وضع داكن
16-05-2025
Logo
الدرس : 62 - سورة النساء - تفسير الآيات 144-147 الإيمان والاستقامة على أمر الله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
 اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً، وأرِنا الحقَّ حقَّاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبِعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

نواقض الإيمان ولوازمه :


أيُّها الإخوة المؤمنون: مع الدرس الثاني والستين من دروس سورة النساء، ومع الآية الرابعة والأربعين بعد المئة، وهي قوله تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا (144)﴾

[ سورة النساء ]

ولعلَّ هذه الآية هي ألزَمُ آيةٍ للمسلمين اليوم، أن ينتهوا عن هذا النهي الإلهي، فالمؤمن حينما يتخذ الكافر وليّاً، معنى يتخذه وليّاً أي يُعظِّمه، ويُحبّه، ويَنصره، ويُطيعه، ويتَّبعه، لمجرد أن يتخذ المؤمن الكافر وليّاً وضع نفسه مع المنافقين، لأنَّ في النفاق كفرٌ، والمنافق يلتقي مع الكافر، له ظاهرٌ إسلامي، وله باطنٌ كافر، فالمنافق يتخذ الكافر وليّاً، لأن هناك قواسم مشتركة بين المنافق والكافر، أمّا المؤمن إذا اتخذ الكافر وليّاً معنى ذلك أنه وضع نفسه في خندق المنافقين، ولو لم يكن هذا واقعاً، أو يمكن أن يقع لما نهى الله عنه، وتكاد مشكلات العالم الإسلامي تنبع من هذه المواقف، أن نوالي كافراً على مؤمن، أن نُعين كافراً على مسلم، أن نتعاون مع الكفر على أهل الإيمان، وهذا والعياذ بالله من نواقض الإيمان.
 هناك أشياء تُضعِف الإيمان، لكن هناك أشياء تَنقُض الإيمان، فمن نواقض الإيمان أن توالي كافراً ضد مسلم، أن تُعين كافراً ضد مسلم، أن تُحبَّ كافراً، وتُبغِض مسلماً، بل إنَّ من لوازم الإيمان، أن تُحبَّ المؤمن، ولو فرضاً نالك منه أذىً، وأن تُبغِض الكافر ولو فرضاً نالك منه خير، وكنت دائماً أقول: المسلم إذا أعان كافراً على مسلم مثله كمنديلٍ لا قيمة له، تُمسح به أقذر عمليةٍ، ثم يُلقى في المُهملات، ينبغي أن تُوالي المؤمنين ولو كانوا ضُعفاء، وينبغي أن تَتبرأ من الكفّار ولو كانوا أقوياء.

الولاء والبراء من أُسس الدين:


أيُّها الإخوة: موضوع الولاء والبراء من أُسس الدين، لا تكون مؤمناً إلا إذا واليت المؤمنين، ولا تكون مؤمناً إلا إذا تبرّأت من الكافرين، أمّا أن يهوى الإنسان الكفّار، وأن يكون معهم، وأن يؤمن بأفكارهم، وأن يُعظِّم قيَّمهُم، وأن يَهتدي بإرشاداتهم، وأن يُقلِّدهم في أنماط حياتهم، ثم هو يُصلّي ويصوم ويدّعي أنه مسلم، فهذا مما يَنقُض إيمانه، لأنك لو واليت كافراً، إنَّ ماله حرام، وإنَّ علاقاته علاقات شائنة، لا يُحلِّل ولا يُحرِّم، ولا قيمة للقيَم عنده، فلذلك حينما يُحب المسلم كافراً، حينما يُعينه، حينما يَنصره، حينما يأتمر بأمره، حينما ينتهي عمّا عنه ينهى، إذاً هو مثله، لذلك يقول الله عزَّ وجل: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)﴾

[ سورة الممتحنة ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)﴾

[ سورة المائدة ]

من نواقض الإيمان، مما يُلغي إيمانك في قلبك أن توالي كافراً، فكيف إذا أعنته على مسلمٍ؟! فكيف إذا أعنته على قتل مسلم؟!! 

﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)﴾

[ سورة النساء ]

لا أعتقد أنَّ في القرآن كله آيةً فيها وعيدٌ كهذا الوعيد، أليس الذي يجري في العالم الإسلامي موالاةً للكافرين على بعض المسلمين؟!!

قضية الإنكار وعدم الإنكار قضية متعلقة بالدين:


(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) لكن الذي يحصل أنَّ كل إنسان فيه خصائص، هذه الخصائص من صنع عقيدته وقيَمه وسلوكه، فحينما تكون العقيدة فاسدةً، وحينما يكون السلوك مُنحرفاً، وحينما تكون القيَم مهزوزةً، فهذه النقاط والخصائص تلتقي مع نقاط وخصائص أهل الكُفُر، تأتي المودة من نقاط اللقاء دائماً، فالإنسان إذا هويَّ الكفرة، إذا هويَّ إنساناً ماله حرام، أو هويَّ إنساناً يبني مجده على أنقاض الناس، أو هويَّ إنساناً يبني أمنه على خوفهم، أو هويَّ إنساناً يبني غِناه على فقرهم، أو هويَّ إنساناً يبني حياته على موتهم، أو هويَّ إنساناً يبني عِزَّه على ذلهم، أن تهوى مثل هذا الإنسان فأنت مثله، أن ترضى عن فعل هذا الإنسان فأنت مُشتركٌ معه في الإثم، لأنه:

(( إذا عُمِلتِ الخطيئةُ في الأرضِ، كان من شهِدَها فكرِهَها كمن غاب عنها، و من غاب عنها فرَضيَها كان كمن شهِدَها ))

[ أخرجه أبو داوود والطبراني ]

 فقضية الإنكار وعدم الإنكار قضية متعلقة بالدين، فآيةٌ واضحةٌ قطعية الدلالة، صريحةٌ، بيّنةٌ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)
يعني بشكلٍ مُصغَّر، قد يكون لك قريب ذو شأن، ذو مالٍ أو ذو سلطان، وتستشيره، وتفتخر به على أنه لا يُصلّي أبداً، وقد يشرب الخمر، وقد يفعل الأعمال السيئة، حينما تعتز به، وتُثني عليه، وتفتخر بالانتماء إليه، وحينما يُشير لك شيئاً فتفعله فوراً، فأنت ممن تنطبق عليك هذه الآية، ينبغي ألا تُعظِّم فاسقاً، ألا تُعظِّم كافراً، ألا تُعظِّم عاصياً. 

(( إذا مُدِحَ الفاسقُ غضِبَ الرَّبُّ ))

[  أخرجه البيهقي وأبو يعلى ]

إنسان فِسقه ظاهر، أن تقول عنه: لبق، ذكي، عنده حكمة، إذا سمع ابنك منك هذا الكلام يختل توازنه، يراه لا يُصلّي، يراه يملأ عينيه من محاسن النساء، يراه يمزح مُزاحاً رخيصاً، وتقول أنت عنه: أنه لبق، وذكي، وموفَّق في عمله، وله مكانة كبيرة! هذا المديح يُحدِث اضطراباً في القيَم أيُّها الإخوة، ينبغي ألا ينطق هذا اللسان إلا بالحق، ينبغي ألا تمدح فاسقاً، ألا تُثني على كافر، ألّا تعتز بإنسانٍ لا يعتز بالله عزَّ وجل.

حينما تنعدم القيَم الأصيلة تنشأ قيَم مُزوّرة:


أتمنى أن أوسِّع مفهوم هذه الآية، لأنَّ مُعظم الناس على ضعف إيمانهم مُتلبسون بهذه المخالفة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) يعني أنت إذا كان إيمانك صحيحاً، وإيمانك متيناً، وكان إيمانك عميقاً، لا يمكن أن ترتاح لإنسانٍ عاصٍ، لا يمكن أن تجد مُسوغاً أن تبتسم في وجهه، هذه اللباقة التي تَشيع في الحياة المعاصرة، لباقة نِفاق، نشأ مصطلحات يتداولها الناس، فيها تعميةٌ للحقيقة، فالفتاة المُتفلِّتة من أحكام الشرع، تُسمّى بالتعبير الأجنبي سبور، هي مُتفلِّتة، هي فاسقة، والإنسان الذي يأكل مالاً حراماً يُسمّى شاطر، والإنسان المنافق الذي يُرضي جميع الفئات، وليس له مبدأٌ يستقر عليه، يُسمّى لبقاً، مرناً، ذو حكمة، فحينما تنعدم القيَم الأصيلة تنشأ قيَمٌ مُزوَّرة.
لكن أيُّها الإخوة: في القسم الثاني من الآية شيءٌ دقيقٌ جداً، قال: (أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا) ماذا أقول في هذه الآية؟ يعني حتى خالق الأكوان، حتى ربُّ الأرض والسماء، حتى الإله الذي وصف نفسه بأنه:

﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)﴾

[ سورة الأنبياء ]

مقام الألوهية لا يليق به أن يسأله أحد، لكن الله سبحانه وتعالى ألزَم نفسه العليَّة بالاستقامة، فقال تعالى: 

﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56)﴾

[ سورة هود ]

إلزام ذاتي، يقول الله عزَّ وجل في الحديث القدسي:

(( قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا.))

[ صحيح مسلم ]


الاستقامة على أمر الله تُنجينا من أي عقاب:


حتى الإله العظيم، حتى مَن بيده كل شيء، حتى الذي لا يُسأل عمّا يفعل، حتى الذي هو:

﴿ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16)﴾

[ سورة البروج  ]

لا يمكن أن يسوق لك عذاباً من دون سببٍ منك. 

﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30)﴾

[ سورة الشورى  ]

مثال للتقريب: عندك محل تجاري، والبضاعة كلها وطنية، وكل البضاعة نظامية، والبضاعة كلها فيها فواتير صحيحة، ومُحتفظ بها، ومرَّ موظف الجمرُك، هل تتحرك شعرة في جسمك، ليس له عليك سلطان، لا يستطيع أن يُسائلك، ولا أن يقول كلمة، كل عملك صحيح، أمّا الذي عنده بضاعة غير صحيحة، غير نظامية، ولمح إنساناً يعمل في الجمرُك، واقترب من المحل، تكاد تتقصف مفاصله، لأنَّ لهذا الإنسان مقابل هذه المخالفات سلطاناً، فهذا المعنى دقيق جداً، وعميق جداً، ونحن في أمسّ الحاجة إليه، أنت حينما تستقيم على أمر الله، أنت حينما تنام ولم تُؤذِ في نهارك أحد، ولم تُسئ إلى أحد، ولم تعتدِ على أحد، خالق الأرض والسماء لأنَّ عدله مُطلق، ولأنَّ رحمته لا حدود لها، ليس له عليك سلطان، فما من سببٍ من قِبلك يُعاقبك، بدليل قول الله عزَّ وجل: 

﴿ ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)﴾

[ سورة سبأ  ]

أي أيُعقل يا عبادي أن أُعاقب إنساناً مستقيماً؟! هذا المعنى جاء في السُنَّة أيضاً، قال النبي عليه الصلاة والسلام: 

(( حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْسَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ إِلاَّ آخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ: يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا عبدوه؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم ]

والآن دققوا في الإجابة (حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ) ليس هناك حجة. 

قضية الأمن نعمة من أعظم النعم جعلها الله خاصة بالمؤمنين:


يعني تصوَّر أب جاء ابنه من المدرسة ومعه أوراق علاماته، المرتبة الأولى، وثيابه نظيفة، وأخلاقه حسنة، ويخدم أمه وإخوته، هل يوجد على وجه الأرض أبٌ يضرب هذا الابن؟! ما من سببٍ، ليس هناك عقاب إلا بسبب. 

﴿ مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء  ]

من أجل أن تطمئنوا، قضية الأمن مهمة جداً، قضية الأمن نعمةٌ من أعظم النعم، جعلها الله خاصةً بالمؤمنين، قال: 

﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ(82)﴾

[ سورة الأنعام  ]

لو قال: أولئك الأمن لهم، ولغيرهم، أمّا (أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) أي وحدهم، من أجل أن تكون مُطمئناً، أنت حينما تعقد صُلحاً مع الله، وحينما تَخطُب ودَّه، وحينما تستقيم على أمره، وحينما لا تؤذِ أحداً من خلقه، حينما لا تكذب بل تَصدُق، لا تخون بل تُخلص، فالله عزَّ وجل يُطمئنك أنت في مِظلة الله عزَّ وجل وفي رعايته، لذلك في القرآن الكريم آياتٌ لطيفة جداً، قال: 

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)﴾

[ سورة الحديد  ]

هذه لكل الخلق، معكم بعلمه، مع الكافر، مع الفاسق، مع القاتل، مع المجرم، بعلمه، لكن هذه معيَّةٌ عامة، بينما المعيَّة الخاصة:

﴿ إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)﴾

[ سورة الأنفال  ]

أي معهم بالتوفيق والنصر والحفظ والهداية.

﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)﴾

[ سورة البقرة  ]

إن الله مع الصادقين، إن الله مع الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فهذه معيَّةٌ خاصة، وإذا كان الله معك فمن عليك.

حينما تكون في معية الله يدافع عنك وينصرك ويلهمك الصواب:


والله الذي لا إله إلا هو، يوجد في قلب المؤمن الصادق المستقيم، من الأمن ما لو وُزِّع على أهل بلدٍ لكفاهم، قال بعض العارفين بالله: "لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف" ، الله موجود، الله فعَّال، (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) ، أمرُنا بيد الله لا بيد أعدائنا، سلامتنا وسعادتنا بيد الله، والله مُطَّلعٌ على أعمالنا، وعلى نوايانا، وعلى خواطرنا، وعلى سرائرنا، وعلى بواطننا، وعلى خَلوتنا، وعلى جَلوتنا، فلذلك أيُّها الإخوة المؤمن يتميز بميّزةٍ لا تعدلها أموال الدنيا، أنه ينام ناعم البال، ينام مُطمئناً، بل إنَّ الله عزَّ وجل أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يتحدى الكُفّار. 

﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)﴾

[ سورة التوبة  ]

أنت مع مَن؟ أحياناً جندي بجيشٍ قويٍ جداً، يشعر أنَّ كل هذا الجيش يحميه، وأنَّ كل هذه القوة الجبّارة تصونه، وتدافع عنه، هذا إحساس ناتج من قوة جيش، وحينما يَهُمّ الإنسان أن يؤذي جندياً ينتمي إلى جيشٍ قوي، قد يكون متبصِّراً تماماً، لأنَّ المضاعفات خطيرة جداً، وأنت حينما تكون جندياً لله، وحينما تكون في معيَّة الله، وحينما تكون تحت مظلة الله، وحينما تكون مع الله معيّةً خاصةً يُدافع عنك، وينصرك، ويُلهمك الصواب، والله البارحة حدثني أخ أنَّ كيداً عظيماً أُريد بإنسان، وضِع في بيته قطعة حشيش، وجاء من وشى به أنَّه مُدمِن مخدرات، وجيء بالضابطة، واقتحمت البيت، وفتَّشته عن آخره، ثم في نهاية المطاف عثرت على قطعة الحشيش، ودخل السجن، كل شيء يدل على أنه يحوز هذا الحشيش، القاضي ساعة النطق بالحُكم، رأى وجه هذا الإنسان ليس وجه إنسان مُدمِن مخدرات، فأطلق سراحه، وأبطل التُهمة كلها، الله عزَّ وجل معه خيارات لا تنتهي، أحياناً يُلقي في قلب الناس محبّتك، أحياناً يُلقي في قلب الناس هيبتك، أحياناً يسوق لك حادثاً مؤسفاً يكون سبب نجاتك.

الدنيا مزرعة الآخرة: 


﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)﴾

[ سورة آل عمران  ]

يجب أن تعتقد اعتقاداً صارماً أنَّ الله لا يتخلى عنك، وأنَّ عملك عند الله محفوظ، وأنَّ استقامتك عند الله مُثمَّنة، وأنَّ الذي تفعله تقرُّباً إلى الله عزَّ وجل لن يضيع عليك، بل إنَّ قوله تعالى: 

﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾

[ سورة الزلزلة  ]

 وأنَّ الدنيا مزرعة الآخرة.
أيُّها الإخوة الكرام: (أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا) يعني الخالق العظيم، من بيده كل شيء، من بيده الأمراض الوبيلة، من بيده الحوادث المُدمِّرة، من بيده الزلازل، من بيده البراكين، من بيده الصواعق، من بيده الصواريخ، من بيده الألغام، من بيده كل شيء، لا يُصيب إنساناً إلا بما يستحق، وإلا بما فعله هو بنفسه، لأنَّ الله عزَّ وجل لا يمكن أن يسوق شرَّاً في نظر الناس، بلا سببٍ من الناس (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) .

﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)﴾

[ سورة آل عمران  ]


الله عز وجل عدله مُطلق ما من شيءٍ يصيب شيئاً إلا بعلمه:


لذلك هذا الذي ادَّعى أمام عُمر رضي الله عنه، أنَّ الله قدَّر عليه شرب الخمر، قال:<< أقيموا عليه الحدَّ مرتين، مرةً لأنه شرب الخمر، ومرةً لأنه افترى على الله، قال: ويحك يا هذا إنَّ قضاء الله عزَّ وجل لن يُخرجك من الاختيار إلى الاضطرار>> .
طبعاً الإنسان المتوحش الذي لا تَنظِمه قيَم، ولا تَردعُه مبادئ، قد يتحرك حركةً عشواء، أمّا إلهٌ عظيم، عدله مُطلق، ما من شيءٍ يُصيب شيئاً إلا بعلمه. 

﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59)﴾

[ سورة الأنعام  ]

الأمور عند الله ليست كما يتوهم الكفّار، الحياة لمن كان قوياً، لا، القوي يُعطيه الحياة الدنيا، لكنه سيُحاسبه حساباً عسيراً.

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾

[ سورة إبراهيم  ]

(أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا) أنتم لاحظوا إذا إنساناً في حياته العملية المدنية مستقيم، وفق القوانين كلها، حتى إذا أطاع أولي الأمر، ليس لأولي الأمر عليه سلطان، مستحيل، لا بُدَّ من مخالفةٍ يُبنى عليها حُكم، لا بُدَّ من مخالفةٍ يُبنى عليها سجن، لا بُدَّ من مخالفةٍ يُبنى عليها حرمان، أمّا إنسان نظامي، ينقاد للقوانين، لا يُخالف، هذا له شأن حتى عند أهل الأرض، فكيف عند الواحد الأحد، عند الديَّان، عند خالق الأكوان؟!

طاعة الله ومعصيته:


أُذكِّركم بالمثَل، لأنه يوضِّح الآية، مادامت كل بضاعتك في محلك التجاري صحيحة، ونظيفة، ونظامية، ومُدعَّمة بالفواتير النظامية، لو مرَّ ضابط جمرُك هل تتحرك شعرة في جلدك؟ أبداً، لأنَّ هذا الإنسان ليس له عليك سلطان، لأنك مستقيم، أمّا إذا وُجدَت مخالفات كثيرة ترتعد فرائصك، وترتجف أعضاؤك، ويخاف قلبك، لأنَّ هذا الإنسان له عليك سلطان.
هذا مقام الألوهية مقامٌ عظيم، ومع أنَّ الله عزَّ وجل، جلَّ في عُلاه يقول لك هو عن ذاته: ليس لي عليك سلطان يا عبدي إذا أطعتني، معنى دقيق: يا عبدي إذا أطعتني ليس لي عليك سلطان.
وأنا أقول لكم أيُّها الإخوة: إنسان يعيش حياةً هادئةً، مُريحةً، مُتوازنة، إن لم يُغيِّر، الله جلَّ في عُلاه لا يُغيِّر، اطمئن إلى عدل الله، اطمئن إلى رحمته، إن لم تُغيّر فالله لا يُغيّر، أمّا إذا غيَّرت لا بُدَّ من أن يُغيِّر، لذلك في بعض الأدعية الشريفة:

(( اللهم إني أعوذُ بك من زوالِ نعمتِك، و تحوُّلِ عافيتِك، و فجأَةِ نِقمتِك و جميعِ سخَطِك ))

[ أخرجه مسلم ]

قد تأتي المصائب تِباعاً، بثانيةٍ واحدة يفقد حركته، بثانيةٍ واحدة يفقد بصره (اللهم إني أعوذُ بك من زوالِ نعمتِك، و تحوُّلِ عافيتِك، و فجأَةِ نِقمتِك و جميعِ سخَطِك) .
هذه الآية مطمئنة أيُّها الإخوة، آياتٌ كثيرة مطمئنة، احفظوها

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[ سورة الجاثية  ]

﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُونَ (18)﴾

[ سورة السجدة  ]

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾

[ سورة القلم  ]

﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ(61)﴾

[ سورة القصص  ]


آيات الرجاء يجب أن نتلوها من حينٍ إلى آخر حتى نطمئن:


مستحيل وألف ألف مستحيل: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) .

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) ﴾

[ سورة فصلت  ]

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل  ]

خالق الأكوان: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) .

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)﴾

[ سورة الطور  ]

وأيُّ مؤمنٍ على منهج النبي عليه الصلاة والسلام هو في عين الله، وفي حفظه، آيات الرجاء ينبغي أن نتلوها من حينٍ إلى آخر حتى نطمئن، الحقيقة السبب أنَّ الأخطار التي نراها بأعيننا تفوق حدَّ الخيال، أخطار ماحقة، أخطار مُدمِّرة، فلا يُنجينا من الخوف من هذه الأخطار إلا اعتصامنا بالله  عزَّ وجل، لا يُنجينا من الخوف من هذه الأخطار إلا استقامتنا على أمره. 
قال:

﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)﴾

[ سورة النساء  ]


البشر جميعاً يوم القيامة يأتون فرادى وحكم الله مطلق:


أحياناً إنسان يُعاقبه إنسان، قد يتوسط بإنسانٍ أقوى من المُعاقِب، فيعطي أمراً بالإفراج عنه، لكن القضية مع الله ليست كذلك، ما من جهةٍ في الكون تستطيع أن تُعقِّب على حُكم الله. 

﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(41)﴾

[ سورة الرعد  ]

قد يحكُم لك قاضي الصلح في القضية، يحكُم لك، فيأتي قاضي الاستئناف فينقُض هذا الحُكُم، وقد يَحكُم لك قاضي الاستئناف، فيأتي قاضي النقض فينقُض هذا الحُكُم، وقد يُحكَم عليك حُكماً مُبرماً، فيأتي عفوٌ من الملِك يُلغي هذا الحُكُم مثلاً، إلا أنَّ الله إذا حَكَم (لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) .

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11)﴾

[ سورة الرعد  ]

( وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ۚ) .
(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) لذلك الناس يوم القيامة يأتون فُرادى، هناك شخص يأتي وحوله ملايين، حوله مئات الألوف، حوله قوة جبّارة، هذا يُحسب له حِساب، أمّا البشر جميعاً يوم القيامة يأتون فُرادى: 

﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94)﴾

[ سورة الأنعام   ]


لا تُقبل توبة المُفسِد إلا إذا أصلح: 


ثم يقول الله عزَّ وجل: هؤلاء المنافقون الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، في الدرك الأسفل من النار، ولكن فتح الله لهم نافذة النجاة. 

﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)﴾

[ سورة النساء  ]

  حينما كان منافقاً كان مُفسداً، حينما كان منافقاً كان مع الكفّار على المؤمنين، حينما كان منافقاً كان كذّاباً، لذلك أفسد بكذبه، وأفسد بمعاونته للكفّار، وأفسد بتآمره على المؤمنين، وأفسد وأفسد، قال: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا) لا تُقبَل توبة المُفسِد إلا إذا أَصلَح. 

من عظمة هذا القرآن أنه كلما يخوف الله عباده من المعاصي يبث فيهم الرجاء بالتوبة:


(تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ) أي أطاعوا، تابَ عن ذنوبه، وأصلح أخطاؤه، ثم اعتصم بطاعة الله  عزَّ وجل (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ) لا خوفاً من بشر، ولا طمعاً في عطاء، ابتغاء رضوان الله، قال: (فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) فأولئك معهم ناجون (فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)
ومن عظمة هذا القرآن أنه كلما أوعَد يَعِد، وكلما يُخوِّف الله عباده من المعاصي، يبثُ فيهم الرجاء بالتوبة، لأنَّ الله عزَّ وجل يريد أن يتوب على عباده، قال تعالى: 

﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)﴾

[ سورة النساء  ]

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)﴾

[ سورة البقرة  ]


التوبة بلا إيمان ولا استقامة لا قيمة لها إطلاقاً:


فكلما زلَّت قدم العبد فتح الله له نافذةً للتوبة قال: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ) يعني هذا المفهوم الساذج، أنَّ الله غفورٌ رحيم، يرتكب المعاصي والآثام، والله غفورٌ رحيم! يُهوِّن على كل إنسانٍ معاصيه، بدعوى أنَّ الله غفورٌ رحيم! لكن اقرأ القرآن، مثلاً: 

﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)﴾

[ سورة الحجر  ]

أكمِل: 

﴿ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)﴾

[ سورة الحجر  ]

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54)﴾

[ سورة الزمر  ]

أكثر من ثماني آيات. 

﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(110)﴾

[ سورة النحل  ]

هذه آية واضحة (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا) أصلحوا كل أخطاء الماضي (وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ) أطاعوه بإخلاصٍ (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أي توبة بلا عمل، توبة بلا امتناع، توبة بلا ثمن، توبة بلا عزيمة، توبة بلا إصلاح، توبة بلا إيمان، توبة بلا استقامة، لا قيمة لها إطلاقاً (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) .

حينما نؤمن بالمعطي ونشكره على عطائه نكون قد حققنا الهدف الأكبر من وجودنا:


أيُّها الإخوة ثم يقول الله عزَّ وجل: 

﴿ مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء  ]

الحقيقة الآية دقيقة جداً، لأنَّ عِلَّة وجودنا أن نؤمن به، وأن نَسعَد بقُربه، فحينما نؤمن وحينما نشكُر نكون قد حقَّقنا الهدف من وجودنا، إذاً عندئذٍ تنتهي المعالجة، فلو أنَّ طبيباً أقرَّ باستئصال كُليةٍ واقفةٍ عن العمل، هذا قرارٌ حكيم، قبل إجراء العملية صوَّر الكُلية التي ينبغي أن يستأصلها، فإذا هي تعمل بانتظام، هل يستأصلها؟ مستحيل، فحينما يؤمن الإنسان بالله، وحينما يشكُر، حقَّق الهدف من وجوده، لأنَّ الله مَنَحهُ الحياة، و مَنَحهُ الجنَّة، ومَنَحهُ الكون، ومَنَحهُ القرآن، ومَنَحهُ العقل، ومَنَحهُ الفِطرة، ومَنَحهُ الاختيار، ومَنَحهُ الشهوة الدافعة إليه، فهذا كله عطاء، فأنت حينما تؤمن بالمُعطي، وحينما تشكُر المُعطي على عطائه، تكون قد حقَّقت الهدف الأكبر من وجودك، إذاً عندئذٍ تنتهي المعالجة.
 (مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُم) بل إنَّ هذا الكون مسخَّرٌ مرتين، مسخَّرٌ تسخير تعريف، ومُسخَّرٌ تسخير تكريم، لو أنَّ صديقاً لك أهداك هاتفاً بالغ الفوائد، أولاً أهداه لك هديةً، ثم إنك دُهشت بخصائصه التي من تصميمه، فأنت حيال هذه الهاتف مثلاً عندك شعوران، شعور التعظيم لهذا الإنجاز، ثم شعور الامتنان، لأنه قُدِّم لك هديةً، فيجب أن تعلم علم اليقين، أنَّ كل شيءٍ في الكون مُسخَّرٌ لك أيُّها الإنسان، تسخير تعريف من أجل أن تعرف الله من خلاله، وتسخير تكريم من أجل أن تُحبَّه على عطائه، فأنت حينما تؤمن بوجود الله، وبكماله، وبوحدانيته، وحينما تشكُر نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهُدى والرشاد، تكون قد حقَّقت الهدف من وجودك، عندئذٍ هل هناك من مبررٍ للمعالجة والمصائب؟
 قال تعالى: (مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) المخلوق أحياناً ينتفع بتعذيب إنسان، يُعذِّبه ليأخذ ماله، يُعذِّبه ليأخذ زوجته، مثلاً، فالإنسان أحياناً ينتفع بتعذيب إنسانٍ آخر، لكن خالق الأكوان:

((  يا عبادي إنَّكم لن تبلُغوا ضُرِّي فتضرُّوني ولن تبلُغوا نَفعي فتنفَعوني يا عبادي إنَّكم تخطئونَ باللَّيلِ والنَّهارِ وأنا أغفرُ الذُّنوبَ جميعًا ولا أبالي فاستغفروني أغفرْ لَكم يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنسَكُم وجنَّكُم كانوا على أفجَرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ منْكم ما نقصَ ذلِكَ مِن مُلْكي شيئًا يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقَى قلبِ رجلٍ واحدٍ ما زادَ ذلِكَ في مُلْكي شيئًا يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ منهم مسألتَهُ ما نقصَ ذلِكَ ممَّا عندي شيئًا إلَّا كما ينقصُ المخيَطُ إذا أُدخلَ البحرَ ))

[  أخرجه مسلم  ]

فيا أيُّها الإخوة الكرام: هذه آياتٌ مطمئنة: (مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ) آمِن واشكُر، وتنتهي المعالجة، والآية واضحة.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور