- التربية الإسلامية
- /
- ٠9سبل الوصول وعلامات القبول
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار العلم والمعرفة، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
العبادات معللة بمصالح الخلق :
أيها الأخوة الأكارم، لا زلنا في موضوعٍ يتصل أشد الاتصال بـ: "سبل الوصول وعلامات القبول" ألا وهو الخشوع.
وقد بينت في اللقاء السابق أن هناك عبادات كما قال عنها الإمام الشافعي: معللةٌ بمصالح الخلق، وأن هناك طقوساً من سمات الديانات الوضعية الأرضية، الطقوس حركاتٌ، وسكناتٌ، وإيماءاتٌ، وتمتماتٌ لا معنى لها، بينما العبادات معللة بمصالح الخلق.
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ ﴾
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
الحج:
﴿ ِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ﴾
إذاً العبادات معللة بمصالح الخلق.
الوقوف على الحكم اللامتناهية للعبادات تعين الإنسان على الخشوع في الصلاة :
إذاً حينما قال الله عز وجل:
﴿ خذوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ ﴾
من حكم، حكمة العبادة تعينك على الخشوع، الصلاة مثلاً قال تعالى:
﴿ اُتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ * ﴾
ذكر الله أكبر ما فيها، بل إن ذكر الله لك وأنت في الصلاة أكبر من ذكرك له، لأنه إن ذكرك منحك الحكمة، منحك الرضا، منحك الطمأنينة، منحك الأمن، منحك السعادة، منحك التوفيق، منحك التأييد، منحك النصر، فالصلاة معللة بثمارٍ لا يعلمها إلا الله.
﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾
من الله ، فالصلاة قرب .
﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾
الصلاة ذكر.
(( ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها ))
فالصلاة عقل.
﴿ لا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾
الصلاة قربٌ، والصلاة ذكرٌ، والصلاة عقلٌ، والصلاة طهورٌ، كما قال عليه الصلاة و السلام:
(( لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول ))
تطهر الإنسان من أدرانه، من شهواته المنحرفة، والصلاة نورٌ تلقي في قلبك نوراً ترى به الحق حقاً والباطل باطلاً، والصلاة حبورٌ و سعادةٌ.
(( أرحنا بها يا بلال- أي الصلاة -))
أنت حينما تقف على الحكم اللامتناهية للعبادات لعل هذه الحكم التي وقفت عليها أعانتك على الخشوع في الصلاة.
إدراك الحكم يعين الإنسان على الخشوع لله عز وجل :
أيها الأخوة، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( أرأيتم لو أنَّ نهراً بباب أحدِكم يغتَسِلُ فيه كلَّ يوم خمس مرات، ما تقولون ذلك يُبقي من درنه؟ قالوا: لا يُبقي من دَرَنهِ شيئاً، قال: فذلك مَثَل الصلوات الخمسِ يمحو الله بها الخطايا ))
فالعبادات معللةٌ بمصالح الخلق، إذاً إدراك الحكم يعينك على الخشوع، بل إن الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في الإحياء عقد لكل عبادةٍ أسرارها وحكمها، المؤمن لا يصدق أن يأمره الله في الحج أن يدع بيته، وأهله، وماله، وعمله، وأن يأتي من بلادٍ بعيدة من أجل أن يكون في مكان واحد للحظات في عرفات وانتهى الأمر،لا ،الفقهاء يعنون بظاهر العبادات، لكن علماء القلوب يبينون أسرارها وحكمها، يوم عرفة يوم اللقاء الأكبر مع الله، يوم عرفة يوم معرفة الله عز وجل، يوم عرفة يوم القرب.
(( من وقف في عرفات فلم يغلب على ظنه أن الله غفر له فلا حج له ))
أي العبادات عندما تفرغ من مضمونها، من أسرارها، من حكمها، من الأهداف الكبيرة التي أرادها الله منها، تغدو حركات، وسكنات، وتمتمات، وكلمات، عندئذٍ تقترب العبادات مع الجهل الفاضح من الطقوس، العبادات أعمال كبيرة جداً، لأن الإسلام جزءٌ منه عقائد، وجزءٌ آخر عبادات، معاملات، آداب، لكن الفقهاء معهم الحق درسوا الأمر في ظاهره، فالصلاة عندهم أقوالٌ وأفعال تفتتح بالتكبير، وتختتم بالتسليم، ولكن الله عز وجل قال:
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾
﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ * ﴾
آيات الخشوع :
أيها الأخوة، الآن من آيات الخشوع:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾
هناك اضطراب، وقشعريرة، و تأثر، و بكاء، و شعور بالقرب من الله عز وجل.
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾
هذه آيةٌ أخرى من آيات الخشوع، العين تدمع، والوجه يشرق، والقلب يخشع، والجلد يقشعر، والأعصاب تضطرب، والإنسان يبكي بكاء القرب، بكاء الحب، بكاء الخشوع، أي الكلمة أو الحقيقة المرة أنا أراها أفضل ألف مرة من الوهم المريح، من صلى فلم يشعر بشيء، وقرأ القرآن فلم يشعر بشيء، وذكر الله فلم يشعر بشيء، عنده مشكلة كبيرة، بعضهم قال : لا قلب له أصلاً.
أي الإنسان يملك مقياساً دقيقاً، أنت حينما تخالف السنة، حينما تقصر في عمل، حينما تتجاوز الحدود، حينما تفعل شيئاً تعلم أن الله نهى عنه، تشعر فوراً بحجابٍ بينك وبين الله، والبطولة أن تتعاهد قلبك، البطولة أن تكون حكيم نفسك، حينما تقترف مخالفةً، أو حينما تقصر، أو حينما تتجاوز الحدود، تشعر فوراً بحجابٍ بينك وبين الله، والاستقامة التي أرادها الله من أجل أن تهدم هذا الحجاب بينك وبين الله.
الخشوع هو الانخفاض مع التذلل لله عز وجل :
الآن عندنا معنى مادياً للخشوع، الخشوع معناه الانخفاض، والدليل:
﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * ﴾
الخشوع هو الانخفاض، قال: انخفاض الرأس مع الذل مع التذلل إلى الله عز و جل، بعضهم قال: كلما تذللت إلى الله أكثر ازددت عزاً، وكلما خفضت رأسك لله رفعك الله، العلاقة عكسية، كلما بالغت في تمريغ وجهك في أعتاب الله رفع الله قدرك، وأعلى شأنك.
النبي الكريم رأى رجلاً حركته في الصلاة غير طبيعية، في بعض البلاد يصلح ثيابه، قد يعد ماله أثناء الصلاة، فالنبي رأى شخصاً هكذا فقال:
(( لو خشع قلبه لخشعت جوارحه ))
لو خشع قلبه من الداخل لسكنت جوارحه، فالحركة الزائدة في الصلاة تضعف الخشوع فيها، وكما قلنا في لقاءٍ سابق: الخشوع في الصلاة ليس من فضائلها بل من فرائضها، الآية الكريم:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً ﴾
أي منخفضة.
﴿ فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى ﴾
فالخشوع هنا ببعض معانيه الانخفاض، التذلل، الخضوع لله عز و جل.
من علامات الخشوع خمود نار الشهوة وتألق نور الله في القلب :
أيها الأخوة، قال بعض العلماء: الخشوع قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل، وبعضهم قال: الخشوع هو الانقياد للحق ما دمت خاضعاً لحكم الله.
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾
الأوامر القرآنية والنبوية لا تخضع للبحث والدرس وليست محل مناقشة، وليست محل دراسة، وليست محل قبول أو رفض،
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ﴾
هذه ما كان من أشد صيغ النفي، نفي الشأن:
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾
لذلك قال بعضهم: من علامات الخشوع خمود نار الشهوة، وتألق نور الله في القلب، هناك نار وهناك نور، الله عز وجل إذا أقبلت عليه يلقي في قلبك نوراً، وإذا خضعت لشهوتك هذه الشهوة تعد ناراً متأججة، الشهوات يرمز إليها بالنيران، والقرب من الله يرمز إليه بالأنوار، أنت بين النار والنور، وكلما اقتربت من الخشوع تألق النور وانطفأت الشهوة.
لذلك قال الإمام الشافعي:
شكوت إلى وكيعٍٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
و أنبئني بأن العلـــم نورٌ ونور الله لا يـهدى لعاصـي
***
من يتصل بالله يقذف في قلبه نوراً يرى به الحق حقاً والباطل باطلاً :
أي ما لم تشعر أنك قريب من الله، ما لم تشعر بحالة من السعادة يصعب وصفها، ما لم تشعر بالسكينة التي ذكرها الله في القرآن الكريم ، ففي العبادات مشكلة، الخشوع سر العبادة، الخشوع أي أن تعبد الله كما أراد لا كما تصورت، لذلك.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
انظر الشاهد القوي على أن الله عز و جل حينما تتصل به يقذف في قلبك نوراً:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾
أي رحمةٌ في الدنيا ورحمةٌ في الآخرة
﴿ كِفْلَيْنِ ﴾
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾
﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
هذا النور ترى به الحق حقاً والباطل باطلاً.
من صحّ عمله سلم و سعد في الدنيا و الآخرة :
أيها الأخوة الكرام، ما من عمل من دون استثناء يعمله الإنسان إلا وراءه رؤية، هذه الرؤية إن صحت صحّ العمل، وإن فسدت فسد العمل، ماذا رأى السارق قبل أن يسرق؟ رأى أن السرقة أقصر طريقٍ إلى المال بلا جهد، لكن غاب عنه أنه سيقبض عليه، وسيودع في السجن، وغاب عنه أن السرقة في معظم الأحيان تتحول إلى قتل، والقاتل يُعدم، غابت عنه نتائج هذه المعصية وتألق ورأى رؤيةً خاطئة، رؤية شيطانية أن السرقة أقصر طريقٍ لجمع المال، لذلك كل هؤلاء الذين يدفعون ثمن أخطائهم كانوا في عمى.
﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ * ﴾
أنت حينما تملك رؤية صحيحة يصح عملك فتسلم وتسعد في الدنيا والآخرة، سيدنا يوسف شابٌ في مقتبل العمر، بعيدٌ عن أهله، غريب، غير متزوج، دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمال، وهي سيدته، وليس من مصلحتها أن يفشو هذا الخبر، ما الذي رأى في الزنا حتى قال:
﴿ مَعَاذَ اْللهِ ﴾
وأي شاب آخر غافل عن الله يرى أن هذا اللقاء مكسب كبير، القضية قضية رؤية، إما أن تصح رؤيتك فيصح عملك فتسلم وتسعد، وإما أن تفسد رؤيتك من بعدك عن الله فيفسد عملك فتشقى وتهلك، هذا ملخص الملخص، هناك رؤية، هذه الرؤية الصحيحة بسبب نورٍ قذفه الله في قلبك.
لذلك الاتصال بالله ثماره يصعب تصورها، أنت حينما اتصلت بالله ألقى في قلبك نوراً.
الآن أحياناً تقوم حملة شديدة لمكافحة الفساد، هؤلاء الذين ساءت رؤيتهم فساء عملهم يُقبض عليهم، ويودّعون في السجون، لو صحت رؤيتهم لما أقدموا على ذلك.
من تذلل إلى الله رفع شأنه و قدره :
من هو المؤمن؟ هو الذي يملك رؤية صحيحة، الإنسان إذا توهم أنه إذا كذب في صفات البضاعة باعها أعمى، الإنسان إذا توهم أنه إذا حلف يميناً كاذبةً راجت تجارته أعمى، الإنسان إذا توهم أنه إذا غش المسلمين يحقق أرباحاً كبيرة أعمى، لا يمكن أن يدعك الله من دون تأديب، لذلك مستحيلٌ وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تعصيه وتربح.
لذلك الإنسان تسوء رؤيته فيعصي الله، تصح رؤيته فيتقي الله، الإمام الجنيد يقول: الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب، الإنسان منحه الله عزة، لكن مع الله هناك تذلل في تمريغ الوجه بأعتاب الله، هناك مناجاة مع الله: يا رب أنا فقير، أنا مفتقر إلى غناك، أنا جاهل، أنا مقصر، يجب أن تعود نفسك أن تناجي ربك، ناجه بالتذلل، سيدنا يونس في بطن الحوت ماذا قال؟
﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾
عود نفسك وأنت لك شأن كبير، ولك مكانة كبيرة، وتحت يدك مقدرات كبيرة جداً، بينك وبين الله أن تتذلل.
نور الدين الشهيد هذا البطل الذي ردّ التتار، سجد قبل المعركة وقال: يا رب من هو الكلب نور الدين حتى تنصره؟ انصر دينك يا رب، بقدر ما تستطيع بينك وبينه أن تتذلل يرفعك، يرفع شأنك، يعلي قدرك، يلقي في قلبك النور، توفق.
الخشوع محله في القلب لا في الجوارح :
لو أن الله قال:
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾
ما هو الخشوع؟ مع هذا الأمر الخضوع له، هنا الخشوع في الصلاة شيء أما الخشوع لأوامر الله فالخضوع لها،
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾
لا يقول: أين سأذهب بعيوني؟ لا، ما أمرك الله بهذا الأمر إلا وهو يعلم أنك تستطيعه.
العلماء جميعاً أجمعوا على أن الخشوع محله في القلب لا في الجوارح، لذلك ارفع رأسك يا أخي، لا تتذلل، لا تتطامن، لا تتمسكن، ليس هذا من صفات المؤمن، خشوعك في القلب، ارفع رأسك، واجعل قامتك مديدة، وكن عزيزاً.
(( إنكُم قادِمُونَ على إخوانكم، فَأصْلحُوا رِحَالَكُم، وأصلحوا لِبَاسَكُم، حتى تكونوا كأنَّكم شَامَةٌ في النَّاسِ ))
هذا الخاشع تذلل، تمسكن، لا يوجد بيدنا شيء، لا، محل الخشوع القلب لا الجوارح، النبي رأى رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال عليه الصلاة والسلام:
(( لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ))
أي خشوع القلب يقابله خشوع الجوارح.
حُسن أدب الظاهر عنوان أدب الباطن :
أيها الأخوة، قال بعض العلماء: حُسن أدب الظاهر عنوان أدب الباطن، أنت حينما تكون مؤدباً في ظاهرك، الجلسة مؤدبة، الكلام مؤدب، الحركة مؤدبة، الثياب مؤدبة، الأدب الظاهري دليل أدب قلبك، بعضهم رأى رجلاً خاشع المنكبين والبدن فقال له: يا فلان الخشوع ها هنا وأشار إلى صدره وليس ها هنا وأشار إلى منكبيه، الخشوع في القلب حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً من أصحابه قبيل معركةٍ يتبختر في مشيته فقال عليه الصلاة و السلام: إن الله يكره هذه المشية، إلا في هذا الموطن، لأن التكبر على المتكبر صدقة.
لا يوجد مؤمن ذليل، لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير، شرف المؤمن قيامه بالليل وعزه استغناؤه عن الناس.
قيل للإمام الحسن البصري: بمَ نلت هذا المقام؟ قال: باستغنائي عن دنيا الناس وحاجتهم إلى علمي.
تصور إنساناً استغنى الناس عن علمه وهو بحاجةٍ إلى دنياهم سقطت الدعوة، أنا أنصح الدعاة أن يكون لهم عمل شخصي، عمل خاص يعيشون منه، من أجل ألا يخضعوا لقويٍ أو لغني لقول النبي الكريم:
(( من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه ))
من جلس إلى غنيٍ، وفي رواية أو قويٍ فتضعضع له - تمسكن - ذهب ثلثا دينه، أي أصحاب النبي الكريم عليهم رضوان الله يتمتعون بعزة مذهلة.
سيدنا خُبيب صُلب على جذع نخلة، وقبل قتله سُئل أتحب أن يكون محمدٌ مكانك؟ أنت اسأل من يراقب إعدام المجرمين، هناك تذلل، هناك بكاء، هناك رجاء، قال: والله ما أحب أن أكون في أهلي وولدي وعندي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة، وهو يُقتل كان عزيزاً.
الخشوع في القلب وفي الظاهر ينبغي أن تكون عزيزاً.
(( المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف ))
من شكا إلى مؤمن فكأنما اشتكى إلى الله ومن شكا إلى كافر فكأنما اشتكى على الله :
لذلك إياك ثم إياك ثم إياك أن تشكو همك لكافر، قالوا: من شكا إلى مؤمن فكأنما اشتكى إلى الله، ومن شكا إلى كافر فكأنما اشتكى على الله، الفرق كبير بين أن تشتكي إلى الله وبين أن تشتكي على الله، لذلك تحل كل مشكلاتك في ثلث الليل الأخير.
(( يَنْزِلُ اللهُ تَبارَكَ وتعالى إِلى السماءِ الدنيا، فيقولُ: هل من سائِلٍ فَيُعْطَ ؟ هل من دَاعٍ فَيُستَجَابَ لَه؟ هل من مُستَغفِرٍ فَيُغْفَرَ لَهُ؟ حتى يَنفَجِرَ الصُّبْحُ' ))
لذلك لا تشتكي إلا لله.
﴿ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ﴾
ويعاب من يشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم، سيدنا حذيفة يقول: إياكم وخشوع النفاق، قيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع.
سيدنا عمر رأى رجلاً طأطأ رقبته في الصلاة، فقال: يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب، إنما الخشوع في القلوب.
سمع سيدنا عمر رجلاً علا صياحه في الحرم أثناء الطواف لأنه وجد لوزة، فسأل من صاحب هذه اللوزة؟ من صاحب هذه اللوزة؟ قال له: كلها يا صاحب الورع الكاذب، كُلْها وخلصنا.
السيدة عائشة رأت شباباً يتماوتون في مشيتهم، فقالت لأصحابها: من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء النساك، قالت: رحم الله عمراً ما رأيت أزهد منه، كان إذا سار أسرع، وإذا أطعم أشبع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع، رحم الله عمراً ما رأيت أزهد منه.
الفضيل يقول: يكره أن يرى الرجل في خشوعٍ أكثر مما في قلبه، أي أظهر خشوعاً ليس في قلبه، هذا مكروه.
الخشوع افتقارٌ إلى الله عز وجل :
سيدنا حذيفة يقول: أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، صلاة بلا خشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، أي التطورات السلبية في العالم الإسلامي صلاة بلا خشوع ثم ترك الصلاة، لأن الصلاة بلا خشوع صلاة مملة.
﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ﴾
أي صعبةً.
﴿ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾
قال بعض العلماء: من خشع قلبه لم يقترب الشيطان منه، الخشوع افتقارٌ إلى الله عز وجل، وأنت بين التولي والتخلي، تفتقر يتولاك، يحميك، يؤيدك، يوفقك، ينصرك، يحفظك، تقول: أنا ابن فلان، أنا أحمل هذه الشهادة، عندي خبرات، عندي أموال لا تأكلها النيران، يتخلى عنك.
والله مرة أخ أحسبه صالحاً ولا أزكي على الله أحداً، غلط غلطة مع ربه، قال: الدراهم مراهم، هذه غلطة كبيرة، هذا شرك، اُتهم اُتهاماً هو بريء منه، بقي في المنفردة أربعة وستين يوماً، قال لي: الخاطر يأتيني كل دقيقة: الدراهم مراهم؟ تفضل حل هذه، البطولة أن تفتقر إلى الله لا أن تعتد بما عندك.
فالصحابة الكرام في بدر افتقروا إلى الله فانتصروا، هم هم ومعهم رسول الله في حنين قالوا:
((ولن يُغْلَبَ اثنا عَشَرَ ألفا مِنْ قِلَّةٍ))
اعتدوا بالعدد فتخلى الله عنهم، هذا ملخص الملخص تفتقر يتولاك، تقول: أنا يتخلى عنك، فقبل أن تقوم بعمل، قبل أن تجري عملية جراحية، قبل أن تلقي درساً، قبل أن تقابل مسؤولاً، قل: يا رب إني التجأت إليك، إني تبرأت من علمي، ومن قوتي، والتجأت إلى علمك وقوتك يا رب العالمين.