بادئ ذي بدء أن تُعرفها بالله، الكون كله مظهر لأسماء الله الحسنى، الكون كله تعبير عن عظمة الله عز وجل:
﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)﴾
خلق الله يدل الإنسان على الكون:
خلق الله يدلك عليه، خلق الله يدلك على أن لهذا الكون إلهاً موجوداً واحداً، كاملاً، يمكن أن تُجمَّع أسماء الله الحسنى بكلمات ثلاثة إله عظيم، موجود، واحد، كامل، الكون أحد مقومات التكليف، لأنه ينطق بوجود الله.
وفي كل شيء له آيـــــة تدل على أنه واحــــــد
طعامك وشرابك، نفسك التي بين جنبيك، جسمك، ما حولك من أنهار، من أمطار، من جبال، من سهول، من وديان، من بحار، من بحيرات، طعامك، أنواع النباتات، أنواع الحيوانات، أنواع الأطيار، أنواع الأسماك، أنواع الكواكب، المجرات، الليل، النهار، الشمس، القمر، كل ما حولك ينطق بوجود الله، ينطق بوحدانية الله، ينطق بكمال الله.
حينما قبلت حمل الأمانة سخر الله لك السماوات والأرض، وجعل السماوات والأرض تنطق بوجوده، ووحدانيته، وكماله.
ما قيمة السماوات والأرض من دون جهاز إدراكي؟ أودع فيك قوة إدراكية هي العقل، كرَّمك بالعقل، وكل إنجاز حضاري تُدهش منه، يأخذ بلبك، إنما هو ثمرة متواضعة من ثمرات العقل، لكن الإنسان الذي شرد عن الله عز وجل يستخدم عقله لغير ما خُلِق له، يستخدمه للدنيا، العقل خُلِق في هذا الإنسان ليكون أداة معرفة الله.
لذلك مبادئ العقل تتناسب مع مبادئ الكون، العقل فيه مبدأ السببية فعقلك لا يمكن أن يفهم شيئاً بلا سبب، وعقلك لا يمكن أن يفهم شيئاً بلا غاية، وعقلك لا يقبل التناقض. هذه مبادئ العقل الثلاث، وهذه المبادئ الثلاث هي هيكل الكون الأساسي، نظام السببية، نظام الغائية، نظام عدم التناقض، فإذا أعملت عقلك في الكون هداك بلطف إلى وجود الله، كل شيء له سبب، من سبَّب وجود هذا الكون؟ الله جلّ جلاله، كل شيء له غاية، لماذا خلقنا؟ سخر لك الكون، منحك العقل.
ثم أعطاك فطرة؛ هذه الفطرة نفس مبرمجة على الخير، مبرمجة على الطاعة، جِبِلتها أن تعرف الله، وأن تطيعه، وأن تركن إليه، وأن تحتمي به، وأن تلجأ إليه، فكل نفس خرجت عن فطرتها تعذبت، سمِّ هذا العذاب كآبة، سمِّ هذا العذاب تأنيب ضمير، سمِّ هذا العذاب شعوراً بالنقص، سمِّ هذا العذاب شعوراً بالذنب، مسميات أسماء لمسمى واحد، فالفطرة أحد مقومات التكليف، أعطاك كوناً، وأعطاك عقلاً، وأعطاك فطرة.
ثم أعطاك شهوة، هي المحرك إلى الله، لولا الشهوات لما ارتقينا إلى رب الأرض والسماوات، يوجد ميول، يوجد غرائز، يوجد شهوات، بعضها مسموح به، بعضها محرم، عملية ضبط، عملية ضبط هذه الأهواء وفق منهج الله.
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾
المعنى المخالف: لو أنك اتبعت هواك وفق هدى الله لا شيء عليك، أودع فيك الشهوات لترقى بها، تارة صابراً، وتارة شاكراً إلى الله عز وجل، لولا الشهوات لما كان هناك جنات، لولا الشهوات لما كان هناك قربات، لولا الشهوات لما كان هناك درجات عند الله، بقدر ما أُودعت فيك الشهوات بقدر ما ترقى عند الله، أعطاك الكون، أعطاك العقل، أعطاك الفطرة، أعطاك الشهوة.
ثم منحك حرية الاختيار ليُثمن عملك، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، لو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، لو تركهم هملاً لكان عجزاً بالقدرة، إنّ الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، أنت مخير، وعاقل، وذو فطرة عالية، أُودعت فيك الشهوات:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)﴾
ثم فوق كل ذلك أعطاك ميزاناً علمياً، العقل، أعطاك ميزاناً نفسياً، الفطرة، أعطاك ميزاناً مركزياً لا يخطئ هو الشرع، الحسن ما حسّنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع،
اعرض ميزان عقلك على الشرع، أو اعرض ميزان عاطفتك على الشرع، فإن توافقا فهو الحق والصواب، وإن اختلفا كن مع الشرع ولا تكن مع عقلك، لأن العقل قد يضل، ولأن العقل كالعين لا معنى له من دون وحي يهتدي به، كما أن العين لا معنى لها من دون نور تهتدي به.
ثم إنه أعطاك قوة، قوة من أجل أن تحقق اختيارك فيما يبدو، أعطاك قوة تتحرك، تصلي، تذهب إلى مجلس علم، تتكلم، تتصرف، قوة، واختيار، وشهوة، وعقل، وفطرة، وكون، وشرع، هذه مقومات التكليف هذه مقومات التكليف.
لذلك: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾ لقد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً.
مغادرة الدنيا حدث خطير في حياة الإنسان:
أيها الأخوة؛ الحياة رحلة، لها بداية ولها نهاية، الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، كل واحد من إخوتنا الحاضرين له عمر، كيف مضت الأربعون عاماً؟ الثلاثون عاماً؟ العشرون عاماً؟ الخمسون عاماً؟ الستون عاماً؟ ويمضي ما تبقى، وفجأة ترى نفسك أمام حدث خطير، حدث مغادرة الدنيا.
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾
بدأ بالموت لأن الحياة أمامك آلاف الاختيارات، أما الموت لابد من سلوك أحد الطريقين؛ طريق إلى الجنة أو طريق إلى النار، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار.
الخيار صعب جداً، أنت في الحياة في بحبوحة وفي اتساع، هناك آلاف الحِرف، هناك إنسان غني وفقير وبينهما آلاف المراتب، هناك إنسان عالم وجاهل وبينهما آلاف المراتب، هناك إنسان قوي وضعيف وبينهما آلاف المراتب، خيارات واسعة جداً، أما عند الموت إما إلى جنة أبدية يدوم نعيمها أو إلى نار لا ينفد عذابها، لا يوجد خيار، طريقان لا ثالث لهما، مصيران لا ثالث لهما، نتيجتان لا ثالث لهما؛ جنة أو نار.
﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)﴾
1 ـ فيها ما تلذ الأعين وتشتهي الأنفس:
يوجد جنة، فيها ما تلذ الأعين، وتشتهيه الأنفس:
﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)﴾
2 ـ النظر إلى وجه الله الكريم:
وهناك نظر إلى وجه الله الكريم، قال تعالى:
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾
3 ـ أن تنال رضوان الله ومحبته:
وفوق هذا وذاك هناك رضوان من الله أكبر:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)﴾
يوجد مكان، وجمال، ونبات، وحور عين، ولدان مخلدون، هذه الجنة الحسية، وهناك جنة أرقى منها أن تنظر إلى وجه الله الكريم، وهناك جنة أرقى من هذه وتلك أن يُشعرك الله أنه يحبك، وهو راض عنك، وهذا أثمن شيء يصل الإنسان إليه من دون استثناء، أن تصل إلى رضوان الله، إلى أن يرضى الله عنك، إلى أن يُقربك.
النار والعياذ بالله، حدث ولا حرج.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً(56)﴾
﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)﴾
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33)﴾
معاني قوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾:
1 ـ في وقت من الأوقات ليس للإنسان أي وجود:
أيها الأخوة الكرام؛ ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾ كل واحد منا له تاريخ ميلاد، وقبل هذا التاريخ لم يكن شيئاً مذكوراً، لا أحد يعرفه، لا أحد يذكره، ليس له وجود، ليس له ذكر، ليس له اسم، ليس له هوية، ليس له اسم بالجدول، أنت موظف لك اسم بالجداول، لك اسم بدائرة النفوس، يوجد معك هوية، أي لا يوجد إنسان ليس له هوية، أما في وقت من الأوقات ليس لك وجود إطلاقاً، هذا معنى.
2 ـ نسيان من سهَّل له الخروج من بطن أمه بعد أن كان شيئاً منسياً:
يوجد معنى آخر؛ المعنى الآخر:
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ﴾ لما كنت صغيراً،
طفل يرضع من ثدي أمه، طفل توضع له الفوط، طفل لا يفقه شيئاً، لا يعلم شيئاً، ضعيف التفكير، ساذج، فطري، بعد ذلك أصبح ذا شأن كبير، معه شهادة علمية عالية جداً، أو له حجم مالي كبير جداً، أو يحتل مركزاً مرموقاً جداً، نسي أنه قد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، عظماء العالم كانوا أطفالاً، وحينما كانوا أطفالاً لا أحد يعبأ بهم، عظماء العالم كلهم كانوا أطفالاً، فحينما كانوا أطفالاً كانوا بحاجة ماسة إلى ثدي أمهم، إلى من تنظفهم، إلى أب يرعاهم، إلى أب يأتيهم بالطعام ليأكلوه، إلى طبيب يعالجهم، إلى رعاية مكثفة من أمهم أو أبيهم، فلما أصبح إنساناً كبيراً، إنساناً ذا خطر، إنساناً ذا مكانة، ذا حجم مالي كبير، نَسِي طفولته، ونَسِي أصله، وتغطرس على عباد الله، نسي أصله وطفولته، واستعلى على عباد الله، نسي أصله وطفولته وبنى مجده على أنقاض الناس، أو بنى غناه على إفقارهم، أو بنى حياته على موتهم، نسي الذي خلقه، نسي الذي صوره في بطن أمه، نسي الذي سهل له السبيل، الخروج من بطن أمه.
﴿ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)﴾
نسي الذي أهداه الثديين، نسي الذي أعطاه منعكس المص، لولا منعكس المص لما كنا في هذا المسجد، لما رأيتم واحداً على وجه الأرض، منعكس المص،
الطفل لمجرد أن يولد من دون تعليم، من دون توجيه، من دون أن يخضع لدورة، من دون أن يقرأ كتاباً، يضع شفتيه على ثدي أمه، ويُحْكم إغلاقهما ويسحب الهواء، عملية معقدة، لو أن هذا المنعكس لم يكن مع الصغار، وأراد الأب من ابنه الذي ولِدَ لتوه أن يعلمه كيف يمص ثدي أمه، تفضل علمه، اعمل له دورة، بلغه باللغة العربية يا بني ضع شفتيك على ثدي أمك وأحكم إغلاقهما ثم اسحب الهواء من أجل أن تعيش، لولا هذا المنعكس الذي أودعه الله فينا لما رأيتم على وجه الأرض إنساناً.
بعدما كبر صار شخصية مرموقة، حجمه المالي ثلاثمئة مليون، يحتل منصباً رفيعاً جداً، يحمل أعلى شهادة، نسي الله، ونسي أنه من نطفة، ونَسِي أنه كان صغيراً، ونسي أنه يرضع من ثدي أمه، ونسي كيف كان يملأ الفراش صباحاً، هذا كله نسيه ونظر إلى عطفيه، وإلى مرتبته، وإلى ما على كتفيه، أو إلى منصبه الرفيع، أو إلى حجمه المالي، أو إلى مكتبه التجاري، أو إلى سطوته، أو إلى جماعته، أو إلى أتباعه: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾ الإمام الشافعي يقول: كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي.
أحد الخلفاء الكبار الذي كان إذا نظر إلى سحابة يقول لها: اذهبي أينما شئت يأتيني خراجك، سأل مرة وزيره، أو سأله وزيره: يا أمير المؤمنين بكم تشتري هذا الكأس من الماء إذا مُنِع عنك؟ قال بنصف ملكي، قال: فإذا منع إخراجه؟ قال: بنصف ملكي الآخر، كل ملكه لا يساوي كأس ماء، وأجهزتكم الدقيقة في أجسامكم آية من آيات الله.
أهمية الهرمونات في جسم الإنسان:
لو تعطل جهاز، لو اختل هرموناً واحداً، الغدة الدرقية تفرز اثني عشر هرموناً، الهرمون الواحد لو تعطل لأصبحت حياة الإنسان جحيماً، من هذه الهرمونات هرمون النمو لولاه لكان الناس أقزاماً.
من هذه الهرمونات هرمون الجنس لولاه لما كان هناك رجل وامرأة، الغدة النخامية ملكة الغدد.
من هذه الهرمونات هرمون توازن السوائل، لولا هذا الهرمون لأمضيت الوقت كله في شرب الماء وطرحه، لا تستطيع أن تفعل شيئاً، قد يشرب الإنسان خمسة براميل ماء ويطرحهما، هذه وظيفته، شرب وطرح، لولا هذا الهرمون الذي لا يرى بالعين، وهذه الغدة النخامية تفرز اثني عشر هرموناً ووزنها نصف غرام، وهي ملكة الغدد.
من هذه الهرمونات هرمون الاستقلاب، هي التي تأمر الغدة الدرقية بالعمل، الدرقية خطيرة جداً، تحول الغذاء إلى طاقة، هذا الاستقلاب تحويل الغذاء إلى طاقة، لو تعطل هذا الهرمون لرأيت الناس كسالى أوزانهم تزيد، ونشاطهم يقل، لو أفرزت زيادة عن المعقول لا تنام الليل أبداً، يوجد نشاط ليس له حدود، لا تنام الليل.
هذا التوازن الدقيق بين هرمون الدرقية الذي يثبط النخامية، وهرمون النخامية الذي يثبط الدرقية تتمتع بالحياة المنعشة، تنام، وتتحرك، وتأكل، ويزداد الوزن، أو يقل الوزن، فالإنسان حينما ينسى أن أصله من نطفة خرجت من عورة ودخلت إلى عورة وخرجت من عورة، وكان صغيراً لا يضبط نفسه، ولا ينطق، ولا يتكلم، ولا يمشي، شيئاً فشيئاً صار شخصاً،﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾ ليس له أي قيمة، الآن عظماء الناس لهم احترام كبير، لهم طقوس كبيرة جداً، إذا ذهبوا إلى مكان تُطلق لهم المدافع، ويحيّون بثلة من حرس الشرف، وتُنشد الأناشيد، هؤلاء كانوا صغاراً، هذه إذا شخص أعطاه الله شيئاً، أعطاه منصباً رفيعاً، أعطاه علماً، أعطاه طلاقه لسان، أعطاه مالاً، أعطاه زوجة، أعطاه أولاداً، أعطاه خبرة تجارية، أعطاه اختصاصاً معيناً، أعطاه ذكاء، أعطاه طلاقه لسان لا ينسى أصله، قال تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾ .
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)﴾
نطفة، ما هي النطفة؟ حوين، الرجل يفرز باللقاء الزوجي خمسمئة مليون حوين، تحتاج البويضة إلى حوين واحد، هذا الحوين له غلاف، له هيولى، له نواة، على النواة مورثات، الآن شغل العالم الشاغل الهندسة الوراثية، كم مورث؟ وَاللَّهِ لا أعلم، سمعت أرقاماً كثيرة، سمعت رقم خمسة آلاف مليون معلومة مبرمجة، على النوية التي في الحوين المنوي، وسمعت مليون، وسمعت مئة ألف، إلى أن الشيء الثابت أنه حتى الآن اكتشفت ثمانمئة مورث.
أية صفة ثانوية في الجسم يقابلها مورث، مورث الكولسترول، مورث الاستقلاب، مورث اللون، مورث الشعر، أي الإنسان مبرمج برمجة دقيقة، مورثات البويضة مع مورثات الحوين المنوي يجتمعان ويختلطان ويُشكَّل الجنين من أقوى المورثين، وهذا من نعمة الله الكبرى، أي الحوين فيه نقطة ضعف، بالاستقلاب يوجد ضعف، مورث الاستقلاب في الأنثى قوي، القوي يغلب الضعيف فيأتي الجنين بصفات أقوى الأبوين، أما بالاستنساخ فهذا الشيء لا يكون، لا يوجد بالاستنساخ ﴿ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾ يوجد طقم واحد، فالخطأ يتكرس.
حتى هذا الذي يزعمون أنهم صنعوه عن طريق الاستنساخ، مئات المحاولات سبقتها، ومئات الحالات الشاذة والمنحرفة ظهرت معهم، أما حينما وصلوا إلى شكل مقبول هو الذي ذكروه، فكلمة ﴿مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾ هذه تنفي الاستنساخ، لأنه يوجد ذكر ويوجد أنثى، ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ جعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه، أعطاك الله سمعاً، بإمكانك أن تسمع الحق.
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾
أعطاك العين لترى بها آيات الله عز وجل، وأعطاك الأذن لتسمع بها كلام الله عز وجل، أعطاك سمعاً وبصراً من أجل أن يبتليك بهما، إن السمع والبصر، وإذا جاء الفؤاد مع السمع والبصر فهو العقل:
﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً (36)﴾
محاسبة الله تعالى للإنسان:
هذا الذي يستخدم الحواس لمعصية الله، يستخدمها في المعاصي والآثام، لا في الطاعات والقربات، ينظر إلى عورات المسلمين لا إلى آلاء الله عز وجل، يستمع إلى ما فَحُش من الكلام، وإلى الغناء، لا إلى آيات الله تتلى عليه، ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ لأن الله جعلك بصيراً سيحاسبك.
﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ(106)﴾
بل إن الله سبحانه وتعالى يُسْمع الحق.
﴿ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)﴾
الله عز وجل قال:
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)﴾
على إذا جاءت مع لفظ الجلالة تعني الإلزام الذاتي، الله عز وجل ألزم نفسه بالهدى، قضية الهدى على الله.
﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)﴾
لو في الإنسان ذرة خير لأسمعه الله الحق.
﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)﴾
وعلى الله بيان سبيل القصد إليه، السبيل الموصل إلى الله على الله بيان السبيل ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾ العلماء قالوا: وعلى الله بيان سبيل القصد إلى الله.
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾
الإنسان مخير بمعرفة الحقيقة:
لكن الإنسان مخير، مخير بمعنى أنه إذا أراد الحقيقة اتخذ قراراً بالبحث عن الحقيقة، أي شيء يدله على الحقيقة، الأقدام تدل على المسير، لا يحتاج إلى حاسوب، ولا إلى مجهر، ولا إلى مرصد، ولا إلى مخبر، ولا إلى كتب، ولا إلى ترجمات، الأقدام تدل على المسير، والماء يدل على الغدير، والبعرة تدل على البعير، أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدلان على الحكيم الخبير؟
إن اتّخذ الإنسان قراراً بالبحث عن الحقيقة، أي شيء يدله على الله، كأس الماء، عينه، سمعه، لسانه، قلبه، جسمه، عظامه، عضلاته، طعامه، رغيف الخبز أمامه، كأس الحليب أمامه، الدجاجة، البقرة، الفواكه، النباتات، الشمس، القمر، إن أردت الحقيقة كل شيء يدلك عليها، وإن لم ترد الحقيقة، قد تحمل أعلى شهادة في الطب، وقد تحمل أعلى شهادة في الكيمياء أو في الفيزياء، وقد ترى من أسرار الكون ما لا يراه معظم الناس، وترى من أسرار البحار ما لا يراه معظم الناس، وترى من أسرار النبات ما لا يراه معظم الناس، ومع ذلك لا تعرف الله ولا تطيعه، لأنك ما أردت الحقيقة.
وأوضح مثل على ذلك ائتِ بأرخص آلة تصوير بسيطة جداً، لا تغير فتحة، ولا تغير سرعة، ولا تقريب، ولا إبعاد، أبسط آلة، أرخص آلة، علبة فيها عدسة، هذه الآلة مع الفيلم تعطيك صورة، وائتِ بأرقى آلة تصوير ثمنها ثمانمئة ألف، شيء مدهش، بلا فيلم لا تعطيك شيئاً، فإذا كان الإنسان ذكياً جداً معه شهادات عالية جداً، أتيح له أن يرى أسرار الكون، ولم يطلب الحقيقة لا يرى شيئاً، وإنسان بثقافة متواضعة جداً، بمعلومات أولية، بأشياء بسيطة، إن أراد الحقيقة يصل إليها، ولا تنسوا مَثَل آلة التصوير، أرخص آلة مع فيلم تعطي صورة، وأغلى آلة بلا فيلم لا تعطي شيئاً، لذلك:
﴿ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)﴾
إن أردتم الإيمان.
﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)﴾
إن أردتم التقوى، إن أردت التقوى هذا الكتاب يهديك.
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)﴾
لذلك قضية الهدى قضية دقيقة جداً لخصتها في هذا الكلام: إن أردت الهدى كل شيء يدلك عليه، أبداً، ولابدّ من أن تصل إليه، وزوال الكون أهون على الله من ألا تصل إليه، إن أردت الهدى، أردت الحقيقة، والحقيقة واحدة، الحقيقة لا تتعدد، والحق لا يتعدد، إن أردت الحقيقة أنت وأردتها أنا لابد من أن نلتقي أبداً.
كل أنواع الخصومات، كل أنواع التفرقة بين البشر بسبب أنهم ما أرادوا الحقيقة، أرادوا المصلحة، أرادوا الدنيا، الدنيا تُفرق، والحقيقة تجمع، لو أنهم أرادوا الحقيقة لاجتمعوا، وتوحدوا، وتكاتفوا، وتعاونوا، وتناصروا، وتضامنوا، وقهروا أعداءهم، أما لأنهم أرادوا الدنيا، الدنيا فرقتهم، وجعلتهم شيعاً وأحزاباً، وجعلتهم ممزقين.
﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)﴾
الحق يجمع والباطل يفرق، الباطل مكاسب مادية، والمكاسب المادية لا يمكن أن تتوزع بالتساوي، كل واحد يريدها كلها له، تنشأ الخصومات، أما الحق قيم، مبادئ، هذه توزع بالتساوي على الناس جمعياً، لا تبتعد كثيراً، اجلس مع أصدقائك في سهرة، حدثهم عن الدنيا، النفوس تضطرب، هذا حدثنا عن رحلته، وكم أنفق على هذه الرحلة، يوجد شخص جالس فقير شعر بالحقد، هذا تحدث عن منجزاته أوتي حظاً عالياً، كان له منجزات، هذا لا يوجد عنده منجزات، لو أنك تحدثت عن الله عز وجل لاجتمعت القلوب، فالحق يجمع والدنيا تفرق، الحق يؤلف والدنيا لا تؤلف، ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ .
الآن:
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)﴾
الطريق، أي دللناه على أول الطريق ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ على الله الهدى ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ الله عز وجل تكفل بذاته العلية أن يبين لنا السبيل، هو مخير ﴿إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ فالإنسان مخير، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، ولو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة، الإنسان مخير.
جيء برجل شارب خمر إلى سيدنا عمر، قال: أقيموا عليه الحد، قال: وَاللَّهِ يا أمير المؤمنين إن الله قدر عليّ ذلك، قال: أقيموا عليه الحد مرتين، مرة لأنه شرب الخمر، ومرة لأن افترى على الله، قال: ويحك يا هذا إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار، والذي يعتقد بالجبر يعتقد اعتقاد فاسداً باطلاً لا أصل له: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ هو ﴿إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ .
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(148)﴾
الآيات المحكمات والآيات المتشابهات:
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148)﴾
قال علماء التفسير: هذه الآية أصل في اختيار الإنسان: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ وقال علماء الأصول: الآية المحكمة، الآيات المتشابهة مهما كثرت تُحمل على الآيات المحكمة مهما قلت.
كيف؟ الآيات المتشابهة مهما كثرت تُحمل على الآيات المحكمة مهما قلت؟ أي إذا قلت: القمح مادة خطيرة، ما معنى خطيرة؟ أي قنبلة؟ لا، ماذا أقصد بخطيرة؟ إذا قلت بعد قليل: القمح مادة أساسية في حياة الإنسان، معنى خطيرة هذه كلمة متشابهة تحير، مادام قلت بعد قليل كلاماً واضحاً، قلت: القمح مادة أساسية في غذاء الإنسان، إذاً كلمة خطيرة تعني أنها مادة أساسية، فالآيات المتشابهة لو أننا شممنا من آية أن الله أجبرنا على الضلال:
﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)﴾
هذه الآية: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ﴾ هذه الآية المحكمة تُفسر كل الآيات المتشابهة، بل إن الإضلال إذا عُزِي إلى الله عز وجل فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري يؤيد هذا قوله تعالى:
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)﴾
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ أما هناك ملاحظة: شاكر اسم فاعل، وكفور اسم فاعل لكن مبالغ به، كافر وكفور، ويوجد شاكر وشكور، لو أن الله إما شكوراً وإما كفوراً لا يوجد مشكلة، لو قال: إما شاكراً وإما كافراً، لا يوجد مشكلة، أما لماذا قال شاكراً من دون مبالغة وكفوراً بصيغة المبالغة؟ قال بعض العلماء: الإنسان لن يستطيع أن يشكر الله مهما فعل، لأن عطاء الله لا يُكافَأ، فأعلى إنسان شكر الله اسمه شاكر، الأنبياء النبي الكريم الذي جاء الحياة فأعطى ولم يأخذ، عاش ثلاثة وستين عاماً كلها في الدعوة كلها لله، وفي تحمل المتاعب، وفي تجشم المصاعب، ومع ذلك اسمه شاكر، أما الكفور حينما تتغافل عن نعمة الله العظمى أدنى تغافل فهذا مبالغة في الكفر، أي الأم لو قلت لها: أف لكنت عاقاً، أف، لأنها هي موجودة من أجلك، كل عملها من أجلك فلا ينبغي أن تقول لها كلمة أف مثلاً، فالشاكر مهما شكر الإنسان ربه لا يمكن أن يكون شكره مساوياً لنعم الله عز وجل فجاءت شاكراً.
أعظم إنسان شكر الله يسمى شاكراً، لأن إنساناً ما في الكون لا يستطيع أن يُوفي فضل الله حقه، أما يوجد قصة على ذمة الروايات أحد الصحابة الكرام اسمه عبد الله بن رواحة عيّنه النبي قائد ثالثاً في مؤتة، الأول سيدنا زيد، والثاني سيدنا جعفر، والثالث عبد الله بن رواحة، فأول قائد أمسك الراية بيمينه وقاتل بها حتى قتل، استشهد سريعاً، أخذها جعفر سريعاً حمل اللواء قاتل به حتى قُتل، جاء دور ابن رواحة، الأول خمس دقائق، والثاني عشر دقائق، الثالث كان شاعراً تردد ثلاثين ثانية قال:
يا نفس إلا تقتـــلي تموتي هذا حِمـام الموت قد صليت
إن تفعلي فعلهما رضـيت وإن تولـيت فقـــــد شقيــت
وأخذ الراية وقاتل بها حتى قُتل، النبي عليه الصلاة والسلام جاءه الوحي وهو في المدينة قال:
(( عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: بعث رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم جيشًا استعمل عليهم زيدَ بنَ حارثةَ ، وإن قُتل زيدٌ أو استُشهد فأميرُكم جعفرٌ ، فإن قُتل أو استُشهد فأميرُكم عبدُ اللهِ بنُ رواحةَ ، فلقَوُا العدوَّ فأخذ الرَّايةَ زيدٌ فقاتل حتَّى قُتل، ثمَّ أخذ الرَّايةَ جعفرٌ فقاتل حتَّى قُتل، ثمَّ أخذها عبدُ اللهِ بنُ رواحةَ فقاتل حتَّى قُتل، ثمَّ أخذ الرَّايةَ خالدُ بنُ الوليدِ ففتح اللهُ عليه، وأتَى خبرُهم النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم ، فخرج إلى النَّاسِ، فحمِد اللهَ وأثنَى عليه وقال : إنَّ إخوانَكم لقُوا العدوَّ وإنَّ زيدًا أخذ الرَّايةَ فقاتل حتَّى قُتل أو استُشهد، ثمَّ أخذ الرَّايةَ بعده جعفرُ بنُ أبي طالبٍ فقاتل حتَّى قُتل أو استُشهد، ثمَّ أخذ الرَّايةَ عبدُ اللهِ بنُ رواحةَ فقاتل حتَّى قُتل أو استُشهد، ثمَّ أخذ الرَّايةَ سيفٌ من سيوفِ اللهِ خالدُ بنُ الوليدِ ففتح اللهُ عليه، فأمهل ثمَّ أمهل آلَ جعفرٍ ثلاثًا أن يأتيَهم ثمَّ أتاهم. فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليومِ أو غدٍ، إليَّ ابنيْ أخي. قال: قال: فجيء بنا كأنَّا أفراخٌ، فقال: ادعوا إليَّ الحلَّاقَ، فجيء بالحلَّاقِ فحلق رؤوسَنا، ثمَّ قال: أمَّا محمَّدٌ فشبيهُ عمِّنا أبي طالبٍ، وأمَّا عبدُ اللهِ فشبيهُ خَلقي وخُلقي، ثمَّ أخذ بيدي فأشالها فقال: اللَّهمَّ اخلُفْ جعفرًا في أهلِه وباركْ لعبدِ اللهِ في صفقةِ يمينِه قالها ثلاثَ مِرارٍ. قال: فجاءت أمُّنا فذكرت له يُتمَنا، وجعلت تفرحُ له فقال: العَيلةَ تخافين عليهم وأنا وليُّهم في الدُّنيا والآخرةِ ؟ ! ))
[ أخرجه أحمد: صحيح دلائل النبوة: خلاصة حكم المحدث : صحيح ورجاله ثقات ]
وإني أراه في الجنة يطير بجناحين فسمي جعفر الطيار، وهناك مشروع إن شاء الله إنشاء مسجد في المطار اسمه جعفر الطيار، يتناسب مع المطار، ثم سكت النبي، سكوت النبي أقلق الصحابة على الثالث، قالوا: يا رسول الله ما فعل عبد الله؟ قال: ((ثم أخذ الراية أخوكم عبد الله فقاتل بها حتى قتل وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه)) تردد ثلاثين ثانية ببذل حياته، فأنت أمام فضل الله عز وجل مهما بذلت لا تقدم شيئاً، أما أقل معصية معنى هذا أنت في كفر شديد.
لذلك سيدنا عمر سأل سيدنا حذيفة بن اليمان، أمين سرّ رسول الله، قال له: بربك هل اسمي مع المنافقين؟ عملاق الإسلام من شدة خوفه من الله، هذا بعض ما قاله العلماء حول إما شاكراً من دون مبالغة وإما كفوراً مع المبالغة، وقال بعضهم: الشاكرون قليلون، وأما المنحرفون فكثيرون.
﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ(116)﴾
﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)﴾
لذلك حينما أرى حول الكعبة المشرفة حجاج بيت الله الحرام وهم بالملايين المملينة، يقفون عند الحجر الأسود، ويتجهون نحوه، ويرفعون أيديهم، ويقولون: بسم الله، الله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، و اتباعاً لسنة نبيك، وعهداً على طاعتك، فإذا عادوا إلى بلادهم عادوا كما ذهبوا، لهذا قال الله تعالى:
﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)﴾
ما أكثر ما يعاهد المسلم ربه ثم ينقض العهد ثم يقع في الحرام ثم يأكل المال الحرام ثم يغتاب، أما البطولة حينما قال الله عن سيدنا إبراهيم قال:
﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)﴾
نبي آخر:
﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (43)﴾
فالله عز وجل إذا أطلع عليك من أنت؟ هل أنت عند عهدك؟ هل يراك الله صابراً؟ هل تستحي من الله؟ عبدي طهرت منظر الخلق سنين أفلا طهرت منظري ساعة؟! هذه كلما قرأت هذه الآية ﴿وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ﴾ ينبغي أن تذكر عهد الله؟ أنت حينما عاهدته على الطاعة تعاهد خالق الكون، لا تأخذك لومة لائم، امضِ لما أردت، ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ .
الملف مدقق