- التربية الإسلامية
- /
- ٠9سبل الوصول وعلامات القبول
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
التبتل بطولة كبيرة جداً وهو الانقطاع إلى الله بالكلية :
أيها الأخوة الكرام، لا زلنا في موضوعٍ يتصل أشد الاتصال بـ :"سبل الوصول وعلامات القبول" وهو موضوع "التبتل".
هناك مقدمةٌ قصيرة تبين أن الإنسان ينبغي ألا يكتفي بالرخص، ينبغي أن يكون من حينٍ إلى آخر بطلاً، أضرب على هذا مثلاً: مسيلمة الكذاب قبض على صحابيين جليلين، قال للأول: أتشهد أني رسول الله؟ قال: ما سمعت شيئاً، فقطع رأسه، وقال للثاني: أتشهد أني رسول الله؟ قال: أشهد أنك رسول الله، ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام عنهما؟ قال: أما الأول فقد أعز دين الله فأعزه الله، المفاجأة تقييم النبي للثاني، قال: وأما الثاني فقد قبل رخصة الله.
فالله عز وجل رحمة بنا ما كلفنا فوق ما نستطيع، الأول أعز دين الله فأعزه الله، كان بطلاً، والثاني قبل رخصة الله عز وجل، لكن لو أن كل الذين وقعوا في موقفٍ حرج أخذوا بالرخص لأُلغيت البطولات في العالم.
أصحاب الأخدود كان بإمكانهم أن يقولوا: أنت إلهنا ومعهم رخصة، وماشطة بنت فرعون حينما قال لها: أتشهدي أن لك رباً غيري، قالت له: الله ربي وربك، وضع ولدها الأول في زيتٍ مغلي، والثاني، والثالث، والرابع، والخامس، ثم وضعها، لو ألغينا البطولات لأصبح التاريخ باهتاً.
فلذلك هناك رخص، لكن لابد من أن تكون من حينٍ إلى آخر بطلاً، أي بالتعبير الآخر في كل موضوع مستوى عال جداً، ومستوى مقبول، الآن حتى في الجامعة هناك امتياز، ومقبول، المقبول ناجح، أما الامتياز فمتفوق، فالإنسان لِمَ لا يطمح أحياناً أن يكون في موضوعٍ ما بطلاً؟ فالتبتل بطولة كبيرة جداً، التبتل الانقطاع إلى الله بالكلية.
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
الإنسان حينما يكون متبتلاً ينفذ أمر الله عز وجل :
ذكرت من قبل أن موضوعات سبل الوصول منها ما علاقته بهذه السلسلة من الدروس علاقة سلبية كالشرك والنفاق، ومن هذه الموضوعات ما له علاقة إيجابية، ومن هذه الموضوعات ما له علاقة متميزة، فأنت حينما تكون متبتلاً تنفذ أمر الله عز وجل، وقد بينت من قبل أن كل أمرٍ يقتضي الوجوب.
﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾
للتقريب كلما كثرت ساعات الإقبال وقلت ساعات الغفلة فأنت اقتربت من البطولة كثيراً، كلما كثرت ساعات الصحوة، ساعات التألق، ساعات الإقبال، ساعات البذل والتضحية، لماذا أنت في الدنيا تحب أن تحمل أعلى شهادة؟ وأن ترتقي إلى أعلى منصب؟ وأن تجمع أكبر ثروة ؟ وأن تكون التاجر الأول أو الأستاذ الأول أو الطبيب الأول أو المهندس الأول؟ لماذا في الدنيا وهي فانية؟ والموت ينهي كل شيء، ينهي قدرة القدير، ينهي وسامة الوسيم، دمامة الدميم، قوة القوي، ضعف الضعيف، صحة الصحيح، مرض المريض، غنى الغني، فقر الفقير، الموت ينهي كل شيء، لِمَ في هذه الدنيا الفانية التي هي بضعة أيام تحب أن تكون في أعلى منصب؟ وأن تقتني أجمل بيت؟ وأن تتزوج بأجمل امرأة لماذا؟ لماذا تحب التفوق في الدنيا ولا تحب أن تكون علماً من أعلام الآخرة؟.
فلذلك ما الذي يمنع أن أكون الأول؟ لِمَ هذا الرضا بالدون؟ وراء الباب، لِمَ لا تكون في الفردوس الأعلى؟ والأمر بيدك؟ أي الطموح في الدين ضعيف، أما الطموح في الدنيا فكبير جداً.
الإنسان ينبغي أن يعبد الله وحده ويخلص له وحده ويعتمد عليه وحده :
لذلك التبتل الانقطاع إلى الله بالكلية، أما قول الله عز وجل:
﴿ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ﴾
دعوة الحق له وحده، بمعنى أن الإنسان ينبغي أن يعبده وحده، وأن يخلص له وحده، وأن يقبل عليه وحده، وأن يعتمد عليه وحده، وأن يتوكل عليه وحده، وأن يرجوه وحده، وأن يخافه وحده
﴿ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ﴾
لأنه:
﴿َ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ﴾
أهلٌ أن تُفني عمرك من أجله، أهلٌ أن تعطيه كل شيء، لذلك لا تنسى هذه الآيات:
﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾
أنت لي.
(( خلقت ما في الكون لأجلك فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك ))
الناس عند الله زمرتان لا ثالث لهما :
أيها الأخوة:
﴿ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ﴾
له وحده العبادة، والدعاء قال تعالى:
﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾
هذا من التبتل، لكن هناك واواً يظنها بعض العلماء واو عطفٍ هي في الحقيقة واو استئناف، لأن هؤلاء زمرة.
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾
هناك زمرة:
﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾
هذا هو التبتل.
وهناك زمرة درجة ثانية، الدرجة مقبول
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ﴾
فالواو ليست عاطفة الواو استئنافية، انتهى الكلام الأول بدأنا بكلامٍ جديد:
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾
تفاوت الناس في مواقفهم :
أيها الأخوة، ورد في الأثر أنه: "من أحبنا أحببناه، ومن طلب منا أعطيناه، ومن اكتفى بنا عما لنا كنا له وما لنا"، أي الواقع أن هناك أناساً كثيرين يستقيمون كي يُنعم الله عليهم بالصحة، وبالزواج الناجح، وبالدخل الكبير، استقامتهم مقبولة لكنها معلولة، استقام ليربح، استقام ليستريح، استقام ليعلو شأنه بين الناس، استقام لتنجح تجارته، هذه استقامة مقبولة وعلى العين والرأس لكنها معلولة، أما هناك أناسٌ يعبدون الله عز وجل لأنه أهلٌ للعبادة.
مرة وقع تحت يدي دراسة حول استبيان، سألوا ألف زوج لماذا لا تخون زوجتك؟ فجاءت الإجابات وصنفت تصنيفاً أخلاقياً، الدرجة الدنيا من هذه الإجابات لا أستطيع لأنها معه في المحل التجاري، وفي البيت، الوقت كله مغطى بها، قال: لا أستطيع، يتمنى لكن ولا يستطيع، الدرجة الأعلى قال: لا أتحمل الشعور بالذنب أعلى، أما الدرجة الأعلى والأعلى لا أحب الخيانة.
المواقف تتفاوت، هناك إنسان يستقيم همه أن يربح في تجارته، استقامته مقبولة ومعلولة، لكن هناك أشخاص:
﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً ﴾
نزه طاعته عن المكاسب الدنيوية.
هم الأحبة إن جاروا وإن عدلوا فليس لي عنهمُ معدلٌ وإن عدلوا
والله وإن فتتوا في حبهم كبدي باقٍ علـى حبهم راضٍ بما فعلوا
* * *
أي الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين.
الحب منزه عن المصالح :
أيها الأخوة، كان عليه الصلاة والسلام يصلي الليل حتى تتورم قدماه، تقول له السيدة عائشة رضي الله عنها:
(( لم تصنعُ هذا يا رسول الله وقد غُفِرَ لكَ ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال : أَفلا أُحِبُّ أن أَكُونَ عبداً شكوراً؟))
أيها الأخوة، أضرب مثلاً: إنسان له صديق غني، كلما زاره أطعمه، أخذه إلى مكان جميل، أنفق عليه، قدم له الهدايا باستمرار، فهذا الغني مرةً جاءه صديقه فلم يقدم له شيئاً، وجاءه ثانيةً فلم يأخذه إلى مكانٍ جميل، وجاءه ثالثةً فلم يطعمه فتركه، إذاً هذا الود من هذا الصديق المنتفع معلول بعطاء هذا الغني، فلما توقف العطاء تركه، أما هناك إنسان فيحب إنساناً ضيفه أو لم يضيفه، أعطاه أو لم يعطه، هذا الحب منزه عن المصالح.
أحياناً للتوضيح إنسان يستقيم لعلة، فربنا عز وجل ليرفع مقامه وليؤدبه على الرغم من استقامته لا يحقق له الله ما يصبو إليه، فإذا ثبت يكون قد نجح في الامتحان.
التبتل هو الانقطاع لله عز وجل، أن يعبد وحده، يدعى وحده، يقصد وحده، يُشكر وحده، يحمد وحده، يحب وحده، يرجى وحده، يُخاف وحده، يُتوكل عليه وحده، يُستعان به وحده، يُستجار به وحده،
﴿ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ﴾
كلما وضحت حكمة الأمر يضعف الجانب التعبدي في هذا الأمر :
الآن: كلما وضحت حكمة الأمر يضعف في هذا الأمر الجانب التعبدي، وكلما غابت حكمة الأمر تعلو القيمة التعبدية، مثلاً: أبٌ أعطى ابنه توجيهاً: أن يا بني لا تنم حتى تنظف أسنانك واضح، يا بني ادرس واضح، كل أوامر الأب مؤداها لمصلحة ابنه، والأمر واضح جداً، فطاعة هذا الابن في هذه التوجيهات تضعف قيمتها لأنها في النهاية لصالحه، لكن تصور الابن جائع جداً، والطعام نفيس, والطعام لأبيه، فقال له الأب: يا بني لا تأكل، الأمر صعب تفسيره، قال: الطعام لأبي وأنا ابنه، وأنا جائع، والطعام حلال، وأنا لست مريضاً، لماذا لا آكل؟ فإذا قال هذا الابن بأدبٍ جم: سمعاً وطاعةً، الآن تكون المحبة في أعلى مستوى، والتقدير بأعلى مستوى.
فكل واحد منا أحياناً تأتيه مصيبة صعب تفسيرها، مستقيم، مطيع لله، يؤدي العبادات، يدفع الصدقات، تأتيه مصيبة، هذه المصيبة ليمتحن الله عبوديته فقط.
سيدنا إبراهيم هو الأول من الأنبياء لأنه في أعلى درجات العبودية والتوكل على الله :
من هو الأول من الأنبياء؟ سيدنا إبراهيم، اذبح ابنك صعب أن تُفهم، من ابنه؟ شقي؟ لا، نبي، ابنه نبي، بلغ معه السعي، كأن هذا الأمر يعطي هذا النبي الكريم أعلى درجات العبودية والتوكل.
﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ﴾
أعلى امتحان فيما أتصور بتاريخ البشرية أن يقال لنبي ٍكريم هو أبو الأنبياء : اذبح ابنك.
﴿ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾
قال:
﴿ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ﴾
﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾
نجح بالامتحان.
أحياناً توضع في ظرف صعب جداً، وتقف موقفاً بطولياً جداً، ثم ربنا عز وجل يصرف عنك هذه المغامرة والمخاطرة، لكنك نجحت عند الله.
قصص عن بطولات عالية جداً :
أحياناً الإنسان لو كان مستقيماً، لو كان متألقاً، لو كان يؤدي العبادات، قد يأتي امتحان لامتحان عبوديته لله، نحن في هذين اللقاءين الحديث عن بطولات عالية جداً، الحديث عن مستوى رفيع من مستويات الإيمان، الحديث عن درجة عالية جداً من الانقطاع لله عز وجل.
السيدة عائشة حينما اتهمها بعضهم بأثمن ما تملكه امرأة، بعفتها، وتأخر الوحي أربعين يوماً، والنبي عليه الصلاة والسلام ليس معه دليل إثبات، ولا دليل نفي، ثم نزلت تبرئتها من الله عز وجل وكان أبوها عندها.
(( فقال لها أُبوها: قُومِي إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقُلْت: لا واللّه لا أقومُ إليه، ولا أحْمَد إلا اللّه ))
على مسمع من النبي الكريم فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال:
(( عرفت الحق بأهله ))
التوحيد أعلى درجة:
(( قُومِي إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقُلْت: لا واللّه لا أقومُ إليه ولا أحْمَد إلا اللّه))
هناك قصة تكاد لا تصدق، أن النبي خطب امرأةً لتكون زوجته، هل هناك من أنثى في تاريخ البشرية لا تطمح أن تكون زوجة سيد الأنبياء والمرسلين؟ اعتذرت، سألها: لِمَ؟ قالت : يا رسول الله لي خمسة أولاد، أخاف إن قمت بحقك أن أقصر بحقهم ، وأخاف إن قمت بحقهم أن أقصر بحقك، هذا التوحيد من أعلى مستوى، اعتذرت عن أن تكون زوجة رسول الله خوفاً من أن تحاسب عن أبنائها، ما هذه التربية؟.
سيدنا الصديق، أنا لا أتصور أن هناك اثنين على وجه الأرض يحب أحدهما الآخر حباً يفوق حدّ الخيال كالنبي الكريم و أبي بكر، فلما انتقل النبي إلى الرفيق الأعلى يقول سيدنا الصديق:
(( فَمَنْ كان منكم يَعْبُدُ محمداً ـ بلا لقب ـ فَإنَّ محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فَإنَّ اللهَ حَيٌّ لا يموتُ ))
ما هذا التوحيد؟ ما هذا التنزيه؟.
سيدنا عمر عزل سيدنا خالداً، قال له: لِمَ عزلتني؟ قال له: والله إني أحبك، قال له: لِمَ عزلتني؟ قال له: والله إني أحبك، قالها ثالثةً: لِمَ عزلتني؟ قال: والله إني أحبك وما عزلتك يا بن الوليد إلا مخافة أن يفتتن الناس بك لكثرة ما أبليت في سبيل الله، كان الصحابة الكرام في أعلى درجة من التوحيد، خاف على إيمان الناس أن يتوهموا أن الناصر هو خالد، الناصر هو الله فعزله وبقي النصر مستمراً.
الله عز وجل يغار على عبده المؤمن أن يتجه إلى غيره :
أيها الأخوة، أنت حينما تعبده، وتوحده، وتنقطع إليه، وتؤثره على كل شيء، تحتل عند الله مرتبةً، هذه المرتبة تنفعك إلى أبد الآبدين.
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾
والله عز وجل من أجل أن يرقى بك أحياناً تتعلق بشيء مما سوى الله، فالحكمة بالغة بالغة، ومن أجل أن يؤدبك تأديباً لطيفاً، هذه الجهة التي اعتمدت عليها يلهمها الله أن تقف موقفاً غير معقولٍ منك، يكون لك صديق حميم، صديق العمر، تسلم منصباً رفيعاً، فهذا الصديق يطمئن صديقه الثاني و يقول له: إن صديقي فلان يتمنى لي خدمة فينسى الله، ويذهب إليه واضعاً كل الأمل فيه، فيقف موقفاً متجهماً يصعق له، هذا التجهم من إلهام الله عز وجل لأن الله يغار على عبده المؤمن أن يتجه إلى غيره.
وطّن نفسك إذا تعلقت بشيء، والله أخٌ كريم له دخل كبير أحب ابنه حباً يفوق حدّ الخيال يقترب من الجنون، أرسله إلى بلاد بعيدة، وأنفق عليه، واشترى له بيتاً في الشام بعشرات الملايين، فإذا بهذا الابن ينسى أباه ويتزوج ويقيم إقامةً دائمةً، ويضن على أبيه باتصال هاتفي، حينما تتعلق بغير الله الله يؤدبك، لذلك:
(( لو كنتُ متخذا من أُمَّتي خليلا لاتَّخذتُ أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي في الله))
نصيحةٌ لوجه الله، أحب زوجتك، أحب أولادك، أحب من حولك، ولكن لا تعتمد عليهم، اعتمد على الله وحده، ضع ثقتك بالله، ضع آمالك في الله، علق أهمية على رضاء الله عنك فقط.
رجل له قريب مدير مكتب السلطان عبد الحميد، افتقر، فذهب إليه على نية أن يبحث له عن عمل كوظيفة، فاستقبله قريبه، وأقام عنده مدة طويلة، يقول هذا القريب: كلما وضع كتاب التعيين لا يوقعه السلطان لثلاثين يوماً، يبدو أن القريب على علم بالله، فعلم أن قريبه متعلقٌ به ونسي الله عز وجل، أعطى توجيهاً لأحد الخدم أن يتجهم به، ثلاثون يوماً يكفي، الزيارة ثلاثة أيام، فهذا المسكين خرج من بيت قريبه هائماً على وجهه يبكي، قال له: اتبعه، انظر أي مكان ذهب، فذهب إلى بعض الخانات - الفنادق قديماً- قدم الطلب ووقعه السلطان فاستدعاه، قال له: ثلاثون يوماً وأنت معتمد عليّ، فلما خرجت من البيت مكسوراً اعتمدت على الله فوقع لك.
أحياناً إنسان يعتمد على الله، في توفيق، أحياناً يضع أمله بإنسان، هذا الإنسان الذي وضعت فيه كل أملك هو الذي سيخيب ظنك، هذا تأديب من الله لأن هذا شرك خفي.
أيها الأخوة:
لا تسألــن بني آدم حاجةً وسل الــذي أبوابه لا تغلقُ
الله يغضبُ إن تركت سؤاله وبني آدم حين يُسأل يغضبُ
* * *
على العبد ألا يخافن إلا ذنبه ولا يرجون إلا ربه :
أيها الأخوة الكرام، حديثٌ جامعٌ مانع موجز قصير:
((لا يخافن أحد منكم إلا ذنبه، ولا يرجون إلا ربه))
هناك قوى شريرة بالأرض، هناك طغاة، هناك وحوش، هناك كائنات مؤذية، هناك عداوات.
((لا يخافن أحد منكم إلا ذنبه))
كلهم بأزمةٍ محكمةٍ بيد الله، أو كلهم عصيٍ بيد الله، إياك أن تقع في ذنب لئلا يسمح الله لأحدهم أن يصل إليك، والآية الكريمة:
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾