الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الإخوة الكرام؛ لازلنا مع اسم القدير.
الله جلّ جلاله قدير، والإنسان ضعيف، شأن الإنسان أن يكون مفتقراً إلى الله، وشأن الله أن يُقَوّي هذا الإنسان الذي افتقر إليه، وهذا من خصائص الإنسان، لأن الإنسان لو خلق قوياً لاستغنى بقوته فشقي باستغنائه، خُلق ضعيفاً ليفتقر في ضعفه فيسعد بافتقاره، شأن الإنسان أن يكون ضعيفاً، لكنه يقوى بالله عز وجل.
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)﴾
والهلوع شديد الجزع:
﴿ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)﴾
فشأن الإنسان أنه جزوع، هلوع ومنوع، وشأن الإنسان أنه ضعيف، لكن الإنسان إذا افتقر إلى الله يقوى، إذا افتقر إلى الله يصبح عالماً، إذا افتقر إلى الله يصبح غنياً.
يا أيها الإخوة الكرام؛ العبد عبد، والرب رب، ما مِنْ إنسان افتقر إلى الله عز وجل كرسول الله، ومع ذلك رفع الله شأنه، وأعلى قدره، وقال تعالى:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)﴾
درسان بليغان من غزوة بدرٍ وحنين:
كلما افتقرت إلى الله تولاك الله، وكلما اعتددت بنفسك تخلى عنك، ودرس بليغ بليغ درس بدر.
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)﴾
في بدر الصحابة الكرام افتقروا إلى الله فانتصروا، أما في حنين، وقد أعجبتهم كثرتهم، قالوا:
(( عن بعض أهل مكة: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال حينَ فَصَل من مكَّةَ إلى حُنَينٍ، ورأى كَثرةَ مَن معه من جنودِ اللهِ تعالى:(( لن نُغلَبَ اليومَ مِن قِلَّةٍ.))))
[ خلاصة حكم المحدث: الصحيح أن قائل ذلك غير النَّبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: محمد ابن يوسف الصالحي: سبل الهدى والرشاد: أخرجه ابن هشام في سيرته ]
نحن كثيرون، قال تعالى:
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)﴾
وهذان درسان بليغان في حياتنا، إذا قلت: الله، تولاك، ونصرك، وأيّدك، وحفظك، ووفقك، إذا قلت: أنا، خبراتي، ثقافتي، أسرتي، جماعتي، حينما تعتدّ بغير الله يتخلى عنك، هذا درس بليغ، لذلك ورد في بعض الآثار: ما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، وما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطّعت أسباب السماء بين يديه، إذاً الله عز وجل قدير، الله عز وجل عليم، الله عز وجل غني، المؤمن يفتقر إلى الله.
وما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع
وما لي سوى قرعي لبابك حيلة فإذا رددت فأي باب أقرع؟
الافتقار إلى الله يرفع شأن العبد:
افتقر يرفع الله شأنك، افتقر ينصرك، افتقر يؤيدك، افتقر يعزك، قل أنا، مَن نحن أمام أصحاب رسول الله؟ في حنين، أصحاب النبي وهم صفوة الخلق، وقد قال: إن الله اختارني واختار لي أصحابي، ومع ذلك هم نخبة الخلق، وفيهم سيد الخلق، لما اعتدوا بأنفسهم، وقالوا: ((لن نغلب من قلة)) تخلى الله عنهم، فمَن نحن؟ لذلك أيها الإخوة؛ قال تعالى:
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)﴾
هو القدير، هو القوي، هو الغني، شأن العبد أن يكون مفتقراً إلى غنى الله عز وجل، شأن العبد أن يعترف بضعفه أمام الله عز وجل، شأن العبد أن يكون مفتقراً إلى رب العالمين، لذلك ما لم يفتقر العبد إلى الله، ما لم يُمرّغ جبهته في أعتاب الله، ما لم يتذلل إلى الله فيما بينه وبين الله، لن يستطيع أن يأخذ من كمالات الله.
أيها الإخوة؛ ضعف العبد باعث إلى الإقبال على الله، ضعف العبد باعث له إلى الإقبال على الله عز وجل، ضعفه هو الذي يدفعه إلى الله، والنقطة الدقيقة جداً بقدر افتقارك إلى الله تكون قوياً وغنياً وعالماً، والشيء الذي ينبغي أن يقال بوضوح: الله عز وجل يرفع قدر العبد بين الخلق، إذا أحبّ الله عبداً ألقى محبته في قلوب الخلق، لذلك الله عز وجل قدير، والله عز وجل قادر، والله عز وجل مقتدر، قادر اسم فاعل، قدير صيغة مبالغة من اسم الفاعل، مُقتدِر من فعل اقتدر، على كل في صحيح الإمام البخاري يقول عليه الصلاة والسلام:
(( عن أبي أيوب الأنصاري: مَن قالَ عَشْرًا، كانَ كَمَن أَعْتَقَ رَقَبَةً مِن وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، أي في حديث: مَن قال:َ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ له، له المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهو علَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ. ))
هناك من يملك ولا يُحمَد، هناك من يُحمَد ولا يملك، لكن الله جلّ جلاله له الملك وله الحمد، ذو الجلال والإكرام، بقدر ما تُعظّمه بقدر ما تحبه، مالك الملك بيده كل شيء لكن كماله مطلق، يملك ويُحمَد، ((لا إلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) .
قدرةُ الله متعلقة بكل شيء ممكنٍ:
قوة الله عز وجل مطلقة، تعلقت بكل ممكن، لذلك لو أن الإنسان أصيب بمرض عُضال يقين المؤمن أن الله على كل شيء قدير، لو كان وحيداً وأعداؤه كثر إن الله على كل شيء قدير.
﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)﴾
﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)﴾
أي إنسان دخل إلى بطن الحوت، وفي البحر، وفي الليل، وفي ظلمة بطن الحوت، سيدنا يونس:
﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
هل من مصيبة أكبر من أن يجد الإنسان نفسه فجأة في بطن حوت؟ وحينما عقّب الله على هذه القصة بقوله: ﴿وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ قلبها إلى قانون، لئلا تتوهم أن هذه القصة قصة وقعت ولن تتكرر، لئلا يغدو كتاب الله تاريخاً، أراده قوانين: ﴿وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ .
لذلك أيها الإخوة؛ القنوط من رحمة الله، واليأس، والشعور بالإحباط، والاستسلام للقدر، وأن تقول: انتهى المسلمون، هذا من ضعف الإيمان.
﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)﴾
العلمُ من لوازم قدرةِ الله:
بالمناسبة أكثر الآيات التي ورد فيها اسم القدير ورد مع القدير العليم، لأن العلم من لوازم القدرة، أي جرّاح بيده مِبْضَع، الشيء الدقيق جداً عِلمه، هنا يوجد عصب، هنا يوجد وريد، هنا يوجد شريان، الجرّاح علمه بدقائق خلق الإنسان يجعله قديراً على إنجاح العملية، لذلك من لوازم القدرة العلم، الله عز وجل في أكثر الآيات عليم قدير، أي علمه من لوازم قدرته، القدرة قد تكون عشوائية، لكنه إذا رافقها العلم تغدو قدرة واعية، هذا في الإنسان، فكيف بالواحد الديان؟ لذلك في صحيح البخاري: ((لا إلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحمد)) .
إخواننا الكرام؛ لا يوجد مع الإيمان مرض نفسي، لا يوجد مع الإيمان إحباط، لا يوجد مع الإيمان شعور بالإخفاق، لا يوجد مع الإيمان يأس، لا يوجد مع الإيمان انكماش، هذه كلها أعراض الإعراض عن الله عز وجل، أما المؤمن لأنه يعلم علم اليقين أن أمره كله بيد الله، وأن الخير كله من عند الله، وأنه لا رافع، ولا خافض، ولا مُعزّ، ولا مذلّ إلا الله، وأنه لا معطي، ولا مانع إلا الله، هذا اليقين عند المؤمن يرفعه عن أن ييأس، أو عن أن يتطامن، أو عن أن يستسلم، معنوياته المرتفعة بسبب يقينه أن الأمر بيد الله، الله عز وجل قبل أن يأمرك أن تعبده طمأنك، قال لك:
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
التوحيد يملأ القلب أمناً وطمأنينةً:
إخواننا الكرام؛ لا تُحَلّ مشكلاتنا بالإيمان بأن الله خلق السماوات والأرض، لا تُحَلّ مشكلاتنا إلا بالإيمان بأن الأمر بيد الله، وأن الله:
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)﴾
وأنه:
﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)﴾
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ﴾ آيات التوحيد تملأ النفس طمأنينة، هو قدير، وأنت ضعيف، هو أقوى من أعدائك، أقوى من كل قوة في الكون، هو خالق السماوات والأرض.
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)﴾
إنسان أحياناً يصنع طائرة، ويبيع الطائرة، الطائرة قوة مخيفة، لكن بيد غير الصانع، صُنعت، وبيعت، الدولة التي اشترتها قد تقصف بها بلاداً صديقة للبلاد الصانعة لها، أما الآية دقيقة جداً: ﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ أيّ شيء خلقه أمره بيد الله، الآية الثانية:
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)﴾
لا يوجد شيء مخيف إلا بيد الله، بالضبط لو أنك رأيت وحوشاً كاسرة جائعة مفترسة مخيفة، لكنها مربوطة بأزمة محكمة بيد جهة قوية، حكيمة، رحيمة، عادلة، علاقتك مع من؟ مع الوحوش أم مع الذي يملكها؟ مع الذي يملكها، والآية الدقيقة:
﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾
إخوتنا الكرام؛ الإنسان حينما يوحد يمتلئ قلبه أمناً، وأماناً، وتفاؤلاً، وبِشراً، الأمر بيد الله، ولا يُعقل ولا يُقبل أن يُسلِمك الله إلى غيره، ثم يأمرك أن تعبده، طمأنك قال: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ هو القدير، لذلك في صحيح البخاري: ((لا إلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) .
(( عن المغيرة بن شعبة سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ خَلْفَ الصَّلَاةِ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِما أعْطَيْتَ، ولَا مُعْطِيَ لِما مَنَعْتَ، ولَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ. ))
إذا أعطاك من يمنعه؟ ((لا مَانِعَ لِما أعْطَيْتَ، ولَا مُعْطِيَ لِما مَنَعْتَ)) هذا التوحيد.
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)﴾
((اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِما أعْطَيْتَ، ولَا مُعْطِيَ لِما مَنَعْتَ، ولَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ )) .
لا ينفع ذكاءُ العبد مع الله:
الذكي، والعاقل، والذي يتّقد حيوية ونشاطاً، وامتلاكاً لحيلة، هذا لا ينفعه مع الله شيء، إذا أراد ربك إنفاذ أمر أخذ من كل ذي لبّ لبه، أي الذكاء لا ينفع مع الله عز وجل، ينفع معه الاستقامة، ينفع له أن تكون محسناً، ينفع له أن تكون مستقيماً على أمره، ينفع له أن تكون مفتقراً إليه، ينفع له أن تكون مُحباً، أما أن يكون ذكياً، الله عز وجل إذا أراد إنفاذ أمر أخذ من كل ذي لب لبه، أي الأذكياء إذا اعتدوا بذكائهم يرتكبون حماقات لا أول لها ولا آخر، هذه من حكمة الله، قال تعالى:
﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)﴾
النجاح بيد الله، ثمن النجاح الاستقامة، أما الذكي، والذي يملك خبرات عالية جداً، والذي يملك أساليب ناجحة جداً، والقوي، والمعتدّ بنفسه، هذا الله عز وجل يأخذ منه عقله فيقع العقاب الأليم، والإنسان حينما يشرك يُؤتى من مَأمَنِه، أي أحياناً يتفوق طبيب باختصاصه تفوقًا كبيرًا، يتوهم أحياناً أنه لن يُصاب بالأمراض التي اختصّ فيها، فلحكمة بالغة بالغة الطبيب الهضمي يُصاب بقرحة، لأنه اعتدّ بعلم، وظن أن علمه يمنعه من أن يُصاب بمرض من اختصاصه، والقوي يعتدّ بقوته فيأتي أضعف منه فينتصر عليه.
التوحيد أخطر شيء في الدين:
لذلك التوحيد أخطر شيء في الدين، ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، إذاً: (
(لا مَانِعَ لِما أعْطَيْتَ، ولَا مُعْطِيَ لِما مَنَعْتَ، ولَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ)) الذي أوتي حظاً من عقل:
((وَلا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ)) أي لا ينجيك من الله أن تكون ذكياً، لا ينجيك من الله أن تكون ذا خبرة عالية جداً، لا ينجيك من الله أن يكون لك جماعة كبيرة، لا ينجيك من الله خطة وضعتها بإحكام، لذلك أنا أقول دائماً: إن أمة قوية خططت لبناء مجدها على أنقاض الشعوب، بناء رخائها على إفقار الشعوب، بناء قوتها على إضعاف الشعوب، بناء غناها على إفقار الشعوب، بناء عزتها على إذلال الشعوب، إن هذه القوة الغاشمة نجاح خططها على المدى البعيد يتناقض مع وجود الله:
((لا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ)) لذلك:
(( عن أبي هريرة: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار. ))
أيها الإخوة؛ العلم والكتابة والمشيئة والخلق مراحل الخلق، أي الله عز وجل الذي وقع كان في علمه، ثم شاء أن يقع، ثم وقع، هناك مراحل، علم فكتابة فمشيئة فخلق، للتوضيح؛ أحياناً البناء يبدأ بفكرة، هذا المسجد بدأ بفكرة ثم كُتبت هذه الفكرة ووضِعت لها خطة محكمة، وضِع لها موقع، رُسِم الموقع، خُطط الموقع، رُسِم الهيكل، رُسِمت معالم البناء، إذاً بدأت بفكرة ثم كتبت على ورق، ثم كانت المشيئة بإبراز هذه الفكرة مع خطتها إلى حيز الوجود، ثم نفذت هذه الخطة، نبدأ بالفكرة ثم بالكتابة ثم بالمشيئة ثم بالتنفيذ هذا شأن البشر، فكيف بخالق البشر؟ لذلك ورد: من علِم منكم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي.
إخواننا الكرام؛ الأصل هو العلم، أن تعلم أن أسماء الله كلها حسنى، وأن صفاته كلها فضلى، لذلك هناك من يقول: يا رب إنا لا نسألك ردّ القضاء، ولكن نسألك اللطف به، لا، يا رب اصرف عني هذا كله، لمَ لا تتوقع أن يكون هذا الشيء غير محقق؟ لا، اطلب من الله كل شيء.
دعاء العبد ربّه لأنه قدير على الإجابة:
لذلك أنت عندما تدعو الله تكون عابداً لله، كيف؟ لمجرد أنك تدعو الله أنت مؤمن بوجوده، لأن الإنسان لا يدعو جهة لا يؤمن بها، ولمجرد أنك إذا دعوت الله أنك مؤمن بسمعه، يسمعك، لأن الإنسان في الأصل لا يدعو جهة لا تسمعه، ولمجرد أنك دعوت الله أنت مؤمن بقدرته، لأن إنساناً مفتقراً إلى مبلغ كبير لا يسأل طفلاً صغيراً لا يملكه، ولمجرد أنك تدعو الله أنت مؤمن برحمته، أي الذي يدعو الله مؤمن بوجود الله، وبسمعه، وبقدرته، وبرحمته، لذلك:
(( عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: الدُّعاءُ هو العبادةُ ثمَّ قرأ {وَقال رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} .))
[ الترمذي: إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما ]
لذلك الدعاء هو مخ العبادة، الدعاء هو العبادة في حديث صحيح لأن الله عز وجل يقول:
﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) ﴾
علامة إيمانك الصحيح أن تدعو الله، والدعاء سلاح المؤمن، وأنت بالدعاء أقوى إنسان، إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك، وإذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتق الله، الأمر بيدك.
لذلك أيها الإخوة:
﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)﴾
القدر الفعل، والمقدور العلم، الله عز وجل عليم قدير، القضاء والقدر، القضاء هو الحكم، والقدر تقدير فعل بحسب العلم، الله عز وجل يطّلع على إنسان مستقيم، علم الله باستقامته يُقدر له توفيقاً، يطّلع على إنسان كاذب عِلم الله بكذبه يُقدّر له علاجاً، فمجمل القضاء والقدر أن الله يعلم، ويُقدّر لهذا الإنسان ما يناسبه، تماماً كالطبيب وقف أمام مريض، أخذ إضبارته وجد فيه ضغطاً مرتفعاً جداً، علمه بضغطه المرتفع جعله يعطي أمراً بمنع الملح عنه، ووصف دواء لخفض الضغط.
أنا أبسط، لا تعقّد الأمور، الله عز وجل يعلم، وحينما يعلم يُقَدر لك الشيء المناسب، فقضاؤه وقدره علمه وحكمته، علمه ومعالجته، وكل شيء بقضاء من الله وقدر، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، والقضاء والقدر يذهب الهم والحزن،
(( عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. ))
[ أحمد: الهيثمي: مجمع الزوائد: رجاله ثقات ]
هذا هو التوحيد، وهذا هو الإيمان بالله.
الشرك بالله عز وجل يناقض العبادة:
فيا أيها الإخوة؛ مرة ثانية شأن العبد أن يكون فقيراً، وشأن العبد أن يكون جاهلاً، وشأن العبد أن يكون ضعيفاً، الضعيف إن أقبل على الله يقوى ضعفه، والفقير إذا أقبل على الله يغتني بإقباله، والجاهل إذا أقبل على الله يُعَلّمه الله.
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾
لذلك يمكن أن تضيف إلى اللبن خمسة أضعاف حجمه ماء، ويكون شراباً سائغاً، لكن لا يحتمل اللبن قطرة واحدة من البترول، عندئذٍ لا تشربه، أي العبادة مما يناقضها الشرك.
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)﴾
مما يناقض العبادة الشرك بالله عز وجل، لكن ما دام هناك توحيد، ما دام هناك استغفار، ما دام هناك إقبال، ما دام هناك اعتراف بالذنب، الله عز وجل غفور، وما أمرنا أن نستغفره إلا ليغفر لنا، وما أمرنا أن نتوب إليه إلا ليتوب علينا، وما أمرنا أن ندعوه إلا ليجيبنا، فشأن العبد أن يكون ضعيفاً، مفتقراً، وشأن الرب أن يكون معطياً، جواداً، كريماً، فالقدير من أقرب الأسماء الحسنى إلى الإنسان، لأنه ضعيف.
لذلك الباعث على التدين في الإنسان ضعفه، وعظمة الله عز وجل، حتى الذين ضلوا سواء السبيل، وعبدوا آلهة غير الله، هم بهذا الباعث، بباعث من ضعفهم لكن عاشوا بالأوهام، لكن المؤمن عاش مع الواحد الديان.
الملف مدقق