- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
الهجرة حركة:
أيها الأخوة الكرام، بعد أيام قليلة تأتي مناسبة الهجرة، يأتي رأس السنة الهجرية، والهجرة حركة، وليس في الدين إسلام سكوني، أنت كما تتمنى تعيش لكنك معجب بهذا الدين، تقدر عظمة هذا الدين، تقول للناس: إن هذا الدين حق، إن هذا القرآن الكريم حق، هذه الحالة السلبية، الإعجاب السكوني، ليست واردة في الإيمان، الدين حركة، وما لم تتحرك من مكان إلى مكان، من موقف على موقف، من أصدقاء قبل أن تعرف الله إلى أصدقاء بعد أن تعرف الله، ما لم يكن هناك حركة، ما لم يكن هناك تبديل، ما لم يكن هناك انتقال، فالإسلام الذي تتوهمه إسلام سكوني غير حركي، لذلك الذي تمّ أن التاريخ الإسلامي لم يكن لميلاد النبي عليه الصلاة والسلام، بل كان لهجرته لأن الهجرة حركة، أتمنى قبل أن أتابع الموضوع، ما لم تقف موقفاً معيناً، ما لم تعطِ، ما لم تأخذ، ما لم تغضب، ما لم ترضَ، ما لم تصل، ما لم تقطع، ما لم تنتقل من مكان إلى مكان، من موقع إلى موقع بسبب إيمانك، فهذا الإيمان الذي أنت عليه ليس هو الإيمان الذي أراده الله عز وجل.
الهجرة قمة التضحية بالدنيا من أجل الآخرة و ذروة إيثار الحق على الباطل :
لذلك إن الهجرة قمة التضحية بالدنيا من أجل الآخرة، كل إنسان ببلده بمسقط رأسه له مكانة، له أسباب للرزق، له معارف، له أصدقاء، لكن إذا ثبت له أن بقاءه في هذا البلد يعيق تقدمه الديني فلابدّ من أن يهاجر، لذلك الهجرة قمة التضحية بالدنيا من أجل الآخرة، ذروة إيثار الحق على الباطل، الهجرة في أدق تعاريفها ليست انتقال رجل من بلد قريب إلى بلد بعيد، وليست ارتحالاً مفتقراً من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة، إنها إكراه رجل آمن في سربه، ممتد الجذور في مكانه، على إهدار مصالحه، والتضحية بأمواله، وتصفية مركزه، والنجاة بشخصه، من أجل ألا يفتن في دينه، المحرك هو الدين، الآن الحركة مال فقط، ينتقل من بلد يعبد الله رب العالمين إلى بلد فيه من التفلت ما يبعد أكبر مؤمن عن الدين، الحركة الآن حركة مالية فقط، يبحث عن مركز، عن منصب، عن مال، عن دنيا، عن متاع، أما الهجرة فحركة دينية، حركة من أجل الإيمان، حركة من أجل أن يعبد الإنسان الواحد الديان.
صعاب الهجرة لا يطيقها إلا مؤمن يخاف على سلامة إيمانه:
أيها الأخوة، هذه الصعاب صعاب الهجرة لا يطيقها إلا مؤمن يخاف على سلامة إيمانه، أما الهياب الخوَّار القَلِق فلا يستطيع أن يفعل شيئاً من ذلك، قال تعالى:
﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ﴾
بأصل فطرة الإنسان الإنسان يتعلق بمسقط رأسه؛ حيث العادات، والتقاليد، والمعارف، والأصدقاء، والأقارب، لكن أحياناً يكتشف - وهذه حالات نادرة بالعالم الإسلامي - أن هذا المجتمع يبعده عن ربه، لذلك لا بد من الهجرة، أحياناً تترك مجموعة أصدقاء إلى مجموعة أخرى بعد الإيمان، نوع من الحركة، تترك حرفة لا ترضي الله، كسبها حرام، إلى حرفة دخلها حلال، أريد أن أوسع معنى الهجرة، ترك شيء يبعدك عن الله إلى شيء يقربك منه، قد تترك الحي إلى حي آخر، من عمل إلى عمل، من أصدقاء إلى أصدقاء.
الهجرة منهج و تشريع:
أيها الأخوة، أولاً من من الدلائل والعِبَر التي تؤخذ و تستفاد من الهجرة، بالمناسبة النبي عليه الصلاة والسلام له سنة قولية تُحدّث، أحاديثه منهج، وله سنة عملية، أفعاله منهج، وله سنة إقرارية، إذا فعل أمامه شيء وسكت فهو صحيح، هذا للنبي وحده، سنة قولية، وسنة عملية، وسنة إقرارية، لذلك الهجرة عمل، فالهجرة منهج، الهجرة تشريع، بين مبادئ الحق وأوهام الباطل، بين عناصر الخير وقوى الشر، بين رسل الهداية وشياطين الغواية، تناقض كبير وصراع مستمر وحرب ضروس، قال تعالى:
﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾
ماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام حتى مكر به هؤلاء؟ إنهم يعرفونه قبل غيرهم، يعرفون صدقه، وأمانته، وعفافه، ونسبه، وأنه ما زاد عن أن دعاهم إلى الله ليوحدوه ويعبدوه، وأنه أمرهم بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، وأنه نهاهم عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، إنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، إنه رحمة مهداة ونعمة مزجاة.
لحظة تفكير واحدة تنقل الإنسان من أهل الشرك والنار إلى أهل الجنة والرحمة:
أيها الأخوة الكرام، في السيرة النبوية المطهرة، وفي معركة الخندق بالذات، جاءت قبيلة غطفان لتحارب النبي عليه الصلاة والسلام، زعيم هذه القبيلة رجل من وجهاء العرب، هذا الزعيم وهو في خيمته في الطرف الآخر من معسكر النبي عليه الصلاة والسلام وفي ليلة ليلاء قال لنفسه:- اسمه نعيم- ما الذي جاء بك يا نعيم؟ لماذا أنت هنا؟ تابع حديثه لنفسه، أجئت لتحارب هذا الرجل الصالح؟ ماذا فعل حتى تقاتله؟ هل سفك دماً؟ هل أخذ مالاً؟ هل انتهك عرضاً؟ أين عقلك يا نعيم؟ فكر، تحارب من؟ تحارب قاتلاً؟تحارب مغتصباً؟ تحارب منحرفاً؟ تحارب إنساناً صالحاً؟ أين عقلك؟ وقف وتوجه إلى معسكر النبي عليه الصلاة والسلام ودخل على النبي عليه الصلاة والسلام فدهش، قال له: نعيم! قال: نعيم، قال له النبي: ما الذي جاء بك إلينا؟ قال له: جئت مسلماً.
أنا أقول أيها الأخوة الكرام، لحظة تفكير لدقيقة نقلته من أهل الشرك وأهل النار إلى صحابي جليل من أهل الجنة والرحمة، لحظة تفكير، لحظة وقفة مع الذات، أين عقلك يا نعيم؟ تحارب من؟ تحارب هذا الرجل الصالح ماذا فعل؟ هل سفك دماً؟ هل أخذ مالاً؟ هل انتهك عرضاً؟ أين عقلك؟ وصار نعيم بن مسعود من أكابر الصحابة، وهذه قصة تتكرر كل يوم، لحظة تفكير لماذا أنا في هذا العمل الذي لا يرضي الله؟ ماذا بعد هذا العمل؟ هناك موت، ماذا بعد الموت؟ جنة يدوم نعيمها أو نار لا ينفذ عذابها.
أيها الأخوة، من اللقطات الرائعة أن سيدنا خالداً لما أسلم لكن أسلم متأخراً، قال له النبي كلمة مذهلة، قال له: عجبت لك يا خالد أرى لك فكراً، أي أنت ذكي وكان من الممكن أن ينقلك ذكاؤك إلى الإيمان، فلماذا تأخرت؟ عجبت لك يا خالد أرى لك فكراً.
أيها الأخوة الكرام، أمثل هذا المخلوق الأول والنبي المرسل يمكر به؟ أمثل هذا الإنسان الكامل يكاد له؟ إنها معركة الحق والباطل.
الحق لا يقوى إلا بالتحدي وأهل الحق لا يستحقون الجنة إلا بالتضحية:
أقول دائماً: الله عز وجل واجب الوجود، لكن ما سواه ممكن الوجود، معنى ممكن أي ممكن أن يكون أو ألا يكون، ومعنى ممكن الوجود أي ممكن أن يكون على ما هو كائن أو على خلاف ما هو كائن، أليس من الممكن أن يجعل الله كفار الأرض في كوكب آخر؟ لا يوجد عندنا أية مشكلة، كوكب للمؤمنين وكوكب للكافرين، أليس من الممكن أن يكون هؤلاء الكفار المجرمون المنحرفون في قارة خاصة بهم؟ أو في حقبة زمنية خاصة بهم؟ لكنه شاءت حكمة الله أن يكونوا معنا في أي بلد، وفي أي مكان وزمان، هناك مؤمن وهناك غير مؤمن، هناك مستقيم وهناك منحرف، هناك محسن وهناك مسيء، هناك صادق وهناك كاذب، هناك خيّر وهناك مجرم، بكل بلد أراد الله أن يكون هؤلاء مع هؤلاء، بعضهم قال لماذا؟ لأن الحق لا يقوى إلا بالتحدي، ولأن أهل الحق لا يستحقون الجنة إلا بالتضحية، فأن يكون هناك مع المؤمنين أناس آخرون هذا قدرنا، واقبل هذا القدر، معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية:
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ﴾
حتى الأنبياء نخبة البشر، صفوة البشر، لهم أعداء.
الدنيا دار تكليف وابتلاء وانقطاع والأخرة دار تشريف وجزاء وخلود:
أيها الأخوة، الدنيا في حقيقتها دار تكليف، وابتلاء، وانقطاع، الدنيا فيها تكليف؛ أنت مكلف أن تعبد الله، هذا التكليف هو علة وجودك، هو سبب وجودك:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
دار تكليف ودار ابتلاء:
﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
كل شيء يصيب الإنسان إن كان سلبياً فهو ابتلاء، وإن كان إيجابياً فهو ابتلاء، أنت مبتلى إذا كنت غنياً مبتلى بالمال، وأنت مبتلى إذا كنت فقيراً، ومبتلى إذا كنت قوياً، ومبتلى إذا كنت ضعيفاً، ومبتلى إذا كنت صحيحاً، ومبتلى إذا كنت مريضاً:
﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
أي شيء يصيبك إيجابي أو سلبي، هو مادة ابتلاءك مع الله، إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي.
إذاً هي دار تكليف، ودار ابتلاء، ودار انقطاع، كل شيء يمضي، والآخرة دار تشريف، وجزاء، وخلود، مكان الانقطاع خلود، مكان الابتلاء جزاء، مكان التكلف تشريف، ثلاث كلمات وثلاث كلمات، الدنيا دار تكليف وابتلاء وانقطاع، والآخرة دار تشريف وجزاء وخلود.
الابتلاء يكشف حقيقة المؤمن لنفسه أولاً ولمن حوله ثانياً:
إن الابتلاء يكشف حقيقة المؤمن لنفسه أولاً، ولمن حوله ثانياً، وثباته على مبدئه وإصراره على مرضاة ربه، وحبه لله تعالى، وكيف أنه يضحي من أجله بالغالي والرخيص، والنفس والنفيس، إنه يكشف صبره على الشدائد حفاظاً على دينه، والشدائد تدفعه إلى التوكل، وبالتوكل يصرف عنه السوء، وتساق إليه الخيرات، ونتائج التوكل تزيده معرفة بربه، وحباً له، إن هذه المعاني مستنبطة من قوله تعالى:
﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾
الدنيا دار التواء لا دار استواء:
أيها الأخوة، المقولة التي يقولها النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه عبد الله بن عمر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
(( إن هذه الدنيا دار التواء))
لا تستقيم لإنسان، قد تؤتى المال ولا تؤتى الصحة، قد تؤتى الصحة ولا تؤتى المال، قد تؤتى الزوجة ولا تؤتى الأولاد، قد يكون الأولاد والزوجة غير صالحة:
(( إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح – هناك موت وشدائد و جفاف وأزمة اقتصادية - لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء - لأنه مؤقت- ولم يحزن لشقاء - لأنه مؤقت - قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي))
أيها الأخوة الكرام، ماذا بعد البلاء؟ إنه الجزاء، هناك بلاء وهناك جزاء، إن الجزاء في الدنيا والآخرة، الحفظ والنصر للمؤمنين، والإحباط والخذلان للكافرين، والعاقبة للمتقين، ورحمة الله قريب من المحسنين:
﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ*إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ*وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ﴾
هذا قانون:
﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ﴾
فالبطولة أن تكون جندياً لله، إن كنت كذلك فأنت المنتصر.
الحفظ والنصر للمؤمنين والإحباط والخذلان للكافرين:
أيها الأخوة، النبي عليه الصلاة والسلام عقب إحدى المعارك يخاطب الذي مكروا به في الأمس ليثبتوه، أو ليقتلوه، أو ليخرجوه، ها هم هؤلاء قتلى وصرعى، في ساحة المعركة، قد مكر بهم أن يدفنوا في القليب -في القبر- إنه يخاطبهم قائلاً:
(( يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقّاً؟ ))
لقد كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس:
((فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا ؟ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا))
العاقل و الذكي من عرف الله في وقت مبكر في حياته وتحرك وفق منهجه:
أيها الأخوة الكرام، كل بطولتك أن الإنسان إذا اقترب أجله، لا يندم على ما فات، بطولتك وأنت حي ترزق، وأنت في شبابك، وأنت في عنفوان رجولتك، أن تعرف أنك مخلوق للعبادة، وأن تعبد الله، الدنيا ساعة اجعلها طاعة، والنفس طماعة عودها القناعة، أنا أقول لكم أيها الأخوة: الذكاء متعلق بالنهاية، بنهاية المطاف، من هو العاقل؟ من هو الذكي؟ من هو الموفق؟ من هو المتفوق؟ الذي عرف الله في وقت مبكر في حياته، وتحرك في عمره وفق منهج الله، فإذا جاء الموت هل تصدقون أيها الأخوة أن الموت عند أصحاب رسول الله كان عرساً لهم، والله الذي لا إله إلا هو قرأت ودرست تاريخ الصحابة مرتين أو ثلاث، أذكر أنني درست سبعين صحابياً، الشيء الذي يلفت النظر أن في حياتهم جميعاً قاسماً مشتركاً واحداً أنهم كانوا في أسعد لحظات حياتهم عند لقاء ربهم.
النبي عليه الصلاة والسلام تفقد سعد بن الربيع عقب معركة أحد، ما عرف عنه شيئاً، أرسل صحابيين ليتفقدوه في المعركة، فإذا هو بين الموتى، لكن لم يمت بعد، قالوا له: يا سعد، هل أنت مع الأموات أم مع الأحياء؟ قال: مع الأموات و لكن قولوا للنبي الكريم: جزاك الله خير ما جزى نبي عن أمته، وبلغ أصحابه أنه لا عذر لكم إذا خُلص إلى نبيكم، وفيكم عين تطرف، أي كان في أسعد لحظات حياته، وأقول لكم هذه الكلمة: أنت كمؤمن أكبر إنجاز تحققه أن الموت الذي يخافه كل البشر، ويرونه أكبر مصيبة، هو عندك كمؤمن عرس، الموت عرس المؤمن، الموت تحفة المؤمن.
لذلك حينما أشرف بلال على الموت، سمع ابنته تقول: وا كربتاه يا أبتِ، قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه، هل هناك أذكى وأعقل من إنسان النهاية المفجعة لكل البشر تعد عنده رحمة؟
أيها الأخوة الكرام، إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإن كان الله عليك فمن معك؟ ويا رب ما فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟
التعاون بين المؤمنين تعبير عن عمق إيمانهم:
هؤلاء الأنصار الذين هاجر النبي إليهم قدموا مثلاً رائعاً من أمثلة التضحية والإيثار، وأنموذجاً فذاً للتعاون بين المؤمنين، كل ذلك كان تعبيراً عن عمق إيمانهم، وسمو مشاعرهم، لقد زكى الله صنيعهم، قال تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
كتطبيق، أحياناً يأتي إلى هذه البلدة طلاب علم، من شمال البلاد، من جنوبها، من إفريقيا، من روسيا، من دول إسلامية، أنا الذي أراه أن هؤلاء المؤمنين المقيمين في هذه البلدة الطيبة، يرحبون بطلاب العلم، يسكنونهم في بيوتهم، يقدمون لهم بعض المساعدات، هذا نموذج مما كان بين المهاجرين والأنصار، الشام والفضل لله عز وجل هكذا علمت أنها البلد الأول في إكرام طلاب العلم، هناك بلاد أخرى أغنى منا، والطالب يقدم له أشياء غالية جداً، أما عندنا فهناك إكرام حقيقي، وهذا من فضل الله على هذه البلدة.
الإيمان تعاون وبذل وتضحية:
سيدنا سعد بن معاذ هو سيد الأنصار يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام عشية معركة بدر، حيث يجسد موقف الأنصار: يا رسول الله لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض بنا يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر وخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدواً غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، فصِلْ حبال من شئت واقطع حبال من شئت، عادِ من شئت وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، فلعل الله يريك منا ما تقر به عينك.
هذا الإيمان، تعاون، بذل، تضحية، نحن جميعاً فريق عمل واحد، كل أخ كريم ضمن عمله، ضمن اختصاصه، هذا بالطب يقدم جزءاً من معالجته لطلاب العلم الفقراء، هذا محسن يقدم جزءاً من ماله لمن هو محتاج لهذا المال، المؤمنون فريق عمل واحد، بل الكل لواحد والواحد للكل، هذا مجتمع المؤمنين، هؤلاء الذين آووا ونصروا من جاءهم مهاجراً في سبيل الله أعد الله لهم مغفرة، ورزقاً كريماً، وفازوا بمرضاة الله تعالى، وهذه المرضاة أثمن ما يناله مخلوق على وجه الأرض، قال تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾
التطبيقات العملية للهجرة:
أي لو أردنا أن نقول: ما التطبيقات العملية للهجرة؟ أنت في مكان الفتن كثيرة جداً، واحتمال أن تضعف أمامها احتمال قائم، فالهجرة تقتضي أن تترك هذا المكان إلى مكان آخر، وقد يكون المكان الآخر أقل دخلاً، لكن أكثر أمناً مع الله، فالعبرة أن تتحرك إلى مكان يكون أقرب إلى الله من المكان الأول، أن تخالط أناساً يقربونك من الله، أن تبتعد عن أناس يبعدونك عن الله عز وجل، هذه مفاهيم للهجرة صغيرة نعيشها كل يوم، لذلك أيها الأخوة، شتان بين من يعارض الحق وبين من يؤيده، شتان بين من يصدق النبي وبين من يكذبه، بين من يخرجه وبين من يؤيده، بين من يقاتله و بين من ينصره، شتان بين المؤمن وغير المؤمن، أنا أرى أنه ما من إنسان على وجه الأرض أشقى ممن وقف في خندق مضاد للحق، كن مع الحق، كن مع أهل الإيمان ولو كانوا ضعفاء وفقراء، ولا تكن مع أهل العدوان والطغيان ولو كانوا أقوياء وأغنياء:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾
على الإنسان أن يأخذ بالأسباب:
أيها الأخوة، هناك درس من الهجرة المسلمون يحتاجونه من أقاصي بلادهم إلى أقاصيها هو التوكل، فالتوكل بالمفهوم الصحيح أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، سهل جداً أن تأخذ بالأسباب وأن تعتمد عليها كالعالم الغربي، بل أن تؤلهها، بل أن تنسى الله إذا أخذت بها، هذا سهل، وسهل جداً أيضاً كحال أهل الشرق لا يأخذون بها إطلاقاً، يتواكلون على الله تواكلاً لا يرضي الله، الحالتان مرضيتان، أن تأخذ بالأسباب وأن تعتمد عليها وأن تنسى الله، أو ألا تأخذ بها كسلاً وأن تدعي أنك متوكل على الله، الموقف الكامل الذي كان عليه النبي وأصحابه، تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، النبي انتقل من بيته في وقت قلّما يتحرك به الناس، وتوجه إلى غار ثور، وقبع فيه أياماً ثلاثة، واستأجر دليلاً، ومعه الصديق، ومعه خبير بالطريق، أخذ بالأسباب كلها وكأن هذه الأسباب كل شيء، لما وصلوا إليه أي إلى الغار قال سيدنا الصديق: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موطئ قدمه لرآنا، قال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟
النبي الكريم لم يكن في هذه اللحظة معتمداً على الأسباب التي أخذ بها، لكنه كان معتمداً على الله عز وجل، هذه بطولتك، الدراسة، العمل التجاري، الطب، الهندسة، بكل شيء المؤمن الصادق يقتدي بالنبي، يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ويتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، فكل الأسباب أخذ بها النبي ومع ذلك لما تبعه سراقة، كان واثقاً من الله، قال له: يا سراقة كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ إنسان ملاحق، مهدور دمه، مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، يقول له: يا سراقة كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ أي أنا سأصل يا سراقة إلى المدينة، وسأنشئ دولة، وسأؤسس جيشاً، وسأحارب أكبر دولتين في العالم، وسأنتصر عليهما، وسوف تأتيني الغنائم إلى هنا، ولك يا سراقة سواري كسرى، والذي حصل في عهد عمر جاءت كنوز كسرى، وسأل عن هذا الصحابي - سراقة - وألبسه سواري كسرى، وقال: بخ بخ أُعيرابي من بني مدلج يلبس سواري كسرى؟!
هذا وعد الله عز وجل، وهذا الوعد قائم، وإلهنا إله الصحابة الكرام وعده قائم.
وعد الله قائم إن عاد المسلمون إلى ربهم و اصطلحوا معه:
أنت ترى أن العالم الإسلامي بوضع صعب جداً، دول فقيرة متخلفة ضعيفة، والله الذي لا إله إلا هو لو عادت إلى ربها، واصطلحت معه، لوصلت راياتها إلى أطراف الدنيا، مرة ثانية: الوعد قائم، لذلك في قوله تعالى:
﴿ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ﴾
أنا أرى أن هذا الدرس يحتاجه المسلمون، يحتاجه الطالب، يدرس دراسة متقنة ويتوكل، يحتاجه المدرس، يحتاجه الطبيب، المحامي، المهندس، أي إنسان بحرفة يحتاجه، أن تأخذ بأسباب النجاح وكأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
عندنا سؤال يأتي كثيراً أن الصحابة كلهم هاجروا خفية إلا سيدنا عمر هاجر نهاراً جهاراً، وقال: من أراد أن تثكله أمه، أو أن ييتم ولده، فليلحق بي إلى هذا الوادي، أقول لكم: هذا موقف شخصي، قد يقول قائل: النبي لم يفعل هذا، النبي مشرع لو أن النبي أخذ هذا الموقف، لعدّ اقتحام الأخطار سنة، وأخذ الاحتياط حراماً، سيدنا عمر أخذ موقفاً شخصياً، لذلك لو جاء هذا السؤال اعرفوا الجواب، النبي مشرع لأمة، النبي أخذ بالأسباب، سيدنا عمر أخذ موقفاً يدفع هو ثمنه إن لم ينجح.
أيها الأخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.
* * *
وعد الله قائم إن عاد المسلمون إلى ربهم و اصطلحوا معه:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً صاحب الخلق العظيم.
الهجرة بمعناها الواسع و الضيق:
أيها الأخوة الحديث الصحيح الذي ورد في البخاري:
((المسلمُ من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ على دمائهم وأموالهم، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه))
أي كل واحد منكم وأنا معكم بإمكانه أن يهاجر، هناك مجموعة أصدقاء لا ترضي الله تركهم هجرة، هناك لقاءات مختلطة تركها هجرة، هناك عمل فيه رزق وفير لكن فيه شبهات كثيرة تركه هجرة، هناك أشخاص البعد عنهم هجرة، دائماً وأبداً الهجرة لها معنى ضيقاً أن تنتقل من مكة إلى المدينة، أو إلى أية مدينتين حتى نهاية الحياة يشبهان مكة والمدينة، أما بالمعنى الواسع ترك ما نهى الله عنه، الآن هناك بشارة لهؤلاء الذين يعبدون الله في زمن الفتن، قال النبي في الحديث الصحيح القدسي:
((العِبادَةَ في الهَرْج كهجرة إلي ))
نساء كاسيات عاريات، أفلام إباحية، فضائيات، انحرافات، ملاه ليلية، انحرافات سلوكية، جنس يعبد من دون الهف في هذا الزمن الصعب، في هذا الزمن الإباحية والنوادي الليلية وكل شيء حلال، وكل شيء متعلق بالدين الناس يبتعدون عنه، في هذا الزمن:
((العِبادَةَ في الهَرْج كهجرة إلي ))
الدعاء:
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك، ولا تهتِك عنَّا سترَك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لما تحب وترضى، اجمع بينهم على خير إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير، اللهم صلِّ على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.