- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وآل بيته الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من أخطر أحداث الدعوة إلى الله:
أيها الأخوة الكرام، أطلت علينا ذكرى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الذكرى من أخطر أحداث الدعوة إلى الله، لأن الهجرة حركة وما لم تتحرك من مكان إلى آخر، من أصدقاء إلى آخرين، من معصية إلى طاعة، من ضياع إلى هدى، فلا قيمة لإيمانك إطلاقاً، والدليل:
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا (72) ﴾
الهجرة حركة، حركة نحو الحق، حركة نحو أهل الحق، حركة نحو العمل الصالح، حركة نحو العبادة، حركة نحو منابع الخير.
اتباع النبي صلى الله عليه وسلم دليل محبته:
أيها الأخوة الكرام، تتميز حياة النبي صلى الله عليه وسلم عن حياة العظماء من القادة والمصلحين بأن حياته صلى الله عليه وسلم بكل ما فيها من أقوال، أو أفعال، أو إقرار، أو مواقف، تعد قدوةً وتشريعاً، فقد عصمه الله جلّ جلاله عن الخطأ في أقواله، وفي أفعاله، وفي مواقفه، فهو لا ينطقُ عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، لذلك أمرنا الله جلّ جلاله بالأخذ عنه، قال تعالى:
﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾.
بل إن الله جلّ جلاله جعل اتباع النبي صلى الله عليه وسلم دليل محبته، قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
للنبي صلى الله عليه وسلم مهمتان كبيرتان ؛ مهمة التبليغ والتبيين ومهمة القدوة والأسوة:
لهذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم مهمتان كبيرتان، مهمة التبليغ والتبيين، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ ﴾.
المهمة الثانية مهمة القدوة والأسوة، قال تعالى:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) ﴾.
الموقف الكامل للنبي من الأحداث ينبغي أن يقفه الإنسان إذا مرّ بهذه الأحداث ليؤكد إنسانيته:
أيها الأخوة المؤمنون في كل مكان، إن الظروف التي أحاطت بالنبي صلى الله عليه وسلم، والأحداث التي واجهها، هي ظروفٌ وأحداثٌ خُلقت، وقُدرت بعنايةٍ تامة، ولحكمةٍ بالغة، ليقف النبي صلى الله عليه وسلم منها الموقف الكامل الذي ينبغي أن يقفه الإنسان ليؤكد إنسانيته، وليحقق غاية وجوده، إن هذه الظروف وتلك الأحداث من شأنها أن تكرر بسبب أن طبيعة النفس واحدة، قال تعالى:
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا (189)﴾.
وبسبب أن معركة الحق والباطل، والخير والشر، والإيمان والكفر، معركة قديمة ومستمرة، وأن الإنسان هو الإنسان في أي زمان ومكان، و أنه يكرر نفسه في ارتفاعه وانحطاطه، في قوته وفي ضعفه، في إيمانه وفي كفره، لذلك أيها الأخوة كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الظروف التي أحاطت به، ومن الأحداث التي واجهته، هو الموقف الذي يريدنا الله أن نقفه إذا أحاطت بنا مثل تلك الظروف، أو واجهتنا مثل تلك الأحداث.
على الإنسان أن يوفق بين حقيقة تعلقه بأرضه وحقيقة العبودية لله عز وجل:
الإنسان فطر على حبّ الأرض التي وجد فيها، والتعلق بالمعالم التي لابست نشأته، حينما ينتزع الإنسان من بيته الذي ترعرع فيه، ويخرج من أرضه التي أحبها، تتمزق نفسه، ويعظم همُّه، وربما آثر الموت على هذا الخروج الذي هو اقتلاع من جذوره، لذلك أشارت الآية الكريمة إلى هذه الحقيقة بقوله تعالى:
﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ (66)﴾.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية، الإنسان مكلفٌ أن يعبد الله تعالى من خلال التعرف عليه، ومن خلال التعرف على منهجه، ومكلف أن يعبد الله عز وجل من خلال أدائه فروض العبودية، من صيام، وصلاة، وحج، ومن خلال التزامه بالأمر، والنهي، ومن خلال الأعمال الصالحة التي هي ثمن سعادته في الآخرة الأبدية، قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.
هاتان الحقيقتان، حقيقة تعلق الإنسان بأرضه وحقيقة العبودية لله عز وجل كيف نوفق بينهما ؟
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق:
أيها الأخوة الكرام، إذا وُجد في أرض حالت قوى الشر فيها بينه وبين أن يستجيب لنداء فطرته في عبادة ربه، وحالت بينه وبين أن يصغيَ لصوت العقل في تطبيق منهج خالقه، وكان هذا الإنسان من الضعف بحيث لا يستطيع أن يقنع هذه القوى بالكف عنه، ولا أن يقف في وجهها فيلزمها بالرجوع للحق، ماذا يفعل ؟ أيخسر سعادته الأبدية من أجل النوازع الأرضية ؟ قال تعالى دققوا أخطر آية في الهجرة:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) ﴾
فأي مكان بذلت جهدك في إقناع الآخر أن يعود إلى الحق فلم تستطع، أي مكان حال بينك وبين أن تعبد الله، ينبغي أن تغادره، هذا هو الجواب الفيصل، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
لذلك تُعَلِمنا الهجرة أولاً إن الإنسان إذا تنازعت فيه النوازع الأرضية، والنـداءات السماوية عليه أن يُؤثِر الجانبَ الأسمى والأبقى، فلا أحدٌ يستطيع أن ينجيه من عذاب الله، ولا عذر له فيما يرديه.
من دروس الهجرة:
1 ـ الهجرة هجران للباطل و انتماء للحق و انتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام:
إن الهجرة في حقيقتها موقفٌ نفسي قبل أن تكون رحلة جسدية، إنها هجران للباطل وانتماء للحق، إنها ابتعاد عن المنكرات، وفعل للخيرات، إنها ترك للمعاصي، وانهماك في الطاعات، إنها فضلاً عن كل ذلك انتقالٌ من دار الكفر إلى دار الإسلام، قال عليه السلام فيما رواه البخاري ومسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما:
(( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)).
فإذا كان باب الهجرة من مكة إلى المدينة قد أُغلق بعد الفتح، لقول النبي علية الصلاة والسلام:
((لا هجرة بعد الفتح)).
باب الهجرة مفتوحٌ بين كل مدينتين تشبهان مكة والمدينة زمن الهجرة، و أبواب الهجرة من مجتمع الكفر إلى مجتمع الإيمان مفتوحةٌ على مصاريعها إلى يوم القيامة، بل إن عبادة الله في زمن كثرت فيه الفتن، واستعرت فيه الشهوات، وعمَّ فيه الفساد، إن عبادة الله المخلصة الصادقة في هذه الأجواء الموبوءة تُعد هجرة خالصة إلى الله ورسوله، في زمن الفتنة، في زمن الكاسيات العاريات، في زمن يصدق فيه الكاذب، في زمن يكذب فيه الصادق، في زمن يؤتمن فيه الخائن، في زمن يخون فيه الصادق والمخلص، في مثل هذا الزمن:
((عبادة في الهرج - في الفتن - كهجرة إلي)).
أن تعبد الله وأنت في بلدك والفساد من حولك، والفسق والفجور من حولك، والكذب والدجل من حولك، والصادق يكذب والكاذب يصدق، والأمين يخون والخائن يؤتمن، في زمن يذوب فيه قلب المؤمن مما يرى ولا يستطيع أن يغير، في زمن كثرت الضلالات واختفت الطاعات، وأمر بالمنكر ونهي عن المعروف، في زمن أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، في هذا الزمن:
((عبادة في الهرج كهجرة إلي)).
هذا الدرس الأول.
2 ـ استحقاق التأييد الإلهي في استجماع أسباب الهجرة وتوفير وسائلها:
أما الدرس الثاني تعلمنا الهجرة من خلال الخطة المحكمة التي رسمها النبي صلى الله عليه وسلم، أن استحقاق التأييد الإلهي لا يعني التفريط قيد أنملة في استجماع أسبابه، وتوفير وسائله، لقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم لهجرته خطةً محكمةً، حيث كتم تحركه تضليلاً للمطاردين، واستأجر دليلاً ذا كفاءة عالية، واختار غار ثور الذي يقع جنوب مكة لإبعاد مظنة الوصول إليه، وحدد لكل شخص مهمة أناطها به، فهناك واحد لتقصي الأخبار، وآخر لمحو الآثار، وثالث لإيصال الزاد، ثم إنه بعد كل ذلك كلف سيدنا علياً كرم الله وجهه أن يرتدي برده، ويتسجى على سريره، تمويهاً على المحاصرين الذين أزمعوا قتله.
الموقف الكامل أن نأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء:
السؤال لمَ لم ينقل ربنا جلّ جلاله نبيه على البراق من مكة إلى المدينة ؟ أراد الله أن نتعلم من النبي أن الموقف الكامل أن تأخذ بكل الأسباب وكأنها كل شيء ثم نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، ولم يدعْ النبي مكاناً للحظوظ العمياء، لقد اتخذ الأسباب، وكأنها كل شيء في النجاح، ثم توكل على رب الأرباب، لأنه لا قيام لشيء إلا بالله، إن هذه التدابير التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم على كثرتها، ودقتها، ليست صادرةً عن خوف شخصي، بل كانت طاعة لله عن طريق الأخذ بالقوانين التي قننها الله، وبالسنن التي سنّها الله، وتشريعاً لأمته من بعده، ثم إنه في الوقت نفسه، وهذه حقيقة خطيرة، لم يعتمد عليها اعتمد على الله، بدليل أنه كان في غاية الطمأنينة حينما وصل المطاردون إليه، وما زاد عن أن قال لسيدنا أبي بكر: " يا أبا بكر ما قولك باثنين الله ثالثهما ".
حينما فهم المسلمون الأوائل التوكل على الله هذا الفهم الصحيح، بهذه الطريقة رفرفت راياتهم في مشارق الأرض ومغاربها، واحتلوا مركزاً قيادياً بين الأمم والشعوب، واليوم إذا أراد المسلمون أن ينتصروا على أعدائهم وما أكثر أعدائهم، وأن يستعيدوا دورهم القيادي بين الأمم، لينشروا رسالة الإسلام الخالدة، رسالة الحق والخير والسلام، إذا أراد المسلمون ذلك فعليهم أن يستوعبوا جيداً هذا الدرس البليغ الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال هجرته، ونحن إذ نحتفل في هذه الأيام بذكرى هجرته صلى الله عليه وسلم ينبغي أن نستوعب هذه الدروس فنحن في أمس الحاجة إليها.
أيها الأخوة، ملخص القول أن التوكل هو الأخذ بالأسباب من دون الاعتماد عليها، وافتقارٌ إلى تأييد الله، وحفظه، وتوفيقه من دون تقصير في استجماع الوسائل،هذا هو الدرس الثاني.
3 ـ من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مُراغماً كثيراً وسعةً:
ثالثاً، وتعلمنا الهجرة ثالثاً من خلال النتائج الباهرة التي حققها المهاجرون، أنه من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مُراغماً كثيراً وسعةً، تُيَسر أموره، يحفظه الله عز وجل، يوفر الله له حاجاته، وأنه ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه، وأنه من شغلته طاعةُ الله عن تحقيق مصالحه الدنيوية أعطاه الله خير الدنيا والآخرة، وقد ورد في الأثر القدسي:
((عبدي أنت تريد وأنا أريد فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد وان لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد )).
و:
(( من آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً، ومن آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً)).
شاهد من تاريخ الصحابة عن الهجرة لله:
أيها الأخوة، شاهد من تاريخ الصحابة، يقول عقبة بن عامر الجهني ـ أحد أصحاب رسول الله رضي الله عنه ـ: " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأنا في الفلوات أرعى غنيمات لي، فما إن تناهى إليّ خبر قدومه حتى تركتها، ومضيت إليه لا ألوي على شيء، فلما لقيته قلت له: يا رسول الله أتبايعني ؟ فقال عليه الصلاة والسلام فمن أنت ؟ قلت: أنا عقبة بن عامر الجهني، قال: يا عقبة، أيهما أحب إليك أن تبايعني بيعةً أعرابية ـ أن تبقى في مكانك ـ أم بيعة هجرةٍ، أن تأتي إلي ؟ قلت: بل بيعة هجرة، وكنَّا اثني عشر رجلاً ممن أسلموا نقيم بعيداً عن المدينة لنرعى أغنامنا في بواديها، فقال بعضنا لبعض: لا خير فينا، والله إذا نحن لم نقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد يوم ليفقهنا في ديننا، ويُسمعنا مما ينزل عليه من وحي السماء، فليمض كل واحد منا إلى يثرب، وليترك غنمه لنا فنرعاها له، فقلت: اذهبوا أنتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً بعد آخر، وليترك لي الذاهب غنمه، لأني كنت شديد التعلق بغنيماتي من أن أتركها لأحد، ثم طفق أصحابي يغدو الواحد منهم بعد الآخر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويترك لي غنمه أرعاها له، فإذا جاء أخذت منه ما سمع، وتلقيت عنه ما فقه، لكنَّني ما لبثت أن رجَعت إلى نفسي، وقلت لها: ويحك يا نفس أمن أجل غنيمات لا تُسمن، ولا تغني تفوِّتي عليك صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأخذ عنه مشافهةً من غير واسطة، ثم، هذا القرار، تخليت عن غنيماتي، ومضيت لأصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن عقبة بن عامر الجهني يخطر له على بال حين اتخذ هذا القرار، قرار صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك غنيماته، لم يكن يخطر له على بال حينما اتخذ هذا القرار الحاسم والحازم أنه سيغدو بعد عِقد من الزمان عالماً من أكابر علماء الصحابة، وقارئاً من شيوخ قرَّائها، وقائداً من قوَّاد الفتح المرموقين، ووالياً من ولاة الإسلام المعدودين، ولم يكن يخطر له على بال أيضاً، وهو يتخلى عن غنيماته، ويمضي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه سيكون طليعةَ الجيش الذي يفتح أمَّ الدنيا وقتها دمشق، ويتخذ لنفسه داراً بين رياضها النضرة عند باب توما، ولم يكن يخطر له على بال أنه سيكون أحد القادة الذين سيفتحون مصر، وأنه سيغدو والياً عليها، ويتخذ لنفسه فيها داراً في سفح جبلها. وبعدها اشترك هذا الصحابي الجليل في قيادة حملة بحرية لفتح جزيرة رودس في البحر الأبيض المتوسط.
عالم، قارئ، فاتح، وال، لأنه ترك غنيماته، ماذا نقول ؟ لقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال:
(( ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه )).
وقد ورد في الحديث القدسي:
(( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين ))
الإعجاب السلبي بالإسلام إعجاب مرفوض:
أيها الأخوة الكرام، ما لم تتحرك نحو الحق، نحو مجالس العلم، نحو طلب العلم، نحو الأخوة المؤمنين الصادقين، الأعفة، الأمناء، ما لم تتحرك نحو أهل الحق، ما لم تتحرك من المعصية إلى الطاعة، من الضلال إلى الهدى، من شهوات الدنيا إلى نعيم القرب عند الله، الإسلام حركة، ليس في الإسلام ما يسمى بالإعجاب السلبي، أنت معجب ولكن من دون حركة، هذا شأن عامة الناس، أي إنسان يحدثك أن هذا الإسلام عظيم، وأن هذا الدين قويم، وأن النبي عليه الصلاة والتسليم سيد الأنبياء والمرسلين، وماذا فعلت أنت ؟ مع كل هذا المديح ؟ لم تفعل شيئاً، المسلمون اليوم ينتظرون معجزة من الله، لا يتحركون، لا يقفون موقفاً بطولياً، لا يدعون إلى الله، مستسلمون لحظوظهم من الدنيا، وهم غارقون في سلوك لا يرضي الله، ومع ذلك يمدحون دينهم ونبيهم وقرآنهم وكل ما يمت إليه بصلة.
أيها الأخوة الكرام، أريد في نهاية المطاف وفي الخطبة الثانية إن شاء الله أن أحدثكم عن موضوع آخر سلبي كيف تكون الهجرة إلى الشيطان ؟
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين، أستغفر الله.
* * *
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وصحبه أجمعين.
الهجرة في سبيل الشيطان:
أيها الأخوة، تكون الهجرة في سبيل الشيطان حينما يرفض المرء الحق وأهله، وينضم إلى الباطل وأهله، بلاد مسلمة تقام فيها شعائر الدين، فيها جوامع، فيها مساجد، فيها دروس علم، فيها خطب، فيها بقية حياء، بقية خجل، بقية طاعة لله، بقية تواصل أسري، بقية وفاء، بقية رحمة، عندنا مشكلات لا تعد ولا تحصى كأي دولة نامية، لكن عندنا ميزات لا تعد ولا تحصى بسبب هذا الدين، نحن متحضرون بهذا الدين، لكننا مع الأسف الشديد لسنا متطورين، بينما أعداؤنا متطورون أشد التطور لكنهم غير متحضرين بل هم متوحشون.
حينما يرفض المرء الحق وأهله، وينضم إلى الباطل وأهله، يسافر إلى بلاد الغرب، بلاد جميلة الحاجات كلها مؤمنة، حقوق الإنسان كلها موفورة، يؤثر الدنيا على الآخرة، ينوي البقاء الدائم فيها، يخسر أولاده، يخسر بناته، يخسر أهله، يخسر دينه، يخسر آخرته.
حينما يؤثر المرء الدنيا الفانية على الآخرة الباقية، حينما يفضل الرجل مصالحه على مبادئه وحاجاته على قيمه، حينما تكون الهجرة ابتغاء دنيا يصيبها الرجل، أو ابتغاء مال وفير يحصله على حساب دينه وقيمه، وعلى حساب مستقبل أسرته وبناته وأولاده، حينما تكون الخبرة بذلاً للخبرات والطاقات لغير بلاد المسلمين، أي آلاف مؤلفة، ملايين مملينة من المسلمين، كل خبراتهم، وذكائهم، وطاقاتهم، يقدمونها للغرب الذي يعادينا، وينتهك حرماتنا، حينما تكون الهجرة بذلاً للخبرات والطاقات لغير بلاد المسلمين، حينما تكون الهجرة إضعافاً للمسلمين، وتقويةً لأعدائهم، حينما تكون الهجرة هروباً من تحمل المسؤولية، وفراراً من البذل والتضحية، حينما تكون الهجرة تمكيناً للعدو من احتلال الأرض، واستثمار خيراتها، حينما تكون الهجرة من بلد تقام فيه شعائر الدين إلى بلد فرغت منه كل القيم ، حينما تكون الهجرة تضييعاً للعرض والدين، وكسباً للدرهم والدينار فهي هجرة في سبيل الشيطان، وشتان بين الهجرتين.
أيها الأخوة الكرام، إني داع فأمنوا:
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، انصر المسلمين في كل مكان، وفي شتى بقاع الأرض يا رب العالمين، اللهم أرنا قدرتك بأعدائك يا أكرم الأكرمين.