- الفقه الإسلامي / ٠7احكام فقهية عامة
- /
- ٠2ايات الاحكام
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
في طريق الإنسان إلى الله مرحلتان؛ مرحلة التعرف عليه ومرحلة طاعته :
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الأول من دروس: "آيات الأحكام"، ولابد من مقدمة أقدم بها إلى هذا الموضوع الجديد.
كلكم يعلم أن في طريق الإنسان إلى الله مرحلتين، مرحلة التعرف عليه، ومرحلة طاعته، إن صحّ أن نقول: المرحلة المكية والمرحلة المدنية، بتعبير ثالث بعد أن نعرفه من خلال آياته نطيعه من خلال أحكامه، فالذي وصل إلى نوع من المعرفة حملته على الرغبة في طاعة الله قد يسأل ما حكم هذا الشيء؟ وما موقف الشرع من هذا الشيء؟ هل هذا الشيء حلالٌ أم حرام أم مكروه أم مستحب أم مندوب أم فرض أم سنة؟ المؤمن الصادق لا يشغله شيء بعد معرفة الله إلا معرفة أمره ونهيه، لأنه فرغ من عقد العزم على طاعة الله بقي ماذا يرضي الله؟ أين أمر الله؟ ماذا يحب الله؟ فلذلك كأننا بدأنا في موضوع فقهي من أوسع الأبواب، أوسع الأبواب آيات القرآن الكريم المتعلقة بالتشريع، هذا باب في العلوم الدينية اسمه آيات الأحكام، يدرس في معظم كليات الشريعة في العالم الإسلامي.
واخترته لكم لأنه على جانب من العمق والمتعة في وقت واحد، الدرس العام يحتاج إلى شيء مبسط، وشيء ممتع، وشيء مفيد، لعل الله سبحانه وتعالى يوفقني إلى تحقيق هذا الهدف.
جنون البقر من أخطر الموضوعات و المشكلات :
أحد آيات الأحكام هي قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
هذه أحد آيات الأحكام، فما الأحكام التي تنطوي عليها؟ لابد من أن نقف عند مفردات هذه الآية، وعند معناها التفصيلي، وعند الأحكام الشرعية المستنبطة منها، وعند بعض القواعد اللطيفة التي تنفعنا في حياتنا، أي قبل أن نخوض في التفاصيل أكبر مشكلة تعاني منها أوربا اليوم مشكلة جنون البقر، ما هذه المصيبة الكبيرة؟ ثلاثة عشر مليون بقرة يجب أن تحرق، ثمنها ثلاثون مليار جنيه إسترليني، السبب: لأنهم أطعموها طحين اللحم الميت، يوجد شيء اسمه طحين اللحم، الجيف، الحيوانات الميتة، أمعاء الحيوانات، كل شيء ليس له أي ثمن هذا يجفف ويطحن ويطعم للبشر فلما أطعم البقر خلافاً لسنة الله عز وجل، البقر حيوان يعيش على النبات، فلما أطعمناه طحين اللحم الميت المجفف جن البقر، هذا تشريع الله عز وجل، فموضوع جنون البقر هذا الموضوع الذي يعد من أخطر الموضوعات، ومن أخطر المشكلات، حتى كل الصناعات المأخوذة من مشتقات البقر تسبب جنون البقر، والمشكلة بين إنكلترا وأوربا كبيرة جداً.
على الإنسان أن يثني على المنعم ويستخدم النعمة فيما يرضيه :
إذاً لابد من أن نعرف أحكام هذا الشرع العظيم؟
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
قال: الشكر، الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، الشكر تنفيذه على شكلين: إما أن تثني على المنعم، أو أن تستخدم النعمة فيما يرضيه، والأكمل أن تجمع بينهما أن تثني على المنعم، وأن تستخدم النعمة فيما يرضيه، فنعمة البصر ينبغي أن تستخدمها وفق منهج الله فلا تقع عينك على عورة لمسلم، ولا تنظر إلى ما حرم الله أن تنظر إليه، وألا تملأ عينيك من الحرام، فإذا غضضت بصرك عن محارم الله فهذا نوع من شكر نعمة البصر، وإذا كففت أذنك عن سماع الغناء فهذا نوع من شكر نعمة السمع، وإذا قادتك قدماك إلى المسجد فهذا نوع من شكر نعمة الحركة، وإذا نطق لسانك بذكر الله فهذا نوع من شكر نعمة التكلم، فأول شيء بالشكر أن تعترف أن هذه النعمة من الله فتثني عليها، والشيء الثاني أن تستخدم هذه النعمة فيما أمر الله، نعمة المال ينفق المال في طاعة الله، نعمة الصحة تنفق في العبادات، نعمة المكانة الاجتماعية تنفق في إحقاق الحق وإبطال الباطل.
الإهلال رفع الصوت :
أهل لغير الله به، كلمة نرددها كثيراً، الإهلال رفع الصوت، أهل بكذا أي رفع صوته بكذا، إهلال الصبي صياحه عند الولادة، أحياناً يصيح ويموت بعد ثانية، تختلف مسألة الميراث، إن صاح ومات فهناك حساب، وإن لم يصح ونزل ميتاً فهناك حساب آخر، أحكام دقيقة جداً، صوت بكاء الطفل ومات قد تتحول ملايين من جهة إلى جهة ما دام الصبي ورث من أبيه، فلما مات ورّث أخوته، أما إذا لم يهل الصبي ما ورث شيئاً، أحياناً يكون هناك بنات فقط إن جاء ميتاً البنات لهن الثلثان، وإن كانت واحدة فلها النصف، أما أهل ومات تغيرت مسألة المواريث كلها، إهلال الصبي صياحه بعد الولادة، أهل الحاج رفع صوته بالتلبية لبيك اللهم لبيك.
أصل الإهلال من رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم استعملت العرب هذه الكلمة لرفع الصوت مطلقاً، وكان المشركون إذا ذبحوا ذبيحةً ذكروا اسم اللات والعزة وما أهل به لغير الله، إذاً فهمنا ما معنى أهل به لغير الله، اضطر، أي حلت به الضرورة وألجأته إلى أكل ما حرم الله.
تعريف البغي :
أيها الأخوة، هذه وقفة بسيطة عند بعض الكلمات، نتابع الحديث عن الكلمات أيضاً، البغي، قال تعالى:
﴿ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
البغي قصد الشيء، وقد تستخدم لقصد الفساد، أصلها قصد الشيء مطلقاً يا باغي الخير أو يا باغي الشر، ثم استعملت في الشر فقط، البغي أن تقصد الشر.
مخاطبة الله عامة الناس بأصول الشريعة والمؤمنين بفروع الشريعة :
أولاً بين الشرع الحكيم قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾
ذكرت قبل يومين أن الله سبحانه وتعالى يخاطب الناس قاطبةً، يخاطبهم ويأمرهم أن يؤمنوا به، أما إذا آمنوا به فيخاطبهم بفروع الشريعة، يخاطب الله عامة الناس بأصول الشريعة، ويخاطب المؤمنين بفروع الشريعة، لأنه لا معنى لإنسان لم يعرف الله عز وجل، ولم يؤمن بوجوده أن يخاطبه الله عز وجل، حينما قال الله لك: يا أيها الذين آمنوا أي يا من آمنت بي، يا من آمنت بي خالقاً، مربياً، مسيراً، واحداً، موجوداً، كاملاً، يا من آمنت أن طاعتي هي الفوز العظيم، افعل كذا ولا تفعل كذا.
أول شيء يا أيها الذين آمنوا، أي حكم شرعي سبق يا أيها الذين آمنوا هذا الحكم موجه للمؤمنين، فلا معنى أن تطالب إنساناً ملحداً بتطبيق هذه الآية، من السخف والغباء أن تطالب إنساناً لم يؤمن بالله بتنفيذ مضمون هذه الآية، يقول الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا، يا من آمنت بي افعل ولا تفعل.
المراد من الطيبات الرزق الحلال، كلوا من، من للتبعيض، أنت الآن آمنت بالله وآمنت أن طاعته هي الفوز العظيم، تقول: أين طاعته؟ أين حكمه؟ أين أمره؟ أين نهيه؟ جاء الجواب أنت تقول في الصلاة:
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾
يقول الله لك:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾
فهذا الأمر افعل ولا تفعل أمر تكليفي لمن آمن بالله عز وجل الطيبات الرزق الحلال.
الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع :
الحقيقة ما هو الشيء الطيب؟ أو ما الحكم في تقييم الشيء طيباً أو غير طيب؟ العقل، عقل الآخرين في بلاد الغرب دعاهم إلى أن يأكلوا شيئاً خبيثاً، عقلهم دعاهم إلى أن يأكلوا لحم الخنزير، في بعض الشعوب يأتون بقرد حي يضعونه في صندوق، ويضعون في رقبته قيداً، ويقطعون طرف رأسه الأعلى، ويأكلون من دماغه بالملعقة وهو حي، إذا أردنا أن نقول: العقل حكم، في بعض البلاد يأكلون الثعابين، الحديث عن الطعام والشراب عند الشعوب حديث لا ينتهي، هناك طعام تخرج من جلدك إذا رأيته، لا الذوق مقياس ولا العقل مقياس، ولكن الشيء الطيب الذي أحله الله، والشيء الخبيث الذي حرمه الله، هذه هي القاعدة، لذلك عند العلماء قاعدة أصولية الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع، والعقل من دون وحي أعمى لا يصلح مقياساً أبداً.
كل ما أحله الله طيب وكل ما حرمه خبيث :
لذلك:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
الطيبات: الرزق الحلال، كل ما أحله الله فهو طيب، وكل ما حرمه الله فهو خبيث، انتهى الأمر، من أنت؟ خالق الكون قال لك: كُل هذا ولا تأكل هذا، يعرضون أحياناً لحم الخنزير بطريقة مغرية، شرائح وقطع، ومفروز بحسب الأضلاع، لما قال الله عز وجل ولحم الخنزير إنما حرم عليكم الدم ولحم الخنزير، فلحم الخنزير خبيث هذا مقياس المؤمن، لك خالق هو الخبير، هو العليم، هو الحكيم، هو الذي ينفعك، هو الذي يعلم ما ينفعك وما يضرك، لذلك الطيبات ما أحله الله والخبائث ما حرمه الله.
سيدنا عمر بن عبد العزيز يقول: "المراد طيب الكسب لا طيب الطعام".
مثلاً لو جاء الإنسان بلحم من أعلى مستوى، وطبخه مع أعلى أنواع الأرز، ووضع السمن البلدي، ينفذ كلام الله: كلوا من طيبات، أطيب شيء اللحم مع الرز مع السمن البلدي، ماذا قال سيدنا عمر: "الطيبات هي المراد بطيب الكسب لا طيب الطعام"، أي مثلاً لو إنسان دخله حلال مئة بالمئة واشترى شيئاً من الطعام غير جيد، طعام درجة خامسة وأكله، هذا الطعام تنطبق عليه هذه الآية كلوا من طيبات ما كسبتم، لأن الطيب هو طيب الكسب لا طيب الطعام، وإذا الإنسان فرضاً له دخل حرام، دخل غير مشروع، واشترى أطيب طعام موجود في السوق، هذا طعام خبيث لا لذاته بل لأنه اشتري بمال حرام، نحن يوجد عندنا في الفقه قضية دقيقة نقول: هذا حرام لذاته أو حرام لغيره، فالإنسان إذا تناول لحم الخنزير نقول: تناول الحرام لذاته، أما إذا تناول لحم الضأن ولم يدفع ثمنه فنقول هذا العمل حرام لكن لغيره لا لذاته.
قول سيدنا عمر رائع "المراد طيب الكسب لا طيب الطعام"، يؤيده الحديث الشريف.
دور السنة المشرفة في بيان ما أنزل الله عز وجل :
الآن دور السنة المشرفة والمطهرة في بيان ما أنزل الله عز وجل، قال الله عز وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾
ما هو الشيء الطيب؟ بينه النبي، هؤلاء الذين يقولون نكتفي بالقرآن الكريم هؤلاء يعصون القرآن الكريم لأن الله عز وجل يقول:
﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
هو الذي يبين لكم، كلمة طيبات من يشرحها لنا؟ النبي الكريم أنزل عليه القرآن ليبين للناس ما نزل إليهم، يقول عليه الصلاة والسلام:
((أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) وَقَالَ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ))
اجمع هاتين الآيتين:
﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾
وَقَالَ:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾
هل يوجد فرق؟ النبي عليه الصلاة والسلام استنبط من هاتين الآيتين أن المؤمنين أمروا بما أمر به المرسلون.
كل إنسان مأمور أن يفعل ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام :
هل يوجد شاهد آخر؟ نعم قال تعالى:
﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾
إياك أن تقول إذا صعب عليك الأمر: أنا لست نبياً، من قال لك إنك نبي؟ أنت لست نبياً بالتأكيد ولكنك مأمور أن تفعل ما فعل النبي عليه الصلاة والسلام:
((.. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ))
الآن دخلنا في موضوع جديد، يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما كسبتم الشيء الطيب هو الذي تدفع ثمنه من دخل حلال، معنى ذلك أن أهم شيء في حياتك دخلك الحلال، دخلك الحلال يجعل كل مشترياتك المباحة طيبة، والدخل الحرام يجعل كل مشترياتك المباحة خبيثةً، هكذا المعنى.
الأصل في الأشياء الإباحة والأشياء المباحة لا تعد ولا تحصى :
الآن يوجد شيء آخر قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
لماذا لم يذكر الله تعالى الأشياء التي أحلها لنا؟ يوجد قائمة: البطيخ، والموز، والخيار، والتفاح، لماذا اقتصر الله عز وجل على المحرمات؟ قال: لأن الأصل في الأشياء الإباحة، والأشياء المباحة لا تعد ولا تحصى، ولكن الأشياء المحرمة محدودة، لذلك قالوا: لما أباح الله تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب وكانت وجوه الحلال كثيرة بيّن لهم ما حرم عليهم، الأصل في الأشياء الإباحة، الأصل في الأشياء الإباحة والمحرمات قليلة، لذلك بلاغة وحكمة نذكر الأشياء المحرمة، أحياناً تقول لإنسان: اسكن في هذا البيت، ممكن أن تقول له: استعمل الحمام، والمطبخ، وغرفة الضيوف، شيء بديهي قلت له: اسكن هذا البيت وأعطيته المفتاح، أما تقول له: إياك أن تنسى الغاز مفتوحاً، قضية خطيرة تعطيه تنبيهين، أما الأشياء الذي أبحتها له في البيت فلا تعد ولا تحصى، ما دام الشيء المباح غير محدود إذاً لا نذكره.
الأشياء المحرمة امتحان للإنسان أهو وقاف عند حدود الله أم يقتحمها ؟
يوجد شاهد آخر قال تعالى:
﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾
لو إنسان عدد المشروبات المباحة ليمون، برتقال.... خمسون ستون ثمانون مشروباً مباحاً، والمحرم الخمر فقط، أنواع اللحوم المباحة لا تعد ولا تحصى المحرم الخنزير، قد يقول أحدهم لماذا التحريم؟ لو أن الله عز وجل ما خلق الخمر وما خلق الخنزير نقول: لا يمكن أن يكون هناك طاعة إلا بالمحرمات، إذا كان كل شيء مباح لا يوجد جنة، التغى التكليف، التغى حمل الأمانة، التغى القرب من الله عز وجل، لابد من شيء محرم ليمتحن الإنسان أهو وقاف عند حدود الله أم يقتحمها؟
سئل النبي عليه الصلاة والسلام وهو البليغ قال: أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، ماذا يلبس المحرم؟ قال عليه الصلاة والسلام: لا يلبس القميص ولا السروال، والبس ما شئت، أي قميص مخيط لا تلبسه، سروال لا تلبسه، والبس ما شئت، البلاغة في الإيجاز، نضر الله رجلاً أوجز في كلامه واختصر على حاجته.
الالتفات في اللغة العربية :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾
لم يقل: واشكروني، بل قال: واشكروا لله، هذا اسمه في البلاغة الالتفات، صيغة الكلام دائماً بين متكلم ومخاطب وغائب، أحياناً السياق متكلم أو مخاطب أو غائب، من روائع القرآن الكريم أن السياق مخاطب يصبح غائباً واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون، قال: هذا الالتفات يورث المهابة لله عز وجل، واشكرونا، واشكروا لله، هذا نوع من الالتفات.
المجاز في القرآن الكريم :
إنما حرم عليكم الميتة، كيف؟ لابد من كلمة محذوفة، إنما حرم عليكم أكل الميتة يقاس على هذا أشياء كثيرة في كتاب الله، قال تعالى:
﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾
القرية تسأل ما المعنى إذاً؟ اسأل أهل القرية، نقول: اجتمع مجلس الوزراء، الكراسي اجتمعت أم من على الكراسي؟ هذا اسمه مجاز مكاني، مجاز زماني، مجاز سبب،ي مجاز مسبب، هذا في البلاغة موضوع طويل.
إنما حرم عليكم الميتة أي أكل لحم الميتة حرم عليكم، ولو قال: أكل الميتة هنا عندنا نقطة دقيقة لماذا هذا المجاز؟ لو قال: إنما حرم عليكم أكل الميتة لك أن تبيعها، ولك أن تنتفع منها، ولك أن تتاجر بها، ولك أن تستخدمها لغير الأكل، لا، حرم عينها والشيء الذي حرم عينه ممنوع أن تنتفع به من كل الوجوه، لا يباع ولا يشترى، ولا يستخدم أي استخدام، إلا أن لحم الخنزير قال: التابع تابع، الشحم تابع للخنزير، والعظم تابع، وكل ما في هذه الدابة تابع للحم.
تحريم الميتة تحريم مطلق :
الآن يوجد عندنا موضوعات دقيقة نبدأ بها؛ أول موضوع نوهت له قبل قليل: هل المحرم في آية الميتة الانتفاع أم الأكل؟ أولاً: هذا موضوع خلافي، لماذا الإنسان بحاجة إلى أحكام شرعية؟ لو استنبط بعقله المحدود يستنتج أحكاماً مضحكة، أما الفقهاء في موضوع معين فوضعوا الآيات، وضعوا الأحاديث، وضعوا الناسخ، وضعوا المنسوخ، وضعوا الأحاديث وتاريخ ورود الحديث، المطلق، والمخصص، والعام، هناك مجموعة مداخلات من أجل أن تستنبط حكماً شرعياً دقيقاً، الآن نقف عند هذا الموضوع الدقيق، قال: لما حرم الله الأكل حرم البيع والانتفاع بشيء منها لأنها ميتة، لما قال:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
لو قال: إنما حرم عليكم أكل الميتة صار الأكل ممنوعاً أما الانتفاع فمسموح، أما حينما ألغى الأكل فصار المنع مطلقاً إلا ما استثناه الدليل، التحريم أصاب عين الشيء صار الكل محرماً إلا إن جاء دليل يخالف ذلك، بعض العلماء قال: لا إنما المحرم هو الأكل فقط بدليل قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
بعض العلماء قال: لا، التحريم يتناول سائر وجوه المنافع، فلا يجوز الانتفاع بالميتة على وجه أي لا يجوز أن تطعمها الكلاب، ولا الجوارح، أرأيتم إلى عظمة الفقه الإسلامي؟ لا يجوز أن تطعمها الكلاب ولا الجوارح، لأن هذا ضرب من الانتفاع بها، والتحريم أصاب عين الشيء لا أصاب أحد حالاته، فالله عز وجل حرم الميتة تحريماً مطلقاً معلقاً بعينها، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها إلا أن يخص بدليل يجب التسليم به، إذاً جنون البقر سببه أنهم أطعموا لحم الميتة للبقر فجنت وما جنون البقر إلا من جنون البشر حينما خالفوا منهج ربهم.
الميتة حرام بالنص القاطع وقد وردت فيها أحاديث كثيرة :
الحكم الثاني، بالمناسبة هل يوجد فرق بين ميّت وميْت في اللغة؟ الميْت الذي مات أما الميّت فالذي سيموت، الدليل قال تعالى:
﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾
وما كان ميّت رسول الله، فالميْت الذي مات حقيقةً والميّت الذي كتب عليه الموت مع وقف التنفيذ، فكلنا ميتون:
﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾
أما الذي كتبت نعوته على الجدران ودفن تحت الأرض فهذا ميْت، ما حدّ الميتة؟ ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير قتل أو قتل بغير زكاة شرعية، إذا الحيوان في أوربا مقتول بالصعق يجوز أكله؟ لا يجوز، إن لم يسمَ عليه لا يوجد مانع سمِّ أنت، يوجد عندنا في الذبح شيئان؛ الشيء الأول: أن تزكي الحيوان، أن يخرج دمه كله، الشيء الثاني: أن تكبر الله عليه، إذا التكبير لم يتم فأنت كبر، أما إذا التزكية ما تمت فهذا اللحم ميت لا يجوز أكله إطلاقاً، تعريف الميت: ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير قتل أو قتل بغير زكاة شرعية وكان العرب في الجاهلية يستبيحون الميتة فلما حرمها الله تعالى جادلوا المؤمنين، وقالوا كلاماً مضحكاً، لا تأكلون مما قتله وتأكلون مما قتلتم أنتم بأيديكم، طبعاً الجواب دقيق جداً الإنسان عندما يذبح الخروف أو الدابة وينفذ طريقة رسول الله يقطع أوداجها فقط، ويبقي رأسها متصلاً بها، قلب الدابة ينبض ثمانين نبضة بمركز كهربائي ذاتي، أما حينما يبقى الرأس موصولاً بالجسد يأتي أمر استثنائي من الدماغ يرفع النبضات إلى مئة وثمانين نبضة عندئذ القلب مهمته بعد الذبح إخراج الدم بأكمله، فلما خرج الدم وهو موطن الجراثيم، الآن إذا أردنا أن نستنتخ جرثوماً ماذا نفعل؟ أين نزرعه؟ في الدم، فالدم طبعاً ليس كل دم، الدم المسفوح، أما الدم في الإنسان فنجس؟ لا لأنه يصفى، الرئتان تصفي الدم تخلصه من ثاني أكسيد الكربون وتعطيه الأوكسجين، والكليتان تصفي الدم من حمض البول، والغدد العرقية تصفي الدم، ثلاث مصاف، فلذلك الدم المحرم هو الدم المسفوح.
لا تأكلون مما قتله وتأكلون مما قتلتم أنتم بأيديكم، الميتة حرام بالنص القاطع وقد وردت فيها أحاديث كثيرة.
الآن فهمنا شيئاً جديداً أن اللحم الذي لا يذبح بالطريقة الشرعية لا يزكى، لا يخرج دمه، لحم ميت لا يجوز أكله، لا تقل: سمِّ الله وكُل، يوجد حكم شرعي، اللحم الذي قتل صعقاً بالكهرباء محرم أكله، اللحم لا يؤكل إلا إذا زكي زكاةً شرعية، إذا ذبح من أوداجه وخرج دمه بأكمله.
السمك الذي نصطاده من البحر حلال طيب :
إلا أن هناك أحاديث تخصص هذا المطلق، قال عليه الصلاة والسلام:
((أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ))
موضوع السمك مشكلة يأتي إنسان منطقي ويقول: يا أخي إذا كان التحريم له أسباب علمية كيف نأكل السمك؟ وإذا كان أكل السمك مباحاً كيف نذبح الخروف؟ لو أكلناه نفسه الشيء نفسه، لكنه اكتشف وهذا من دلائل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام أن السمك حينما يصطاد ينتقل دمه كله إلى غلاصمه وكأنك ذبحته، وفي قول آخر للنبي عليه الصلاة والسلام عن البحر:
((عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحَلالُ مَيْتَتُهُ ))
السمك الذي نصطاده من البحر حلال طيب، لذلك الأجانب يكذبون ورب الكعبة، تأتينا علب سمك كتب عليها ذبح على الطريقة الإسلامية، ما فرقوا بين السمك وغير السمك، ما دامت هذه الكلمة ترضيهم اكتبوها لهم، هذا السمك ذبح على الطريقة الإسلامية، سمك السردين أخرجوها واحدة واحدة كبروا الله وذبحوها، إذاً إنهم يكذبون، طبعاً أبيح الجراد والسمك، إذا الإنسان ما أحب أن يأكل الجراد لا يوجد مانع، الإباحة غير الإلزام.
حرام هذا اللحم يا رسول الله؟ قال: لا ولكن تعافه نفسي إلا في حادثة غريبة سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه أمسك ضباً وأكله أمام النبي، وسيدنا خالد من قريش من أسرى بالمستوى الاجتماعي راقية جداً، كيف أكله والنبي عافته نفسه؟ قال: لا ولكن تعافه نفسي، فلما رأى النبي الكريم سيدنا خالد يأكل لحم الضب قال: خالد سيف من سيوف الله، بربكم هل هناك من علاقة بين أكل لحم الضب وبين أن هذا الصحابي الجليل سيف من سيوف الله؟ سيدنا خالد أكل لحم الضب ليوحي لجنوده أنكم مقدمون على فتوح كبيرة وكثيرة وقد تحتاجون إلى أكل لحم هذا الضب، وأنا سأبدأ قدوةً لكم، لكم بي أسوة، أدرك النبي عليه الصلاة والسلام أنه ما أكل هذا اللحم الذي تعافه نفس النبي إلا ليكون قدوةً لجنوده، فقال: خالد سيف من سيوف الله، الشيء الدقيق أن النبي قال هذا الكلام بعد أن رأى خالداً يأكل لحم الضب، وطن نفسه على الجهاد، والجهاد في الصحراء، والصحراء فيها ضب قد يفتقد المقاتلون اللحوم الأخرى وليس أمامهم إلا لحم الضب وما حرمه النبي.
خنزير الماء موضوع خلافي بين الفقهاء :
الآن يوجد عندنا موضوع ثان في البحر شيء اسمه خنزير البحر، بعض الأئمة حرمه لاسمه فقط، لأن اسمه خنزير، وبعض الأئمة ما حرمه، ولكن لا يحب أن يأكله لأن كل حيوان اصطيد من البحر فهو حلال، هذا مذهب مالك، أكثر الفقهاء يجيزون أكل جميع دواب البحر حيها وميتها وهو مذهب مالك، وتوقف أن يجيب في خنزير الماء فقال: أنتم تقولون خنزيراً وأنا أتقيه ولا أراه حراماً، وبعضهم قال: محرم لاسمه، فهذا موضوع خلافي.
اختلاف العلماء في الجنين الذي ذبحت أمه وخرج ميتاً :
الآن ذبحت حيواناً وجدت في رحم أمه جنيناً هل لك أن تأكل الجنين الذي ذبحت أمه ذبحاً شرعياً؟ الجواب: اختلف العلماء في الجنين الذي ذبحت أمه وخرج ميتاً هل يؤكل أم لا؟ قال أبو حنيفة: "إنه لا يؤكل إلا أن يخرج حياً فيذبح لأنه ميتة"، وقد قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: "يؤكل لأنه مزكى بزكاة أمه"، واستدلوا بحديث رسول الله:
((زكاة الجنين زكاة أمه))
وقال مالك: "إذا تمّ خلقه ونبت شعره أكل وإلا فلا"، وقال القرطبي: "إن الجنين إذا خرج بعد الذبح ميتاً يؤكل لأنه جرى مجرى العضو من أعضائها"، أحد أعضاء الذبيحة اعتبر عند القرطبي، إلا أن الذين حرموا أكله قالوا: "زكاة الجنين زكاة أمه ليس هذا معناه أن تأكل الجنين، ولكن الجنين يزكى كما تزكى أمه" هذا الذي قالوه، أي انظر إلى الأدلة كيف تختلف، ولكرامة الإنسان على الله سمح له أن يستنبط الأحكام الشرعية من الأدلة الكلية، وقَبِل الله جل جلاله أن نتعبده بالاجتهادات الفقهية.
تحريم الانتفاع بالميتة من غير الأكل :
السؤال قبل الأخير: هل يجوز الانتفاع بشحم الميتة وجلدها كطلاء السفن ودبغ الجلود؟ وحجته أن الآية إنما هي في تحريم الأكل خاصةً ويدل عليه قوله تعالى:
﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
الجمهور انتبه الآن، إذا قرأت وفتحت كتاب فقه ورأيت كلمة الجمهور أنا أنصحك أن تكون مع الجمهور أونس، قد ينفرد فقيه بحكم كن مع الجمهور لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((لا تجتمع أمتي على ضلالة))
كن مع الجمهور، الجمهور يذهب إلى تحريم الانتفاع بالميتة من غير الأكل، حرمت عليكم الميتة أي الانتفاع بها، التحريم صب على عينها بأكل أو بغيره، فجعلوا الفعل المقدر هو الانتفاع وليس الأكل، حرم عليكم الانتفاع بالميتة أكلاً، أو بيعاً، أو شراءً، أو طلاءً، أو ما شابه ذلك استدلوا بقول النبي الكريم:
(( قَاتَلَ اللَّهُ يَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا))
معنى ذلك التحريم يشمل الانتفاع لا الأكل، هذا الحديث يدل على أن الله عز وجل إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، لا يجوز البيع، ولا الانتفاع بشيء من الميتة إلا ما ورد به نص واضح.
الدماء التي في العروق لا حرمة فيها :
آخر شيء في الموضوع أحياناً إنسان يأكل الفروج ويجد فيه وريداً أو وعاء دموياً فيه جلطة، أي يوجد أثر دم، هذا الدم هل هو محرم؟ اسمعوا الجواب، اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس، لا يؤكل، ولا ينتفع به، ولا تنسوا أن هناك طعام يطعم للدواجن، دم مجفف مسحوق، فأول مشكلة عاناها العالم جنون البقر، ولعل المشكلة القادمة جنون الدجاج لأنه يأكل الدم المجفف، والناس عندما لا يعبؤون بشرع الله عز وجل مشكلة كبيرة، هناك أكثر البلاد تستورد طحين اللحم المجفف، اللحم الميت، وتستورد طحين الدم المجفف كي يأكله الدجاج.
قال: اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به وقد ذكر الله تعالى هنا الدم مطلقاً وقيده في الأنعام:
﴿ أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
المطلق الآية الكريم:
﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
هذا مطلق، والمطلق مقيد؟ لا ليس مقيداً، وحمل العلماء المطلق على المقيد ولم يحرموا إلا ما كان دماً مسفوحاً وورد عن عائشة رضي الله عنها: "لو أن الله تعالى قال أو دماً مسفوحاً لتتبع الناس ما في العروق ".
إذاً انظروا استنباط السيدة عائشة أو دماً مسفوحاً لتتبع الناس ما في العروق من دم، إذاً الدماء التي في العروق لا حرمة فيها، انتهى، المحرم الدم المسفوح، وكذلك الكبد والطحال مجمع على عدم حرمته وإن كان في الأصل دم، السوداء أكله مسموح، والطحال أكله مسموح، مع أن الدم يتواجد أو يوجد في الطحال والكبد بكميات كبيرة جداً.
الإمام القرطبي يقول: أما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوى، والذي تعم به البلوى اليوم الدم في العروق، ليس من المعقول أن تمسك قطعة اللحم وتبحث عن الشرايين والأوردة، وتحضر مجهراً وتنظر، أين يوجد دم معفو عنه، الدم المحرم هو الدم المسفوح، أما الدم الباقي في العروق فهذا غير محرم.
الخنزير محرم بلحمه ودمه وشحمه وعظامه وجلده :
الشيء الآخر أن الخنزير محرم بلحمه ودمه وشحمه وعظامه وجلده، كل شيء محرم، أخ من أخواننا استورد برقم كبير جداً جلوداً من أجل الصناعة، ثم تبين أن هذه الجلود جلود خنزير، سأل علماء كثيرين أفتوا له أنه محرم أن تنتفع بجلد الخنزير، والله أتلفها فيما أعتقد وخسر ثمنها، وهذا هو الحكم الشرعي، يحرم أن تنتفع بالخنزير لحماً، وشحماً، ودماً، وجلداً، وعظماً، لذلك هذا الجيليه الرجراج، هذا مصنوع من العظام، وإذا كان مستورداً من بلاد أجنبية فأغلب الظن مصنوع من عظم الخنزير، وعظم الخنزير محرم إلا إذا كان مستورداً من بلاد تسحق عظم الغنم والبقر، والأحوط هذه اللقمة نستغني عنها لأنه يوجد مشكلة في هذه المادة الرجراجة إذا كانت من عظم الخنزير محرم أكلها، أرأيتم إلى دقة الشرع؟
في حالات الضرورة يأكل الإنسان من دون أن يبغي المعصية ويأكل الحد الأدنى:
آخر شيء:
﴿ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ ﴾
البغي: أن يأكل الميتة من دون حاجة، عاد: أن تأكل فوق الحد الأدنى، فمن اضطر غير باغ هو لا يبغي أن يأكل ما حرم الله، لا يبغي أن يأكل لحم الخنزير، لا يبغي أن يأكل الميتة إلا أنه مضطر يكاد يموت جوعاً، فمن اضطر غير باغ لا يبغي المعصية، يبغي أن يحافظ على حياته، ولا عاد من العدوان أكل حتى شبع، لا يجب أن تأكل ما يسد به الرمق، هذا معنى قول الله عز وجل:
﴿ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
هذه الآيات نستنبط منها إباحة الأكل من الطيبات للمؤمنين، وأنّ شكر الله واجب على المؤمنين، لأن نعم الله لا تعد ولا تحصى، والإخلاص في العبادة إن كنتم إياه تعبدون، والله جل جلاله حرم على عباده الخبائث وأحل لهم الطيبات، وفي حالات الضرورة تأكل من دون أن تبغي المعصية وتأكل الحد الأدنى لا الحد الأقصى.