وضع داكن
24-11-2024
Logo
الدرس : 34 - سورة النساء - تفسير الآية 71 ، إعداد العدة المتاحة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الآية التالية تحدثنا عن علاقاتنا بالأعداء :

 أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الرابع والثلاثين من دروس سورة النساء، ومع الآية الواحدة والسبعين، وهي قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ﴾

 أولاً: هذا الذي توهم أن الدين خمس عبادات شعائرية لم يفقه من الدين شيئاً، الدين نظام متكامل، يبدأ من علاقتك بجسمك، ثم من علاقتك بأقرب الناس إليك، وينتهي بالعلاقات الدولية، وحين نفهم الدين أحوالاً شخصية، أو عبادات شعائرية فنحن أبعد ما نكون عن حقيقة هذا الدين، هذه الآية تحدثنا عن علاقاتنا بالأعداء، ما المشكلة الكبرى التي يعاني منها المسلمون؟ أن أعداءهم ظهروا فجأة بقوة لا تقابل، ما الموقف الذي يريده الله لنا؟ أن نكشف أعداءنا قبل أن يتمكنوا في الأرض، أن نأخذ حذرنا، كأن الله يقول: خذوا سلاحكم، تقول للحارس: خذ بندقيتك، تقول للفارس: خذ سيفك، والله عز وجل يقول للمؤمن: خذ حذرك، هذا الفهم الساذج لمن حولنا هذا فهم يتناقض مع حقيقة الإيمان، إلهك، ومربيك، وخالقك هو الخالق، لأنه خلق الإنسان مخيراً، منهم من اختار الدنيا، ومنهم من اختار الآخرة، منهم من اختار الحق، ومنهم من اختار الباطل، ومنهم من آثر شهوته، ومنهم من آثر مبدأه، لأن الله خلق الإنسان مخيراً بين طريق الخير والشر.

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾

[سورة الإنسان: 3]

﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾

[ سورة الكهف: 29 ]

البطولة أن تكشف الخطر قبل وقوعه وتتوقع عداوة الكافر قبل أن يُظهرها لك :

 لأنه خالقنا، وهو الخبير بنا، يعلم الله أن البشر سيكون فريقين؛ فريق محق وفريق مبطل، فريق خيِّر وفريق شرير، فريق منضبط وفريق غير منضبط، فمعركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية، ولو تعايش الناس كما ترون فجأة نجد أن العالم كله يحارب المسلمين بكل ثقله، أين كنا قبل هذا التاريخ؟ لم نأخذ حذرنا.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ﴾

 البطولة أن تكشف الخطر قبل وقوعه، وتتوقع عداوة الكافر قبل أن يُظهر لك هذه العداوة، لذلك الله عز وجل في آية محكمة رائعة يقول:

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ ﴾

[ سورة الأنفال: 60 ]

 الله المخاطِب ونحن المخاطَبون، والطرف الثالث من هم؟ أعداء المسلمين:

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾

[ سورة الأنفال: 60 ]

 ينبغي أن تستنفذ الاستطاعة.

﴿ مِنْ قُوَّةٍ ﴾

[ سورة الأنفال: 60 ]

 كل أنواع القوى، القوة جاءت نكرة، ينبغي أن تعد لأعدائك كل قوة متاحة لك، المال قوة أن تكون غنياً مكتفياً تستخرج ثرواتك، عندك المواد الأولية هذه قوة، التنظيم قوة، رفع مستوى الإنسان قوة، بين أن ترى كماً كبيراً جاهلاً هو عبء عليك ينبغي أن تطعمه، وبين أن يكون الإنسان في حساب الأرباح، بلد في آسيا مجموع أرباحه من برمجيات الكومبيوتر ثلاثة وثمانين مليار! لا يحتاج لمواد أولية، ولا لبترول، ولا لشيء، ولا لمناجم حديد، ولا مناجم نحاس، برمجيات، فالكم البشري إن لم يكن يحمل كفاءات عالية يصبح عبئاً في قائمة الخسائر، أما الكم البشري حينما يكون متنوراً ويكون عنده كفاءات عالية يدرج في حسابات الأرباح.

 

ينبغي أن نعد لأعدائنا كل أنواع القوة :

 يجب أن تتوقع الشر قبل أن يقع.

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾

 المال قوة، التنظيم قوة، رفع مستوى إنسان في كفاءته قوة، المعلومات قوة، استخدام الوسائل الحديثة قوة.

﴿ مِنْ قُوَّةٍ ﴾

[ سورة الأنفال: 60 ]

 (من) تفيد استغراق أفراد النوع، كل أنواع القوة ينبغي أن نعدها لأعدائنا، كل قوتك في الاتصالات، عندهم قنابل يلغون الاتصالات كلياً، كيف يأمرون الجيش؟ لا يستطيعون، أذكر لكم مما تفتقت عنه عقول البشر من أساليب قهر الناس، والمسلمون في غفلة، الآن يبحثون عن قنابل نووية لا تقتل إلا البشر، ليتسلموا المدن كما هي ببيوتها، وفرشها، وأجهزتها، ومبانيها، وجسورها، هم يقظون من مئات السنين، فحينما سنحت لهم الفرصة ظهروا كالوحوش يريدون الثروات، وكل ما يقال خلاف ذلك، لا تعبؤوا به، يريدون أن يتربعوا على منابع النفط بقوتهم، والله عز وجل يقول:

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾

 هم أعدوا لنا، ولم نعد لهم، لذلك يقول بعض الحكماء: ويل لأمة تأكل ما لا تزرع، وويل لأمة تلبس ما لا تنسج، وأنا أضيف: وويل لأمة تستخدم أجهزة لم تصنعها. نحن بحاجة إلى طائرة تعمير محركها خمسة ملايين دولار، وكل طائرة فيها أربع محركات، عشرون مليون دولار، كم طن قمح؟ وكم طن قطن؟ يأخذون موادك الأولية بأبخس الأثمان، ويبيعونك منجزاتهم الحضارية بأعلى الأثمان، فنحن فقراء وهم أغنياء.

 

أمثلة عن بعض ما أعده لنا أعداؤنا :

 سيدنا عمر حينما كان يجوب بلدة فوجد أن كل الفعاليات الاقتصادية بيد غير المسلمين، فعنفهم تعنيفاً شديداً، وقال لهم: كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم؟
 سيدنا عمر قبل ألف وأربعمئة عام أدرك أن المنتج قوي والمستهلك ضعيف، أنا لا أتكلم في أمور بعيدة عن هذه الآية، لكن الله عز وجل يقول:

﴿ خُذُوا حِذْرَكُمْ ﴾

 في آية ثانية:

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ ﴾

 نحن في تاريخنا الحديث الدول التي لم تعتن بجيش قوي ماذا حل بها؟ حل بها اجتياح، وحل بها الدمار، والسلاح أحياناً له مهمة كبيرة من دون أن تستخدمه.

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾

 قوة مطلقة، اطلعت على مجلة فيها موضوع علمي، كيف تصور الآلات من الفضاء الخارجي؟ الأرض كلها مأخوذة من القمر، الصورة المعروفة على الأرض مربع صغير قطره ميلي، هذا المربع في الصفحة الثانية مكبر، فإذا هو معظم أمريكا! على الصورة الثانية مربع صغير قطر ضلعه ميلي مكبر، في الصورة الثالثة أمريكا الشمالية على هذه الصورة مربع صغير قطره ميلي مكبر، في الصورة الرابعة فلوريدا، على هذه الصورة مربع صغير مكبر في الصورة الخامسة ساحل من سواحل فلوريدا، في هذه الصورة مربع صغير قطره ميلي مكبر في الصورة السادسة ميناء من موانئ فلوريدا، عليه مربع صغير مكبر في الصفحة التي تليها إذا هو إنسان مستلق على الأرض يقرأ قصة يمكن أن تقرأ عنوان القصة! وإلى جانبه صحن فيه تفاح، وعلى يده ساعة، هذه من أين؟ من القمر.

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾

 هم أعدوا لنا هذه الأقمار يكشفون حركات الأرض دون أن نشعر.

 

المعركة الآن معركة بقاء أو فناء :

 أنا أقول أيها الأخوة: لأن المعركة الآن معركة بقاء أو فناء، الآن الأمر لا يحتمل أن نقول كلام لا معنى له، هذا قرآن.

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾

 أنت ما دورك؟ أنت كطالب حينما تتقن دراستك تعد لهم القوة، وأنت كتاجر حينما تحكم عملك، وتأتي بالبضاعة من أرخص المصادر، وتبيعها للناس بسعر معتدل تكون قد ساهمت في بناء صرح هذه الأمة الإسلامية، وأنت كصانع حينما تجلب مصنعاً نستغني به عن أن نستورد تكون قد وضعت لبنة في صرح هذه الأمة، كل إنسان منا له موقع، أنت كطبيب حينما تتقن عملك تغني المرضى عن أن يذهبوا إلى أطراف الدنيا يدفعوا ملايين، حينما يأتي طبيب بأعلى مستوى من بلد غربي، ويكون في دمشق نكون فقد وفرنا على المريض ملايين، فكل واحد منا بشكل أو بآخر من عمله، من دراسته، وطبه، وهندسته، وتجارته يمكن أن يعد لما سيكون في المستقبل من عدوان.

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾

 القوة مطلقة، الاتصالات، والمعلومات، والأقمار، والطيران قوة، مهما تملك دولة من جيش قوي إن لم يكن لها سلاح طيران يحمي سماءها فهي مكشوفة، وتسمعون عن الحروب التي سمعتم أخبارها، السلاح الأول هو سلاح الطيران، يقصف شهر لا يبقي شيء لا من البنية الفوقية، ولا من البنية التحتية، يدمر كل شيء، كالكهرباء، والهاتف، والاتصالات، ومصافي النفط، كل شيء يدمر، انتهت.

ينبغي أن تكتشف مواطن قوة العدو قبل أن تظهر علانية :

 أيها الأخوة:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ﴾

 ينبغي أن تكشف الخطر قبل وقوعه، وتعرف خطط العدو قبل أن تفاجئك، وينبغي أن تكتشف مواطن قوة العدو قبل أن تظهر علانية.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ﴾

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾

 لئلا يقع التباس في فهم القوة قال:

﴿ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ﴾

 في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كانت القوة رباط الخيل، وقد يأتي بعد عهد النبي عهد تكون القوة سلاح المنجنيق، ويأتي بعد سلاح المنجنيق المدرعات، وقد تأتي الطائرات والقنابل، فالقوة واسعة، جاءت نكرة ليكون التنكير شمولياً، وجاءت (من) كي تؤكد شمول كل أفراد النوع، أحياناً الإعلام قوة، والمعنويات قوة، قد تستمع لخبر صادق فترتفع معنوياتك، وتستمع لخبر كاذب فتنهار معنوياتك، فالإعلام قوة، وهو الآن أكبر سلاح.

 

الله تعالى رحمة بنا لم يطالبنا أن نعد القوة المكافئة بل أراد أن نعد القوة المتاحة :

 قال تعالى:

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ﴾

 هذا سماه علماء التفسير عطف الخاص على العام.

﴿ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ ﴾

 حدثني أخ كريم جاء من بلاد في شرق آسيا قال لي: في هذا البلد نحن تسعون مليون مسلم مضطهد، في بلد إسلامي في شرق آسيا فجرت قنبلة نووية، أقسم لي بعد تفجير هذه القنبلة اختلفت معاملة المسلمين في بلده مئة وثمانين درجة، أحياناً السلاح لا تحتاج أن تستعمله، لكن وجوده له أثر، والآية واضحة:

﴿ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾

 فيها ملمح رائع، ينبغي أن يكون عدوك عدواً لله، أما إذا كان عدوك ولياً لله فهذه مشكلة كبيرة جداً، فهذه الآية أصل في هذا الموضوع.

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾

 وأضيف على هذا الإعداد أن الله سبحانه وتعالى رحمة بنا لم يطالبنا أن نعد القوة المكافئة، بل أراد أن نعد القوة المتاحة.

﴿ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾

 وعلى الله الباقي.

 

العدو إذا قوي قوة عالية يرهب ضعاف المؤمنين أما الموحدون فلا يخافون إلا الله :

 كنت أقول دائماً أيها الأخوة، أن العدو إذا قوي قوة عالية يرهب ضعاف المؤمنين أما الموحدون فلا يخافون إلا من الله.

﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ﴾

[سورة آل عمران:173 ]

 عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ))

[أبي داود عَنْ ثَوْبَانَ]

 هذا الحديث يروى في المساجد من عشرات السنين من مئة سنة، لكن لا يتضح معناه إلا في هذه الأيام:

(( يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ))

[أبو داود عَنْ ثَوْبَانَ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ﴾

 ولو درست سيرة النبي عليه الصلاة والسلام كانت قيادته في أعلى مستوى، كان يرسل السرايا ليجس نبض الطرف الآخر، ويرهبهم أحياناً، أما إنسان يعيش غافلاً اتكالياً يفاجئ أنه خرق، وأنه اكتسح، وأن ممتلكاته ذهبت، وقدرته خابت.

كل حالة تعالج بمقتضاها وكل عدوان يعالج بما يكافئه :

 ثم يقول الله عز وجل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ﴾

 معنى كلمة ثبات جمع ثبة، طائفة صغيرة، فلو أن مناوشة من جهة محدودة كافرة ينبغي أن يرسل إليها سرية محدودة، أما إذا كان الخطر داهماً فينبغي أن ننفر جميعاً، كل حالة تعالج بمقتضاها، وكل عدوان يعالج بما يكافئه، فإذا كان العدوان محدوداً سيرنا له قوة محدودة تغطي عدوانه، أما إذا كان العدوان شمولياً فلا بد من أن ننفر جميعاً.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً*وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ﴾

 إلهنا، ربنا، بعض الناس ضعاف يخاف، يقول الله عز وجل:

﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾

[سورة آل عمران:173-174]

كل واحد منا يستطيع أن يعد للأعداء ما يستطيع من قوة :

 لم تمرّ على هذه الأمة محن كالتي تمر بها الآن، اجتياح مغولي، واجتياح فرنجى من الغرب، هكذا سنة الله في خلقه، نحن في دار ابتلاء، إن هذه الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي.
 قد يقول أحدكم: ما علاقتي بهذه الآية؟ أقول: لك علاقة وطيدة، هل منا مَن ليس له دور اجتماعي؟ مستحيل! طالب، مدرس، معلم، أستاذ جامعة، مهندس، طبيب، تاجر، موظف، ألا تستطيع أن تتقن عملك؟ ألا تستطيع أن تخدم المسلمين، وتخفف عنهم، وتيسر لهم أعمالهم، أن تكون في خدمتهم، وتبيعهم حاجات جيدة بثمن معتدل، كل واحد منا يستطيع أن يعد للأعداء ما يستطيع من قوة.
 في محاضرة ألقيتها في بعض المحافظات، جاءني طفل عقب المحاضرة، صدقوا، لا يزيد عمره عن ست سنوات، قال لي: ماذا أفعل يا أستاذ أنا لا أحتمل سماع الأخبار! طفل! همّ المسلمين ضغط على طفولته! ماذا أفعل؟ قلت له: أتقن دراستك، إن أتقنت دراستك، وكنت الأول تكون قد أعدت للعدو العدة التي أمرك الله بها، فنحن حينما نتفوق في اختصاصاتنا وأعمالنا نعد لعدونا .
 أقول لكم هذه الكلمة أيها الأخوة: والله الذي لا إله إلا هو لا يمكن لهؤلاء الأقوياء أن يحترموا ديننا إذا كنا ضعفاء، ولم نكن متفوقين في أعمالنا، أن تكون قوياً ومتفوقاً.

حينما نعتز بالله ونعظم أمره ونبني حياتنا على منهجه يقوينا ويرفع شأننا :

 أنا مضطر أن أسرد لكم تجربة: ذهبت إلى بلد إسلامي في شرق آسيا، علمت أن هذا البلد لا يزيد عن ثلاث وعشرين مليوناً، وأنهم كانوا في الغابات قبل خمسة وعشرين عاماً، ويصدرون للعالم ما يفوق صادرات العالم العربي مجتمعاً بما فيه النفط، وأنهم في العام الماضي عندهم فائض نقدي يزيد عن ستين مليار دولار! وأن نظامهم في المصارف نظام إسلامي، والبطاقات المالية المشهورة في العالم بطاقات إسلامية لا ربا فيها، وأن تأمينهم تأمين إسلامي، وتعليمهم تعليم إسلامي، والحجاب إلزامي، وأن ثمنَ الصحن الفضائي ما يقترب من مليون ليرة، حفاظاً على أخلاق أولادهم، وقد جاءهم رجل كبير جداً من أقوى دولة ليتدخل في شؤونهم، فقالت له وزيرة: ضع حذاءك في فمك، ولا تنطق إلا بما يعنيك! يعيشون معنا، ونعيش معهم، فحينما نعتز بالله، ونعظم أمر الله، ونبني حياتنا على منهج الله يقوينا الله عز وجل، ويرفع شأننا.
 أيها الأخوة، لا أتكلم عن شيء لا يعنيكم، بل أتكلم عن كل واحد منا بإمكانه أن يتقن عمله، ويكون إتقان عمله ونفعه للمسلمين مساهمة منه في قوله تعالى:

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾

 والله أيها الأخوة، الطرف الآخر يبيعنا أحياناً تجهيزات وبقدرة قادر تصاب بالخلل، ويكلف إصلاحها مئات الملايين!
 التقيت شاباً أمكنه الله من فك هذه الألغاز، وإصلاح هذه الآلات من مئات الملايين إلى عشرات الألوف يأخذ أجراً، كمثل هذا الشاب ألا يسهم في تقوية الأمة؟ وفي توفير أموالها التي كانت تذهب هدراً للطرف الآخر؟ فكل واحد منا إذا أتقن صنعته ودراسته نفع المسلمين، وخفف عنهم، وحل مشكلاتهم، ويسر عليهم أمورهم، ويكون قد ساهم في تقوية هذه الأمة.

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً*وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ﴾

قصة تؤكد أن العاقل من يحتاط للأمر قبل وقوعه :

 أضطر أن أروي قصة ذكرتها قبل ذلك كثيراً: أن غديراً فيه سمكات ثلاث؛ كيسة، وأكيس منها، وعاجزة، أي ذكية جداً، وذكاء متوسط، وغباء، مر بهذا الغدير صيادان تواعدا أن يرجعا، ومعهما شباكهما ليصيدا ما فيه من السمك، فسمعت السمكات قولهما، أما أكيسهن فإنها ارتابت، وتخوفت، وقالت: العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها، ثم لم تعرج على شيء حتى خرجت من المكان الذي يدخل منه الماء من النهر إلى الغدير فنجت! هذا أعلى مستوى في العقل، أخذت حذرها، وتصرفت في الوقت المناسب، ونجت، واستراحت، وأراحت، وأما الكيسة الأقل ذكاء فبقيت في مكانها متوانية حتى عاد الصيادان، الأولى توقعت الخطر، والثانية واجهت الخطر، العاقل جداً يأخذ حذره، ويتحرك قبل أن يقع الخطر، أما الأقل عقلاً فيواجه الخطر، وقالت: فرطت، وهذه عاقبة التفريط، غير أن العاقل لا يقنط من منافع الرأي، ثم إنها تماوتت، وتصنعت الموت فطفت على وجه الماء، فأخذها الصياد، فوضعها على الأرض بين النهر والغدير، فوثبت في النهر، فنجت بعد أن تحطمت أعصابها، ونجت بقدرة قادر، نجت، واحتمال أن تهلك قائم، وأما العاجزة فلم تزل في إقبال وإدبار حتى صيدت، هذا قليل الحيلة لا يفعل شيئاً، فقط يضرب كفاً بكف، ويشتكي همه للناس، ويسمع أخباراً فقط. فأعقل سمكة احتاطت للأمر قبل وقوعه، والأقل عقلاً احتاطت له عند وقوعه، والغبية لم تحتط له لا قبل وقوعه ولا بعده، بل واجهته بعجز واتكال.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً* وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً* وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً﴾

 هذه الآيات إن شاء الله تشرح في درس قادم.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور