وضع داكن
28-03-2024
Logo
آيات الأحكام - الدرس : 14 - آية التوجه إلى الكعبة ، البقرة 142-144
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهمّ لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنَّك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علِّمنا ما ينفعنا، وانْفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علمًا، وأرِنا الحقّ حقًا وارزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجْتِنابه، واجْعلنا مِمَن يستمعون القَوْل فيتَّبِعون أحْسَنَهُ، وأدْخِلنا بِرَحمتِكَ في عبادك الصالحين.

الآية التالية تُشير إلى إعجاز القرآن الكريم :

 أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الرابع عشر من دروس: "آيات الأحكام"، والآية اليوم هي: آية التَّوجّه إلى الكعبة في الصلاة، هناك حقائق كثيرة، وأحكام فقهيّة كثيرة، وحِكَمٌ بالغة تُستنبط من هذه الآية.
 ربّنا عز وجل يقول:

﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾

[ سورة البقرة: 142 ]

 الحقيقة هذه الآية وحدها تُشير إلى إعجاز القرآن الكريم، هؤلاء السفهاء لم يتكلّموا بعد وقد وُصفوا أنَّهم سفهاء، فلو أنّهم سكتوا ولم يتكلَّموا لأبْطلوا هذا الكلام، وأبْطلوا كلام الله عز وجل من أجل أنْ نعْلمَ أنَّ الله سبحانه وتعالى إرادتهُ طليقة، ولا شيء يحكمه، فهؤلاء السفهاء مخيَّرون، ولكن مع هذه الآية سلبَ اخْتِيارهم، الذي يُعْطي يأخذ، هم مُخَيَّرون، لو فكَّروا قليلاً أنّهم وُصِفوا سفهاء، وسفهاء لأنَّهم سيَقُولون ما ولاَّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فإذا فكَّروا قليلاً وسكتوا، ولم يتكلَّموا أبْطَلوا هذه الآية، وهذا دليل أنَّ الله سبحانه وتعالى مالكُ كلّ شيء، إن أعطاك الاختيار فَبِمَشيئته، وفي أيَّة لحظةٍ يسْلُبُه منك، لذا وردَ في الحديث الشريف أنَّ الله تعالى إن أراد إنفاذ أمْرٍ أخذ من كلّ ذي لبّ لبَّهُ! يُشبِهُ هذه الآية قول الله عز وجل:

﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ*مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ*سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ*وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ*فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾

[ سورة المسد: 1-5 ]

 لو أنَّ أبا لهبٍ ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام بِمَوقفٍ تمثيلي وأعْلَنَ إسْلامه وشهد أن لا إله إلا الله لأبْطَلَ سورةً بأكملها، يُسْتنبط من هذه الآية، ومن هذه السورة أنَّ الإنسان إن كان مُخَيَّرًا فإن الله تعالى شاء له أن يكون ذا مشيئةٍ، وفي أيَّةٍ لحظةٍ يسْلبُ منه هذه المشيئة ويغدو في قبضة الله عز وجل.

إن خصّ الله شيئاً بِخَصيصة أصبح مقدَّساً :

 قال تعالى:

﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾

[ سورة البقرة: 142 ]

 هناك معنى دقيق هنا، لا يوجد شيء في الأرض مُقدَّس إلى ذاته، مُقدَّس إذا أشار الله إليه، أو إذا رفعَهُ الله، لِطَبيعةٍ فيه هو مقدَّس؟ لا، لكن لأنّ الله تعالى اتَّخَذ الكعبة بيتًا له، واتَّخَذ البيت الحرام بيتًا له، صار هذا البيت مقدَّسًا، فالذي يتَّخذ هذا البيت الحرام بيتًا له، ويأمر نبيَّهُ أن يتوجَّه نحو بيت المقدس، قال تعالى:

﴿ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾

[ سورة البقرة: 142 ]

 إذاً الشرق له، والشمال له، والغرب له، والمغرب له، والأمكنة كلّها له، وكذا الأزمنة، فالشيء المقدَّس لذاته لا يوجد، أما هناك شيء مقدَّس لغيره فالله عز وجل خصَّ هذا الشيء بِخَصيصة فصار مقدَّسًا.

أدب النبي صلى الله عليه و سلم :

 قال تعالى:

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾

[ سورة البقرة: 143 ]

 قد نرى تقلبّ وجهك في السماء" من شدَّة أدب النبي عليه الصلاة والسلام اسْتحيا أن يسأل الله أن يتوجَّه إلى بيت الله الحرام، ولكنّ وجهه كان يتقلّب في السماء، ويتمنَّى أن يتَّجه إلى بيت الله الحرام قبلة سيّدنا إبراهيم، قال تعالى:

﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة البقرة: 144 ]

من لطائف التفسير لهذه الآية :

1 ـ الله عز وجل يعلمُ ما سيَكُون عِلْم كشْفٍ لا علم جَبْرٍ :

 أيها الأخوة الكرام، من لطائف التفسير لهذه الآية، طبعًا سيقول السفهاء من الناس هذا يدلّ على علْم الله، الله عز وجل يعلمُ ما سيَكُون عِلْم كشْفٍ لا علم جَبْرٍ.
 والشيء الآخر؛ أيَّة فائدةٍ تُستفاد أنَّ الله تعالى أخبرنا عن قول السفهاء؟ أوَّلاً: إخبارهُ لنا يبيِّنُ لنا أنَّ الله تعالى علمَ ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وشيءٌ آخر هو أنَّ وَقْعَ هذا التكذيب يكون مُخَفَّفًا إذا أخبرنا الله به من قبل.

2 ـ الأمكنة أمكنة الله والشيء المقدَّس هو الذي يخصّهُ الله بِخَاصَّة :

 اللَّطيفة الثانيَة، ذكرتها قبل قليل؛ وهي أنَّ كلّ الأمكنة لله عز وجل، وأنَّ الأرض الله، وأنّ البلاد بلاد الله، وأنَّ الأمكنة أمكنة الله، وأنَّ الشيء المقدَّس هو الذي يخصّهُ الله بِخَاصَّة، أما شيءٌ مقدَّسٌ لذاته ولِخَصائص فيه؛ فهذا شيءٌ لا يقبلهُ العقل، ولا تقوم به حجَّة.

3 ـ الإسلام في أصله وسَطِيّ :

 النقطة الثالثة في هذه الآية، قوله تعالى:

﴿ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾

[ سورة البقرة: 143 ]

 الوسطيَّة هي الكمال، والوسَطِيَّة هي الاعتدال، والكمال وسط بين طرفين، والفضيلة وسَطٌ بين نقيضين، فالتَّهَوّر نقيصة، والجبْن نقيصة، والشجاعة بينهما، إتلاف المال نقيصة، وإمساك المال نقيصة، والكرم بينهما، والخوف القاتل نقيصة، والطمأنينة الساذجة نقيصة، وبينهما رجاء مغفرة الله، وخشيَة عذابه، لو درسْت كلّ مكارم الأخلاق لوجدْت كلّ فضيلة هي وسطٌ بين طرفين، بل إنّ الإسلام في أصله وسَطِيّ؛ في عقيدته وفي منهجه، أقرّ أنَّ الإنسان لحْمٌ ودم وروح، فَلَبَّى حاجات روحِهِ، ولبَّى حاجات جسده، أقرّ أنّ الإنسان يعيش في الدنيا وقد خُلِقَ للآخرة، فكان من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: "اللهمّ أصْلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا"، فالإسلام في عقيدته، في منهجه، في تشريعه وسطٌ.
 المرأة، سمحَ لك أن تتزوَّج، هناك أنظمةٌ وَضْعِيَّة تُحرِّم النساء! وهناك أنظمةٌ وضْعِيَّة تُبيح النساء كلهنّ، كلاهما موقف متطرّف، فأنت لك أن تتزوَّج امرأة وهي زوجتك ومنها أولادك أما الفوضى الجنسيّة فهي مرْفوضة، وهذا التَّبتّل غير المعقول مرفوض.
 في كسْب المال، أمرك أن تكسب المال الحلال، وما حرَّم عليك كسب المال مطلقًا لكن حرَّم عليك كسْب المال الحرام.

الله جلّ جلاله لِكرامة هذه الأمّة عنده جعلها متوسِّطة بينه وبين خلقه :

 قال تعالى:

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾

[ سورة البقرة: 143 ]

 بعضهم قال: أمّة وسطًا أيْ من الوَساطَة، أيْ الله جلّ جلاله لِكرامة هذه الأمّة عند الله جل جلاله جعلها متوسِّطة بينه وبين خلقه، فالله جلّ جلاله كلّف هذه الأمَّة أن تنشر الحق، لذلك أيها الأخوة كلّ مسلم يسْعى لِنَشْر الهدى يُحقّق وسَطِيَّة هذه الأمّة، وكلّ مسلك يسْعى لإطفاء نور الله عز وجل يُناقض وسَطِيَّة هذه الأمَّة، فأنت كإنسان من هذه الأمَّة يجب أن تكون وسيطًا بين الله وبين خلقِه، وإنَّ من أعظم الأعمال على الإطلاق أن تكون سببًا في هداية الخلق.
 أيضًا المسلمون في دينهم القويم لم يقتلوا أنبياء الله، كما أنّهم لم يؤلِّهوهم فهذا بحث يطول، وتُكْتبُ عن مجلَّدات ؛ وسَطِيَّةُ الإسلام، والعالم اليوم سيَعُود مقْهورًا إلى الإسلام، سيَعُود إلى الإسلام لا تعبُّدًا، ولكنَّهُ حينما تطرَّف دفعَ الثَّمَن باهظًا فعاد إلى الوَسَطِيَّة والاعتدال.

4 ـ ربُّنا عز وجل أمرَ النبي أن يتوجَّه إلى بيت المقدس لِيَعْلمَ من يتَّبع الرسول :

 اللَّطيفة التي تلي ذلك قوله تعالى:

﴿ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾

[ سورة البقرة: 143 ]

 أحيانًا يتمسَّك الإنسان بالمظاهر وينسى اللّبّ، فالعرب في الحجاز يرغبون أن يتوجَّهوا إلى البيت الحرام، فجاء الأمر الإلهي بالتَّوَجُّه إلى البيت المقدس! لماذا؟ هذا الأمر جاء لِيَعْلمَ الله من يتَّبع الرسول، أي أنت مُتَمَسِّك بماذا؟ متمسِّك بِجِهة؟ بمكان؟ بشيء مادِّي؟ أم مُتمسِّك بالله عز وجل؟ وهذا الذي يأْبى أن ينْصاع لأمر الله عز وجل، ويتمسَّك بِتَقاليد ما أنزلَ الله بها من سلطان، هذا وثَني!! أنت عبْد لله، وأيّ شيءٍ جاءك عن الله عز وجل ينبغي أن تقبلهُ، وينبغي أن تعتقد أنّ الله تعالى حكيمٌ حِكمةً بالغة، فموضوع القِبْلة العرَب يتمنَّوْن مِلَّة أبيهم إبراهيم، يتمنَّون ويطْمحون أن يتَّجهوا إلى بيت الله الحرام، ولكنّ الله عز وجل أراد أن يمتحنهم، وهذه العمليّة اسمها فرْز علمي، من هو المتمسّك بالمكان وبالأوثان وبالأحجار؟ ومن هو المتمسّك بِطاعة الواحد الدَّيان؟ فربُّنا عز وجل أمرَ النبي أن يتوجَّه إلى بيت المقدس، وهو يعلم بعد حين سيَسْمح أن يتوجَّه إلى البيت الحرام، قال تعالى:

﴿ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾

[ سورة البقرة: 143 ]

5 ـ العلم باللّغة هو الرؤية :

 وهناك لطيفة بلاغيَّة، وهي أنَّ العلم باللّغة هو الرؤية، والرؤية تعني العلم هكذا قال بعض العلماء، قال تعالى:

﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾

[ سورة الفيل : 1]

 أنت لم ترهم، ولكنَّك علِمْتَ قصَّتهم من إخبار الله تعالى، فقد يستخدم القرآن كلمة الرؤية للعلم، أو كلمة العلم للرؤية، فقوله تعالى:

﴿ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾

[ سورة البقرة: 144 ]

 أي إلا لِنَرى من يتَّبع الرسول ممَّن ينقلب على عقِبَيْه، وهناك تفسير آخر وهو وجيهٌ جدًّاً، وهو أنّك إذا سمِعْت إخبار الله لك يجب أن تأخذ هذا الإخبار وكأنَّك تراه أمامك رأْيَ العَيْن، يجب أن تستقبل إخبار الله أنت كمؤمن وكأنَّك تراهُ رأْيَ العين، فالعرب كانت تضعُ العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم.

6 ـ الله تعالى عالم بالأشياء كلّها قبل وُقوعها :

 شيءٌ آخر، الله تعالى عالم بالأشياء كلّها قبل وُقوعها، وإنّما تأويل الآية:

﴿ إِلَّا لِنَعْلَمَ ﴾

[ سورة البقرة: 144 ]

 أيْ لِيَعْلم رسولي وأوليائي، وهنا ضُربَ مثلٌ لطيف، قال: شأن العرب إضافة أتباع الرئيس إلى الرئيس، تقول: فتحَ عمر سواد العراق، عمر في المدينة مُقيم‍! فمن فتحَ العراق؟ جيش عمر، فأتباع عمر، يمكن أن تقول: فتح عمر العراق، يمكن أن تقول: جبا خراجها، هذا على لغة العرب، فإذا أردنا أن نطبّق هذه القاعدة على هذه الآية، قال تعالى:

﴿ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ﴾

[ سورة البقرة: 144 ]

 أي إلا ليعْلم رسولي وأوليائي من يتَّبعُ الرسول، لأنّ الله يعلم، ولكن نريد أن نعلم نحن، فأحيانًا يكون إنسان بِنَفسه شَهوَة خفيَّة غير ظاهرة، في ظاهره صلاح واسْتِقامة، هذه الشَّهْوَة الخفيَّة التي ينْطَوي عليها يعلمها الله وحدهُ، والله جلّ جلاله لا يحتاج أن يعلم ما في نفس هذا الإنسان لأنَّه يعلم فلماذا يكشفها؟ لماذا يضعُ الله جلّ جلاله هذا الإنسان في ظرْف صعْبٍ يكشف حقيقتهُ؟ هو أنَّ الله يعلم، ولكنَّه يريدُ أن يُعْلم هذا المخلوق، وهذا الإنسان، وهذا المؤمن المتوهِّم أنَّه على خِلاف ما يكون، هو يريد أن يُعْلم من حولهُ، فالله عز وجل غنيّ عن أن يعلم لأنَّه يعلم، ولكنَّه إذا كشف الإنسان فلِيُعْلِمَ الإنسان لِيُعالِجَهُ في الدنيا قبل أن يموت، فربّنا عز وجل يعلمُ السرّ وأخفى، ويعلم ما تُسرُّه، ويعلم ما يخفى عليك.

من هو المتنطّع ؟

 أما في كلمة:

﴿ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾

 الإنسان أحيانًا ينتكسُ انْتِكاسةً كبيرة، حينما ينقلبُ على عقِبَيْه، أرْجو الله سبحانه وتعالى أن أضعَ بين أيديكم هذه الحقيقة؛ النبي عليه الصلاة والسلام قال:

((هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون...))

[ مسلم عن ابن مسعود]

 " من هو المتنطّع؟ الذي يُحَمِّل نفسه ما لا يطيق، إذا حمَّلْت نفسكَ ما لا تطيق ثمَّ أُصبْتَ بِنَكْسةٍ حادّة فأنت المسؤول، فلذلك الإنسان يجب أن يطبّق سنَّة النبي بِحَذافيرها، أما أن يحرِّم على نفسِهِ ما ليس محرَّمًا عليه فهذا تنطّع، وهذا مبالغة، وخروج عن منهج الله عز وجل، لك حاجات مادِّيَّة يجب أن تعمل وتُخطِّط لِمُستقبلٍ مريح، أما أن تنطلق في حبّ الله، ولا تخطِّط شيئًا لِمُسْتقبلك، ثمَّ تُفاجأ أنّك وحْدك محروم من كلّ شيء، وأنّ كلَّ مَن حوْلكَ في عيشة راضِيَة، ربَّما أُصِبْت بِنَكْسةٍ حادَّة خَسِرْت كلّ تعبك الماضي، فإنَّ الله لا يملّ حتى تملُّوا، افْعلوا ما تستطيعون، هلك المتنطِّعون هلك المتنطِّعون، إنَّ المنبتّ لا أرضاً انقطع، ولا ظهْرًا أبقى، يجب أن تمشي باعتدال، ووفْق سنَّة النبي، وسنَّة النبي عليه الصلاة والسلام توصِلُكَ إلى أعلى مستوى، ولسْتَ أكثر خشوعًا من النبي صلى الله عليه وسلّم، مستحيل، ولسْتَ أكثر ورعًا، ولا حرصًا من النبي عليه الصلاة والسلام، والقصَّة معروفة لديكم لما أحد التابعين أراد أن يُحْرم من مكان أبْعد من المكان الذي أحرمَ منه النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له أحد الأصحاب: لا تفعل! فقال: وماذا عليّ؟ فقال: تُفْتن!! قال: كيف أُفْتن؟ فقال: أيّ فِتْنة أشدّ من أن ترى نفسك سبقْت رسول الله! لا تعمل عملاً يزيد عن سنّة النبي، إذا فعلْتَ عملاً يزيد عن سنّة النبي ربّما أُصبْت بِنَكسةٍ خطيرة، إنسانٌ يزْهد في الدنيا فلا يعمل، ويزْهد في الزواج فلا يتزوّج، يزْهد في تأمين حاجاته فَيُحْرم، فهذا الإنسان الآن جيّد، ولكن ما أدْراك أنَّه سَيُصابُ بِنَكْسةٍ خطيرة جدًّاً، فَكُنْ معْتَدِلاً ووَسَطِيًّاً، ومتَّبِعًا لأثر النبي صلى الله عليه وسلّم، فالذي يقْفو أثر النبي لا يخطئ، والذي يقفو أثر النبي لا ينتكس، والذي يقفو أثر النبي لا يُصاب بِخَيْبة أمل، فأنت يجب أن تدرس، لو قلتَ: الدراسة مضيعة للوقت، وأنا مشْغول في حبّ الله، جيّد هذا الكلام، ولكن هل تُطيق أن ترى بعد حين كلَّ مَنْ حوْلك في مراتب علِيَّة، وأنت وحْدكَ دونهم جميعًا، قد يأتي الشيطان ويقول لك: هذا هو الدِّين جعلكَ في مؤخِّرة الرَّكْب!! يجب أن تكون في المستوى الذي يليق بك، أن تكون في الوضع الذي يناسبك، هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون، وهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام:

(( إنَّ المنبتّ لا أرضاً انقطع، ولا ظهْرًا أبقى))

[ البيهقي عن جابر بن عبد الله]

 إنسان واحد ولا يوجد غيرهُ سمحَ له النبي أن ينفق كلّ ماله وهو سيّدنا الصِّديق أما سيّدنا عمر فما أخذ إلا نصْف ماله رحمةً به.

الجُهود عند الله تعالى محفوظة :

 أنا سبحانه الله مع هذه الآية أتحسَّر، فأتمنَّى أن يكون خطَّك البياني صاعِداً صعوداً مسْتمرًّاً، أما أنَّ هذه الحالة فلا تعجبني؛ صُعود حادّ، وهبوك وسقوط مريع! هذا يحْصل من عدم التوازن، ومن اختلال التوازن، أما أنت كمُؤمن ينبغي أن تصعَد صعودًا مستمرًّاً متوازنًا إلى ما شاء الله، حتى الموت نقطة على هذا الخطّ، وهذا كما قال تعالى:

﴿ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾

[ سورة البقرة: 144 ]

 أحيانًا يقول لك أحدهم: أنا فقط لا أُصلّي!! الصلاة عماد الدِّين من أقامها فقد أقام الدِّين، ومن هدمها فقد هدم الدِّين، لا خيْرَ في دينٍ لا صلاة فيه، وهي سيّدة القربات، وغرَّة الطاعات، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض والسموات. فربّنا عز وجل يقول:

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾

[ سورة البقرة: 144 ]

 ما علاقة هذه الآية بمناسبتها؟ بعض الصحابة تساءلوا؛ هذا الذي مات قبل أن يصلّي نحو الكعبة؛ ما حالهُ مع الله؟ جاء الجواب: حاله جيّد جدًّاً، هذا الإيمان، طاعته للنبي إيمان، صلاته باتِّجاه بيت المقدس إيمان، وقد وافتْهُ المنيَّة قبل أن يتَّجه إلى البيت الحرام، وهذا قد نستنبط منه شيئًا لطيفًا جدًّاً، أنت لو فرضْنا أنَّك كنت في طريق معيَّن ثمّ غيَّرْت هذا الطريق جهْدك في الطريق الأوَّل محفوظ عند الله عز وجل لا يُنتقصُ منه شيء، لأنَّك كنت وقتها في طاعة الله، والآن أنت في طاعة الله، فالجُهود عند الله تعالى محفوظة، قال تعالى:

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾

[ سورة البقرة: 144 ]

الصلاة إيمان والإيمان صلاة :

 القرآن الكريم دقيق جدًّاً، سمَّى الصلاة هنا إيمانًا، معناه الصلاة إيمان، والإيمان صلاة، فإيمان من دون صلاة كلام فارغ، وإيمان من دون صلاة ثقافة، إيمان من دون صلاة تعصّب، أما الإيمان فمن لوازمه الاتِّصال، لأنّ الصلاة هي الفرْض الوحيد الذي لا يُلْغى أبدًا، فالشهادة مرَّة واحدة، والصِّيام يسقط عند المرض والسَّفر، والحجّ يسقط عند المرض والفقْر، والزكاة تسقط عند الفقر، والشهادة تؤدَّى مرَّةً واحدة، والفرْض المتكَرِّر الذي لا يسقط بِحال هو الصلاة، ولا خير في دين لا صلاة فيه، والصلاة عماد الدِّين، من أقامها فقد أقام الدّين، ومن تركها فقد هدم الدِّين، فلِعَظمة الصلاة وأهمِّيَتها كان عليه الصلاة والسلام يقول:

((...وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ))

[ أخرجه النسائي وأحمد عَنْ أَنَسٍ ]

 وكان يقول:

((يَا بِلاَلُ أَقِمْ الصَّلَاةَ، أَرِحْنَا بِهَا))

[ أخرجه أبو داود وأحمد عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ ]

 وتقول السيّدة عائشة: "كان النبي عليه الصلاة والسلام يحدِّثنا ونحدِّثهُ فإذا دخل وقت الصلاة فكأنَّه لا يعرفنا ولا نعرفهُ!!"
 وهذه هي الصلاة التي أرادها الله عز وجل، فالإنسان صلاته إيمانه، وإيمانه صلاته، فصلاة الصحابة الكرام إلى بيت المقدس هل يُعقل أن تضيع عليهم فضائلها؟ لا لأنَّ صلاتهم طاعة لِرَسول الله صلى الله عليه وسلّم، إذًا اتَّّفقَ العلماء كما قال الإمام القرطبي على أنَّها نزلَت فيمن مات وهو يصلّي إلى بيت المقدس، لما روِيَ عن ابن عباس أنَّه قال:
 لمّا وُجِّه النبي صلى الله عليه وسلّم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلّون إلى بيت المقدس فأنزل الله سبحانه وتعالى: وما كان الله ليُضيع إيمانكم،
 فسمَّى الصلاة إيمانًا لاشتمالها على نيَّة وقَوْلٍ وعمل.

القواعد تُسْتنبط من القرآن الكريم :

 الحقيقة هناك نقطة باللّغة دقيقة، نحن نعلم أنَّ قد للتقليل مع المضارع، وقد للتحقيق مع الماضي، فلان قد ينجح، احتمال نجاحه قليل، أما فلان قد نجَح، فمؤكَّد، لكنَّ القواعد تُسْتنبط من القرآن، فالعلماء قالوا: قد نرى قد هذه تفيد التكثير لا التقليل، ولأدب النبي عليه الصلاة والسلام مع ربّه اسْتحيا أن يسأله التوجُّه إلى البيت الحرام، كان ينظر إلى السماء، وهذا يعني أنّ الله تعالى يعلم ما تنطوي عليه، يعلمُ خواطرك ومشاعرك، ويعلمُ طموحاتك، وما يدور في خلدك، إذًا قد تفيد التكثير هنا كما قال العلماء.
 وقد من معانيها أنَّها تقلب المضارع ماضيًا، كيف أنَّ كلمة لاَم الأمر تقلب المضارع أمرًا، قال تعالى:

﴿ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾

[ سورة الحج: 29 ]

 لام أمر، وكيف أنَّ لْم تقلب المضارع إلى ماض، تقول: فلان لمْ يكتب لمْ ينجح أي ما نجَحَ، فلَمْ تقلب المضارع إلى ماض، ولام الأمر تقلب المضارع إلى الأمر، وقد تقلب المضارع إلى الماضي، أيْ قد رأيْنا تقلّب وجهك كثيرًا في السماء كلمة تقلّب فيها شدَّة، والشدّة تفيد التكثير، مثلاً كسَرَ تعني أصبحَ هذا الكأس قطعتين، أما كسَّرَ فهي تعني أنّه جاء بِمِطرقة وجعلهُ مئة ألف قطعة، فَكَسَرَ غير كسَّرَ، وغَلَقَ الباب غير غلَّقَ الباب، وقطعَ اللَّحم غير قطَّعَ اللَّحم، وقلَب وجهه غير قلَّبَ وجهه، فالتَّقلّب كثير وهناك معنى المبالغة هذه الشدَّة تفيد التَّكرار.

أعلى فهْمٍ لكلام الله عز وجل هو فهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم :

 كيف علِمَ النبي عليه الصلاة والسلام أنَّ الطواف حوْل الكعبة سبعة أشواط؟ قال تعالى:

﴿ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾

[ سورة الحج: 29 ]

 بالمناسبة يجب أن تعلموا أنَّ أعلى فهْمٍ على الإطلاق لكلام الله عز وجل هو فهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وابن القيّم رحمه الله يقول: "إنَّ أعلى علْم أنْ تكتشف كيف استنبط النبي هذا الحكم من أية آية" النبي عليه الصلاة والسلام قرأ القرآن وقال السنَّة، تقريبًا من دون تمحيص ستّمئة حديث، هذه السنّة في رأي بعض العلماء هي فهْم النبي صلى الله عليه وسلّم لِكِتاب الله، بعضهم قال: لمَ لمْ يفسِّر النبي كلام الله؟ سنَّتهُ كلّها تفسير لِكَلام الله، حتَّى إنّ بعض العلماء يقولون إذا جاء الكتاب مع الحِكمة فالكتاب هو القرآن والحكمة هي السنَّة.

الله عز وجل عبَّرَ عن الكعبة بالمسجد الحرام إشارةً إلى مراعاة الجهة دون العَين :

 الشيء الآخر؛ ربّنا عز وجل عبَّرَ عن الكعبة بالمسجد الحرام إشارةً لطيفةً إلى أنّ الواجب مراعاة الجهة دون العَين، هنا عندنا مشكلة، فهناك أشخاص متنطِّعون، وهناك أشخاص شكليّون، يقول لك: الصلاة باطلة في هذا المسجد‍! لو جاء مهندس طبوغرافي، ورسم الزوايا، وأخذ جدار المسجد قبْلةً، وصمَّمَهُ على سمت الكعبة، لكانت هناك درجتان أو ثلاث عن الكعبة إذًا الصلاة باطلة، وهذا يحدث، حدَّثني أخ كان بأمريكا: أن الكبير والكبير جدًّاً الذي يمزِّق الأمَّة المسلمة هناك هو أنّه يمكن أن تتوجَّه من هذه الجهة هكذا، أو من هذه الجهة هكذا، والخلاف مشتعل بين هؤلاء.
 الله عز وجل عبَّرَ عن الكعبة بالمسجد الحرام إشارةً لطيفةً إلى أنّ الواجب مراعاة الجهة دون العَين، فإذا قلت: هذا المسجد يجب أن يكون هذا الحائط قبلة، مطابقًا على خطّ متعامِدٍ مع جداره القبلي، واصلٌ إلى عَين الكعبة، لن تجد في الأرض كلّها مسجداً على هذه الطريقة، فالمتنطِّعون، والشَّكليُّون، والذين يُحبُّون إثارة الفِتَن يقولون: لا تصحّ الصَّلاة بهذه المساجد، لأنَّ التَّوَجُّه للكعبة غير صحيح، لكنّ العلماء بعد قليل ترَوْن على أنّ القبلة جهة وليس نقطة، فإن كانت القبلة جهة، فكلّ المساجد صحيحة، وكلّ التَّصْميمات صحيحة، فهذه إشارة في القرآن الكريم، قال تعالى:

﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾

[ سورة البقرة: 144 ]

 ما قال لك: شطر الكعبة، فالتَّوَجّه إلى المسجد أصبح جهةً، قال تعالى:

﴿ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾

[ سورة البقرة: 144 ]

 أما خطاب القرآن الكريم للنبي وحده، قال تعالى:

﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ ﴾

[ سورة البقرة: 144 ]

 مع أنّ الخطاب لأمَّته جميعًا، قال: هذا له معنى دقيق؛ أوَّلاً: تعظيم للنبي عليه الصلاة والسلام، وثانيًا: تنفيذ لرَغبَتِهِ، وثالثًا لتَقْتَدِيَ أمَّته به من بعده.

معنى المسجد الحرام في القرآن :

1 ـ المسجد الحرام أي الكعبة :

 الآن نقفُ وقفةً متأنِّيَة عند: معنى المسجد الحرام في القرآن، المعنى الأوّل؛ المسجد الحرام أي الكعبة لقوله تعالى:

﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾

[ سورة البقرة: 144 ]

 أي جهة الكعبة، لا إلى عَيْنِها.

2 ـ المسجد الحرام هو المسجد الحرام كلّه :

 والمعنى الثاني؛ المسجد الحرام هو المسجد الحرام كلّه، فالذي حجّ أو اعتمر، هذه المساحة المحاطة بِجِدار، وفيها المآذن، والمسعى، والمطاف، هذا كلّه المسجد الحرام، هذا المعنى الثاني، ويؤكّد هذا المعنى قول النبي عليه الصلاة والسلام:

(( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام..."

[رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة]

 وفي حديث آخر:

(( لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى))

[البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]

 فالمعنى الأوّل المسجد الحرام الكعبة، والمعنى الثاني المسجد الحرام أي المسجد الحرام.

3 ـ المسجد الحرام أي الحرَم :

 المعنى الثالث؛ المسجد الحرام أي الحرَم، الذي عنده كُتيِّبات عن مناسك الحجّ هناك رسْم بالمسجد الحرام، يبدأ من ينْبع، وينتهي بالجعرانة، أي أماكن الإحرام المنطقة أو الخطّ الذي مرّ بأماكن الإحرام هي الحرم، عندك كعبة، ومسجد حرام، وحرَم، فالحرم خطّ يمرّ بِكُلّ أماكن الإحرام في هذه البلاد المقدّسة، وهذا المكان اسمه الحرم.

4 ـ مكَّة المكرَّمة بِأكملها هي المسجد الحرام :

 المعنى الرابع مكَّة المكرَّمة بِأكملها هي المسجد الحرام، والدليل:

﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾

[ سورة الإسراء : 1]

5 ـ المواقيت :

 المعنى الخامس، المواقيت، الحرم المحدّد بالمواقيت، إذًا من الكعبة إلى المسجد إلى مكَّة إلى المواقيت، في القرآن الكريم وفي السنّة ذِكْر المسجد الحرام يعني هذه الأشياء كلّها.

استقبال القبلة فرْض من فروض الصلاة لا تصِحّ الصلاة بدونها :

 الآن السؤال الدقيق؛ هل يجب استقبال عَيْن الكعبة أم يُكتفى باستقبال جهتها؟ وأقول لكم: هذا موضع خلاف كبير بين المسلمين، وهذا لِتَخَلُّفهم يختلفوا على هذه الموضوعات، هل يجب استقبال عَيْن الكعبة أم يُكتفى باستقبال جهتها؟ استقبال القبلة فرْض من فروض الصلاة، لا تصِحّ الصلاة بدونها إلا ما جاء في صلاة الخوف والفزع، ومن صلاة النافلة على الدابة أو السفينة، ومن صلاة المريض، فقبلة المريض جهة راحته، وقبلة المسافر جهة دابَّته، وقبلة الخائف جهة أمْنِهِ، وهذه حالات استثنائيَّة، وما سِوى هذه الحالات القبلة نحو الكعبة، فكان عليه الصلاة والسلام يُصلِّي على راحلته حيثما توجَّهَتْ به، وفيها نزلَ قوله تعالى:

﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾

[ سورة البقرة: 115 ]

 أما الخلاف هل الواجب استقبال عَين الكعبة أم جهتها؟ ذهب الشافعيَّة والحنابلة إلى أنَّ الواجب استقبال عَين الكعبة، وذهب المالكيَّة والأحناف إلى أنَّ الواجب استقبال جهة الكعبة، ولمّا أضعُ بين أيديكم الأدلّة ينشأ عند المؤمن ما يُسمَّى بالفكر الفقهي.

أدلَّة الشافعيَّة والحنابلة الذين قالوا بِوُجوب استقبال عَين الكعبة :

 أدلَّة الشافعيَّة والحنابلة، الذين قالوا بِوُجوب استقبال عَين الكعبة، أوَّل دليل قول الله عز وجل:

﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾

[ سورة البقرة: 144 ]

 وجْه الاستدلال أنَّ المُراد من الشَّطر الجهة المُحاذِيَة للمصلّي، والواقعة في سمته، فثَبَتَ أنَّ استقبال عَين الكعبة واجب، هذا أوّل دليل، وأما في السنّة ففيما رُوِي عن أسامة بن زيْد أنَّه قال: "لمَّا دخل النبي البيت دعا في نواحيه كلّها، ولمْ يُصلّ حتى خرج منه، فلمَّا خرجَ صلَّى ركعتين في قِبَل الكعبة، وقال: هذه القبلة، فهذه الكلمة تفيد الحصر، فثبتَ أنَّه لا قبلة إلا عَين الكعبة، وأما القياس فأنّ مبالغة النبي في تعظيم الكعبة أمْرٌ بلغَ مَبْلغ التواتر، والصلاة من أعظم شعائر الدِّين، وتوقيف صِحَّتها على استقبال عَين الكعبة يوجِبُ مزيد الشَّرَف، فوَجَب أن يكون مشروعًا، وقالوا أيضًا: كَون الكعبة عَينُ القبلة أمْرٌ مقطوعٌ به، وكوْنُ غيرها قبلة أمْرٌ مشْكوك فيه، ورعاية الاحتياط في الصلاة أمْرٌ واجب، فوَجَب توقيف صحَّة الصَّلاة على استقبال عَين الكعبة، هذه حجَّة من الكتاب والسنَّة، ومن فِعْل النبي عليه الصلاة والسلام والقياس، هذه أدلَّة الشافعِيَّة والحنابلة.

 

أدلَّة المالكِيَّة والأحناف :

 الآن أدلَّة المالكِيَّة والأحناف، أما الكتاب فظاهر في قوله تعالى:

﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾

[ سورة البقرة: 144 ]

 ولمْ يقل شطْر الكعبة، فإنَّ من استقبل الجانب الذي فيه المسجد فقد أتى بما أمر الله سواء أصاب عَين الكعبة أم لا، توجَّهْت نحو المسجد، وهو كبير جدًّاً، يُشكِّل خطًّاً وجهةً فأيّ مسجد في الأرض ولو اختلف درجتين أو ثلاث إذا حسبْنا على جهة الكعبة فلا مشكلة.

البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم :

 وأما السنَّة فقَوْل النبي الكريم:

((ما بين المشرق والمغرب قبلة))

[ ابن كثير عن أبي هريرة]

 فمعنى القبلة خط تمتدّ من الشرق إلى الغرب، ففي أيّ مكان أنت في العالم إذا اتَّجهت نحو هذا الخطّ؛ نحْوَ الجنوب فقد اتَّجَهْت إلى الكعبة، كلام لطيف، وهناك حديث آخر:

((البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرَم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها و مغاربها))

[ ابن كثير عن ابن عباس]

 منطقة الحرَم كلّها منطقة كبيرة جدًّاً، طولها مئة وأربعون كيلو متراً، بين حدود المدينة المنوَّرة وحدود جدَّة، إلى حدود الجنوب، وإلى الشمال، منطقة على شكل إجَّاصة، كلّ هذه المنطقة هي جهة القبلة، وهكذا قال النبي، فبناء الكعبة قبلة لأهل المسجد، طبعًا ثابتٌ إذا كنت في المسجد، في الحرَم يجب أن تتَّجِه إلى عَين الكعبة، كلّ إنسان حجَّ أو اعْتمر، يجد خطوطاً زرقاء منْحَنِيَة في كلّ الحَرم، من أجل أن تقف باتِّجاه الكعبة تمامًا، فإذا كنت داخل المسجد الحرام يجب أن تتَّجه نحو عين الكعبة، فالبيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم كلّه قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمَّتي، وهذا القول قويّ جدًّاً.

رَوْعة الإسلام أنَّ كلّ المسلمين متوحِّدون يتَّجهون جميعًا في صلاتهم إلى بيت واحد :

 قال: وأما عمل الصحابة فهو أنَّ أهل مسجد قِباء - دقِّقوا في ورع أصحاب رسول الله - كانوا في صلاة الصبح بالمدينة مستقبلين البيت المقدس، مستدبرين الكعبة، المدينة بالشمال، فإذا اتَّجهوا نحو البيت المقدس اسْتقبلوا البيت المقدس، واسْتدْبروا الكعبة، وهذا اسمهُ مسجد القبلتين، والقبلتين متعاكستين، سمعْتُ مجدَّداً ألْغَوا قبلة المسجد الأقصى فيجب أن يصلِّي الإنسان مرَّةً هنا، ومرَّةً هنا وهذا خلاف السنَّة، فلكي لا يقع أحد الإشكال ألْغَوا القبلة في اتّجاه المسجد الأقصى، فقال: كان بعض الصحابة بالمدينة في صلاة الصبح مستقبلين بيت المقدس مستدبرين الكعبة فقيل لهم: إنَّ القبلة قدّ حُوِّلَت إلى الكعبة وهم في الصلاة، فاسْتداروا وهم في الصلاة مئة وثمانين درجة، من غير طلب دلالة، ولمْ يُنْكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلّم، فهل يستطيعون من غير بوصلة، ومن دون إحداثيات، ومن دون علم طوبوغرافيا أن يتوجَّهوا إلى عين الكعبة ؟ مستحيلٌ هذا! فتوجَّهوا نحو الجنوب اجْتهادًا، قال: النبي ما أنكر عليهم ذلك، وسُمِّيَ مسجدهم بِمَسْجد القبلتين، ومعرفة الكعبة لا تُعرف إلا بأدلَّة هندسيّة يطول النَّظر فيها، أما الآن فأُطمئنكم والحمد لله، إدارة المساحة صنَعَت خارطة للقبلة، أيّ مسجد في أيّ مكان في بلادنا يأتي خبراء من هذه الإدارة، ويضعون خطًا يتَّجه إلى عَين الكعبة احْتِياطًا، وبيوت الله الحديثة جدًّاً، قبلتها على مستوى الدَّرجات! وهذا شيء جديد والخارطة عندي، خارطة سَمْت الكعبة، فأيّ مسجد ينشأ الآن بإشارة من إدارة المساحة يأتي خبير، ويرسم الخطّ الذي يتَّجِه سَمْتهُ إلى عين الكعبة احتياطًا، فكيف أدركوها في عَين الصلاة؟ وفي ظلمة الليل؟ فالجهة إلى عَين الكعبة غير مطلوب، والمطلوب التَّوَجّه إلى الجنوب.
 قال: وأما المعقول فيتعذَّر ضبط عين الكعبة عن قريب من مكَّة فكيف بالذي هو في أقاصي الدنيا من مشارق الأرض ومغاربها؟ ولو كان استقبال عَين الكعبة واجبًا لوَجَبَ أن لا تصحّ صلاة واحدٍ قطّ! لأنّ أهل المشرق وأهل المغرب يستحيل أن يقفوا في محاذاة نيِّف وعشرين ذراعًا من الكعبة، ولا بدّ أن يكون بعضهم قد توجَّه إلى جهة الكعبة، ولم يُصِبْ عيْنها فالتَّرجيح أنَّ رأي المالكيَّة والأحناف أقوى بِكَثير، ودفْعًا للفِتَن والمشاحنات وللأخذ والردّ، يجب أن نعدّ مع السادة المالكيَّة والأحناف أنَّ جهة الكعبة هي جهة الجنوب، خطّ ممتدّ بين المشرق والمغرب يمثّل جهة الكعبة، والقضيَّة اعْتِباريَّة، القضيّة أنَّ كلّ المسلمين يتَّجهون إلى مكان واحدٍ هذا شيء رائع، وهذا نظام، فرَوْعة الإسلام أنَّ كلّ المسلمين متوحِّدون، ومن علامات توحُّدهم أنَّهم يتَّجهون جميعًا في صلاتهم إلى بيت واحد.

حُكم الصلاة على الكعبة يُشْبهُ حكم صلاة المسافر في الطائرة :

 هناك حكمان لطيفان؛ هل تصحّ الصلاة فوق ظهر الكعبة؟ بِرَبِّكم هل رأيْتم في كلّ حياتكم إنساناً جاء بِسُلَّم، أو سُمِحَ له لِيَصْعد إلى سقف الكعبة فيُصلِّي عليها؟ والسؤال الدقيق الثاني؛ إذا كنت في الطائرة ألسْت فوق الكعبة؟ ما الحكم إذًا؟! الجواب الدقيق أنَّ القبلة هي حزْمةٌ تصعد من أعماق الأرض إلى أعالي السماء، وهذه هي القبلة، فإذا كنت في طائرة وتوجَّهْت نحو الكعبة لا نحو عَينها أرضًا بل نحو خطِّها علوًّاً، لم يكن هناك طائرة، لذا حُكم الصلاة على الكعبة يُشْبهُ حكم صلاة المسافر في الطائرة، هو فوقها وأعلى منها، ولا يمكن أن تنظر إليها نظْرة علوّ، قال: الكعبة حدودها من أعماق الأرض إلى أعالي السماء، فأيّ مكان في الجوّ إذا توجَّهْت نحو الكعبة أيْ إلى عمود خارجٍ منها إلى أعالي السماء تصح صلاتك، هذا الحكم.
 قال: القبلة هي الجهة من قرار الأرض إلى عنان السماء، هذه هي الكعبة لذلك يصحّ الطواف بالطابق الثاني في الحجّ، لأنَّ الكعبة من تحت، ويصحّ الطواف على السطح، عندنا طابق أوَّل أرضي، وطابق أوّل، وسطح، بكلّ هذه الطوابق يصحّ الطواف، من أعماق الأرض إلى عنان السماء.

كيفية النَّظر في الصلاة :

 آخر شيءٍ، قال: المصلِّي وهو في الصلاة، إلى أين ينظر؟ يسْتحبّ أن يكون نظر المصلِّي إلى مَوضع سُجوده، في القيام إلى موضع سجوده، وفي الركوع إلى موضع قدَمَيه، وفي السجود إلى موضع أنفه، وفي القعود إلى موضع حجْرهِ، وهذا نظر المُصلّي في الصلاة.
 هناك استثناء، إذا كنت تُصلّي في المسجد الحرام ينبغي أن تنظر إلى الكعبة، إلى عَينها، إذا الواحد أتيح له أن يحج أو يعتمر، وصلى في المَسْعى، فالحقيقة النَّظر إلى الكعبة شيءٌ لا يوصف من الجمال، أن تنظر إلى عَين الكعبة في الصلاة، لا يجد عَين الكعبة في النظر في القيام إلى موضع سجوده، وفي الركوع إلى موضع قدَمَيه، وفي السجود إلى موضع أنفه وفي القعود إلى موضع حجْرهِ.

الصَّلاة وحدها تجمعُ أركان الإسلام كلّها :

 أيها الأخوة الكرام، حكمة هذه الآية أنَّها توحِّدُ المسلمين، وقال العلماء في ختام هذا الدرس: هناك بالصلاة معنى الصيام، ومعنى الحج، ومعنى الشهادة، ومعنى الزكاة.
 الصَّلاة وحدها تجمعُ أركان الإسلام كلّها، معنى الحجّ أنَّك في الصلاة تتوجَّه إلى البيت الحرام، ومعنى الزكاة أنَّك تقتطعُ من وقتك الثمين وقْتًا لِتُصلِّي، والوقت أصْلٌ في كسْب المال، إذا لم يوجد وقت لا يوجد كسْب مال، ومعنى الصِّيام أنَّك تمتنع عن الطّعام والشراب الصلاة أبلغ تمتنع عن الطعام والشراب والحركة والكلام، ففي الصلاة معنى الصيام، ومعنى الحج، ومعنى الزكاة، ومعنى الشهادة، أشهد أن لا إله إلا الله، في القعود الأخير، فالصلاة وحدها جمَعَت أركان الإسلام كلّها، وهي باتِّجاه الكعبة، لذا الإنسان إذا طُرق بابه وكان هناك خبْطاً شديداً وهو في أوَّل ركعة ماذا يفعل؟ إذا بإمكانه فتْح الباب، والرجوع إلى مكانه دون أن يتكلّم كلمة صلاته صحيحة شرط أن يبقى متَّجِهًا نحْو الكعبة، إذا الباب أمامك يمكن أن تفتحهُ وترجه، وإذا خلفك يمكن أن ترجع شرط البقاء متَّجِهًا نحو الكعبة، معنى ذلك التَّوجّه نحو الكعبة شرط في صحَّة الصلاة، والصَّلاة لا تصحّ إلا في حالات نادرة، راكب بالطائرة من دمشق إلى حلب أو موسكو باتِّجاه الشمال، وأردْت أن تُصلِّي صلاةً نافلةً، نقول لك: أيُّها المسافر قبلتك جهة الطائرة: إنسانٌ وضَعوهُ باتِّجاه الشمال، ومُستلق، وعمليَّة جراحِيَّة ولا يستطيع الحركة، نقول له: أيها المريض قبلتك جهة راحتك، وإنسان يلْحقُه عدوّ شرس من الجنوب فتوجَّه نحْو الشمال، نقول له أنت أيّها الهارِب قبلتك جهة أمنك، وجهة دابَّتك، وجهة راحتك؛ هذه هي الاستثناءات، وما سوى ذلك لا بدّ من أن تتَّجِه لا إلى عَيْن الكعبة بل إلى جهة الكعبة، وأدلَّة السادة المالكيَّة والأحناف أقْوى بِكثير من أدلَّة الشافعيَّة والحنابلة.
 أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علّمنا، وأن يلهمنا الصواب والخير.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور