وضع داكن
31-01-2025
Logo
الدرس : 20 - سورة النساء - تفسير الآية 36 العبادة بالمفهوم الواسع
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.

حقيقة العبادة:


 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس العشرين من دروس سورة النساء، ومع الآية السادسة والثلاثين، وهي قوله تعالى: 

﴿ وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالًا فَخُورًا(36)﴾

[ سورة النساء ]

 أيها الإخوة، أول حقيقة في هذه الآية أن مهمتك الأولى في الحياة الدنيا أن تعبد الله، ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ﴾ والعبادة خضوع كامل، وانصياع كامل، وطاعة تامة لله عز وجل، إنها حق الله على عباده، إنها ثمن الجنة، إنها عِلّة وجودنا، العبادة طاعة لله مع المحبة، فمَن أحب الله ولم يُطعه فهو كاذب في محبته، ومن أطاعه ولم يحبه فعبادته غير صحيحة، إنها طاعة القهر، العبادة طاعة مع محبة، ولا بد لهذه الطاعة مع المحبة من أساس علمي هي معرفة الله، ولا بد لهذه الطاعة التي أساسها معرفة الله من ثمرة هي إسعاد الإنسان في الدنيا والآخرة، لأن غاية كل حي السعادة، بل إن السلامة قبل السعادة، ما من مخلوق على وجه الأرض شعر أو لم يشعر إلا وهو يبحث عن سلامته وسعادته، فالذي يحقق للإنسان سلامته من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة أن يعبد الله، ويتبع منهج الله ومنهج الصانع، ويتبع تعليمات الشركة الصانعة، فالجهة الصانعة هي الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تُتَّبع تعليماتها.

﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍۢ (14)﴾

[  سورة فاطر ]


أخطر شيء في الدين أن تفصل العبادة التعاملية عن العبادة الشعائرية:


 أنت حينما تؤمن بالله، تؤمن بعلمه المطلق، وحكمته المطلقة، ورحمته المطلقة، ثم تؤمن بكتابه، وفي كتابه أنه خلقك للجنة لا للدنيا، فحينما تؤمن أنك مخلوق للحسنى تتقي أن تعصي الله، وتبني حياتك على العطاء والبذل، قضية من أخطر قضايا الحياة أن تؤمن أنّ لهذا الكون خالقاً ومربياً ومسيراً، أن لهذا الكون إلهاً موجوداً وكاملاً وواحداً، وأن أسماءه كلها حسنى، وأن صفاته كلها فضلى، وأنه خلقك لجنة عرضها السماوات والأرض، وأن هذه الدنيا إعداد لتلك الجنة، وأن عبادته تعني سلامتك وسعادتك، وتعني دخول الجنة، وهي علة وجودك، وواجبك تجاه خالقك، وحق الله عليك، وسبب سلامتك، وسبب سعادتك، ولكن المسلمون يتوهمون أن العبادة تعني العبادة الشعائرية.
 إخواننا الكرام، هناك تصنيف فقهي، أنا لا أعترض عليه، ولكن أخاف أن يُعتَمد في فهم العبادة، نحن في الإسلام عندنا عقائد وعبادات ومعاملات وآداب، فإذا قلنا: عبادات لا نفهم منها إلا الصلاة والصيام والحج والزكاة والنطق بالشهادتين، هذا تصنيف الفقهاء، أما العبادة تعني أن تتقن عملك، وتُحسِن إلى زوجتك، وتُعِدّ لعدوك، إذا كانت العبادات بالمفهوم الحقيقي الواسع القرآني، بالمفهوم القرآني النبوي الموسّع قد تزيد العبادات على مئة ألف أمر، كيف أن هذه الأوامر قُلِّصت إلى عبادات شعائرية، لذلك المسلمون في مؤخرة الركب، في النهاية الدنيا، لأنهم فهموا دينهم أنه عبادات شعائرية، يصلي ويصوم ويفعل ما يشاء. 
أنبأني أحد الإخوة الكرام أن عدداً من رُوّاد المساجد يبيعون أقراصاً مُدمَجة كلها أفلام إباحية! ما خطر في باله لحظة أن هذا العمل يتناقض مع دينه وإيمانه واستقامته، هو يصلي، وفي الصف الأول، لكنّ حِرفته بيع هذه الأقراص، والذي يروج منها الأقراص الإباحية، يبيعها! أخطر شيء في الدين أن تفصل العبادة التعاملية عن العبادة الشعائرية، إذا بقي الإسلام عبادة شعائرية يعني أنه انتهى، والدليل؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهمَا قَالَ: قَال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

(( بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ؛ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ. ))

[ البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهمَا ]


العبادة الشعائرية مهمتها أن تعطيك شحنة روحية أما العبادة التعاملية فهي الإسلام: 


 بني الإسلام، فالإسلام شيء، والخمس شيء، إذا قلت بناء من خمسين طابقاً، بُني على خمسين عاموداً، هل هذه الأعمدة هي البناء؟ هي أساسات البناء، فالعبادة الشعائرية مهمتها أن تعطيك شحنة روحية، أما العبادة التعاملية هي الإسلام، الدين المعاملة، بماذا وصف سيدنا جعفر رسول الله؟ قال: 

(( كنَّا قَومًا أهلَ جاهليَّةٍ؛ نَعبُدُ الأصنامَ، ونَأكُلُ المَيْتةَ، ونَأتي الفَواحشَ،ونَقطَعُ الأرحامَ ونُسيءُ الجِوارَ، ويَأكُلُ القَويُّ منَّا الضَّعيفَ، فكنَّا على ذلك حتى بعَثَ اللهُ إلينا رسولًا منَّا، نَعرِفُ نَسَبَه وصِدقَه وأمانتَه وعَفافَه، فدَعانا إلى اللهِ لنُوَحِّدَه ونَعبُدَه، ونَخلَعَ ما كنَّا نَعبُدُ وآباؤنا مِن دونِه مِن الحِجارةِ والأوْثانِ ، وأمَرَنا بصِدقِ الحَديثِ، وأداءِ الأمانة، وصِلةِ الرَّحمِ، وحُسنِ الجِوارِ، والكَفِّ عن المَحارِمِ والدِّماءِ. ))

[ تخريج سير أعلام النبلاء ]

بماذا أمرنا؟ (وأمَرَنا بصِدقِ الحَديثِ، وأداءِ الأمانة، وصِلةِ الرَّحمِ، وحُسنِ الجِوارِ، والكَفِّ عن المَحارِمِ والدِّماءِ) الصحابة الكرام فهموا الدين سلوكاً، وقيماً، وأخلاقاً، وعفة، واستقامة، وأمانة، وإتقاناً في العمل، وصدقاً في الأقوال، وإنجازاً للوعد، وحفاظاً على العهد، لما فهموا الدين هذا الفهم الأخلاقي فتحوا أطراف الدنيا، أما المسلمون اليوم فيزيدون على ثُلث سكان الأرض، مليار وأربعمئة مليون! ليس لهم وزن إطلاقاً، ولا يستطيعون بمجموعهم أن يؤثروا في السياسات الدولية الكبرى، السبب أن دينهم أصبح ديناً شعائرياً، هذه الأديان الوضعية ما مشكلتها؟ أنّ فيها طقوساً وحركات وسَكَنات وتمتمات لا تعني شيئاً، تُؤدّى أداء شكلياً، وبعدها يفعل الناس ما يشاؤون، حتى أتباع الديانات الأخرى، وحضورهم في المعابد بحركات وتمتمات، ولا تجد دينهم في أعمالهم، ولا في بيوتهم، ولا في تجارتهم.
 فالمشكلة الكبرى حينما نفهم الدين فَهماً شعائرياً فقط، عبارة عن صلاة نؤديها، حج نقصده، زكاة ندفعها، صيام نصومه، وانتهى الأمر، وبيوتنا، وأعمالنا، وعلاقاتنا، ولهونا، وأفراحنا، وأتراحنا على النمط الغربي فيه اختلاط، ومعاصٍ، وملء العين من محارم الله، وفيه كذبٌ في الوعد، وغشٌّ في البيع والشراء، هذه هي حالة المسلمين.
 لذلك كلمة﴿وَاعْبُدُوا﴾ تدخل في أدق شؤون حياتك، وفي أدق خصوصياتك، تدخل في علاقتك بزوجتك، وفي تربية أولادك، تدخل في نظافتك، تدخل في حركاتك، وسَكَناتك، تدخل في كسب وإنفاق مالك.
 العبادة أيها الإخوة، أيّ أمرٍ في القرآن الكريم يقتضي الوجوب، العبادة أن نُعِدّ لأعدائنا ما نستطيع من قوة، وأن نتقن أعمالنا، وأن نعمُر الأرض كما أراد الله عز وجل، لأنه استعمرنا فيها، فأمرنا بإعمارها، العبادة أن نفعل عملاً صالحاً، فلذلك المصيبة الكبرى أنّ هذا المفهوم العظيم، وعلة وجودنا، وأنّ واجبنا تجاه ربنا، وحق الله علينا، أنّ سبب سعادتنا وسلامتنا هو العبادة، والعبادة نفهمها أداء العبادات الشعائرية ليس غير.

العبادة انصياع لمنهج الله بكامله:


 لهذا يقول الله عز وجل: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾ يجب أن ننصاع لله بكل إخلاص، غاية الخضوع، وغاية الحب، وغاية التوكل على الله، والثقة بالله، وغاية الإخلاص له، وغاية المحبة، وغاية الولاء هذه العبادة، العبادة تدخل في كل ثانية في يومك، فإن دخلت بيتك، وأطلقت وجهك في أبنائك وزوجتك، وملأت البيت سعادة فأنت في عبادة، ولو عُدتَ مريضاً فأنت في عبادة، ولو جلست إلى أهلك تؤنِسُهم، أنت في عبادة، ولو اشتريت ثياباً جميلة لتكون أمام الناس مرموقاً، لأنك تمثل المسلمين أنت في عبادة، وإذا انغمست في عملك حتى أتقنته، ونفعت به المسلمين فأنت في عبادة، حينما تُحسِن الزوجة رعاية أولادها فهي في عبادة، وحينما تعتني بزوجها فهي في عبادة، مفهومها واسع جداً يدور مع كل نشاطات الإنسان، إنْ أخذت أولادك إلى نزهة كي تقرّبهم إليك، وكي تُدخِل على قلوبهم السرور فأنت في عبادة، إذا نِلت من عدو نَيلاً فأنت في عبادة، إذا سهرت طوال الليل تفكر في شيء ينفع المسلمين فأنت في عبادة، شيء واسع جداً.
 كل أوامر القرآن التفصيلية، وكل أوامر النبي التفصيلية، وكل عاداتك التي يفعلها معظم الناس بحُكم العادة إنْ فعلتها أنت أيها المؤمن فأنت في عبادة، إذا دخلت إلى البيت، وأعنت والدتك في شؤون البيت فأنت في عبادة، وإن درست أخاك الصغير الضعيف في مادة دراسية فأنت في عبادة، هذا المفهوم الحضاري، العبادة انصياع لمنهج الله بكامله.
 مَن قال لك إن منهج الله خمس عبادات شعائرية ليس غير؟ (بُنيَ الإسلام على خمس) ، لذلك يقول الله عز وجل: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾ لو أنك عبدته وعبدت جهة أخرى فما عبدته، لأن الله لا يقبل معه أحداً، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي:

(( أنا أغنى الأغنياء عن الشرك. ))

[ تخريج الإحياء للعراقي ]

لذلك جاء الأمر الإلهي: ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ﴾ .

عبادة الله مقرونة ببر الوالدين في آيات عديدة:


 أن تعبد الله وحده، وأن تحبه وحده، وأن تطيعه وحده، وأن تتوكل عليه وحده، وأن تثق به وحده، وأن تعقد عليه الأمل وحده، وأن ترضى بحكمه وحده، هذه العبادة، كل حركاتك؛ حينما تنظف جسمك، وتهيئ لبيتك ما يُدخِل على قلب أهلك السرور فأنت في عبادة، وسِّع هذا المفهوم تجد أن المؤمن له هدف كبير، أنْ يأخذَ بيد مَن حوله إلى الله. 
فالعبادة طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، ينبغي أن تعبد الله وتعبده وحده، وينبغي ألا تشرك به أحداً، وينبغي أن تكون في عبادته مخلصاً، يقول الله عز وجل: ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ﴾ أيها الأخ الكريم، عبادتك لله عز وجل فرع من وجودك، أنت موجود، أكبر فرع من فروع وجودك أن تعبد الله، من هما اللذان كانا سبب وجودك؟ إنهما الوالدان، لذلك في أكثر من عشر آيات، أو أقل أو أكثر، آيات عديدة جاءت عبادة الله مقرونة ببر الوالدين: ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًا﴾ العطف أيها الإخوة يقتضي المشاركة، ليس من المعقول أن تقول: اشتريت بيتاً وملعقة، تقول اشتريت بيتاً وأرضاً، بيتاً ومركبة، بيتاً ومزرعة، لا بد من التناسب بين المتعاطفين، فحينما تعلم أن الله رفع الإحسان بالوالدين إلى مستوى عبادته، لأن عبادة الله فرع من وجودك، ووجودك له سبب قريب وسبب بعيد، القريب والداك والبعيد سيدنا آدم، وآدم من خلقه؟ الله عز وجل، الأمر الإلهي: 

﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)﴾

[  سورة الإسراء ]


من بر الوالدين أن تكون قريباً منهما وفي خدمتهما ولو كانا غير مؤمنين:


 قال تعالى: ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًا﴾ هناك ملمح في الآية رائع هو أن هذه الباء باء الإلصاق، ينبغي أن تكون قريباً من والديك، يؤكد هذا المعنى قوله تعالى: 

﴿  وَبَنِينَ شُهُوداً(13)﴾

[ سورة المدثر ]

 هم معه، مِن بِرّ الوالدين أن تكون قريباً منهما، وفي خدمتهما، من بر الوالدين أن تُكثِر من الاتصال بهما في اليوم الواحد، وأن تُسدِيَ إليهما المعروف لا عن طريق أحد بل بك مباشرة، لأن الباء باء الإلصاق، فينبغي أن تكون لصيقاً بهما، وينبغي أن يكون بِرُّك لهما عن طريقك أنت لا عن طريق أحد، هناك أبناء أقوياء وأغنياء يعطون توجيهات لمَن حولهم: خذ لوالدي هذه الحاجة، خذه إلى نزهة، معنى الآية يقتضي أن تكون أنت في خِدمته بحجمك الكبير. 
أيها الإخوة قال تعالى: ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًا﴾ يا ترى ولو كانا كافرين؟ نعم، ولو كانا مشركين، لأن الوالد هنا مطلق، والمطلق على إطلاقه. 

(( قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وهي مُشْرِكَةٌ في عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قُلتُ: وهي رَاغِبَةٌ، أفَأَصِلُ أُمِّي؟ قالَ: نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ. ))

[ أخرجه البخاري ]

 فالوالدان أيُّ والدَين مؤمنَين كانا أو كافرَين. ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًا﴾

على الإنسان أن يعترف بفضل الأب الذي أنجبه وزوَّجه ودله على الله:


 من ملامح قوله تعالى قال: 

﴿ وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍۢ كَٱلْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُۥ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍۢ يَٰبُنَىَّ ٱرْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلْكَٰفِرِينَ(42) قَالَ سَـَٔاوِىٓ إِلَىٰ جَبَلٍۢ يَعْصِمُنِى مِنَ ٱلْمَآءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ (43)﴾

[ سورة هود ]

 استنبط بعض العلماء أنه لا يجوز إقامة حدٍّ شرعي على ابن أمام أبيه رأفةً بالأب، كما لا يجوز إقامة حد شرعي على ابن أمام أمه، لأن قلب الأم والأب لا يحتمل هذا العقاب ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ﴾ الأب هو سبب وجودك، فأنت في نعمة لأنك موجود، هناك نعمة الإيجاد والإمداد، ونعمة الهدى والرشاد، فالله سبحانه وتعالى خالقٌ أوجدك، ومُربٍّ يُمِدّك بكل شي، وهادٍ يهديك إليه، فأنت في نِعَمٍ كبرى ثلاثة، وقد أضاف بعضهم وهي إضافة لطيفة: هناك أبٌ أنجبك، وأبٌ زوّجك، وأبٌ دلّك على الله، فالذي أنجبك سبب وجودك، والذي زوّجك ينبغي أن تعامله كأب، لأنه ربّى ابنته ثمانية عشر عاماً، ورعاها، واعتنى بأخلاقها، وصحتها، وشؤونها، ودراستها حتى سلّمها إليك، إذاً هو أب لك بمعنى أو بآخر، والذي دلّك على الله سبب سعادتك الأبدية، فينبغي أن تعترف بفضل الأب الذي أنجبك، والذي زوّجك، والذي دلّك على الله ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًا﴾ لو أن الأب أو الأم أمراك بمعصية ولتكن أكبر معصية، الشرك بالله. 

﴿ وإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِى ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ ۚ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(15)﴾

[ سورة لقمان ]

 لكن بنعومة. 

﴿ لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوْ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَٰنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍۢ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزْبُ ٱللَّهِ ۚ أَلَآ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ(22)﴾

[  سورة الحشر ]

الإحسان غير الولاء، لو أن إنسان له أب عاصٍ، غارق في المعصية، فالإحسان إليه شيء، والولاء شيء آخر، الولاء ممنوع، أب يشرب الخمر، ويقترف الفواحش، ولا يصلي، وظالم، هذا الأب في الحقيقة هو أب ينبغي أن تُحسِن إليه لكن لا ينبغي أن تواليه وتقره على أعماله.

السلامة والسعادة الحقيقية لا تتحقق إلا بعبادة الله العبادة الشمولية:


 قال: ﴿وإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِى ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ﴾ أيها الإخوة، الشيء اللطيف في الإسلام والعجيب وجود تضامن اجتماعي على أساسَين؛ على أساس جغرافي وعلى أساس نسَبي، الضمان الاجتماعي في الإسلام أساسه جغرافي الجوار، وأساسه نسَبي ذوي القربى.
يقول الله عز وجل بعد أن بدأ بالأمر بعبادته بالمعنى الواسع لا بالمعنى الفقهي أن تصلي، وتصوم، وتحج، وتزكي ليس غير، لا، بالمعنى التعبدي الواسع الشمولي؛ أن تطيعه في كل ما أمر، وتنتهي عن كل ما نهى عنه وزجر، والعبادة غاية الخضوع، والحب، والولاء، والإخلاص، والتوكل، وهناك جانب معرفي وسلوكي وجمالي، فالجانب السلوكي هو الأصل، والمعرفي هو السبب، والجمالي هو الثمرة والنتيجة، وكل واحد من بني البشر شاء أم أبى يبحث عن سلامته وسعادته، والسلامة والسعادة الحقيقية لا تتحقق إلا بعبادة الله العبادة الشمولية، ينبغي أن تعبده فيما أقامك، أقامك غنياً العبادة الأولى إنفاق المال، أقامك عالماً العبادة الأولى تعليم العلم، أقامك قوياً العبادة الأولى إنصاف الضعيف، أقامكِ امرأة العبادة الأولى رعاية الزوج والأولاد، أقامك طبيباً العبادة الأولى أن تنصح المسلمين في طبّك، أقامك محامياً العبادة الأولى أن تنصح الموكِّلين في دعواك، أقامك مهندساً أن تنصحهم في البناء، لذلك العبادة متعلقة بالحرفة، وبالأحوال الشخصية، وبالزواج، وبإنجاب الأولاد، وبتربيتهم، وبشؤون الصحة، ينبغي أن تعتني بصحتك لأنها مِلْك المسلمين، ينبغي أن تأكل كما أمر النبي أن تأكل، وأن تنام كما أمر النبي أن تنام، ينبغي أن تقيم علاقة مع زوجتك كما وجّهك النبي عليه الصلاة والسلام، العبادة تشمل شؤون حياتك كلها، حتى في أدق الخصوصيات، حتى في أشد العلاقات دقة ينبغي أن ترعى العبادة، هناك عبادة فيما أقامك، وهناك عبادة أخرى في الظرف الذي وضعك فيه. 

أمر العبادة يجب أن يكون متناسباً مع عظمة الله عز وجل:


 لو أن عدواً اقتحم الديار والعباد -لا سمح الله ولا قدر- فالعبادة الأولى ردّ هذا العدوان، لو أن مجاعة ألمّت بالمسلمين العبادة الأولى إطعام الطعام، لو أن مرضاً ألمّ بالمسلمين العبادة الأولى أن ننهض جميعاً لمكافحة هذا المرض، وأن نعبد الله فيما أقامنا، وفي الظرف الذي وضعنا فيه، وفي الزمن الذي أظلّنا. العاشر من ذي الحجة العبادة الأولى فيه ذكر الله، في رمضان العبادة الأولى الصيام والقيام، يوم الجمعة يوم عيد المسلمين العبادة الأولى حضور صلاة الجمعة، وزيارة الأقارب والأرحام، أن تعبده فيما أقامك، وأن تعبده في الظرف الذي وضعك فيه، وأن تعبده في المهمة التي وكلك إليها. إذا كان العدو يتحدانا بالإفقار فكسْبُ المال الحلال وإنفاقه في وجوهه الصحيحة أول عبادة.
 اليوم العدو يتحدى المسلمين بالإفقار‍! يأخذون منا ثرواتنا ويهددونا، العبادة الأولى أن تكون منتِجاً وكاسباً للمال، وتنفق هذا المال في وجوهه الصحيحة، وإذا كان العدو يتحدانا في إضلالنا فالعبادة الأولى تعني أن نوضح الحق، وأن نبيّن، وأن ننشر الحق، ونلقي الحق على الناس، ونأتي بالحجج والبراهين والأدلة والمؤيدات، وأن نطالع، ونقرأ، ونؤلف، وأن نلقي الحق على الناس، وإذا كان العدو يريد إفساد أخلاق أبنائنا فينبغي أن نصونهم من كل فساد، ونهيِّئ لهم مناشط إسلامية، ونحفظهم، ونؤسس لهم كل ما يشدُّهم إلى الدين، إن أراد إفقارنا فالعبادة الأولى كسبُ المال الحلال، إن أراد إضلالنا فالعبادة الأولى أن نوضّح الحق للناس، إن أراد إفسادنا فالعبادة الأولى أن نصون أجيالنا من الضياع والفساد، أمّا إذا أراد العدو أن يُذِلّنا فالعبادة الأولى أن نثأر لشخصيتنا وكرامتنا وديننا، أما إذا اجتاح أرضنا ينبغي أن ننهض جميعاً لردّ عدوانه، هذا المفهوم العبادي الواسع الشمولي الذي يتناسب مع قوله تعالى: 

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)﴾

[ سورة البقرة ]

 إلهٌ يأمر بحركات جَوفاء وتمتمات لا معنى لها! ينبغي أن يكون أمر العبادة متناسباً مع عظمة الله عز وجل.

حركة الإنسان و سكناته يجب أن تكون متعلقة بالأحكام الشرعية:


 حينما تذبح دابة ولا تحدّ شفرتك، وعندئذ لا ترتاح ذبيحتك، فأنت في معصية، العبادة أنك إذا ذبحت أن تُحسِن الذبح، فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: 

(( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ. ))

[ سنن الترمذي عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ ]

 أما هذا الذي يذبح الدابة أو الدجاجة، ثم يغمسها في الماء المغلي كي يسهل عليه نتف ريشها هذا يعصي الله، كل أوهامنا أن الدين صيام وصلاة بالجامع، بكلِّ مهنة وحرفة أنت حينما تضيف مادة لصنعتك الغذائية تضرّ بالمسلمين أنت في أكبر معصية، ولو صلّيت ألف ركعة في اليوم، حينما تضيف مادة مسرطنة لكنها تحسِّن لون البضاعة، ولا ترعى صحة المسلمين فأنت في أكبر معصية، أنت حينما لا تعلم الصغار إذا كنت معلماً العلم النافع الصحيح فأنت في أكبر معصية، أنت حينما تتسلم قضية لموكل، ولا تُحسِن المرافعة أمام القاضي فأنت في معصية، أنت حينما تعالج مريضاً بسرعة ومن دون تُؤَدَة وإتقان فأنت في معصية، كل حركاتك وسكَناتك متعلقة بالأحكام الشرعية. 
﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ﴾ الدائرة الأولى أخوك، أختك، ابنك، ابن أخيك، ابن أختك، ذوي القربى، جدك، جدتك. 
﴿وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ﴾ الدائرة الأولى من الأقرباء والثانية والثالثة والرابعة.
 النبي عليه الصلاة والسلام يوجه بعض أصحابه أن يتصدق على أهله الأقربين فعَنِ الرَّبَابِ عَنْ عَمِّهَا سَلْمَانَ ابْنِ عَامِرٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: 

(( إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ فَإِنَّهُ بَرَكَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَمْراً فَالْمَاءُ فَإِنَّهُ طَهُورٌ، وقَالَ: الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ اثِنْتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ. ))

[ سنن الترمذي عَنِ الرَّبَابِ عَنْ عَمِّهَا سَلْمَانَ ابْنِ عَامِرٍ ]

﴿وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ﴾ التضامن الاجتماعي أساسه النسب، وكل إنسان يعرف أهله وأوضاعهم الاجتماعية ومشكلاتهم الصحية والاجتماعية والمالية والتربوية. 

رعاية اليتيم وصلة القربى من أعظم الأعمال الصالحة:


 قال: ﴿وَٱلۡيَتَٰمَىٰ﴾ اليتيم هو الذي فقَدَ الأب والمُعِيل والراعي والولي، فقدَ الذي يهتم بشأنه، قد تجد من يعتني بالأيتام عناية لا حدود لها، ومع ذلك كل هذه العناية التي أساسها نفقات باهظة لا تساوي أن يكون الابن مع أبيه، لأنه ما من إنسان على وجه الأرض أحرص على سلامة ابنه وسعادته من أبيه وأمه، فهذا اليتيم فقدَ الأب والمُعيل والمشرف والمعلم، لذلك يقتدي منهج الله عز وجل أن ينهض جميع المسلمين لرعاية هذا اليتيم، وشاءت حكمة الله أن يكون سيد الخلق وحبيب الحق يتيماً إكراماً لليتامى، وأحبّ البيوت إلى الله بيت فيه يتيم مُكرَّم، فأن ترعى يتيماً من أعظم الأعمال الصالحة. 
﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ﴾ تصوّر كل إنسان آتاه الله مالاً أو علماً أو جاهاً تفقّد أقرباءه، زارهم، دعاهم، كم تكون الحياة رائعة! 
 حدثني أخ ورجاني أن أنقل لكم قصته: نشأ على تقاطع بين أفراد أسرته، فلما حضر دروس العلم خطرَ في باله أن يزور أقرباءَه، طرق باب أحد الأُسَر في العيد لا يعرفونه قال: أنا ابن عمكم، فاستقبلوه، وقدّروا له هذه الزيارة، ووعدوه أن يردّوا له هذه الزيارة في بيته، دخلوا إلى بيته فإذا هو بيت لا تدخله أشعة الشمس إطلاقاً، تحت الأرض، وغير صحي، فهؤلاء الأقرباء المُحسِنون تبرعوا له ببيت، بمبلغ جيد جداً، أقسم بالله أنه حينما وصلهم لا يقصد الذي حصل إطلاقاً، ولم يعلم أنهم يفعلون هذا، ولكن هذه بركة التواصل. إذا كل إنسان وصلَ أهله، تفقّد أحوالهم؛ بالمناسبة أيها الإخوة، صلة الرحم لا تعني أن تزورهم فقط، بل أن تتفقد أحوالهم المعيشية التربوية العلمية، أن تسأل عن أولاد إخوتك كيف أحوالهم، ودينهم، وتوجيههم، وتحصيلهم، وصحتهم؟ أن تزورهم، وتتفقد أحوالهم، وتحلّ بعض مشكلاتهم، ثم تأخذ بيدهم إلى الله، هذا هو المعنى الدقيق لصلة الرحم.

تعبير الفقراء والمساكين إن اجتمعا افترقا وإن افترقا اجتمعا:


 قال: ﴿وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ﴾ الدائرة الثانية إنسان له خالة، له عمة، له عم، له خال، له ابن أخ، له ابن أخت، له حفيد، له جد، ينبغي أن يصل هؤلاء ويتفقد أحوالهم جميعاً، أن يمد إليهم يد المساعدة جميعاً، هذا هو الدين.
 لذلك سبحان الله من أدق الأحاديث الشريفة ما ذكره النبي أن: 

(( صلة الرحم تزيد في العمر. ))

[ صحيح الجامع ]

بمعنى أن الأعمال الصالحة التي تُكتَب لك من هذه الصلة كأنك عِشت عمرَين، بهذا المعنى. 
﴿وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ﴾ المسكين في القرآن الكريم تعبير الفقراء والمساكين، فإن اجتمعا افترقا، وإن افترقا اجتمعا، إذا قال الله: 

﴿ لِلْفُقَرَآءِ ٱلْمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ(8)﴾

[ سورة الحشر ]

 تعني الفقراء والمساكين، وإذا قال: المساكين؛ تعني الفقراء والمساكين، أما إذا قال: للفقراء والمساكين، افترقا! ليس الفقير من تردّه اللقمة أو اللقمتان، ولكن الفقير الذي لا يجد حاجته، يسكن بيتاً، يبيع بيته! كيف هذا؟ أين سيسكن؟ لكن يحتاج لعملية جراحية لابنه، ودخله محدود، هناك من يتّسم بضيق الأفق فيقول: يبيع بيته، إذا باع بيته أين يسكن؟ فهذا اسمه فقير، دخْلُه لا يغطي حاجاته، هذا ينبغي أن نساعده وأن نُغنيَه إما لسنة أو لطول العمر، عن طريق تهيئة حرفة له أو أداة أو آلة أو مركبة، أما المسكين العاجز الساكن الذي لا يتحرك، ذو العاهة، فإذا قال الله: المساكين؛ تعني الفقراء والمساكين، وإذا قال: الفقراء؛ تعني الفقراء والمساكين، أما إذا قال: الفقراء والمساكين؛ عندما يجتمعان يفترقان، فالفقير هو الذي لا يجد حاجته، كل إنسان دخْله أقل من المصروف الأساسي؛ طعام وشراب وثياب ومعالجة ومأوى، هذه أساسيات الحياة، فالذي دخله لا يكفي لأساسيات الحياة هذا عند الله عز وجل فقير، أما المسكين الذي لا يتحرك، مصاب بمرض عضال، هذا ليس له دخل إطلاقاً.

في الآية التالية ثلاثة أنواع للجيران:


 قال تعالى: ﴿وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ﴾ إخواننا الكرام، في مصطلح العلماء أربعون بيتاً لجهة الشمال هم جيرانك، وأربعون بيتاً لجهة الجنوب هم جيرانك، وأربعون بيتاً لجهة الشرق هم جيرانك، وأربعون بيتاً لجهة الغرب هم جيرانك، وأربعون طابقاً فوقك هم جيرانك، وأربعون طابقاً تحتك في اليابان هم جيرانك! أربعون بيتاً في كل الجهات هم جيرانك، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: 

((  مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيوّرثه. ))

[ متفق عليه عن عبد الله بن عمر ]

 عندما يكون الإنسان في بناء، والجيران يحبهم ويحبونه، ويرعاهم ويرعونه، لو أنه سافر يسافر مطمئن البال.
 حدثني أخ قال: كنت مسافراً، وابني دُهِس بسيارة قال: الجار كأنه ابنه أخذه للمشفى، وعالجه أدق علاج، وأعاده إلى البيت، وتتبّع مشكلة السائق الذي فعل الحادث، ورعى تمريضه بعد حين والأدوية، هذا الجار، لذلك الجار شيء مُقدَّس جداً. لكن هنا في الآية يوجد ثلاثة أنواع للجيران:

1 ـ الجار ذي القربى:

 يوجد ﴿وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ﴾ ، جار مسلم له حقان؛ حق الجوار وحق الإسلام، جار مسلم ابن أخيك له ثلاثة حقوق؛ حق الإسلام، وحق الجوار، وحق النسب، فكل جار له حق فوق حق الجار هو الجار ذو القربى، ﴿وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ﴾ أي عنده حق زائد، قد يكون قريباً وقد يكون مؤمناً، إن كان لك جار مؤمن فهذا شيء استثنائي، ويصلي الفجر، ويغض بصره عن أهلك، ويرعاك عند الشدة، يتفقدك، يزورك، يُمِدك بكل خير، ﴿وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ﴾ جار مؤمن أو قريب أو جار مؤمن قريب له ثلاثة حقوق، حق الجار، وحق القربى، وحق الإيمان.

2 ـ الجار الجنب:

 هناك ﴿وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ﴾ ، لك جار غير مسلم يجب أن ترعاه. يقال: إن أبا حنيفة رحمه الله تعالى له جار شاب أقلقه مدة طويلة جداً بغنائه، وله أغنية مشهورة: أضاعوني وأي فتى أضاعوا، فلما ألقي القبض عليه لمخالفة ارتكبها ذهب أبو حنيفة بمكانته الكبيرة للمحتسِب، وتوسّط له وأعاده، وفي طريق العودة عاتبه قال: هل أضعناك يا فتى؟ لعلك إن أحسنت إلى جارٍ ليس ملتزماً يمكن أن ترده إلى الدين بإحسانك، وكم مِن جارٍ التزم الشريعة بإحسان جاره له، هذا الجار الثاني ﴿وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ﴾ جار لصيق فقط، من يسكن فوقك؟ لا أعرف! هذا شيء مألوف في زمن التفلّت، بناء من أربع طوابق لا يعلم الجار مَن فوقه، ولا يوجد بينهما سلام، بينما المؤمنون الجار شيء مُقدَّس.

(( مَن أغلَقَ بابَه دونَ جارِه؛ مَخافةً على أهلِه ومالِه؛ فليسَ ذاكَ بمُؤمِنٍ، وليسَ بمُؤمِنٍ مَن لم يأمَنْ جارُه بَوائقَه ، أتَدْري ما حَقُّ الجارِ؟ إذا استَعانَكَ أعَنتَه، وإذا استَقرَضَكَ أقرَضتَه، وإذا افتَقَرَ عُدتَ عليه، وإذا مَرِضَ عُدتَه، وإذا أصابَه خَيرٌ هَنَّأْتَه، وإذا أصابَتْه مُصيبةٌ عَزَّيتَه، وإذا ماتَ اتَّبَعتَ جِنازَتَه، ولا تَستَطِلْ عليه بالبِناءِ تَحجُبْ عنه الرِّيحَ إلَّا بإذْنِه، ولا تُؤذِه بقُتارِ قِدْرِكَ إلَّا أنْ تَغرِفَ له منها، وإنِ اشتَرَيتَ فاكِهةً فأهْدِ له، فإنْ لم تَفعَلْ فأدخِلْها سِرًّا، ولا يَخرُجْ بها وَلَدُكَ ليَغيظَ بها وَلَدَه. ))

[ أخرجه البيهقي في شعبه بسند ضعيف ]

 (مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيوّرثه) هذا الجار الجنب، إنسان قد يكون غير مسلم ينبغي أن تحسن إليه. 
 اطّلعت على قصة لم يتح لي أن أراجع مدى صحتها، لكن لها معنى: كان للنبي جار يؤذيه، في أحد الأيام كفّ عن أذى النبي، فظنه مريضاً فعاده، فكانت عيادة النبي له سبب إسلامه، ينبغي أن تحسن إلى جارك ولو كان مسيئاً.

3 ـ الصاحب بالجنب:

 قال تعالى: ﴿وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ﴾ الصاحب بالجنب هذا جار طارئ، أنت مسافر لحلب، الذي إلى جانبك هذا جار طارئ، في سفر، أو حفل، أو مشروع، أحياناً طالبان في كلية، بعمل واحد، فكل علاقة طارئة مغطاة بكلمة ﴿وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ﴾ ويوجد علماء قالوا: هو زميل العمل، أنت في دائرة مدرِّس، هو مدرس معك، أو محامٍ معك في المكتب، أنت طبيب، وهو طبيب معك في العيادة، تاجر جارك بالتجارة، زميل، زميل العمل، أو جار طارئ مسافر. 
﴿وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ﴾ هؤلاء ينبغي أن تُحسن إليهم.

عظمة الإنسان ليست في استعلائه بل في طاعته لله:


 قال تعالى: ﴿وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ﴾ المنقطع في الطريق، ليس له مأوى، وقد فقدَ ماله، هذا ابن السبيل ينبغي أن نحسن إليه، وكثيرون هم أولئك الذين ينقطعون، هم طلاب علم أحياناً يطلبون مبلغاً ليعودوا لأوطانهم، هذا المبلغ محسوب من الصدقات. 
﴿وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ﴾ بالمفهوم الواسع عندك شاب في المحل التجاري، هذا موظف عندك ينبغي أن تعامله معاملة طيبة، عندك خادم ينبغي أن تُطعمه مما تأكل، وأن تُلبِسه مما تلبس، ولا تكلفه مالا يطيق، والليل له والنهار لك، إنْ كلّفته ما لا يطيق ينبغي أن تعينه على ذلك، وتحسن إليه، هذا الإسلام، الفوقية العالية غير إسلامية، هذا أخ مؤمن تحت يدك، عمّال بمعمل، موظفون في محل تجاري، خدّام في المنازل، بالمعنى الواسع هؤلاء ملكت شؤونهم، يعملون لصالحك ويتقاضون منك أجراً، بالمعنى التقليدي العبيد الذين أُخِذوا أسرى في الحرب. 
﴿وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالًا فَخُورًا﴾ أنت إنسان عظمتك ليست في استعلائك بل في طاعتك لله، كان النبي عليه الصلاة والسلام يُصغِي الإناء للهرة، ويخدم نفسه، وكان في مهنة أهله، هذه من صفات النبي عليه الصلاة والسلام. 
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالًا فَخُورًا﴾ اختياله لا أساس له، هو عبد فقير. 

(( هَوِّن عليك ، فإني لستُ بملِكٍ، إنما أنا ابنُ امرأةٍ من قريش كانت تأكل القَديدَ. ))

[ أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى  ]

 هكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام، مختالاً في مشيته، فخوراً في كلامه. 

﴿  يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً(6)﴾

[ سورة البلد ]

 أنا أنفقت كذا مليون، أنا سفرتي كلّفتني مئة ألف، هكذا يتباهى بإنفاق المال ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً﴾ المؤمن لا يختال لا في مشيته، ولا في حركته، ولا في سكَنته، كما أنه لا يفتخر بحاله بل يرى فضل الله عليه.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور