شبكة العروق هذه طولها أربعون ألف كيلومتر ، وهذه المسافة تساوي الطول الكامل لمحيط الأرض ، يساوي طول الأوعية الدموية في جسم الإنسان .
ويستمر النمو في بطن الأم دون توقف ، وتصل أطراف الجنين في نهاية الأسبوع الخامس إلى مرحلة يمكن فيها رؤيتها ، هذه أطرافها ، بداية الطرف ، هذه النتوء سيصبح يداً بعد مدة ، تبدأ بعض الخلايا بصنع الأيدي ، إلا أنه يقوم قسم من الخلايا بعد مدة بعمل محير ، هذه كف الإنسان ، قسم من الخلايا يعمل عملاً محير جداً ، ماذا يفعل ؟ تقوم آلاف من هذه الخلايا بتضحية جماعية ، لكن لماذا تقدم هذه الخلايا أنفسها ضحية ؟ هذه التضحية تخدم هدفاً مهماً جداً ، أجسام الخلايا الميتة على خط معين ضروري لتكوين الأصابع ، ما بين الأصابع تنتحر الخلايا ليصبح هذا الفراغ بين الأصابع ، وتأكل الأخرى الخلايا الميتة ، تتشكل في هذه المناطق الفراغات اللازمة بين الأصابع
لماذا تقوم آلاف الخلايا بتضحية كهذه ؟ كيف تقوم الخلية بالتضحية بنفسها ليصبح الطفل المولود ذا أصابع في المستقبل ؟
هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ
مِن أين عرفت هذه الخلية أنها بهذه التضحية تخدم هدفاً كهذا ؟ كل هذا يوضح مرة أخرى أن جميع الخلايا المكونة للإنسان موجهة من قِبل الله تعالى ، وفي هذه الأثناء تبدأ بعض الخلايا بصنع الساق ، لا تعرف الخلايا بأن الجنين سيحتاج إلى المشي ، وعلى الرغم من كل ذلك تتكون الساق والأرجل في هذه المرحلة .
شيء لا يصدق ، كله يجري في بطن الأم بعلم عليم ، وحكمة حكيم .
والآن ننظر إلى وجه هذا الجنين ذي أربعة أسابيع ، في هذه المرحلة تتكون حفرتان في جانبي رأس الجنين أمرُ تصديقِه صعب جداً ، لكن في هاتين الحفرتين تنشأ العينان ، ويبدأ تشكل الأعين في الأسبوع السادس حيث تعمل الخلايا طوال الأشهر ضمن خطة لا يستوعبها العقل ، وتكوّن أقسام العين المختلفة بتتابع عجيب ، تصنع بعض الخلايا القرنية ، وبعضها الحدقة ، وبعضها العدسة ، وتقف كل خلية عند وصولها إلى حد انتهاء قسم التي يتوجب عيها صنعه ، وتنشأ العين المكونة من أربعين طبقة بشكل كامل ، وهكذا يكون خلق الله عز وجل لهذا الإنسان ، العين التي تعد أفضل آلة تصوير على الإطلاق ، هذه العين قال الله تعالى عنها :
﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ﴾
تعد أعظم آلة تصوير على الإطلاق ، تخلق في بطن الأم من العدم ، فقد حُسب بأن الإنسان الذي سوف يولد سيفتح عينيه ، سيواجه عالماً ملوناً ، لذلك خُلقت عيناه متناسبتين مع هذا العالم .
وقد حُسب أيضاً فضلاً عن الصور الملونة ، حُسب لهذا المخلوق الذي يخلقه الله في بطن أمه أنه يحتاج إلى أن يسمع الأصوات والأنغام ، والتي ينبغي أن تهيأ أداة بالغة الدقة لاستقبالها ، وهي الأذن التي ستسمع هذه الأصوات ، كذلك ينشأ في بطن الأم حيث تشكل الخلايا أفضل جهاز ضاغط للصوت على وجه الأرض .
هذه المشاهد تذكرنا مرة أخرى أن السمع والبصر من النعم الكبيرة التي منحها الله تعالى للإنسان ، وإلى هذا يشير الله عز وجل في قوله :
﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾
تحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
***
الأستاذ علاء :
خاتمة وتوديع :
ما أجمل أن يكون الإنسان شاكراً ، لا يسعني أعزائي المشاهدين إلا أن أشكر شكراً جزيلاً الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين في دمشق ، شكراً لك .
وإلى اللقاء مع السادة المشاهدين في الأسبوع القادم بإذن الله .