- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (017) سورة الإسراء
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
المراتب الدنيوية مؤقتة لا تعني شيئاً :
الآية الحادية والعشرون من سورة الإسراء وهي قوله تعالى :
﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) ﴾
حينما قال الله عز وجل :
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ
لحكمة أرادها الله يعطي إنساناً الدنيا بالقدر الذي يريده هو ، وبالوقت الذي يريد ، إلا أن الحظوظ في الدنيا الآن موزعة ، لكن هناك اختلافاً كبيراً ، مثلاً وازن بين إنسان في الجيش، جندي مثلاً وإنسان رئيس أركان ، بين ممرض وبين أكبر طبيب جراح ، بين بائع متجول وبين رئيس غرفة تجارة ، بين مزارع بسيط وبين إنسان يملك ألف دونم ، وعنده معدات حديثة في الزراعة ، بين إنسان لا يملك قوت يومه وإنسان يحار كيف ينفق المال .
﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ
إنسان يتمتع بعينيه ، إنسان لا يرى بعينيه ، إنسان يتمتع بعقله الراشد ، وإنسان مودع في مستشفى المجانين ، إنسان يتمتع بأعلى درجات النشاط ، وإنسان مقعد على الفراش ، إنسان عنده زوجة ترضيه ، وإنسان عنده زوجة تسخطه ، إنسان عنده أولاد أبرار ، وإنسان عنده أولاد غير أبرار .
﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
من حيث الدخل ، بيت أربعمئة متر ، حديقة بأرقى أحياء دمشق ، وبيت بأطراف المدينة تحت الأرض عبارة عن خمسين متراً .
﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
إلا أن هناك سؤالاً دقيقاً ، سيد الخلق وحبيب الحق ، وسيد ولد آدم ونبي هذه الأمة ، كان إذا أراد أن يصلي قيام الليل لا تتسع غرفته لصلاة الليل ونوم السيدة عائشة ، فكانت تبتعد أو تنزاح قليلاً ليصلي قيام الليل ، سيدنا علي يقول : "فلينظر ناظر بعقله أن الله أكرم محمداً أم أهانه حين زوى عنه الدنيا ، فإن قال : أهانه فقد كذب ، وإن قال : أكرمه فلقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا " .
أردت من هذه الموازنة ، من حيث البيت ، من حيث الزوجة الأولاد ، الصحة ، الدخل ، من حيث عملك جندي أم رئيس أركان ، ممرض في مستشفى أم مدير مستشفى ، بائع متجول أم رئيس غرفة تجارة ، مسافة كبيرة جداً ، أستاذ جامعة ذو كرسي ، ثلاث ساعات بالأسبوع ، تعويض تفرغ ، تعويض تأليف ، معلم ابتدائي بقرية هو والآذن ، والمعلم ، والمدير .
﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
لعلكم تظنون أن الأقوياء أسعد من الضعفاء ، والأغنياء أسعد ، أنا أمهد لحقيقة خطيرة جداً ، هذه الدرجات في الدنيا ، أولاً مؤقتة ، الموت ينهي صحة الصحيح ومرض المريض، وينهي قوة القوي وضعف الضعيف ، وينهي وسامة الوسيم ودمامة الدميم ، وينهي مرض المريض وقوة القوي ، الموت ينهي كل شيء ، والناس جميعاً في القبور سواسية ، كلهم بعد حين يصبحون عظاماً متفرقة في القبر .
إذاً : هذه المراتب الدنيوية ، مراتب المال ، مراتب الصحة ، مراتب الذكاء ، مراتب القوة ، المناصب ، مراتب الحواس والملكات ، هذه لا تعني شيئاً لأنها مؤقتة ، والدليل : إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ومنزل ترح لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء - لأن الرخاء مؤقت ، والشقاء مؤقت - قد جعلها الله دار بلوى وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي .
درجة الآخرة كسبية وأبدية :
لم ندخل بعد في الآية :
﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
فعلاً يوجد مسافات شاسعة جداً بين الأغنياء والفقراء ، يقول لك : أنا من شهرين لم آكل وقية لحمة ، يوجد أغنياء في بعض بلاد النفط يقدم قاعوداً ، وهذا أرقى أنواع الأكل ، هذا جمل صغير يأكل الأمير نصف وقية والباقي يرمى في القمامة ، إنسان من سنة لم يأكل وقية لحمة ، وإنسان اللحم يلقى في القمامة :
﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
بالأكل ، بالشرب ، بالشكل ، بالوسامة ، بالدمامة ، بالمال ، بالزوجة ، بالأولاد ، بالبيت ، بالمركبة ، تجد مركبة موديلها من سنة ألف وتسعمئة وثمان وأربعين ومركبة موديلها سنة ألف وتسعمئة وأربع وتسعين أو خمس وتسعين مثلاً ، لا يوجد نسبة .
﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
لكن حظوظ الدنيا أيها الأخوة لا تعني شيئاً ، لماذا ؟ لأنها مؤقتة ، وثانياً لأنها لا تتناسب مع مكانة الإنسان عند الله ..
(( عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره
دخل على النبي الكريم صحابي من فقراء الصحابة ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( أهلاً بمن خبرني جبريل بقدومه ))
الصحابي صعق ، قال :أو مثلي ؟ من أنا ؟ قال : رب أخ أنت خامل في الأرض ، علم في السماء ، المراتب الدنيوية من صحة إلى مال إلى جاه إلى تفوق إلى وسامة . . . .إلخ لا تعني شيئاً لأنها مؤقتة ولأنها لا تتناسب مع مكانة الإنسان عند الله ، الدليل :
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً
المال ، النساء ، الغنى ، البلاد الجميلة ، الأجانب .
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) ﴾
مرةً ملك سأل وزيره : من الملك ؟ الملك جبار فخاف الوزير منه ، قال له : أنت الملك ، قال له : لا ، لست أنا الملك ، الملك رجل لا نعرفه ولا يعرفنا ، له زوجته ترضيه ، وبيت يؤويه ، ورزقٌ يكفيه ، إنه إن عرفنا جهد في استرضائنا ، وإن عرفناه جهدنا في إذلاله ، لا نعرفه ولا يعرفنا ، ماذا أريد من كل هذا الكلام ؟ أن أصل إلا أن البطولة أن تحتل مرتبة عالية في الآخرة ، لماذا ؟ لأنها إلى أبد الآبدين ، ولأنها تتناسب مع مكانتك عند الله ، ولأنها كسبية ، أحياناً إنسان يموت معه ثلاثمئة مليون عنده ابن عمره تسع سنوات ، هذا ولد يملك ثلاثمئة مليون ، ولكن ليس بشطارته ، لأنه ابنه فقط ، حظوظ الآخرة تتناسب مع كسب الإنسان في الدنيا ، وحظوظ الآخرة إلى أبد الآبدين .
﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) ﴾
تكاد تكون الآخرة فيها مراتب بعدد أهل الجنة ، عندنا الموظفون عشر درجات ، كل درجة ثلاثة مستويات ، أولى ثالثة ، ثانية ثانية يصبحون ثلاثين درجة ، أما درجات أهل الجنة فبعدد أهل الجنة ، والدليل :
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) ﴾
كل إنسان له درجة بحسب عمله ، درجة الآخرة لها معنى ، كسبية ، ودرجة الآخرة أبدية ، كسبية وأبدية ، أما درجة الدنيا فقد تتناقض مع مكانتك عند الله ، بالعكس الله يمد للكافرين.
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) ﴾
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) ﴾
مراتب الدنيا مؤقتة ، ولا تعني شيئاً ، وقد تعني عكس واقعها ، لكن مراتب الآخرة تتناسب مع مكانتك عند الله ، وكسبية بحسب عملك ، وأبدية ، العاقل يسعى لمرتبة الدنيا أم لمرتبة في الآخرة ؟ يسعى لمرتبة عالية عند الله أم عند الناس ؟
﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) ﴾
لهذا يقول سيدنا علي كرم الله وجهه ، سيدنا علي يعدّ كلامه أفصح كلام على الإطلاق بعد كلام رسول الله ، فمن أساليب النبي البلاغية أنه مرةً يقول :
(( أول من يمسك بحلق الجنة أنا ، فإذا امرأة تنازعني تريد أن تدخل الجنة قبلي ، قلت : من هذه يا جبريل ؟ قال : هي امرأة مات زوجها وترك لها أولاداً فلم تتزوج من أجلهم ))
إذا سمعت هذا الحديث امرأة مات عنها زوجها ، وهي في العشرينات ، وترك لها ولدين ، فأبت الزواج رعاية لحق هذين الولدين ، إن سمعت المرأة هذا الحديث بماذا تشعر ؟ يمكن أن تذوب ، النبي كان بليغاً ، منقول بالأثر عنه أنه أفضل إدام الجوع ، أن تكون جائعاً ، هو يصف الإدام ، ترك الإدام ووصف حالة الآكل ، في البلاغة لقطات لطيفة جداً ، قال : "أنا أفصح العرب بيدا أني - عندما قال بيد أني كأنه سيذم نفسه - من قريش ، وقريش أفصح قبيلة بالعرب ، هذا اسمه : أسلوب المدح بما يشبه الذم ، من أساليب النبي عليه الصلاة والسلام ، سيدنا علي يبدو أنه تعلم من النبي أساليب رفيعة قال : الغنى والفقر متى ؟ بعد العرض على الله، لا في الدنيا ، الغنى غنى العمل الصالح ، والفقر فقر العمل الصالح ، هذه الآية أخواننا لوحدها بحث .
﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) ﴾
حتى بمستوى الحج يقول لك : كلفتني الحجة مئتين وخمسين ألفاً ، و حاج ثان كلفته اثنين وأربعين ألفاً ، هذه غير هذه .
﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) ﴾
الإنسان العاقل يسعى لمرتبة في الآخرة ، والمرتبة في الآخرة يحصلها كل إنسان ، لكن مراتب الدنيا ، مثلاً زار مدير شؤون الموظفين ، هو في هذا المكان حتى يموت ، لا يوجد أمل لتصل إلى هذه المرتبة ، لكن مراتب الآخرة مفتوحة لكل البشر ، كل إنسان إذا أطاع الله عز وجل احتل مرتبة في الآخرة .
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) ﴾
توزيع الحظوظ في الدنيا توزيع ابتلاء :
مرة ثانية : الحظوظ في الدنيا ، انظر الحظوظ أعني بها شيئاً دقيقاً ، المال حظ ، الصحة حظ ، الزوجة حظ ، الأولاد حظ ، القوة حظ ، الوسامة حظ ، الملكات العالية حظ ، هذه حظوظ الدنيا ، حظوظ الدنيا موزعة في الدنيا توزيع ابتلاء ، لا تعني شيئاً ، قد يكون الفقير أقرب إلى الله من الغني ، وقد يكون الحاجب أقرب إلى الله من المدير الجالس وراء الطاولة ، وقد تكون الدابة خير من راكبها ، هكذا النبي ذكر في بعض الأحاديث ، قد تكون الدابة خير من راكبها ، الحظوظ في الدنيا لا تعني شيئاً ، إنما قد وزعت توزيع ابتلاء ، لكن الحظوظ في الآخرة تعني كل شيء ، لأنها أولاً : أبدية ، وثانياً : كسبية ، أبدية وكسبية ، بالدنيا عكسها ، لا هي أبدية بل مؤقتة ، ولا هي كسبية بحسب حكمة الله عز وجل ، فلذلك الإنسان عليه قال : ابتغوا الرفعة عند الله .