- التربية الإسلامية
- /
- ٠9سبل الوصول وعلامات القبول
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
صلة الرحم :
أيها الأخوة الكرام، مع موضوعٍ جديد من موضوعات: "سبل الوصول وعلامات القبول"، ولعله من أبرز العبادات التعاملية إنه "صلة الرحم"، فقد قال الله عز وجل:
﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى ﴾
وقد قرنت هذه العبادة التعاملية بالصلاة والزكاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي أيوب الأنصاري أن رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال:
(( أخبرني بعمل يُدْخِلُني الجنَّةَ، ويباعدني من النار، فقال القوم: ما لَهُ؟ ما لَهُ؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أرَبَّ ما لَهُ؟ تعبدُ الله لا تُشْرك به شيئاً، وتقيمُ الصلاةَ وتُؤتي الزكاةَ، وتَصِلُ الرَّحِمَ ))
هذا قانون، وقد أُمرت الأمم قبلنا بصلة الرحم، فقال سبحانه:
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى ﴾
ودعا النبي صلى الله عليه وسلم في مطلع نبوته إلى صلة الرحم، فعن أبي أمامة قال:
(( كُنْتُ وأنا في الجاهلية أظُنُّ أنَّ الناس على ضلالة، وأنهم لَيْسُوا على شيء وهم يَعْبُدُون الأوثان، فسمعتُ برَجُل بمكةَ يُخْبِرُ أخْبارا، فَقَعَدْتُ على رَاحِلتي، فَقَدِمْتُ عليه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مُسْتَخْفِيا، حِرَاء، عليه قومه، فَتَلَطَّفتُ، حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنتَ؟ فقال: أنا نبي، فقلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله فقلت: فَبِأيِّ شيء [ أرسلك ]؟ قال: [ أرسلني ] بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يُوَحَّدَ الله ولا يشرك به شيء ))
صلة الرحم عبادة تحتل المركز الأول بعد العبادات الشعائرية :
تلاحظون أن هذه العبادة التعاملية تحتل أول مركز بعد العبادات الشعائرية، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يربط هذه العبادة بأن يكون الأرحام لهم مكانة، قال النبي الكريم:
((أوصاني خليلي بصلة الرحم وإن أدبرت ))
و:
((أَمَرَنِي رَبِّي بِتِسْع : خَشْيَةِ الله في السِّرِّ والعلانية ، وكلمة العدل في الغضب والرضى ، والقصد في الفقر والغنى، وأن أَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي، وأعطي مَنْ حَرَمَنِي، وأعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنِي، وأن يكون صَمْتي فِكْرا ، ونُطْقِي ذِكْرا، ونظري عبرة ))
أيها الأخوة، بل إن هذه العبادة التعاملية الأولى ربطت بالإيمان، فقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( وَمَن كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخر فليَصِل رَحِمَه ))
صلة الرحم عبادةٌ عظيمة من أخصّ العبادات :
أيها الأخوة، صلة الرحم عبادةٌ عظيمة من أخص العبادات، يقول عمر بن دينار: ما من خطوةٍ بعد الفريضة أعظم أجراً من خطوةٍ إلى ذي رحم، ثوابها معجلٌ في الدنيا، ونعيمٌ مدخرٌ في الآخرة، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
(( إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم ))
أعجل ثواباً في الدنيا قبل الآخرة، والقائم بحقوق ذوي القربى موعودٌ في الجنة، فقد قال عليه الصلاة والسلام:
((أصحاب الجنة ثلاثة ذو سلطان مصدق ومقسط موفق ))
إنسان قوي، عادل، مستقيم، موفق، محسن.
(( ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قُرْبَى ومسلم ، وعفيف مُتَعَفِّف ذو عيال ))
السخاء على الرحم له ثوابٌ مضاعفٌ من رب العالمين :
أيها الأخوة الكرام، أمر الله بالرأفة بالأرحام كما نرأف بالمساكين، قال عز وجل:
﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ﴾
وحق الرحم في البذل والعطاء مقدمٌ على اليتامى والمساكين، قال تعالى:
﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾
أيها الأخوة، السخاء على الرحم له ثوابٌ مضاعفٌ من رب العالمين، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم دققوا في هذا الحديث:
(( الصَّدَقَةُ على المسكينِ صَدَقة، وهي على ذي الرَّحمِ اثنتان: صدقة وصِلة ))
إن تفقدت ذوي رحمك لك أجران؛ أجر الصدقة مع أجر الصلة، وأول من يعطى من الصدقة هم الأقربون من ذوي المسكنة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول:
(( كان أبو طلحةَ أكثَرَ الأنصار مالا بالمدينة من نخل، وكان أحبَّ أمواله إِليه بَيْرُحاءَ - بستان جميل جداً وكانت مستقبلةَ المسجدِ - فكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدخُلُها، ويشربُ من ماء فيها طيِّب ، قال أنس: فلما نزلتْ هذه الآية: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ }
قام أبو طلحةَ إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، إِن الله تبارك وتعالى يقول: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وإِن أحبَّ مالي إِليَّ: بَيْرُحاءَ، وإِنَّها صدقة لله، أرجو بِرَّها وذُخْرَها عند الله فَضعْها يا رسولَ الله حيث أراكَ الله، قال: فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: بَخ، ذلك مال رابح ذلك مال رابح ))
بعضهم يقول: لما سمي المال مالاً؟ لأنه ليس لك ما لك، أما إذا أنفقته في سبيل الله فيصبح لك.
(( ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإِني أرى أن تجعلَها في الأقربين، فقال أبو طلحةَ: أفعلُ يا رسولَ الله، فقسمها أبو طلحةَ في أقاربه وبني عمه))
الباذل لأقربائه سخيُ النفس كريم الشيم :
أيها الأخوة، الباذل لأقربائه سخيُ النفس، كريم الشيم، يقول الشعبي -رحمه الله-: والله ما مات ذو قرابةٍ لي وعليه دين إلا وقضيت عنه دينه.
أحد أخواننا الكرام، له ابن عم أستاذ جامعي، توفي بمرض وبيل، فسأل أولاده أمامي أَعلى والدكم دين؟ قالوا: نعم، قال: هو عليّ، قال لي: تصورت عشرة آلاف، عشرين ألفاً، بعد عدة يوم سألهم، فقالوا: ثلاثمئة وخمسة وثمانين ألفاً، قال لي: والله دفعتها عداً ونقداً، أقسم لي بالله وقال: كان عندي بضاعةٌ كاسدة من سنوات طويلة بعتها بعد عدة أيام ونصيب أرباحي منها المبلغ نفسه.
فهذا الشعبي يقول: ما مات ذو قرابةٍ لي وعليه دين إلا وقضيت عنه دينه.
من هم الأرحام؟
من هم الأرحام؟ بشكل موضوعي الرحم الأولى رحم الدين، هي رحمٌ عامة تشمل جميع المسلمين، تتفاوت صلتهم بحسب قربهم وبعدهم من الدين، أو بحسب قربهم المكاني أو الزماني فيدل على ذلك قوله تعالى:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾
أي مؤمن هو أخوك في الدين بحسب مكانه، طبعاً الإنسان بالصين غير الإنسان بالشام، الذي في الشام أقرب إليك، بحسب المكان، والزمان، والقوة في الدين، لذلك قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾
الأخوة الإيمانية لجميع المسلمين، وقال تعالى:
﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ﴾
هنا الرحم العامة رحم الإيمان، أي كل أخ مؤمن له عليك حق.
النوع الثاني: رحم القرابة القريبة أو البعيدة من جهتي الأبوين، إذاً كل أقربائك القريبة والبعيدة من جهة الأبوين، أي من جهة والدك ومن جهة أمك.
صلة الرحم تدفع ميتة السوء :
أيها الأخوة، العلاقات بين الناس تزداد وثوقاً بالرحم، وقريبك لا يمَلّك على القرب، ولا ينساك في البعد، عزه عزٌ لك، وذله ذلٌ لك، قال القرطبي رحمه الله تعالى: اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبةٌ، وأن قطيعتها محرمة.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( إنه من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم وحسن الجوار وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار))
معنى يزيدان في الأعمار؛ هناك معنى شرحه العلماء قالوا: العمر لا يتبدل، لكن العمر يغتني بالعمل الصالح، أو يطول بالعمل الصالح، ويقصر بضعف العمل الصالح، أوضح مثل إنسان فتح محله التجاري ساعة باع بمليون، وإنسان فتحه اثنتي عشرة ساعة باع بمئة ليرة، فالزمن ليس له قيمة، القيمة لهذا المبلغ الذي باع فيه في هذا اليوم.
و عن أنسٍ رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(( إن الصدقَةَ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ ، وتَدْفَعُ مِيتَة السُّوءِ ))
والله مرة في طريقي إلى مكتبي وجدت إنساناً ملقى على الأرض مغطى بغطاء، مات لعله بسكتة دماغية في الطريق، هذا الساعة التاسعة صباحاً، الساعة الرابعة بعد الظهر هو هو، الطبيب لم يأتِ، إنسان يموت في الطريق، إنسان يموت في بيته بين أهله، فلذلك صلة الرحم تدفع ميتة السوء.
كيفية صلة الرحم العامة و الخاصة :
أيها الأخوة، أولاً: رحم الدين كيف نصلها؟ قال: بملازمة الإيمان، والمحبة للمؤمنين، ونصرتهم، والنصيحة لهم، وترك أذيتهم، والعدل بينهم، والإنصاف في معاملتهم، والقيام بحقوقهم الواجبة، كتمريض المرضى، ومواساة الفقراء من دون أن يمن عليهم، ونصرة المظلومين، وحقوق الموتى من غسلهم، والصلاة عليهم، ودفنهم، وغير ذلك من الحقوق المترتبة على أهل الإيمان، هذه الرحم العامة، الرحم الخاصة رحم القرابة، وتكون صلتها بزيارتهم، وتفقد أحوالهم، والسؤال عنهم، والإهداء إليهم، والتصدق على فقيرهم، والتلطف مع وجيههم وغنيهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتكون الصلة باستضافتهم، وحسن استقبالهم، وإعزازهم، ومشاركتهم في أفراحهم، ومواساتهم في أتراحهم، وتكون الصلة بالدعاء للأرحام، وسلامة الصدر لهم، والحرص على نصحهم، ودعوتهم للخير، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وإصلاح ذات البين إذا فسدت.
حدثني أخ قال لي: أنا أسكن ببيت، ثاني قبو تحت الأرض، شمالي، مساحته سبعون متراً، رطوبته عالية جداً، أولادي معهم أمراض كثيرة، قال لي: والله ما خطر في بالي شيء، إلا أنك حينما تحدثت عن صلة الرحم زرت أحد أقربائي، لم أجده فوضعت له بطاقة، يبدو أن هذا القريب رأى من الواجب أن يرد الزيارة، ردها بعد العيد، رأى بيتي بهذا الوضع، قال له: هذا البيت لا يُسكن، قال لي بمروءةٍ عجيبة وبحرصٍ على أولادي: ابحث عن بيت بمليوني ليرة، القصة قديمة، قال لي: والله الله أكرمني ببيت في الطابق الرابع، جنوبي، انتقلت إليه وحياتنا انقلبت رأساً على عقب بهذه الصلة.
صلة الرحم زيارة وتفقد ومساعدة وتوجيه :
الحقيقة هذه الصلة تعني أن القوي من الأقارب يعاون الضعيف، وأن الغني يعاون الفقير، وأن العالم يعاون الجاهل، أنا أتصور صلة الرحم عملية معقدة جداً، الناس اختصروها بزيارة مع بطاقة، ويتمنى ألا يجده، يضع البطاقة وانتهى الأمر، كأن هذه الصلة مسخت، أنا أتصور صلة الرحم أن تزوره، أن تتفقد شؤونه المعاشية، التربوية، الدينية، الاجتماعية، أن تمده بما تستطيع، من مال بأسلوب ذكي جداً، لطيف، مثلاً على المدارس هناك هدية معينة، على أول العام الدراسي هناك هدية معينة، في مواسم العبادة هناك هدية معينة، في الأعياد أن تمده بالمال، أن تمده بتعليم أولاده.
والله حضرت قبل يومين جمعية رائعة جداً، أي طالب متفوق لم يتح له أن يدرس في الجامعة، هذه الجمعية مختصة بالإنفاق عليه حتى التخرج، هذا شيء يفعله أهل الدنيا بأكملهم، طالب متفوق يجب أن يدرس.
فأنت حينما تتفقد من حولك المكافأة في الدنيا قبل الآخرة، أولاً: تكون هذه الصلة ببشاشةٍ عند اللقاء، ولينٍ في المعاملة، وطيبٍ في القول، وطلاقةٍ في الوجه، وزيارات، وصلات إحسانٍ إلى المحتاج، وبذلٍ للمعروف، تكون بنصحهم والنصح لهم، ومساندة مكروبهم، وعيادة مريضهم، والصفح عن عثراتهم، وترك مضرتهم، والمعنى الجامع لكل هذا إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر، هذه الصلة، الصلة زيارة، الصلة تفقد، الصلة مساعدة، الصلة توجيه.
والله سمعت عن أسرة في هذه البلدة الطيبة أنشؤوا شركة غير ربحية من أجل أن تهيئ فرص عمل للشباب الفقراء من هذه الأسرة، لها اجتماعات تعين الشباب، تبحث عن مستقبلهم، تبعثهم إلى الجامعات، من أروع الأُسر، أقامت جمعية خيرية من أجل مساعدة أفراد هذه الأسرة الكبيرة.
كل إنسان يتفقد أرحامه له من الله معاملة خاصة :
أيها الأخوة، إلا أن الأقارب يختلفون في أحوالهم، وطباعهم، ومنازلهم، منهم من يرضى بالقليل، تكفيه الزيارة السنوية، والمكالمة الهاتفية، منهم من لا يرضى بطلاقة الوجه، والصلة بالقول، منهم من يعفو عن حقه كاملاً ويلتمس المعاذير لأرحامه، ومنهم من لا يرضى إلا بالزيارة المستمرة والاهتمام الدائم، فمعاملتهم بهذا المقتضى، كل قريب له طبع، هذا القريب يكفيه بالسنة زيارة، هذا القريب يحتاج إلى زيارة دورية، هذا القريب دقيق جداً يحاسبك على الهمسة، هذا القريب متسامح.
على كلٍّ بشكل مختصر: تبدأ صلة الرحم بنوعٍ من الاتصال، قد يكون هاتفياً، قد يكون بريدياً، قد تكون زيارة، ثم تفقد الأحوال المعيشية والاجتماعية، ثم المساعدة بألطف أسلوب، ثم الأخذ بيد القريب وأهله إلى الله، وحملهم على طاعته والتقرب إليه، وهذا تاجٌ تتوج به الصلة، أي إذا تمكنت أن تأخذ بيد هذه الأسرة إلى الله، دعوتهم إلى مسجدك، اعتنيت بهم، تفقدت شؤونهم، أكرمتهم بهدايا:
(( يا داود ذكر عبادي بإحساني إليهم، فإن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها ))
والله بالواقع أعرف أناساً كثيرين يتمتعون بهذه العبادة التعاملية، والله عز وجل أكرمهم إكراماً لا حدود له، أخ كريم له خمس أخوات بنات، أزواجهن ليسوا أغنياء، هذه بحاجة إلى عملية جراحية على حسابه، هذه تريد مساعدة شهرية على حسابه، شيء عجيب جداً، كل إنسان يتفقد أرحامه له من الله معاملة خاصة.
الآن عندنا أقارب متعبون، حتى لو كان الأقارب من النوع المتعب الذي يقابل الإحسان بالإساءة لا يجوز أن تقاطعهم، لأنك تتعامل مع الله، طاعةً لأمره، والتزاماً بسنة نبيه، أي اصنع المعروف مع أهله ومع غير أهله، فإن أصبت أهله أصبت أهله، وإن لم تصب أهله فأنت أهله.
غض البصر عن الهفوات والعفو عن الزلات تجني الود والإخاء واللين والصفاء :
أيها الأخوة، الواقع أن ذوي الرحم غير معصومين، يتعرضون للزلل، ويقعون في الخلل، تصدر منهم الهفوات، يقعون في خطيئاتٍ كبيرات، فإن بدر منهم شيءٌ من ذلك فالزم جانب العفو معهم، فإن العفو من شيم المحسنين، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزة، وقابل إساءتهم بالإحسان إليهم، واقبل عذر معتذرهم، ولك في النبي الكريم يوسف القدوة والأُسوة، فقد فعل أخوة يوسف مع يوسف ما فعلوا، وضعوه في الجب ليموت، أي قتلة، وعندما اعتذروا قَبِل عذرهم، وصفح عنهم الصفح الجميل، ولم يوبخهم بل دعا لهم وقال:
﴿ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾
هناك ملمح دقيق في الآية، قال:
﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ﴾
لم يقل من الجب، إن قال: إن أخرجني من الجب ذكرهم بخطيئتهم، تجاهل خطيئتهم قال:
﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ﴾
لم يصف أنهم أعداء، قال: نزغ الشيطان بيننا، هذا تلطف عال جداً، الأنبياء مثل عليا.
حق الرحم :
أيها الأخوة، إذاً غض البصر عن الهفوات، والعفو عن الزلات، وإقالة العثرات تجني الود، والإخاء، واللين، والصفاء، وتتحقق فيك الشهامة، والوفاء، وداوم على هذه الصلة ولو قطعوا، وبادر بالمغفرة ولو أخطؤوا، وأحسن إليهم ولو أساؤوا، ودع عنك محاسبة الأقربين، ولا تجعل عتابك لهم سبباً لبعدهم عنك، وكن جواد النفس، كريم العطاء، وجانب الشح فإنه من أسباب القطيعة.
وعن عبد الله بن عمرو قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
(( وإياكم والشح فإنما أهلك من كان قبلكم الشح أمرهم بالقطيعة فقطعوا أرحامهم، وأمرهم بالفجور ففجروا وأمرهم بالبخل فبخلوا ))
قيل لأحدهم ما حق الرحم؟ قال: تستقبل إذا أقبلت، وتتبع إذا أدبرت، أي ليس الواصل بالمكافئ، زارني أزوره، دعاني إلى وليمة أدعوه إلى وليمة، هذا نمط الغرب، أما عند المسلمين فأصله ولو قطعني، أصله ولو جافاني.
(( أَمَرَنِي رَبِّي بِتِسْع: خَشْيَةِ الله في السِّرِّ والعلانية، وكلمة العدل في الغضب والرضى، والقصد في الفقر والغنى، وأن أَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي، وأعطي مَنْ حَرَمَنِي، وأعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنِي، وأن يكون صَمْتي فِكْرا، ونُطْقِي ذِكْرا، ونظري عبرة، وآمرُ بالعُرْف ))
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي الكريم:
(( يا رسولَ الله، إِن لي قرابة، أصلِهُم ويقطعونني، وأُحْسِن إِليهم ويُسيئُون إِليَّ وأحلُم عنهم، ويجهلون عليَّ؟ قال: لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهُم الملَّ - التراب - ولن يزال معك من الله ظهير عليهم ما دُمتَ على ذلك ))
أيها الأخوة، هذا بعض ما في هذه الصلة، وهذه العبادة التعاملية الأولى بعد العبادات الشعائرية، أسأل الله سبحانه وتعالى أن تترجم هذه النصوص والحقائق إلى سلوك يومي.