الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللّهمّ لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الأول من دروس سورة المائدة، ومع الآية الأولى وهي:
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ ۚ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلْأَنْعَٰمِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى ٱلصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)﴾
أولاً أيها الإخوة؛ ترتيب الآيات في السورة الواحدة توقيفي من الوحي، وترتيب السور فيما بينها توقيفي، بمعنى أن الله عن طريق جبريل تولّى ترتيب الآيات في السورة الواحدة وترتيب السور في المصحف؛ ذلك لأن هناك ترابطًا دقيقًا وعميقًا بين الآيات في السورة الواحدة وبين السور في المصحف، فحينما جاء في سورة النساء عقود كثيرة كعقد النكاح، وعقد الصداق، وعقد البيع، وعقود أيضاً أخرى، فجاءت مقدمة هذه السورة أن: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ﴾
مخاطبة الله -عزَّ وجلَّ- الناس بأصول الدين والمؤمنين بالتكاليف:
شيء آخر؛ أن الله -سبحانه وتعالى- كما أذكر دائماً يخاطب الناس بأصل الإيمان ويخاطب المؤمنين بالتكاليف، فالتكاليف يُخاطب بها المؤمنون، والناس يخاطبون بأصل الإيمان، إذاً حيثما قرأت قوله تعالى ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ﴾ ينبغي أن تعلم هذا من التكليف، وهذا التكليف طبيعي جداً لمن آمن بالله، فمثلاً طالب في جامعة وعاش مع أستاذه سنوات عديدة، وانتقل معه من سنة إلى سنة، فحينما يأمر هذا الأستاذ بكتابة بحث أو مراجعة كتاب فهذا الأمر مبنيٌّ على أن هذا الطالب عرف قيمة أستاذه، وعرف علمه، وعرف حرصه، وعرف رغبته أن يرقى بتلميذه، فكل هذه الحيثيات في ذهن الطالب حينما يأمر هذا الأستاذ تلميذه بكتابة هذا البحث، أو مراجعة هذا الكتاب، أو تلخيص هذا الموضوع، أما هذا الأستاذ نفسه لو مشى في الطريق ورأى إنساناً عادياً قد يكون أمياً وقال له: اكتب البحث الفلاني، معك أسبوع، كلام ليس له معنى إطلاقاً، يسألك: من أنت؟ من أنت حتى تأمرني؟ هذا الأستاذ لا يستطيع أن يخاطب إلا طلابه بتفاصيل الأوامر، لكن الإنسان العادي يُقال له: هل فكرت في الكون؟ هل تعرّفت إلى الله؟ ألست مسلماً؟ ينبغي أن تصلي، فدائماً وأبداً الله -عزَّ وجلَّ- يخاطب الناس بأصول الإيمان وبأصول الدين.
﴿ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَٰلِقُونَ (35)﴾
أما إذا خاطب المؤمنين يخاطبهم بالتكاليف، إذاً شرف كبير أن تكون مشمولاً بقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ﴾ ، بل هناك أبلغ من ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- حينما يقول:
﴿ قُل لِّعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَٰلٌ (31)﴾
هذه الياء ياء النسب، وقد نُسب العباد إلى الله -عزَّ وجلَّ- (عبادي).
﴿ قُلْ يَٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ (53)﴾
هذه نسبة شرف وتكريم، فما من مرتبة ينالها الإنسان كأن يكون منسوباً إلى الله -عزَّ وجلَّ، أي من باب الاعتزاز أن تقول: أن ابن فلان، أنا من بيت علم فرضاً، أنا منسوب إلى العالِم الفلاني، فحينما تُنسب إلى خالق الأرض والسماوات فهذا أعظم تكريم وتشريف للإنسان ﴿قُلْ يَٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ﴾
﴿ وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى ٱلْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا (63)﴾
هكذا...، بقي شيء آخر: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ﴾ العقود هي التي وردت في سورة النساء، ثم إن معنى ﴿أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ﴾ تأتي بمعنى آخر؛ أي عقد بينك وبين الله حينما تذهب إلى العمرة أو إلى الحج، وتقف أمام الحجر الأسعد وتشير إليه وتقول: اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، وإتباعا لسنة نبيك، يا ربِّ أعاهدك على التوبة النصوح، يا ربِّ أعاهدك ألا آكل مالًا حرامًا ما حييت، يا ربِّ أعاهدك على غض البصر ما حييت، يا ربِّ أعاهدك على فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، يعود إلى بلده وكأن شيئاً لم يكن، لذلك قال الله تعالى:
﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍۢ ۖ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَٰسِقِينَ (102)﴾
شيء مؤلم جداً أن تعاهد الله ثم تنسى، أن تعاهد الله ثم تخلف هذا العهد، الله -عزَّ وجلَّ- كأنه يعاتبنا أو يأمرنا ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ﴾ ، والشيء الذي يهز مشاعر الإنسان قوله تعالى:
﴿ وَإِبْرَٰهِيمَ ٱلَّذِى وَفَّىٰٓ (37)﴾
وفّى ما عليه، رائع جداً أن تعاهد الله وأن تبقى عند عهدك.
﴿ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا (23)﴾
المؤمن لا يبدل لا في الشدة، ولا في الفقر، ولا في المرض، ولا في القلق، عاهد الله على طاعته فهو على عهده قائم في الشدة والرخاء، في الغنى والفقر، قبل الزواج وبعد الزواج، قبل المرض وبعد المرض، أخذ قراراً مصيرياً بطاعة الله -عزَّ وجلَّ-، أما هؤلاء المتقلبون الذين يعبدون الله على حرف فتارة يقبلون وتارة يُعرضون، تارة يتمسكون وتارة يتفلتون، هؤلاء في مرتبة دُنيا، وحينما قال الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍۢ (4)﴾
أي هو في الأعماق، ورائع جداً أن تكون في الأعماق، لا تتأثر لا بحدث ولا بمصاب ولا بفقر ولا بغنى، راضٍ عن الله -عزَّ وجلَّ-.
إني وإنْ فتتوا في حبهمْ كبدي باقٍ على ودهمْ راضٍ بما فعلوا
[ عبد الرحيم بن أحمد بن علي البرعي اليماني ]
هؤلاء الذين تُساق لهم الشدة ويصبرون، هؤلاء عند الله في أعلى مكان، معظم الناس في الرخاء يشكرون الله، لكن الشدة تفرزهم إلى مؤمن وإلى ضعيف الإيمان، والأحداث الأخيرة كأنها فرزت بعض الناس، فحينما لم يتحقق ما كان المسلمون يصبون إليه وأصبحت حالة الإحباط منتشرة بين المسلمين، هناك من ترك الصلاة ويصلي إذا كان هناك انتصار، ثم لا يصلي إن لم يحقق هذا الانتصار، هؤلاء الذين يعبدون الله على حرف، فالعقود هي العقود مع الله، ومن أدق معاني العقود أن الله حينما أمرك بالعبادات هي عقود إيمانية، وحينما أمرك بالصدق هي عقود تعاملية، وحينما أمرك ببعض الأوامر الأخلاقية هي عقود أخلاقية، فأنت مكلف أن تفي بالعقود الإيمانية والعقود التعاملية والعقود الأخلاقية، وكل أمر في القرآن الكريم يعني عقداً بينك وبين الله ينبغي أن توفيه، وكل نهي في القرآن الكريم يعني عقداً بينك وبين الله ينبغي أن تبتعد عنه، وكل دعوة من الله -عزَّ وجلَّ- إلى عمل صالح هو عقد مع الله ينبغي أن تفعله، وقد قال الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ مَّن ذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُۜطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)﴾
أرأيتم إلى هذه الآية؟ كأن الله -سبحانه وتعالى- يقول: أقرضوني يا عبادي، أقرضني معالجة هر أصابه حادث ولا أحد يهتم به، إنك إن أخذت هذا الهر إلى طبيب بيطري وعالجته أقرضت هذا لله -عزَّ وجلَّ-، أقرض الله -عزَّ وجلَّ-عملاً صالحاً تبتغي به وجه الله -عزَّ وجلَّ، فيا أيها الإخوة ﴿أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ﴾ أي نفذوا هذه العقود، أما (أوفوا) هذا الفعل ثلاثي لكنه غير مستعمل كثيراً (وَفَى)، ورد منه اسم تفضيل على وزن أفعل.
الوفاء بالعهود والعقود من أرقى الصفات الأخلاقية:
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ ۚ يُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ وَٱلْقُرْءَانِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِ ۚ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِى بَايَعْتُم بِهِۦ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ (111)﴾
إلا أن الفعلين اللذين يستخدمان في اللغة فعل (وفّى) : ﴿وَإِبْرَٰهِيمَ ٱلَّذِى وَفَّىٰٓ﴾ ، وفعل (أوفى): ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ﴾ ، وما من صفة ترقى بالإنسان كالوفاء بالعهد والعقد، وما من صفة تحطمه وتلغي إنسانيته كأن يتنكر لعقوده ولوعوده، مرةً سمعت تصريحاً لمستشارة في دولة كبرى تقول: من يُلزمنا أن نفي بعهودنا ومواثيقنا، أنت حينما تشعر بقوتك وتلغي عهودك ومواثيقك أنت لا تنتمي إلى بني البشر، والوفاء بالعهد أو العقد من أرقى الصفات الأخلاقية، أذكر أن إنساناً عرض بيته للبيع فجاء من يشتريه بمبلغ، ولحكمة أرادها الله -عزَّ وجلَّ- بعد حين جاء من يدفع له 30% زيادة عن هذا المبلغ، فالذي اشترى البيت بلغه أن فلان عرض على صاحب البيت هذا المبلغ فأيقن يقيناً قطعياً أنه لن يبيعه البيت بحسب أخلاق الناس الآن، جاء وقت تنفيذ الوعد وكتابة العقد فذهب إليه ومعه المبلغ الأول، استقبله بترحاب وكُتب العقد ووقعه، وهو يعلم علم اليقين أن زيداً دفع له 30% من ثمن البيت، بعد أن وقع العقد ونقضه المبلغ، قال له: لي عندك سؤال، ألم يُعرَض عليك ثمن أعلى؟ قال: نعم، ولكني لا أبيع ديني، هكذا كان المسلمون يوفون بعهودهم ومواثيقهم وعندئذِ يرفعهم الله -عزَّ وجلَّ-، أما حينما نقلد التائهين والشاردين، ونتنكر لعقودنا ومواثيقنا ولا نعبأ بها بقي الدين اسماً والقرآن رسماً، وانتهى المسلمون وسقطوا من عين الله -عزَّ وجلَّ-، ولأن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض أهون من أن يسقط من عين الله، فإذا عقدت عقداً ينبغي أن تنفذه، وإذا عاهدت عهداً ينبغي أن تنفذه، وهذا يرفعك عند الله -عزَّ وجلَّ-، والدنيا تذهب وتأتي، ولكنك إذا سقطت من عين الله لن تستطيع أن تفعل شيئاً بعد ذلك يقربك من الله -عزَّ وجلَّ- إلا أن تتوب توبة نصوحة، وأن تعاهده ثانية على الوفاء بالعهد.
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ﴾ إذاً العقود هي بينك وبين الله، وقد توسع المفسرون بفهم كلمة العقد، فعبادات أُمرت بها كالصيام والصلاة والحج والزكاة هي عقود إيمانية أمرك الله بها، والأوامر والنواهي التعاملية أمرك الله بها كالصدق والأمانة والعفة والإنصاف والعدل والرحمة والعفو، وحينما تتخلق بأخلاق رسول الله هذه عهود أخلاقية أمرك الله بها، أنت مع عقود الله وعهوده، وأحياناً قد تبرم عقداً مع إنسان، هذا العقد مع الإنسان ينبغي أن تنفذه، لذلك المؤمن لا يتسرع بتوقيع العقد، أما إذا وقّع انتهى، وفي القضاء الإنسان مأخوذ بإقراره، "وهبتُك" وهَبتك انتهى الأمر، "أعطيتك" أعطيتك، "بعتك" بعتك، وكان السلف الصالح يتغنون بوفائهم للعقود، بينما الجيل المعاصر فيفتخر بأنه نقض عهده ولم ينفّذ هذا البيع، هذا الذي يرفع الإنسان عند الله العهد الذي بينك وبين الله، والعهد الذي بينك وبين الناس، وكلا العقدين واجب التنفيذ، وربنا -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿وَإِبْرَٰهِيمَ ٱلَّذِى وَفَّىٰ﴾ هو قدوة لنا، العقد يبدو غير معقول.
﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْىَ قَالَ يَٰبُنَىَّ إِنِّىٓ أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنِّىٓ أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِىٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ (102)﴾
ومع ذلك وضعه وتلّه للجبين، والله -جلّ- جلاله فداه بذبح عظيم، لكن بلغ أعلى مستوى يبلغه إنسان، وأنت حينما تفي بوعدك وتنفذ عهدك لك عند الله مقام كبير، وحينما تتنكر لعهدك وعقدك تسقط من عين الله، سمعت قصة أن امرأة خُطبت من شاب-هكذا سمعت- من شاب مؤمن يعمل مهندساً في بلد نفطي، وتمت الخطبة وعُقد العقد وانتهى كل شيء، وهناك رسائل واتصالات هاتفية بين الخاطب وبين مخطوبته، وهي زوجته بعد العقد، جاء من يخطبها وهو غني كبير، ماذا فعلت الأم؟ أمرت ابنتها أن تقطع اتصالها بخطيبها وزوجها، وأرسلت الهدايا إلى بيت أهل الخاطب، وكانت قطيعة بين الزوجة والزوج، وقيل له: لا بد من تطليقها لا نريدك، فلما رأى إصرارهم طلقها، أعطيت لهذا الخاطب الغني، ولحكمة أرادها الله -عزَّ وجلَّ- هذا الغني طلقها، ثم تزوجت ثالثاً وطلقها، وهي في هذا الوقت عانس تعيش مرارة العنوسة لأنها طمعت بالمال وكانت أداة بيد أمها، فالوفاء بالعهد والعقد صفة في الإنسان رفيعة، لا يعلم إلا الله كم لصاحبها من مكانة عند الله -عزَّ وجلَّ-، فالإنسان يعيش بسمعته، يعيش بأخلاقه، يعيش بدينه، عند الله محمود وعند الناس محمود، ومن ألطف ما فسره المفسرون لكلمة محمود: محمود عندك، أنت محمود عند نفسك، ومحمود عند الله، ومحمود عند الناس، إذا كنت وفياً بالعقود والعهود.
وقد سمعت قصة ثالثة فمفيد جداً أن نتابع هذا الموضوع، شابان كانا على مقعد دراسة واحد، الأول صار من كبار تجار البناء، والثاني بقي ذا دخل محدود، عنده دكان صغيرة يرتزق منها، لما كبرا الثاني الفقير أراد الزواج وليس عنده بيت، فذهب إلى صديقه الذي كان معه على مقعد الدراسة ورجاه أن يؤجره بيتاً من بيوته، فهو تاجر بناء كبير، قال له بلطف بالغ: والله أنا لا أؤجر البيوت أنا أبيعها فقط فاعذرني، ألح عليه ثانية فاعتذر، ألح عليه ثالثة فاعتذر، قال له مرة: عهداً لله إن أجّرتني بيتاً وجاء من يشتريه أسلمك إياه في يوم واحد، يبدو أن الصديق الثاني صدقه ورقت نفسه وأسكنه هذا البيت في أحد أرقى أحياء دمشق، وكانت أسعار البيوت متدنية جداً، بعد أربع سنوات جاء من يشتري البيت برقم فلكي- ارتفعت الأسعار- فجاء صاحب البيت وطرق باب صديقه المسلم- الأول غير مسلم-، قال له: أين عهدك؟ أنت وعدتني أن تخرج بيوم واحد، أنا أعطيك مهلة ستة أشهر، فما قولك؟ قال له: حاضر، بعد يوم واحد يفاجئ صاحب البيت أن هذا الصديق الذي استأجر بيته طرق الباب وقدم المفتاح، بعد يوم وقد منحه ستة أشهر!! لم يصدق، انطلق إلى البيت فإذا البيت في أعلى درجة، نظيف؛ كل الوسائل التي أعطاه إياها سليمة، فسأل -القصة دقيقة جداً -لما فتح الباب ودخل وخرج، فتح الجيران الباب وسألوه: كم دفعت له من المال حتى خرج؟ قال: والله ما دفعت له شيئاً، إلا أنه وعدني ووفى بوعده، قالوا: عجيب! باع كل أثاث بيته في سوق في الشام بأبخس الأثمان وسكن مع أهله في فندق، قال: هكذا؟! قالوا: والله هكذا، فذهب إليه، لأنه قال له: عهد الله علي أن أسلم البيت بعد يوم من طلبك إياه، هذا الرجل كّبُر عنده هذا العمل فهذا عمل بطولي، فالتقى به في الفندق وأقسم له بكل ما يؤمن أن يعود إلى البيت وقد باعه إياه بثمن البيت يوم سكنه، وبأبخس الأسعار، وأن كل الأجر الذي دفعه من ثمن البيت، والأثاث تكفل أن يؤثث له أثاثاً جديداً، هذه القصة وقعت في دمشق؛ هذا وفاء العهد، كان في دمشق أكثر من 700 ألف بيت مغلقة لا تُؤجر؛ لأن هناك أزمة ثقة بين الناس، يسكن البيت ويقسم بأبلغ الأيمان ثم يتحكم بالبيت ولا يعبأ بشيء ولا يخرج ولا بأية وسيلة، فالمشكلة أيها الإخوة بيننا مشكلة ثقة، فإذا كان المسلمون عند عهودهم ومواثيقهم والله تحل آلاف المشكلات، والله تحل كل المشكلات.
بلغني أنه في بلد غربي تقليد رائع لك مثلاً تعويض 10 آلاف وأنت بحاجة ماسة إليه، فتأتي إلى المحاسب وتوقع توقيعاً خاصاً اسمه (توقيع شرف) أن لك هذا المبلغ وتقبضه، والمعاملة تمشي على الرخاء؛ أي هذا التوقيع مقدس، إذا وقعته معنى ذلك أنك صادق 100%، تحل بهذا التوقيع كل المشكلات، أحياناً الإنسان يدفع ثمناً باهظاً كبيراً لتعقيد في المعاملات، أما إذا كان هناك صدق وأمانة والله الحياة مع الناس جنة، أما الآن من ضعف دين الناس، وضعف وفائهم بعقودهم وعهودهم ومواثيقهم، كل إنسان لغم لا تعرف متى ينفجر، فإذا ما وقعت ووثّقت وبكاتب العدل ومع ذلك تخضع لمحاكمة قد تطول عشر سنوات، مع التوثيق والشهود والعقود والعهود والتسجيل، الحياة مع المتفلتين جحيم لا يُطاق، والله في زحمة أزمة السكن الحادة التي ينتج عنها أن إنساناً سكن بيتاً لا يخرج منه مهما كلف الأمر، مهما كان ديّناً انتهى هذا البيت ملكه، أعرف رجلاً أعطى بيتين لمؤمنَين والقوانين كلها مع المستأجرَين، بعد سنتين طلب البيتين فأخذ البيتين بكلمة واحدة، أريد البيت "تفضل"؛ هذا العهد.
كم بيت فارغ قبل قانون الإيجار الأخير مغلق؟ 700 ألف بيت في دمشق مغلق لا تُعطى لأحد لأن هناك أزمة ثقة بين الناس، حينما قال الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ﴾ والله الذي لا إله إلا هو أنت حينما تفي بعهدك وتنفذ العقد الذي بينك وبين مسلم تشعر برضا الله -عزَّ وجلَّ-، لي جار هنا في الحي كان يحضر عندنا، له مكانة كبيرة، وله عمل رسمي بأعلى مستوى، انتهت مدة خدمته، محمي، موظف، يقول صاحب البيت طُرق بابه: هذا المفتاح جزاك الله خيراً، كاد توازن صاحب البيت يختل، معقول من دون سبب؟! من دون ثمن؟! من دون فروغ؟! من دون أن تستعصي بالبيت؟! أبداً، هذا بيتك، وهذا المفتاح، ولك الشكر.
المؤمن الحقيقي هو الوفي لوعوده وعقوده:
الحياة مع المؤمنين -والله- جنة أيها الإخوة؛ لأن المؤمن يفي بعهده ويحترم وعده، ووعد الحر دين، والوفاء بالعقد عمل عظيم، وتنفيذ العهد عمل عظيم، والله -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ﴾ الآن نوقع ألف عقد إذا الأسعار ارتفعت، كل هذه العقود تصبح باطلة، يقول لك: لا أنقل سند الملكية إلا بمئة ألف، "حسنًا ألم نتفق على السعر والبيت انتهى، لم تدفع شيئاً بعد ذلك"، يقول لك: ارتفعت الأسعار، إن لم تدفع لي مئة ألف لن أفعل، والله سمعت قصة -أنا أروي بعض القصص في هذا الدرس لأن الآية واحدة لكنها تحتاج إلى إغناء- إنسان أظنه صادقاً عند الله وأظنه شريفاً بنى بناء ضخماً جداً في أحد أحياء دمشق، والبناء يزيد عن مئة وحدة سكنية، وباع البيوت كلها قبل ثلاثة وعشرين عاماً، وهناك عقبات إدارية حالت بين صاحب هذا المشروع وبين تسجيل البيوت لأصحابها في السجلات الرسمية، هم ماذا ظنوا؟ ظنوا كبقية تجار العقارات أنه لا يسجل إلا بمبلغ كبير، لكن الفرق ما هو؟ بيت بيع بخمسة عشر ألف ليرة ثمنه الآن خمسة عشر مليون، قصة قديمة جداً كان الثمن رخيص جداً، هم توهموا وغلب على ظنهم أنه لا يسجل لهم إلا ليأخذ مبلغاً ضخماً، إنسان بيته بخمسة عشر مليوناً وجد أنه إذا دفع مليون وسجله هو الرابح، والله الذي عرض عليه هذا المبلغ أحد إخوتنا، وله بيتين لابنه بيت ولصهره بيت، عُرض على هذا الإنسان تقريباً مئة مليون كي يسجل هذا المشروع في الشهر العقاري، مباع من ثلاث وعشرين سنة ثمن البيت ارتفع مئة ضعف، فقال هذه الكلمة، قال: والله أنا ليس لي عندكم شيء، أنا بعتكم البيوت بأسعارها الصحيحة وربحت عليكم وليس لي عندكم شيء، وأنا حينما يتاح لي فرصة أسجلها لكم، إنسان ركل بقدمه مئة مليون؛ لأن هذا المبلغ ليس له حق فيه أبداً، باعهم وربح منهم وقبض الثمن كاملاً، هل تظن هذا الإنسان بطل؟ لا ليس بطلاً، هذا إنسان عادي وهو من إخوتنا لكن لأن العمل الصالح أصبح نادراً جداً والاستقامة نادرة جداً كأنه أصبح بطلاً، هو ليس بطلاً، لأنه قال: أنا ليس لي عندكم أي شيء، أنا بعتكم وقبضت الثمن وربحت عليكم وليس لي عندكم شيء، وبعد شهرين -فيما أعلم- سجل كل هذه البيوت لأصحابها بعد أن زالت العقبات؛ هذا هو المؤمن، وهناك مؤمنون معاصرون ينفذون عقودهم ومواثيقهم ولا يعبؤون بأي قرار، أحياناً القرار يحميك لكن من يحميك في القبر؟ في الحياة الدنيا هناك بعض القوانين تحمي بعض الناس، لكن من يحمي الإنسان في القبر؟ لمَ فعلت هذا؟!
إخواننا الكرام؛ أنا أتمنى دائماً أن تسأل نفسك إذا عملت عملاً هل هيأت لله جواباً لو سألك؟ أنا أقول لكم: البطل هو الذي يهيئ لله يوم القيامة جواباً عن كل عمل يعمله، قد تستطيع أن تتحكم بالآخرين لأن القوانين إلى جانبك، ولكن من يحميك من الله -عزَّ وجلَّ-؟ أنا لا أنسى كلمة قالها الحسن البصري لوالي البصرة حينما كان زائراً عنده، جاءه توجيه من يزيد بن معاوية ويبدو أن هذا التوجيه فيه ظلم شديد، فإذا نفذه أغضب الله -عزَّ وجلَّ-، وإذا لم ينفذه أغضب الخليفة وربما أزاحه من مكانه، وقع في حيرة شديدة، وكان عنده الحسن البصري، قال: يا إمام ماذا أفعل؟ قال كلمة والله أتمنى على كل واحد منكم أن يجعلها شعاراً له، قال له: إن الله يمنعك من يزيد، ولكن يزيد لا يمنعك من الله، أنت حينما تشعر أن القوانين إلى جانبك وساق الله لهذا الإنسان مرضاً خبيثاً ماذا يفعل؟ ما قيمة المال عندئذٍ؟! مرة كنت عند طبيب قلب وجاءه اتصال هاتفي وسمعت المكالمة، جهازه قديم صوته عال جداً، قال له: أي مبلغ ندفع وإلى أي مكان نذهب به، قال له: والله ليس هناك أمل السرطان من الدرجة الخامسة، لا أمل في شفائه، فإذا ساق الله للإنسان شدة وكان قد أخلف وعوده ومواثيقه، أناس كثيرون اغتصبوا شيئاً ليس لهم، ودخلوا مع أصحاب هذا البيت في محاكم لسنوات طويلة، ثم صدر حكم لصالحهم لأن القانون معهم، والله بعد الحكم بيومين وافته المنية، ولم يستمتع بالبيت، أحياناً الإنسان يعمل عملًا يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون، فأنا أتمنى عليكم - آية قصيرة جداً ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ﴾ - نفذ وعدك، نفذ عهدك حتى مع الصغير:
(( عن عبد الله بن عامر رضي الله عنه - قال: دعتني أمي يومًا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ما أردت أن تعطيه؟" قالت: أردت أن أعطيه تمرًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: أما إنك لو لم تعطيه شيئًا كتبت عليك كذبة ))
[ رواه أبو داود والبيهقي عن عبد الله بن عامر ]
لي قريب مقيم في أمريكا جاء زائراً قبل سنوات، له ابن صغير جداً، لعب كثيراً وشوّش على الناس كثيراً فقالت له جدته: اجلس حتى آخذك مساءً إلى مكان جميل، فجلس وسكت، وفي المساء وجد أن الأمر كذب فقال لها: أنت كاذبة، هذا الطفل الصغير، انتبه ولو طفل صغير إن وعدته ينبغي أن تفي له، أحد علماء الحديث جاء من المدينة إلى البصرة ليتلقى حديثاً من إنسان، رآه يرفع ثوبه ليوهم فرسه أن في ثوبه علفاً، فلما وصلت إليه قبض عليها وأرخى ثوبه، فعاد إلى المدينة: هذا الذي يكذب على الفرس لا يمكن أن آخذ منه حديثاً عن رسول الله.
أيها الإخوة؛ ما أتمنى إلا أن تنقلب هذه الآية، وأن تترجم إلى سلوك ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ﴾ نفّذ العقد لكن كن دقيقاً قبل كتابة العقد، أي بالتعبير التجاري شطارتك قبل العقد لا بعد العقد، كل شطارتك وذكائك قبل العقد، لكن بعد العقد بعدما وقعت انتهى كل شيء، لذلك العوام يقولون: ألف قلبة ولا غلبة، هؤلاء العوام الشياطين، أما المؤمنون ألف غلبة ولا قلبة.
الملف مدقق