- الفقه الإسلامي / ٠7احكام فقهية عامة
- /
- ٠2ايات الاحكام
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تعريف الكتمان :
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس السادس من: "آيات الأحكام"، والآية اليوم هي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾
أيها الأخوة الكرام، الكتمان: الإخفاء والستر، والكتمان بشكل أخص ستر الحديث، كتمته كتماً وكتماناً، والكتم: ترك إظهار الشيء قصداً مع مساس الحاجة إليه وتحقق الداعي إلى إظهاره، وقد يكون هذا الكتمان بمجرد ستر، وقد يكون بإزالته ووضع شيء آخر مكانه، واليهود قاتلهم الله ارتكبوا كلا الأمرين، أخفوا الحقائق ووضعوا مقولات مكانها
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾
هذا هو الكتمان.
من خشي غير الله سكت عن الحق :
أيها الأخوة الكرام، بادئ ذي بدء ربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾
لو أن الداعية خشي غير الله لسكت عن الحق، أي كتم العلم، كتم الحكم الشرعي، كتم حقيقة الدين، كتم ما ينبغي أن ينطق به، وإذا تكلم بخلاف الحق، تكلم بخلاف الحق إرضاءً لمن يخاف منه، وسكت عن الحق إرضاءً لمن يخاف منه، تكلم بخلاف الحق إرضاءً لمن يخاف منه، وكتم الحق إرضاءً لمن يخاف منه، ماذا بقي من دعوته؟ انتهت دعوته، إذاً تكاد هذه الصفة تكون جامعةً مانعةً، تكاد هذه الصفة تكون مترابطةً مع الموصوف ترابطاً وجودياً:
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾
تعريف البينات و الهدى :
أيها الأخوة، البينات: الآيات الواضحات الدالة على الحق، البينات آيات واضحات قد تكون عقليةً أو حسيةً، تعلمون أنني حينما أمسك بشيء أعرف وزنه ونعومته، و أرى لونه، وقد أسمع صوته، هذه بينات حسية أدركها بالحواس الخمسة، أما حينما أدرك أن في هذا المسجد طاقةً كهربائية فلا أراها، ولكنني أرى آثارها نقول: هذه الآثار- تألق المصابيح، وتكبير الصوت، وحركة هذه المراوح- آثار طاقةٍ كهربائية، أنا أعتقد جازماً أن هناك طاقة كهربائية بالطريقة العقلية، بالاستدلال العقلي، فالبينات قد تكون حسيةً، وقد تكون عقليةً، وسمي البيان بياناً لكشفه عن المعنى المقصود، وقد ورد في الأثر أن: "البيان يطرد الشيطان"، بيّن وضح.
كلكم يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما كان يمشي ليلاً مع زوجته صفية رأى صحابيين جليلين فقال: على رسلكما فوقفا، قال: هذه زوجتي، قالوا: أفيك نشك؟ قال: لئلا يدخل عليكما الشيطان.
وعلى هذه القصة، أو على هذا الموقف النبوي الكريم تبنى آلاف الحقائق، وضح، بيّن، أعطِ الدليل، بيّن القصد:
((قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ))
والبينات بالمعنى المخصوص: ما أنزله الله في التوراة والإنجيل من أمر محمد عليه الصلاة والسلام، في التوراة والإنجيل ذكر الله عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال في كتابه العزيز:
﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾
أما الهدى، كتموا البينات حسية كانت أو عقلية وكتموا الهدى، والهدى كل شيء دلك على الخير، كل شيء دلك على الرشد من الهداية، الهدى ما تهتدي به من الخير إلى الرشد إلى السلامة إلى السعادة، يهديهم سبل السلام، قال بعض العلماء: "المراد بالهدى الآيات الهادية إلى وجوب الإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام، ووجوب اتباعه،عبر عنها بالمصدر مبالغةً، هؤلاء يكتمون البينات، الأدلة الحسية والعقلية الدالة على وجود الله، ووحدانيته، وكماله، وعلى نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى منهجه القويم.
أقصى عقاب ينزل بالإنسان أن يلعنه الله عز وجل :
الكلمة الثالثة: أولئك يلعنهم الله، أي يطردهم ويبعدهم من رحمته، ولعل أخطر عقاب ينزل بالإنسان أن يلعنه الله، لعل أقصى عقاب ينزل بالإنسان أن يلعنه الله، أي يبعده، بل إن الحجاب يوم القيامة هو العذاب الأكبر، قال تعالى:
﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾
جزاء المؤمنين يوم القيامة :
أما المؤمنون فقال تعالى:
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾
وقد ورد في الحديث الشريف أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة كما نرى البدر ليلة النصف.
وقد ورد أيضاً أن الذي يرى وجه الله عز وجل يوم القيامة يغيب خمسين ألف عام من نشوة النظرة.
لذلك هناك جنة عرضها السموات والأرض فيها ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، فيها حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، جنات تجري من تحتها الأنهار، وفوق كل هذا نظرة إلى وجه الله الكريم، هذا ما تعنيه الآية الكريمة:
﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
أي الجنة،
﴿ وَزِيَادَةٌ ﴾
النظر إلى وجه الله الكريم، وهل فوق هذا من مقام؟ نعم وفوق هذا
﴿ورِضْوَان منَ الله﴾
جنة، نظرة، رضوان.
الكافر ملعون عند الله و الملائكة و الناس أجمعين :
أما هؤلاء الكفار الذين أساؤوا في الدنيا، وبنوا مجدهم على أنقاض الناس، بنوا مجدهم على خوفهم، بنوا غناهم على فقرهم، بنوا عزهم على ذلهم، بنوا حياتهم على موتهم، فهؤلاء عن ربهم محجوبون، ويلعنهم الله والملائكة والناس أجمعون.
هؤلاء الذين يلعنوا كما قال بعض المفسرين: هم الملائكة والأنبياء وجميع الناس، الإنسان أحياناً يكون ملعوناً عند الله، وعند الخلق، وعند نفسه، لأن فطرته تلعنه.
ليس العار أن تخطئ ولكن العار أن تبقى مخطئاً :
ثم قال تعالى:
﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾
أي رجعوا عن الكتمان وبينوا، هذا ماذا يعطينا؟ يعطينا أنك إذا كنت على خطأ، إذا كنت منحرف العقيدة ثم بدت لك الحقيقة، ما الذي يكفر عنك ذنبك؟ أن ترجع إلى الصواب، وأن تعلن هذا الرجوع، كان سيدنا عمر وقافاً عند كتاب الله، لذلك هناك فضيلة قلما ينتبه إليها أحد، ما هذه الفضيلة؟ الرجوع إلى الحق، لا تأخذك العزة بالإثم، قل: كنت مخطئاً، قل: هذه غابت عن ذهني، استغفر ربك من كل عقيدة فاسدة، وعد إلى الصواب، ولا تخش لومة لائم، أما هؤلاء الذين يركبون رؤوسهم، ويصرون على أخطائهم الشنيعة، حفاظاً على مكانتهم فإنهم ساء ما يفعلون، لا تعلم أنت حينما تعود إلى الحق وترجع إليه كم يرفعك الله عنده إلى أعلى عليين، لا تخشَ الفضيحة، لا تخش أن يقول الناس: كان مخطئاً، إذا قال الناس: كان مخطئاً وعاد إلى الصواب هذا أفضل ألف مرة من أن تركب رأسك وتبقى على الخطأ.
عندي مقولة أقولها دائماً: ليس العار أن تخطئ ولكن العار أن تبقى مخطئاً، ليس العار أن تجهل لكن العار أن تبقى جاهلاً، ليس العار أن تنحرف ولكن العار أن تبقى منحرفاً، وما دام القلب ينبض فباب النجاة مفتوح، باب التوبة مفتوح، باب التصحيح مفتوح، باب الصلح مع الله مفتوح على مصراعيه، أصل اللعن الإبعاد والطرد.
أصل التوبة الرجوع والندم :
أيها الأخوة الكرام:
﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾
رجعوا عن الكتمان، وأصل التوبة الرجوع والندم، وأصلحوا أي أصلحوا ما أفسدوا بأن أزالوا الكلام المحرم، إنسان ألّف كتاباً كله ضلالات وهو على فراش الموت رفع أصبعه إلى الله، وتاب من هذه الأفكار التي بثها في الكتاب، هل تقبل هذه التوبة؟ لا، إنه تاب ولكن كتابه لم يتب، لابد من أن تبين، لابد من أن تصحح، لابد من أن تصرح، لابد من أن تصدر كتاباً آخر تقول: كنت على خطأ وعدت إلى الصواب، هذا الذي يبتغي وجه الله، هذا الذي يبتغي وجه الله عز وجل لا تعنيه مكانته بقدر ما يعنيه أن يكون على الحق.
أصلحوا أي أصلحوا بكلامهم ما أفسدوا بكلامهم، أصلحوا بعملهم ما أفسدوا بعملهم، وبينوا أي أظهروا للناس ما كانوا كتموه من أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم، هذا المعنى الضيق.
وأنا التواب الرحيم، التواب صيغة مبالغة، و صيغة المبالغة إذا عزيت لأسماء الله الحسنى فتعني شيئين، تعني أنه شديد التوبة كماً ونوعاً، أي يتوب على أكبر ذنب، ويتوب عن مليون ذنب، وأنا التواب الرحيم.
إخفاء أهل الكتاب أوصاف النبي محمد من كتبهم و كتمهم الحق :
أيها الأخوة الكرام، أهل الكتاب في توراتهم وإنجيلهم ذكر دقيق لأوصاف محمدٍ صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا قول الله عز وجل:
﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾
إلا أن هؤلاء أهل الكتاب حينما جاء النبي عليه الصلاة والسلام، وبعثه الله رحمة للعالمين، أخفوا أوصاف النبي من كتبهم، وامتنعوا عن أن يصرحوا بها بألسنتهم، فكتموا الحق، ولعل هذا هو سبب نزول هذه الآية، بعض الصحابة سألوا نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه، وأبوا أن يخبروهم فأنزل الله فيهم:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾
للآية التالية لطائف كثيرة منها :
1 ـ الكتاب أي جنس الكتاب الذي ينزله الله عز وجل على أنبيائه :
أيها الأخوة الكرام، لهذه الآية لطائف كثيرة، اللطيفة الأولى الآية الكريمة:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾
في الكتاب، قال: الكتاب أي جنس الكتاب الذي ينزله الله عز وجل على أنبيائه يعني التوراة والإنجيل، هذه الـ اسمها الـ الجنس كأن تقول: والعصر إن الإنسان لفي خسر، الإنسان جنس الإنسان كائن من كان، لأنه بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، إذاً مضي الزمن يستهلكه، فالخسارة المحققة هو أن مضي الزمن وحده يستهلك الإنسان، إن الإنسان الألف واللام، الـ الجنس، إن جنس الإنسان لفي خسارة، وهنا:
﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾
أي في الكتب المنزلة السابقة، الـ الجنس، أو إن قلت: المقصود بالكتاب التوراة والإنجيل المعهودين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام أصبحت الـ العهد.
2 ـ الالتفات :
هناك شيء آخر، قال: أولئك، كلكم يعلم أن أولئك اسم إشارة يفيد الشيء البعيد تقول: ذا، وذلك، ذلك تفيد الشيء البعيد، وذا تفيد الشيء القريب، أولاء أمامك، أولئك بعيدون عنك، ماذا يفيد هذا البعد؟ هو ليس بعداً ولكنه إبعاد، الشيء القميء تبعده عنك، أولئك يلعنهم الله في آية أخرى:
﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ﴾
هذا البعد في الإشارة يفيد إلى دناءتهم، وإلى انحطاطهم، وإلى أنهم عملوا عملاً أغضب الله عز وجل هذه اللطيفة الثانية، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، جواب أولئك جملتان فعليتان، يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ماذا تعني الجملة الفعلية؟ تعني الاستمرار، يلعنهم الله، الفعل المضارع تقريباً يساوي اسم الفاعل، فلان قائم، فلان دارس، فلان يدرس، المضارع يفيد الاستمرار، قال تعالى:
﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾
يرى كثيراً، استمرت هذه الرؤية فانظر ماذا ترى؟ المضارع يفيد الاستمرار، المضارع يكافئ التركيب الاسمي، التركيب الاسمي يفيد الثبات والاستمرار، والتركيب الفعلي يفيد الحدوث والانقطاع، دخل فلان حدث الدخول وانقطع الدخول، أكل فلان حدث الأكل وانتهى الأكل، نام فلان حدث النوم وانتهى النوم، أما فلان يأكل، فلان يدرس ففيه استمرار، فلان دارس اسم، فأقرب فعل إلى التركيب الاسمي هو الفعل المضارع، لذلك حينما أراد الله عز وجل أن يبين عمق العلاقة بين المؤمنين قال:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾
تركيب اسمي، مسند ومسند إليه،
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ﴾
أولئك يقتضي السياق أن يقال: أولئك نلعنهم، الله متكلم فلماذا قال: أولئك يلعنهم الله؟ هذا أسلوب في البلاغة اسمه الالتفات، الكلام له سياق، سياق المتكلم، أو سياق المخاطب، أو سياق الغائب، في القرآن أسلوب بلاغي رائع، أحياناً ينقطع أسلوب المخاطب ويأتي أسلوب الغائب، ينقطع أسلوب الغائب ويأتي أسلوب المخاطب أو المتكلم، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾
أي عدلت هذه الصيغة عن أن تكون أولئك نلعنهم إلى قوله تعالى أولئك يلعنهم الله، أي عدلنا من الإضمار إلى الظاهر، وهذا التركيب اسمه التفات، والالتفات هدفه إحداث تأكيد لفت نظر.
3 ـ الجناس المغاير :
اللطيفة الثالثة: يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون هذا جناس، اسمه جناس مغاير، أي جناس بين الفعل والاسم، ما الجناس؟ توافق كلمتين باللفظ واختلافهما في المعنى، هل في القرآن جناس؟ نعم، قال تعالى:
﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ﴾
الساعة الأولى قيام الساعة، والساعة الثانية ساعة زمنية، يقيني بالله يقيني أي يقيني بالله يحفظني، هناك أمثلة كثيرة على الجناس، هذا جناس مغاير يلعنهم اللاعنون الأولى فعل والثانية اسم من مادة لعن، أنتم أحياناً تتأثرون بكلام الله لكن قد لا تملكون تعليل هذا التأثر، أما علماء البلاغة فيبينون أين وجه الجمال في هذه الآية؟
فيها التفات، فيها تركيب فعلي يفيد الاستمرار، فيها مضاعفة الخبر، فيها جناس مغاير،
﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾
4 ـ صيغ المبالغة :
اللطيفة الرابعة: وأنا التواب الرحيم، جاءت مبالغة أتوب على كل العباد، أتوب مهما كانت ذنوبهم كبيرة، أتوب عليهم مهما كانت ذنوبهم كثيرة، مهما كانت كبيرة، ومهما كانت كثيرة، هذا معنى أنا التواب الرحيم.
الأحكام الشرعية المستنبطة من هذه الآية :
1 ـ هذه الآية نزلت في أحبار أهل الكتاب و لكنها تشمل كل من يكتم العلم :
أيها الأخوة الكرام، لابد من وقفةٍ عند الأحكام الشرعية المستنبطة من هذه الآية الكريمة.
الحكم الأول: أصل هذه الآية نزلت في أحبار أهل الكتاب، ولكن القاعدة الشهيرة دققوا في هذه القاعدة، العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، العبرة بعموم اللفظ مع أنها نزلت في أحبار اليهود وعلماء النصارى إلا أنها تعني كل من يكتم العلم إلى يوم القيامة، كل عالم يعرف الحكم الشرعي ويكتمه خوفاً أو طمعاً تنطبق عليه هذه الآية، فلذلك أمانة العلم أمانة كبيرة جداً، العلماء كما قال عليه الصلاة والسلام ورثة الأنبياء، أبو حنيفة النعمان رأى غلاماً أمام حفرة قال: "إياك يا غلام أن تسقط، فقال: يا إمام بل أنت إياك أن تسقط، إني إن سقطت سقطت وحدي، وإنك إن سقطت سقط معك العالم".
أنا لا أبالغ إذا قلت: إن أكبر مصيبة تصيب المسلمين أن تهتز مثلهم العليا، وأعداء الدين لا يعنيهم شيء أكثر من أن يهزوا هذه المثل العليا، والإنسان إذا فقد المثل الأعلى انتهى، يضيع، والمثل الأعلى حقيقةٌ مع البرهان عليها.
أيها الأخوة الكرام: الأظهر أن هذه الآية نزلت في الذين يكتمون العلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
((مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))
وقد فهم الصحابة الكرام من هذه الآية العموم، الحقيقة أيها الأخوة القرآن الكريم ليس كتاب تاريخ، ليس كتاباً إخبارياً، إنه منهج حيوي، منهج حياة المسلم، فحينما تفهم كل آية أنها نزلت في زيد أو عبيد، وفي هذه المناسبة، وهذه عن فلان، وهذه عن فلان، جعلت كتاب الله كتاب تاريخ، كتاب أخبار، مع أنه كتاب هداية وبيان، فصحابة رسول الله رضوان الله عليهم فهموا هذه الآية لا على أنها خاصة باليهود والنصارى بل فهموها على أنها عامة تشمل كل من يكتم العلم، وأمانة العلم إظهاره.
والحقيقة من كتم علماً في دين الله يحتاج إلى بثه ونشره ينطبق عليه قول النبي عليه الصلاة والسلام:
((مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))
وفي الأعم الأغلب إنسان يسكت يكتم العلم خوفاً أو طمعاً، ودققوا في هذه المقولة من ابتغى أمراً بمعصية كان أبعد مما رجا وأقرب مما اتقى، عن أحد أصحاب رسول الله روي أنه قال: لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بحديث، أي أنت جالس بجلسة، وانطرح موضوع، وتعرف حكم الشرع فيه، وتعرف الآية الكريمة، وتسكت حفاظاً على مكسب، أو حفاظاً على منصب، من يفعل هذا تنطبق عليه هذه الآية.
2 ـ لا يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن أو تعليم العلوم الدينية :
الحكم الثاني وهو دقيق جداً، العلماء استدلوا من قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾
على أنه لا يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن، أو تعليم العلوم الدينية، لأن الآية أمرت بإظهار العلم ونشره، وعدم كتمانه، ولا يستحق الإنسان أجراً على عمل يلزمه أداءه، هل يمكن أن تأخذ أجرة على أدائك للصلاة؟ يروى طرفة أن إنساناً جاهلاً في البادية أقنعوه أن يصلي، وأغروه أن يعطى من القمح الشيء الكثير عند الحصاد فصلى، أعطوه حين حل الموعد كيساً واحداً، هو يطمع بأكياس كثيرة، فقال: أنا كنت أصلي بلا وضوء، أي هل يمكن أن تأخذ أجراً على الصلاة؟ مستحيل، لذلك لا يجوز أن يأخذ الإنسان أجراً على تعليم القرآن لأنه فرض، قال: إلا أن المتأخرين من العلماء رأوا تهاون الناس، وعدم اكتراثهم بالعلم الشرعي، وعدم إتقانهم القرآن الكريم، فأجازوا من باب السياسة الشرعية وتحقيقاً للمصلحة، أباحوا أولاً أخذ الأجر على تعليم القرآن، عندنا ثلاثمئة ألف طالب في التعليم الإعدادي هؤلاء يحتاجون إلى مدرس تربية إسلامية يعلمهم القرآن الكريم والسنة والفقه، هذا متفرغ تفرغاً تاماً، وله أهل وأولاد، العلماء المتأخرون أجازوا أو أباحوا أخذ الأجر على تعليم القرآن، الحقيقة يوجد موقف دقيق لمن كان متفرغاً له.
لعلي أجمع بين الرأيين، إنسان له عمل، وله تجارة، وله وظيفة، وله دخل، وتفوق في القرآن الكريم وعلمهم، مثل هذا لا ينبغي أن يأخذ أجراً إطلاقاً، وتنطبق عليه فتوى العلماء القدامى السلف الصالح، لأن تعليم العلم واجب، ولا يمكن أن تعطى أجراً على واجب، كما أنه لا يمكن أن تعطى أجراً على أداء الصلاة كذلك، حينما تفلت الدين من أيدي الناس، وضاعت هذه العلوم الشرعية، ولم يكترث الناس بدينهم، أجاز الفقهاء المتأخرون أخذ الأجر على القرآن الكريم، بل أوجبوا، صار هناك إنساناً متفرغاً أي مدرساً يحمل شهادة شرعية، ولا يعمل إلا بالتدريس، وعنده ست وثلاثون ساعة تدريس في الجمعة، وله زوجة وأولاد، المنطق والفطرة والمصلحة تقتضي أن نعطي هذا المدرس راتباً يعيش به، هنا الجواز.
الفيصل في ذلك: إذا كنت متفرغاً تفرغاً تاماً لتعليم القرآن لك أن تأخذ أجراً عليه، أما إذا كنت تملك دخلاً آخر ولم تكن متفرغاً تفرغاً تاماً لا يجوز أن تأخذ أجراً على تعليم القرآن لأنه واجب، وواجبٌ ألا تكتم العلم، هناك آية أخرى دقيقة جداً:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
من كان متفرغاً تفرغاً تاماً لتعليم القرآن فله أن يأخذ أجراً عليه :
صدقوني أيها الأخوة إذا مثلنا عطاء الله عز وجل مثلاً بألف مليار وأنت تقاضيت على تعليم القرآن مئة ليرة فكم أنت خاسر، كم أنت خاسر عندما تأخذ على تعليم القرآن ثمناً قليلاً، وتزهد في عطاء الله عز وجل، ممكن أن تمسك ورقة صغيرة وتظنها ورقة بيضاء تكتب عليها عملية حساب ثم تمزقها، ثم تكتشف أنها شك بألف مليون، يمكن أن تفقد عقلك، هذا الذي يتعامل مع الدين ارتزاقاً، يشتري به ثمناً قليلاً، لذلك من الشيء الذي لا يصدق أن يقبل مؤمن أجراً على تعليم القرآن، أن تطمع بعطاء بشر، وتزهد بعطاء خالق البشر، أما إذا كان في تفرغ تام كما قلت قبل قليل مدرس تربية إسلامية عنده ستون ساعة، نصاب تدريس كامل، وله زوجة وأولاد، مصلحة المسلمين تقتضي أن نعطيه أجراً، مصلحة المسلمين، أما إنسان له عمل وغير متفرغ، علم القرآن، وعلم التجويد، علم التفسير، فهذا لا ينبغي أن يتقاضى أجراً إطلاقاً.
هناك قول لطيف قال: علوم الشريعة تكاد تضيع مع الأخذ بفتوى المتأخرين من إباحة أخذ الأجرة على التعليم فكيف لو أخذنا بفتوى المتقدمين، ومنعنا أخذ الرواتب والأجور؟ إذاً لم يبق من يعلم هذا الدين.
أي تقتضي طبيعة العصر، طبيعة ازدحام الأعمال، طبيعة التكاليف العالية أن نفرغ أناساً كثيرين، وأن نغنيهم، وأن ندعهم يعلمون الناس القرآن الكريم، هذه مصلحة المتأخرين.
أرجو الله سبحانه وتعالى أن نكون أفدنا من هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾