- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (022) سورة الحج
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الأخوة الكرام، فمَع الآية الأولى والثانية من سورة الحج، وهي قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)﴾
مثال تَوْضيحي ؛ لو أنَّ طِفلاً صغيرًا قال لك: معي مبْلَغٌ كبير، فهذا الطِّفْل الصغير إذا قال لك معي مبْلغٌ كبير، فَكَم تظنّ هذا المبلَغ ؟ مائة ليرة أو أقلّ، أما إذا قال لك أحد أكْبَر أغْنِياء القُطْر: لي رصيدٌ كبير فَكَم تُقَدِّر هذا الرَّصيد ؟ كلمة كبير هي واحِدَة، قالها طِفلٌ، وقالها ثَرِيٌّ كبير، فإذا صَدَرَت عن طِفْل تُقَدِّر المبْلغ بمائة ليرة، أما إذا صَدَرت عن أحد أكبر أغنياء القطْر فَتُقَدِّرُها بألف مليون.
الآن إذا قال خالق الكَون:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)﴾
فَكَم هذه الزلزلة ؟ قال تعالى:
﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾
نقِفُ قليلاً لِنُوَضِّح ما تعني كلمة مُرْضِعَة، نحن في اللُّغة العربيَّة الصِّفات الخاصَّة بالإناث لا تُذَكَّر ولا تؤنَّث، فمتى تُذَكِّر وتُؤنِّث ؟ إذا كانت هناك صِفةً مُشْتركةً بين الرِّجال والنِّساء، فتقول: مُدَرِّسٌ ومُدَرِّسَة، أما إذا كانت الصِّفة خاصَّة بالنِّساء فتقول: امرأة طالِقٌ، وثيِّبٌ وبِكْرٌ ومُرْضِعٌ، فَلماذا نُذَكِّر صِفات النِّساء هنا ؟! لأنَّ هذه الصِّفات خاصَّة بالمرأة فلا معنى مِن تَذْكيرِها وتأنيثِها، تقول: امرأة مُرضِع، وفي القرآن جاءتْ اللَّفظة مُؤنَّثة بالتاء، مُرْضِعَة، فكيف نُفسِّر هذا ؟ قال: إذا قلتَ امرأةً حامِل، أو قلتَ امرأةٌ حامِلَة، فما الفرق بينهما ؟ أنت إذا قلتَ حامِل، فهذه صِفة خاصَّة بالمرأة، أي في بطْنِها، أما إذا قلتَ: امرأةٌ حامِلَةٌ أي على ظَهْرِها، فما دام هناك حامِلٌ وحامِلَة، فحامِلَة تعني على ظَهْرِها، وحامِلٌ في بطْنِها.
أيُّ إنسان سواء ذكرًا أو أنثى بِإمكانِهِ أن يضَعَ طِفلاً على صَدْرِهِ، فإذا قلنا امرأةٌ مُرْضِع، فيعني أنَّها في طَوْرِ الإرْضاع، فقد تكون في زِيارة وهي امرأة مُرْضِع، وقد تكون في المطْبَخ وهي مُرْضِع، لكن لا تُسَمَّى مُرْضِعَة إلا إذا كان ابنُها على صَدْرِها، فهي الآن تكون مرضِعٌ ومرْضِعَة، وكلُّكم يعلم أنَّ دافِعَ الأمومة هو أشَدُّ دافِعٍ في الجِنس البشَريّ على الإطلاق، نحن عندنا دافِع الجوع، ودافِع الجِنس ودافِع الأمومة هو أشَدُّ دافِعٍ في الجِنس البشَريّ على الإطلاق، فإذا كانت المرأة أمام أكبر دافِعٍ في كِيانها، وهذا الدافِع يفوق ما عند الرِّجال، ومع ذلك حينما ترى الزَّلزلة التي وصَفها الله عز وجل تضَعُ كلّ مرضِعَةٍ، وتذْهَلُ كلّ مرضعة عمَّا أرْضَعَت.
حدَّثني قريبٌ كان في القاهرة يوم وَقَع الزِّلزال، فامرأة مِن شِدَّة هَول الزِّلزال، أمْسَكَتْ كيسًا فيه حِذاءٌ لها، وظنَّتْهُ ابنتها !! لذلك قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)﴾
هناك قريَة في إيطاليا في سطح جبلٍ اسْمُهُ فيزرف، قبل سنوات تزيد عن الخمسين أثناء بعض الحَفرِيَّات وجَدوا آثارًا، وهذه الآثار غريبة جدًّا، آثار مُجَوَّفة، فحَقَنوها جِبصينًا سائِلاً، ثمَّ كسروا هذه الصُّخور فإذا هم أمام مشاهِد مُذْهِلَة ! هذه القرية كانت في سَفح جبل في عَهْد الرومان، وثار برْكان في قِمَّة الجَبَل، وأطْلق غُبارًا بُرْكانيًّا صارَت سماكَتُهُ فوق أطلال المدينة ثمانية أمتار، وارْتَفَعَت الحرارة إلى ثمان مائة درجة، فَيُمْكِنُ أن نشْهَد مدينةً بأكملها تقريبًا بعد الظُّهر، والطعام على المائدة، لمَّا حقَنوا هذه الصُّخور المُجَوَّفة التي أساسها أشخاص كلاب ونِساء في القصور، وفي الحمامات وفي الطرقات، فلمَّا كُسِرَ الصَّخر فإذا هم أمام صُوَرٍ مِن صُوَر الفزَع البشري، لأنَّ الجثَّة لما انتهَتْ، الغبار البركاني أصبَحَ صَخْرًا، ومُجَوَّف بِحَسَب مَلامِح هذه الجُثَّة تمامًا، فأنا لي صورة لِهذه المدينة والتي اسْمُها بونبي في إيطاليا، وللشاعر أحمد شَوقي قصيدة في هذا البركان !
المهمّ كما قال تعالى:
﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾
لو أُتيح لنا أن نرى أشْخاصًا عاصروا زِلزالاً أو فيَضانًا أو صواعِق، أو فزعًا مِن حروب أهْلِيَّة لرأيْتَ العجب العُجاب، ماذا يقول الله عز وجل ؟ قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)﴾
لئلاَّ يُصيبكم الفَزع الأكبر، وهذا الهَوْل الكبير، لذلك علَّمنا الله تعالى أن نقول:
﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾
فالله تعالى يسوق أحيانًا مِن الشدائد ما لا يستطيع أحدٌ أن يصِفَهُ والرَّضيعُ على صَدْر الأم تُلقيهِ جانبًا وتنْجو بِنَفْسِها، قال تعالى:
﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)﴾
أيها الأخوة الكرام، لو أنَّ الإنسان ارْتَكَب جريمة القتْل، وسيقَ إلى المحكمة، وأُجْرِيَ معه تَحقيق دقيق، واعْتَرَفَ بِجَريمتِهِ، وأصْدَرَ القاضي اسْتِئناف حُكْمًا بِإدانتِهِ، وحكمَ عليه بالإعْدام، ورُفِعَ الأمر إلى محكمة الأمر، ودُرِسَ الحكْم فصُدِّق، وكذا رُفِعَ الأمر إلى القصْر فصُدِّق، وسيق هذا المُجْرِمض لِيَلْقى جزاءَهُ، الآن وهو على عتبَةِ المَشْنَقة ؛ هل ينْفَعُه البُكاء أو الضَّحِك ؟! هل ينْفَعُهُ التَّوسُّل أو التَّجَشُّم ؟ نقول له: اِبْكِ أو اِضْحَك أو توسَّل، أو أيُّ شيءٍ تفْعلُهُ لا بدّ مِن تنْفيذ الحُكْم، رجل تركَ ثَرْوَةً تزيد على ثمان مئة مليون، مِن مَكْسَبٍ ليس حلالاً، وهو على فِراش الموت شعر بالخَطَر، وشَعَر أنَّهُ سيَلقى عذابًا أبَدِيًّا فطَلَبَ أحد العلماء، فجاءَهُ هذا العالم، ولا أريد أن أُقيِّم ما قالهُ له هذا العالم إلا أنَّهُ كان صريحًا معه، فقال هذا الذي على فراش الموت: ماذا أفْعَل ؟ فقال له: والله لو أنْفقْتَ الثماني مائة مليون لا تنْجو مِن عذاب الله
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)﴾
لأنَّ كل هذه الثَّرْوَة بُنِيَت على إفساد الناس، وأخلاقهم وإشاعة المنكر.
أنا قصْدت مِن كلامي، إيَّاك أن تصِلَ مع الله إلى طريق مَسْدود، لي طالبٌ في الحادي عشر، قال لي: لي خال له دار سينما، وفي الثانية والأربعين أصابهُ سرطان بالدَّم، فقال لي: والله رأيْتُهُ يبكي كما تبكي الأطفال ! فقال وهو في بُكائِهِ: جَمَّعْتُ هذه الثَّرْوَة - والقِصَّة سنة الخامسة والسِّتين - خمسة ملايين لأسْعَدَ به بقِيَّة حياتي، فلم يبْق لي بقِيَّة أسعَدُ بها، لذلك إيَّاك أن تصِلَ مع الله إلى طريق مَسْدود، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)﴾
أي إن اتَّقَيْتُم نَجَوْتُم، قال تعالى:
﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88)﴾
وهذا مهما كانت المصيبة كبيرة، قال تعالى:
﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ(87)﴾
قال تعالى:
﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ(31)قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ(32)لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ(33)مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ(34)فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ(35)فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ(36)﴾
معنى هذا، كلّ شيء مُسَوَّم، فالبلاء لا يعُمّ إلا بِحالة واحِدَة وهي إذا كان هؤلاء الذي لا يقترفون الإثْم راضون عمَّن يقْترفون الإثم، قال تعالى:
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(117)﴾
لو أنهم صالحون لما أهْلكم الله، فهم ما أمروا بالمعروف وما نهوا عن المنكر فهذه الآية مُلَخَّصُها ؛ يا عبْد الله كُنْ يَقِظًا، وتُبْ إليه، وتوسَّل إليه ولا تصل مع الله إلى طريق مَسْدود، ولا إلى طريق يستحقّ به الإنسان الزلزلة من الله، فإذا كان خالق الكون يقول: إنَّ زلزلة الساعة شيء عظيم ! فكم هي العظمة !! ومِن صُوَر هذا الزلزال ؛ يوم ترونها تذْهل كل مرضعة عما أرْضَعَت، فهذه السُّوَر مَشْهد مِن مشاهد عذاب الله في الدنيا قبل الآخرة، وقد قال الله تعالى:
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21)﴾
وهذا هو العذاب الأدنى، وانظروا ما يجري في العالم من زلازل، وحروب، وجراثيم ؛ فهذا مِن صُنع البشَر فكيف بالذي هو من صُنْع خالق البشَر ؟! هدف هذه الآية أن تأخذ حِذْرك.