- أحاديث رمضان
- /
- ٠17رمضان 1431 هـ - أمثال القرآن الكريم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين, وعلى صحابته الغر الميامين؛ أمناء دعوته, وقادة ألويته, وارض عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم, ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
بطولة الإنسان أن يدع بينه وبين المعصية هامش أمان :
أيها الأخوة الكرام, لا زلنا في آيات الأمثال في القرآن الكريم, والآية اليوم هي قوله تعالى:
﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ* حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾
أولاً: ماذا تعني كلمة اجتنبوا؟ اجتنبوا تعني أن تجعل بينك وبين المعصية هامش أمان, تماماً كتيار كهربائي عالي التوتر, له حرم, لو دخلت حرمه لجذبك واحترق الإنسان. فلابدّ من أن تدع بينك وبين المعصية هامش أمان, هذا المعنى دقيق جداً في معنى اجتنبوا، أي:
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾
اجعل بينك وبين حدود الله هامش أمان, هذا الهامش إذا جعلته, وقاك الله من الوقوع في المعاصي, أما إذا ألغيت هذا الهامش, ففي الأعم الأغلب تزل القدم, ويقع الإنسان في المعصية، والشاهد الدقيق:
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾
الشرك عار بحق الإنسان وهبوط في تفكيره :
مثلاًً: الزنا فاحشة, الخلوة اقتراب من الزنا, صحبة الأراذل اقتراب من الزنا, قراءة أدب إباحي اقتراب من الزنا, هناك أشياء كثيرة تقرب من الزنا، فالبطولة أن تدع بينك وبين المعصية هامش أمان.
هناك آيات:
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾
وآيات أخرى:
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾
﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾
أي اجعل بينك وبينها هامش أمان, هذا معنى
﴿فَاجْتَنِبُوا﴾
أي اجتنب الشرك الأكبر.
لا يوجد في العالم الإسلامي شرك أكبر, في العالم الإسلامي لا يوجد إله يُعبد من دون الله, إله له صنم يُعبد لا يوجد, في آسيا هناك بوذا, هناك إله يعبد من دون الله.
كنت مرة في أمريكا, فأخذني مضيفي إلى معبد هندوسي, في مدخل المعبد صنم من البرونز, لا أبالغ على صدره ألماس البرلنت بعشرات الملايين, الألماس البرلنت الغالي جداً, ويأتي عبَّاد هذا الصنم, ينبطحون على الأرض انبطاحاً كاملاً, ثم رأيت في مدخل هذا المعبد كسارة جوز الهند, سألت عنها, قال: الآلهة يحبون جوز الهند, ألا ترى كيف الكهان يضحكون على الناس!؟
الشرك عار بحق الإنسان, الشرك هبوط في تفكيره, في عقله, هذا الدين من فضل الله علينا, دين التوحيد, وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد, لكن قبل الإسلام كان هناك شرك أكبر؛ كان هناك اللات والعزى, كان هناك آلهة, و أصنام تعبد, لكن بعد ظهور الإسلام الشرك الأكبر انتهى, ماذا بقي؟ الشرك الخفي.
لذلك ورد:
((أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي, أما إني لست أقول إنكم تعبدون صنماً ولا حجراً؛ ولكن شهوة خفية, وأعمال لغير الله))
انتشار الشرك الخفي في العالم الإسلامي :
أنت حينما تتوهم أن إنساناً ما بيده مصيرك هذا شرك, بيده نفعك أو ضرك هذا شرك, تخافه وتعصي الله هذا شرك, والآية:
﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾
لذلك: المنتشر ليس الشرك الجلي ولكن الشرك الخفي.
((أما إني لست أقول إنكم تعبدون صنماً ولا حجراً؛ ولكن شهوة خفية, وأعمال لغير الله))
هذا الذي يستجيب لشهوته, بلا ضابط من منهج الله, لو أن الإنسان استجاب لشهوته, وفق ضابط لمنهج الله لا شيء عليه, لو أن الإنسان استجاب لشهوته وفق الضوابط الشرعية لا شيء عليه؛ اشتهى المرأة تزوج, اشتهى المال عمل عملاً مشروعاً, لكن المشكلة تتضح في قوله تعالى:
﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾
هناك حاجات بالإنسان؛ الحاجة إلى الطعام والشراب, الحاجة إلى المرأة، والمرأة إلى الرجل, حاجة إلى تأكيد الذات, هذه الشهوات يمكن أن تلبى مئة في المئة وفق منهج الله.
من اتبع هواه وفق هدى الله لا شيء عليه :
لذلك:
﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾
عند علماء الأصول: المعنى المخالف, المعنى المعاكس, أي: الذي يتبع هواه وفق هدى الله, لا شيء عليه أبداً, بل هناك أحاديث كثيرة، في الجامع الصغير, هذا الكتاب مرتب وفق حروف المعجم, فلو فتحتم على مجموعة الأحاديث التي تبدأ بكلمة حق؛ حق الله على عباده, حق الزوج على زوجته, حق الآباء على أبنائهم, حق الأبناء على الآباء, مجموعة طويلة جداً, تبدأ بكلمة حق, لكن تقرأ حديثاً في هذه المجموعة, ربما اقشعر جلدك, حق المؤمن على الله أن يعينه إذا طلب العفاف, هذا كلام لمن؟
حق المؤمن على الله؛ أنشأ الله لك حقاً عليه, هذا الحق أنك -أيها الشاب- إذا رأيت في الطريق النساء, الكاسيات العاريات, المائلات المميلات, اطلب من الله أن يحصنك بزوجة؛ تسرك إن نظرت إليها, وتحفظك إن غبت عنها, وتطيعك إن أمرتها, حق على الله أن يعين المؤمن إذا طلب العفاف.
إذاً: هذا الشرك الخفي أخطر ما في حياة المسلمين؛ ما من معصية إلا سببها شرك خفي, ما من تجاوز لحدود الله إلا بسبب شرك خفي, شرك جلي لا يوجد, أما الموجود فالشرك الخفي: "أما إني لست أقول إنكم تعبدون صنماً ولا حجراً؛ ولكن شهوة خفية, وأعمال لغير الله"، قال تعالى:
﴿فَاجْتَنِبُوا﴾
تشبيه الله عز وجل الشرك بالنجس والمشرك بالنجس :
الشيء الذي لا يحتمل النجس, والله عز وجل قال:
﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾
هناك لفتة بلاغية رائعة, لم يقل: إنما المشركون نجسون, الشيء النجس يطهر, كأس لو فرضنا أصابه بول طفل, تغسلها عدة مرات تطهر, أما النجس فنفسه لا يطهُر، لم يقل: إنما المشركون نجسون, قال:
﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾
هم عين النجاسة, الشيء القبيح الذي لا يحتمل منظر ورائحة النجاسة, تصور أن الله شبه الشرك بالنجس, والمشرك بالنجس.
اجتناب الشرك و قول الزور :
ثم قال:
﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾
كلمة قول الزور: كل بيان غير صادق قول زور, كل شهادة كاذبة قول زور, كل بيان كاذب قول زور.
لو أن الناس ابتعدوا عن قول الزور لكنا في حال غير هذا الحال؛ الغش قول زور, الكذب قول زور, النفاق قول زور, لولا قول الزور لكنا في حال غير هذا الحال:
﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾
الوثن جهة قوية, تعبد من دون الله, ولا إله إلا الله, والشرك الجلي غير موجود, الشرك الخفي موجود. قال: اجتنبوا أي الشرك, وقول الزور.
العبادة تحتاج إلى محبة فما عبد الله من أطاعه ولم يحبه :
لكن:
﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ﴾
لذلك: العبادة هي طاعة طوعية, ممزوجة بمحبة قلبية, أساسها معرفة يقينية, تفضي إلى سعادة أبدية.
العبادة تحتاج إلى محبة, لذلك: ما عبد الله من أطاعه ولم يحبه, كما أنه ما عبد الله من أحبه ولم يطعه.
هذا معنى حنفاء أي ماثل إلى الله؛ تعبده وأنت تحبه, تعبده من تلقاء نفسك, تعبده مخيراً ولست مكرهاً, تعبده وقلبك ممتلئ بمحبته, هذا هو الدين:
﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾
الشرك تماماً يشبه الرجس, أي الشيء الذي لا يطهر:
﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾
يمين كاذب, بيان كاذب, وصف للبضاعة كاذب, تصفها بأنها من مصدر معين, وهي من مصدر آخر, تقدم فاتورة غير صحيحة, كل تغيير للحقيقة هذا هو قول الزور:
﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ﴾
الله عز وجل أراد من الإنسان أن يعبده محباً لا مكرهاً :
الله ما أرادنا أن نعبده مكرهين, أرادنا أن نعبده محبين, يريدك أن تجتنب قول الزور, كل تزوير للحقائق، يريدك أن تجتنب الشرك الخفي كمسلم, ويريدك أن تميل إليه بقلبك, يريد عقيدتك توحيداً, ويريد سلوكك صدقاً, ويريد قلبك محبة, يريد أن تكون عقيدتك توحيداً لا شرك فيها, ويريد أن يكون كلامك صادقاً لا كذب فيه, ويريد قلبك أن يميل إليه:
﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾
الهدى يرفع الإنسان و الضلال يحطه :
الآن: آية المثل:
﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾
تصور إنساناً وقع من طائرة على ارتفاع أربعين ألف قدم, ما مصيره؟ أشلاء, موت محقق, طيور تأكله, قد يأتي في مكان بعد أن تحطمت أضلاعه ومات تأكله الوحوش، هذا المثل مثل الشرك, معنى التوحيد أنت في السماء.
دقق في هذه الآية:
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾
الهدى رفعه:
﴿أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾
الضلال: أنت عبد لشهوتك, أنت عبد لمصلحتك, أنت متذلل أمام شهوتك.
الله عز وجل ما أمر الإنسان أن يعبده إلا بعد أن طمأنه :
لذلك:
(( من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه ))
﴿فَاجْتَنِبُوا﴾
اجعل بينك وبين ما ينهاك الله عنه هامش أمان:
﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾
الشرك الجلي والخفي:
﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾
الكذب؛ في البيع, في الشراء, في أي شيء، حينما تتكلم بخلاف ما تعتقد, فأنت في قول زور, بدءاً من فاتورة مزورة, إلى بيان بالبضاعة غير صحيح, إلى أيمان كاذبة, هذا كله هناك نهي شديد عنه؛ ومع هذا الاجتناب, ومع هذا التوحيد, ومع هذه الاستقامة, يريد الله قلبك, يريدك أن تعبده عن حب لا عن إكراه, يقول:
﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾
ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك:
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً﴾
﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾
الدين هو التوحيد و ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد :
المثل:
﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾
هذا المثل تقشعر منه الأبدان, إنسان سقط من طائرة, ما مصيره؟ الهلاك المحتم, أشلاؤه تأكلها الطير, تأكلها الوحوش, وانتهى.
لذلك أيها الأخوة: إذا أردت أن تقول لي ما الدين؟ أقول لك: التوحيد؛ ألا ترى مع الله أحدا, ألا ترى يداً تعمل مع الله:
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾
﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾
أيها الأخوة الكرام, لو قرأت القرآن كله لوجدت معظم آياته تدور حول التوحيد؛ الدين هو التوحيد, الدين أن تتجه لله, الدين ألا تعبد إلا الله, ألا تحب إلا الله, ألا تخضع إلا لمنهج الله, ألا تصل إلا لله, ألا تقطع إلا لله, ألا تغضب إلا لله, ألا ترضى إلا لله, ألا تعطي إلا لله, ألا تمنع إلا لله, هذا الدين, هذا التوحيد, وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.