وضع داكن
20-04-2024
Logo
آيات الأحكام - الدرس : 13 - مرتبة أولي الفضل - سورة النور الآية 22
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهمّ لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنَّك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علِّمنا ما ينفعنا، وانْفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً، وأرِنا الحقّ حقًا وارزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجْتِنابه، واجْعلنا مِمَّن يستمعون القَوْل فيتَّبِعون أحْسَنَهُ، وأدْخِلنا بِرَحمتِكَ في عبادك الصالحين.

الآية التالية على إيجازها تعلِّمُنا أشياء كثيرة :

 أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث عشر من دروس: "آيات الأحكام"، والآية اليوم هي قوله تعالى من سورة النور:

﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

[ سورة النور: 22 ]

 هذه الآية على إيجازها تعلِّمُنا أشياء كثيرة، أوَّلاً: لا يأْتلِ أيْ لا يحْلف، الألِيَّة الحلْف، يأتَل أيْ يحْلف، ومنه قوله تعالى:

﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ﴾

[ سورة النور: 22 ]

 هذه الآية على إيجازها تعلِّمُنا أشياء

﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ﴾

 الألِيَّة الحلْف.

نزول الآية التالية في عائشة وفيمن قال لها ما قال :

 أيها الأخوة،

﴿وَلَا يَأْتَلِ﴾

 أيْ لا يحْلف،

﴿أُوْلُوا الْفَضْلِ﴾

 أصحاب الصَّلاح والدِّين،

﴿وَالسَّعَةِ﴾

 المراد بها أصحاب المال، فالله جمع بين الفضْل وبين السَّعَة في الرِّزْق،

﴿ أَنْ يُؤْتُوا﴾

 أيْ أن يُعطوا، وهناك نقطة دقيقة جدًّاً، فقوله تعالى:

﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا ﴾

[ سورة النور: 22 ]

 أيْ حلفوا ألا يعطوا، وفي لغة العرب قد تُحْذف لا النافيَة من جواب القسَم، دليل ذلك قوله تعالى:

﴿ يُبيِّن الله لكم أن تضِلُّوا﴾

[ سورة النساء:176 ]

 أيْ ألا تضِلُّوا فلا يأْتَل أي لا يحلف، فأن يؤتوا في الآية معناها لا يأتوا، حلفوا ألا يؤتوا،

﴿وَلْيَعْفُوا﴾

 أي يغفروا الزّلات ويصْفحوا، قال تعالى:

﴿ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

[ سورة النور: 22 ]

 قال تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ﴾

[ سورة النور: 22 ]

 الآية نزلت في عائشة، وفيمن قال لها ما قال! قال أبو بكر أبوها- وكان ينْفق على مسطح لِقَرابتِهِ وحاجته، وقد ضمَّه إلى عِياله في الرعاية والوِلاية والإنفاق-: والله لا أنفقُ على مسطح شيئًا أبدًا، ومعه الحقّ! إنسانٌ يحسن لإنسان، وينفقُ عليه، ويتولَّى أمْرَه، وهذا الإنسان يُقابلُهُ بأنْ يُروِّجَ حديثًا كاذبًا على ابنتهِ الطاهرة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ما فعَلَ الصِّديق حينما نزلَت هذه الآية وقد برِّئَتْ بها ابنتُهُ إلى أن قال: والله لا أُنفق على مسطح شيئًا أبدًا، بعد أن قال عن عائشة ما قال، وأدخَلَ عليها من الحزن والألَم ما أدْخل قال عليه الصلاة والسلام:

(( وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً..))

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

 الإنسان لا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبهُ، ولا يستقيم قلبهُ حتى يستقيم لسانه، يستقيم اللّسان فيستقيم القلب فيَسْتقيم الإيمان.

نشاط الإنسان الكلامي أوْسعُ نشاط :

 والحقيقة أيها الأخوة أنَّ نشاط الإنسان الكلامي هو أوْسعُ نشاط، فالفقير والغني، والفارغ والمشغول، والسَّعيد والحزين، والمقيم والمسافر، له نشاط كلامي مستمرّ، فإذا عَدَدْت الكلام جزءاً من عملك نجَوْت، أما إن عددْتهُ بعيدًا عن عملك الصالح أو الطالح فقد هلَكتَ:

(( وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً..))

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

 فَبِكَلِمَةٍ قد تفرّق بين زوْجين، وبِكَلمةٍ قد تفرِّق بين شريكين، وبِكَلمةٍ قد تفكِّك أسْرةً، وبكلمةٍ قد تهدمُ بناءً، وبِكَلمةٍ قد تورِثُ ضغينةً وحِقْدًا، وبِكَلمةٍ قد تُسبِّبُ حربًا ضروسًا.
 يُرْوى أنَّ بعض الحروب التي طَحَنَتْ عشرات المئات من الألوف سببُها سوء الترجمة، خطأ في الترجمة، في الجاهليّة أحد سادة العرب مدَّ رجلهُ وقال: من كان خيرًا منِّي فلْيضْربْها، فقام واحدٌ وضربها فنشِبَتْ حرْب دامَت عشر سنوات أكلت الأخضر واليابس، وسمعتُ عن إنسان جاءتْهُ أخبار عن ابنته لا ترضي، وكأنَّه شكّ في عفّتها فأراد أن يتأكَّد هل هي حامل، فأخذ عيِّنةً للتحليل، وفي المخبر العيّنة انْكسرَت، وسالَت في الأرض، فخاف الموظّف من سيّده فأعطى النتيجة الإيجابيّة من باب الاحتياط، فلما جاء الأب ليتأكَّد من التحليل قال له صاحب المخبر مبروك! البنت حاملة، فذهب وأطلق عليها النار وقتلها!! كلمةٌ فقط!! مبروك هي حامل؛ قادَت الأمور إلى جريمة:

(( وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً..))

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

 يجب أن تعدَّ كلامك من عملك، الجَهَلَة والعوام يقولون: ما الذي حدث؟ ما قلنا إلا كلمة واحدة!! هذه الكلمة فرَّقَتْ بين زوجين، وشتَّتَتْ أُسْرة، وهذه الكلمة هدَّمَت شركة، وهذه الكلمة انتَهَتْ بِجَريمة:

(( وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً..))

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

 وحَسْبكم ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام حينما سمَعَ زوجتهُ عائشة رضي الله عنها تصف ضرَّتها بأنَّها قصيرة، فقال لها:

(( يا عائِشَة لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ البَحْرِ لَمَزَجَتْه ))

[ رواه أبو داود والترمذي عن عائشة رضي اللّه عنها ]

من أحسن لوجه الله ينبغي ألا يتأثر بموقف المحسَن إليه :

 سيّدنا الصدّيق حينما سمع من مسْطحٍ الذي ينفق عليه، ويتولّى أمرهُ، وقد ضمَّهُ إلى أسرته أنَّه يتكلّم عن ابنته، فلمَّا نزلَتْ براءة عائشة قال: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبداً، ولا أنفعُهُ بِنَفْعٍ أبداً بعد الذي قاله في عائشة ما قال، وأدخلَ عليها من الحُزْن ما أدخل، فأنزل الله في ذلك:

﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى ﴾

[ سورة النور: 22 ]

 فقال أبو بكر: والله إنِّي لأحبّ أن يغفر الله لي، فرجَعَ إلى مسطح فأنفقَ عليه، وفي بعض الروايات أنفقَ عليه ضعف ما كان ينفق عليه من قبل، وهذا الحكم وهذه الآية منهجٌ لنا جميعاً، إن كنتَ أحْسنْت إلى إنسان، وهذا الإنسان أساء إليك، فإن كنتَ تُحسِنُ إليه لذاته معك الحق أن تقطع الإحسان، أما إن كنت تُحسن إليه لوَجْه الله فينبغي ألا تتأثّر بِمَوقفهِ.

اليمين ينبغي ألا يكون حاجزاً عن العمل الصالح :

 وأخرج ابن المنذر عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان مسطح مِمَّن توَلَّى كِبْرهُ من أهل الإفْك حينما قال تعالى:

﴿ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾

[ سورة النور: 11 ]

 تكبير هذا الحدث وتضخيمهُ وتَرْويجُهُ، وكان قريبًا لأبي بكر، وكان في عِيالِه، فحَلَفَ أبو بكر رضي الله عنه ألا يُنيلَهُ خيرًا أبدًا، فأنزَلَ الله عز وجل:

﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ﴾

[ سورة النور: 22 ]

 قالتْ: فأعادهُ أبو بكر إلى عياله وقال: لا أحلفُ على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا تحَلَّلْتُها وأتَيْت الذي هو خير، وهذا حكم ثان، حلفْتَ يمينًا ألا تفعل خيرًا، ما الذي يأمرك به الشرع؟ أن تُكَفّر عن يمينك، وأن تفعلَ خيرًا، حلفْت يمينًا ألا تقرض أحدًا ينبغي أن تتحلَّلَ من يمينك وأن تقرض الناس بعد ذلك، حلفْت يمينًا ألا تزور أختك، تحلّل من يمينك وزُرْ أختك، فلا ينبغي أن يكون اليمين حاجزاً عن العمل الصالح، قال تعالى:

﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا﴾

[ سورة البقرة: 224 ]

 وفي رواية أخرى أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم دعا أبا بكر وتلا عليه الآية:

﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ﴾

[ سورة النور: 22 ]

 فقال: ألا تحبّ أن يغفر الله لك يا أبا بكر؟ فقال: بلى، قال له : فاعْفُ عن مسطحٍ وتجاوَز عنه، مسطح الذي فعل بك ما فعل، والذي تكلّم ما تكلّم، والذي أدخل عليكم من الحُزْن ما أدْخل، فقال أبو بكر: لا جرَم والله لا أمنعُهُ معروفًا كنتُ أوليه قبل اليوم، فكان يُعطيه ضِعْفَي ما كان يعطيه، هذا موقف سيّدنا أبو بكر.

علامة المُخْلص أنَّه لا يتأثّر بِرُدود الفعل :

 لذا أنت إن فعلْت خيراً إن فعلْتهُ لِزَيْد أو عُبَيْد وكان ردّ فعلهم سيّئًا لك أن تقطع عنهم ما كنتَ تفعل، أما إن كنتَ تفعلُ هذا لِوَجْه الله تعالى، فقال تعالى:

﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾

[ سورة الإنسان: 9 ]

 علامة المُخْلص أنَّه لا يتأثّر بِرُدود الفعل، ولو أنَّ الناس أساؤوا إليه، وتكلّموا ما تكلّموا، ولو أنَّهم تطاوَلوا ؛ تفعل هذا لوَجه الله تعالى وحدهُ.

 

الآية التالية شهادة عظيمة من الله جلّ جلاله بِفَضْل الصّديق :

 أيها الأخوة الكرام، هذا منهج، وهذا توجيه، وهذا تعليم، أما الشيء اللَّطيف وقد لا ننتبه إليه أنّ الله سبحانه وتعالى حينما يقول:

﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ﴾

[ سورة النور: 22 ]

 هذا شهادة عظيمة من الله جلّ جلاله بِفَضْل الصّديق، ولا شكّ أنَّ هذه الآية تُشير إليه بِإجماع العلماء، وإجماع المسلمين فلا يخطر في بال الإنسان شخصٌ آخر، حينما يقول الله عز وجل:

﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ﴾

[ سورة النور: 22 ]

 من المقصود في هذه الآية؟ سيّدنا الصّديق، إذاً ما معنى كلمة أولي الفضل؟ لعلّك تفهم هذه الكلمة على أنّها تعني صاحب المال إذاً والسَّعة؟ أَيُعْقل أن يمدح الله إنسانًا بالدنيا؟ لو أنّه مدح الناس بالدنيا لمدَحَ الكفار، هؤلاء الأغنياء والأقوياء، والذين يصولون، ويجولون، ويمرحون، ويرتعون، وينتهكون الحرمات، ويقترفون الآثام، أَيُعقل أن يمدحهم الله تعالى بدُنياهم لو أنَّ الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها الكافر شربة ماء ، أريد أن أصل من هذا الكلام إلاّ أن كلمة " أولو الفضل " هذا مدحٌ في الدين لا في الدنيا، لا يليقُ بالله عزّ وجل أن يمدحَ أحد عبادهِ بِدُنياه، هو أعطاه الدنيا، وإذا مُدح الإنسان بالدنيا فهناك الكفار والفجار والمنحرفون الذين يفعلون من الأعمال ما يندى له الجبين، أَيُعْقَلُ أن يُمْدح الإنسان في الدنيا في كتاب الله؟ إذًا من هم أولو الفضل؟" أولو الفضل في الدّين، فهذه شهادة من الله جلّ جلاله لِسيّدنا الصِّديق؛ الذي ما طلعَت شمس على رجل بعد نبيّ أفضل من أبي بكر، وهذا ما قالهُ بعض العلماء إنَّه أفضل الصحابة على الإطلاق، "لو وُزِنَ إيمان الخلق مع إيمان أبي بكر لرجَح إيمان أبي بكر"! "ما طلعَت شمس على رجل بعد نبيّ أفضل من أبي بكر"، "سُدُّوا كلّ خوخةٍ إلا خوخة أبي بكر ما ساءني قطّ"، "ما دَعَوْتُ أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له كَبْوَة إلا أخي أبا بكر ؛ أعطاني مالهُ، وزوَّجَني ابنتَهُ، وما ساءني قطّ، فاعْرِفوا له ذلك".
 أجمعَ المُفسِّرون من دون استثناء على أنَّ المراد من قوله تعالى أولو الفضل أبو بكر رضي الله عنه، وهذه الآية تدلّ على أنَّه كان أفضلَ الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لأنَّه تعالى ذكرهُ في معرض المدح، والمدح من الله تعالى في الدنيا غير جائز، لا يمكن أن يمدح الله إنسانًا بالدنيا؛ لأنَّ الدنيا أهْوَنُ على الله من جناح بعوضة، أيُمكن أن يمدحَ أحداً بالدنيا؟ فتَعَيَّن أن يكون المراد من الفضل في الدِّين، إذًا أفضل الصحابة على الإطلاق سيّدنا أبو بكر بِنَصّ هذه الآية.

أفضل الصحابة على الإطلاق سيّدنا أبو بكر بِنَصّ هذه الآية :

 قال بعض العلماء: ولو أُريد به الفضل بالدنيا لكان قوله: والسَّعة تكريرًا لا معنى له قال تعالى:

﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ﴾

[ سورة النور: 22 ]

 إذا كان الفضل هو الغنى، والسَّعَة هي الغنى، فالتَّكرار لا معنى له، فلمَّا أثْبت الله الفضل المطلق وجَبَ أن يكون أفضلَ الصحابة على الإطلاق بعد رسول الله.
 وقال أبو السّعود: أولو الفضل منكم؛ أيْ في الدِّين، وكفى به دليلاً على فضل الصّديق رضي الله عنه، هذه شهادة من الله، طبعًا قوله تعالى:

﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾

[ سورة التوبة: 40]

علو شأن الشخص الذي كنَّاهُ الله تعالى مع جلاله بِصيغة الجمع :

 وردَ أيضاً ما يشير إليه في القرآن الكريم مرّة ثانية، قال تعالى:

﴿ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾

[ سورة النور: 22 ]

 شيءٌ أيضًا دقيق، هذا خطاب بِصيغَة الجمْع، والمراد به أبو بكر الصّديق، فأنت أحيانًا تُخاطب إنسانًا بالجمع، تقول له: زرْناكم فلمْ نجدْكم، أتَيْناكم فلمْ نحْظَ بِلِقائِكم، أعْطَيْتُمونا ونحن لكم شاكرون، وأنت تخاطب شخْصًا، فأنت أقلّ منه تُخاطبُهُ تعظيمًا، لكن خالق السموات والأرض، هذا الذي نصَرَ دينهُ ونصر رسولهُ، لا يوجد إنسانٌ أخلص لإنسان كسيِّدِنا الصِّديق لرسول الله في الهجرة كان يمشي أمامه تارةً، وخلفهُ تارةً، وعن يمينه تارةً، وعن شماله تارةً، يقول له ما لك يا أبا بكر؟ فيقول: والله يا رسول الله أخشى عليك الطّلب فأمشي وراءك، أخشى عليك أحدًا من أمامك فأمشي أمامك، كلّ هذا من شدّة محبّته وإخلاصه، فأنت حينما تنصر النبي تنصر الله، وحينما تنفق مالك في سبيل الحق فهذا المال يقعُ في يد الله قبل أن يقع في يد هؤلاء.
 الاستنباط الثاني، أنَّ الله جلّ جلاله خاطبهُ بصيغة الجمع، والمراد به أبو بكر الصّديق رضي الله عنه.
 قال الإمام الفخر الرازي رحمه الله: فانْظر إلى الشخص الذي كنَّاهُ الله سبحانه وتعالى مع جلاله بِصيغة الجمع، كيف يكون علُوّ شأنه عند الله؟
 قلتُ لكم قبل قليل: أنت إنسانٌ لك قريب كبير في السنّ، رجلٌ في عملك أكبر منك، أنت تحت جناحه، إذا خاطَبْتهُ بالجمع كان هذا مقبولاً أمَّا إلهٌ عظيم يُخاطب سيّدنا الصديق بالجمع تكريمًا له، فهذه شهادة ثانية ما بعدها من شهادة، هناك كلمة يقولها بعض الصوفيّين: إنَّ جبريل نزل وقال له: يا محمّد أبْلغ صاحبك أنَّ الله راضٍ عنه، فهل هو راضٍ عن الله؟ أنت عندما يكون لك مكانة عند الله؛ شيءٌ لا يوصَف، عند خالق الكون، وعند الأزليّ الأبَدي، عند الواحد الأحد، الفرْد الصَّمد، الذي بيده كلّ شيء، إن كانت لك حُظْوَةٌ عندهُ تشعر بِطُمأنينة ما بعدها طمأنينة، فالآن بأيّ مجتمعٍ إذا كان للإنسان حُظوَة فهو في قِمّة المجتمع، عند الملك هل يخشى أحدًا في كلّ هذا المجتمع؟ إن كانت لك حُظوَةٌ عند إنسان عظيم تشعر بِطُمأنينة ما بعدها طمأنينة فكيف إذا كانت لك حظوَةٌ عند مالك الملوك؟ عند خالقِ السموات والأرض؟

 

خصائص السيّدة عائشة :

 أيها الأخوة، هناك بعض الأشياء المتعلّقة بهذه الآية؛ من خصائص السيّدة عائشة رضي الله عنها، هي قالَت عن نفسها: "لقد نزلَ جبريل عليه السلام بصورتي في راحَتِهِ حينما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يتزوَّجَني، ولقد تزوَّجني بِكرًا وما تزوَّجَ بكْرًا غيري ولقد تُوُفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإنّ رأسهُ لفي حِجري، ولقد دُفنَ في بيتي، ولقد حفَّتْهُ الملائكة في بيتي، وإنّ الوحي ليَنْزلُ عليه في أهله فيتفرَّقون عنه، وإنه كان ينزل عليه وأنا معه، وإنِّي لابنة خليفته وصديقه، ولقد نزلَتْ براءتي من السماء، ولقد وُعِدْت مغفرةً، ورزقًا كريمًا"، وكلّ هذا من خصائص السيّدة عائشة التي اتَّهَمها أهل الإفك بالفاحشة.

على الإنسان ألا يروِّج خبرًا يطْعنُ بأهل الحق بِصَرْف النَّظَر عن صحَّته أو عدم صحَّته:

 ولكن أريد أن أضعَ بين أيديكم هذه الحقيقة: إيَّاك أن تُروِّجَ حديثًا فيه إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، لو فرضنا إنسانًا سمعَ خبرًا غير صحيح عن رجل له صبْغة دينيَّة؛ هذا الخبر لا تُروِّجُهُ، وهذا استنباط، بِصَرْف النّظَر عن كون هذا الخبر صدقًا أو كذبًا، لا تُزَعْزِع ثقة الناس بأهل الحق، لا تزعزع ثقة الناس بِرِجال الدِّين، قد يكون هذا الخبر غير صحيح، هناك شخص لِمُجرَّد أن يستمع إلى خبر يُذيعُهُ بين الناس، كفى بالمرء إثمًا أن يحدِّث بِكُلّ ما سمع، وأهل الكفر والفجور لا يحْلو لهم شيء إلا أن يطْعنوا بأهل الحق، من دون تحقّق، ومن دون تثبّت، مثلاً شاربو الخمر قد يتَّهمون إنسانًا لا يشربها بأنّه يشربها من غير دليل، من أجل أن يُضَعضِعوا ثقة الناس بالدّين، فأنت إيَّاك أن تكون حلقةً في هذا المؤامرة القذرة، لا تروِّج خبرًا يطْعنُ بأهل الحق، بِصَرْف النَّظَر عن صحَّته أو عدم صحَّته.
 إن أردْنا أن نستنبط من هذه القصَّة، قال تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة النور: 19 ]

 ماذا فعل؟ ما فعلَ شيئًا إطلاقًا إلا أنّه أراد أن تشيع الفاحشة، فكيف بالذي يُشيعُ الفاحشة، فالآية دقيقة جدًّاً، إن أحْببْتَ أن تشيع الفاحشة أوْعَدَ الله بهذا عذابًا في الدنيا والآخرة هذا في الذي أحبَّ أن تشيع ولم يفْعل شيئًا، ولم ينطق بكلمة، ولم ينبس ببِنت شفة، فكيف إذا روَّجَها هو؟! لذلك كما يقولون: اتِّهام المحصَنَة وقذفها يهدم عمل مئة سنة.

عدم بُطْلان العمل بارتِكاب الذنوب :

 وفي درسٍ سابق فيما أذكر بيَّنْتُ لكم أنَّه لا فرْق بين الذّكَر والأنثى، إنسان لم ترهُ بِعَيْنك يرتكب الفاحشة، تقول: أغلب الظنّ أنَّه يرتكب الفاحشة!! لا، هذا قذف، وجزاء من يقول هذا ثمانون جلْدة، قال تعالى:

﴿ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ﴾

[ سورة النور: 4 ]

 قذف المحصنات كقذْف المحصنين، وقذف النساء كقَذْف الرجال، وقذف الرجال كقذْف النساء، أجْمعَ المُفسِّرون على أنَّ المُراد من قوله تعالى:

﴿ أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾

[ سورة النور: 22]

 مسْطَح، لأنَّه كان قريبًا من أبي بكر، وكان من المساكين، وكان من المهاجرين، و مِمَّن يلوذ بِأبي بكر، وكان قد وقع في حديث الإفك وقذف عائشة، ثمَّ تابَ بعد ذلك، ولا شكّ أنَّ القذف من الذنوب الكبائر، وقد احتجَّ أهل السنَّة والجماعة بهذه الآية على عدم بُطْلان العمل بارتِكاب الذنوب، فهو له عمل، وله ذنب كبير، فهذا الذنب الكبير لا يلغي عمله السابق، ويؤكِّد هذا النبي عليه الصلاة والسلام حينما ارْتكبَ حاطب بن أبي بلتعة الخيانة العظمى، وأبلغَ قريشًا أنَّ محمّدًا سيَغْزوكم فخُذوا حِذْركم، ماذا قال سيّدنا عمر؟ قال: دَعْني أضرب عُنُقَ هذا المنافق، ماذا قال له النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال له: لا يا عمر، إنَّه شهِدَ بدْرًا! أرأيْت إلى هذه الرحمة أو إلى هذا الإنصاف؟ فإذا كان لك عمل عند الله تعالى فهذا لا يُهْدر، أما العمل الثاني فتُحاسبُ عليه، وتُعاقَبُ عليه أشدّ العقاب، ولكنَّ العمل السيئ لا يُبْطل العمل الصالح، وهذا اسْتنباط مريح وبِشارة، لك عمل، ولك إنفاق، واتِّصال بالله، ولكن لك أخطاء واجتهادات خاطئة وكلمات غير جيّدة، فهذه الكلمات تُحاسب عليها، وهذا العمل محفوظ عند الله تعالى.
 قال: وجه الاستدلال أنّ الله سبحانه وتعالى وصفَ مسْطحًا بِكَونه من المهاجرين في سبيل الله، بعد أن أتى بالقذف، الآية:

﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾

[ سورة النور: 22 ]

 الله تعالى أثْبتَ لِمسطح أنَّه هاجر في سبيل الله، ثمّ ارْتكبَ كبيرة، والكبيرة له عليها عذاب عظيم، ولكن هل هذه الكبيرة تلغي هجرته في سبيل الله؟ قال له: لا يا عمر إنَّه شهد بدْرًا على سيّدنا حاطب بن بلتعة، إذًا هذه بِشارة؛ وهي أنّ عملك الصالح محفوظ، أما عملك الآخر فسوف تحاسب عليه حساباً شديداً، فدلّ على كونه مهاجراً لم يسقطْ لإقدامهِ على القذفِ.

من أشرك فقد حبط عمله :

 وقد قال العلماء: لا يحبط العمل إلا بالإشراكْ، الإنسان إذا أشركْ فقد حبطَ عمله، إذا ارتكب مخالفة يحاسب عليها ويعاقبْ، وقد يعاقب أشدَّ العقابْ، لكن هذه المخالفة مع إيمانه بالله وتوحيدهِ له لا تلغي عملهُ الصالح، إما إذا أشرك فقد حبطَ عملهُ، ولا يحْبِطُ العمل إلا الرِّدَة والعياذُ بالله، الشرك والرِّدَة بمعنى أن يرْتّد عن دينهِ، أن يعود كافراً:

(( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ))

[ متفق عليه عن أنس بن مالك ]

من استحلّ المعصية فقد وقع في الردة :

 إلا أن هناك ملاحظة دقيقة إذا اسْتَحللتَ المحارم وقعتَ في الرِدَّة، أو تأكل الربا وأنت مقتنِع بأنك لا تفعل شيئاً؛ الإنسان إذا ارتكب معصية، ولم يعبأ بأنّها معصية بل قال: هي حلال أي إذا استحلّ ما حرّم الله، وإذا وقعَ فيما حرّم الله، فأي معصية يعاقب عليها، لكن حينما يقع إنسان في معصية، ويعلم بأنّها معصية هو مؤمن إلاّ أنّه أصبحَ عاصياً، والعاصي يعاقب أما حينما يستحلُ معصيةً فقد وقعَ في الرِدَّة.
 إذاً من ارتكب معصية أو استحلّ فرضاً، أو لم يقبل فرضاً فرضه الله عليه، إذا استحليت الحرام أو حرّمت الحلال فقد حبط عملك، ومن يكفر بالإيمان فقد حبطَ عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين، ومن ارتدّ منكم عن دينهِ فيمت وهو كافر فأولئك حبطتْ أعمالهم في الدنيا والآخرة هذا أول حكم.

العفو والصفحْ عن المسيء حسن والإسلام يسعُ الناس جميعاً :

 الحكم الثاني هل العفو عن المسيء واجب؟ اتفق الفقهاء على أن العفو والصفحْ عن المسيء حسن والإسلام يسعُ الناس جميعاً قال تعالى:

﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ﴾

[ سورة النور: 22 ]

 هنا أمر، هل هذا أمر أم نذَبْ؟ إذا كان أمراً كل إنسان ما عفا عن خصمِهِ أصبح عاصياً، من حقكَ، وجزاءُ كلُ سيئة سيئةٌ مثلها، قال تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ﴾

[ سورة الشورى: 39 ]

 من حقكَ أنْ تأخذ مالكَ من الناس؛ ولكن حينما أمرك الله أن تعفو و تصفحْ هذا أمرُ ندبْ وليس أمرَ وجوب.
 عندنا حالة إذا غلب على ظنِّك أن عفوك عنه يصلحُهُ فيجب عليك أن تعفو عنه، وإذا غلب على ظنِّك أن انتصارك منه يؤدِّبهُ فينبغي أن تنتصرَ منه، مثلاً سائق أرعن يسْتَهتِرْ بأرواح المواطنين، يستخفُ بهم، فإذا قتل طفلاً خطأً، وأنت عفوت عنه يتابع انحرافه، أما إذا أدّبته، وأدخلته السجن، ولم تعفُ عنه، وإن غلب ظنُّك على أن عفوك يصلحهُ فينبغي أن تعفو عنه، وإذا غلب على ظنِّك أن أخذك حقك منه يؤدِّبهُ فينبغي أن تنال منهُ. إلاّ أن العلماء أجمعوا على أنّ قوله تعالى:

﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ﴾

[ سورة النور: 22 ]

 الأمر هنا للندبْ، والإرشادْ، وليس للوجوب لأن الإنسان يجوزُ له أن يقتّص مِمَن أساء إليه فلو كان العفو واجباً لما جازْ طلب القصاصْ، ومما يدّلُ على ذلك قوله تعالى:

﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾

[ سورة الشورى: 40 ]

من أراد أن يكون من أولي الفضل فليصل من قطعه و ليعفُ عمن ظلمه :

 أما النّبي عليه الصلاة والسلام فتأكيداً لهذا الحكم يقول:

((لا يكون العبد ذا فضل ...))

 قال تعالى:

﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ﴾

[ سورة النور: 22 ]

 الله عزّ وجل مدحَ سيدنا الصديق بأنه من أولي الفضل؛ إذا إنسان انتصر من خصمِهِ، وأخذ منه بقدرِ ما نالهُ منه، لا شيء عليه لكن مقبول، فأما قوله تعالى:

﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ﴾

[ سورة النور: 22 ]

 إن كنت تريد أن تكون من أهل الفضل، يقول عليه الصلاة والسلام:

((لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه، ويعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه))

[ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق عن أبي هريرة]

 فأنت اختر هناك مقبول، وجيّد، وجيّد جداً، وامتياز أي شرف؛ إذا انتصرت من خصمك، ونلت منه، وجزاءُ كلُ سيئة سيئةٌ مثلها، فأنت مقبول ولا شيء عليك، لكنك إن صفحت عنه، وارتفعت إلى مرتبة أولي الفضل فهذا هو درسنا اليوم، كيف سيدنا الصديق أمره الله أن يعفو عمّن أساء إليه أيّما إساءة، أي إساءة تغفر أما أن يتّهم ابنتك الغالية بأنها زانية بدون أن يتحقق بدون دليل، ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال:

((إن فاطمة بضعة مني من أغضبها أغضبني ))

[النسائي عن المسور بن مخرمة]

 أحياناً الإنسان يتقرب من شخص بأولادهِ، الابن بضعةٌ من أبيه، بعيداً عن صَلاحِهِ أو عدم صَلاحِهِ يمكن أن يكون الابن وسيلة لتصل إلى قلب أبيهْ، فلذلك الشيء الدقيق هنا أنك إذا عفوتَ عمّن أساء إليك أشدّ الإساءة فأنت من أهل الفضلِ، والحديث معروف:

(( أَمَرَنِي رَبِّي بِتِسْع : خَشْيَةِ الله في السِّرِّ والعلانية، وكلمة العدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأن أَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي، وأعطي مَنْ حَرَمَنِي، وأعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنِي، وأن يكون صَمْتي فِكْرا، ونُطْقِي ذِكْرا، ونظري عبرة ))

[أخرجه زيادات رزين عن أبي هريرة ]

 وقال أيضاً:

((لا يكون العبد ذا فضل -استنباطاً من هذه الآية- حتى يصل من قطعه، ويعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه))

[ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق عن أبي هريرة]

ندب العفو عن المسيء :

 لذلك يُندبُ العفو عن المسيء لقوله تعالى:

﴿ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾

[ سورة النور: 22 ]

 هنا "ألا" حرف حض.

﴿ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾

[ سورة النور: 22 ]

 أنت عندك إمكان أن تناجي ربّك، يا ربّي إذا كان يرضيك أن أعفو عن هذا الإنسان الذي ظلمني فأنا أعفو عنه، أنا أريدُ رضاك يا ربّ، المؤمن أمام رضا الله كل شيء يهون، في بعض الحالات يسيء إليك إنسان إساءة لا تغتفر لكن نظيرة أن الله يحبُّك ويرفعك إلى مرتبة أولي الفضل بعفوك عن أخيك فاعف عنه إذاً قال تعالى:

﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾

[ سورة الأنفال: 1 ]

 و الحديث الشريف :

((بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس، إذ رأيناه ضحك ، حتى بدت ثناياه، فقال عمر : ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ قال : رجلان جثيا بين يدي رب العزة عز وجل ، فقال أحدهما : خذ لي بمظلمتي من أخي . قال الله : أعط أخاك مظلمته. قال: يا رب، لم يبق من حسناتي شيء . قال الله تعالى للطالب : كيف تصنع بأخيك، ولم يبق من حسناته شيء؟ قال : يا رب ، فيحمل من أوزاري » ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبكاء ، ثم قال: « إن ذاك ليوم عظيم يحتاج فيه الناس إلى أن يحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله عز وجل للطالب: ارفع بصرك، فانظر في الجنان، فيرفع رأسه، فقال : أرى مدائن من فضة ، وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ، لأي نبي هذا؟ لأي صديق هذا؟ لأي شهيد هذا؟ قال جل وعز: هذا لمن أعطاني الثمن. قال: يا رب ، ومن يمتلك ثمن هذا ؟ قال : أنت تملكه . قال: بم؟ قال: بعفوك عن أخيك. قال: يا رب ، فقد عفوت عنه، فيقول: خذ بيد أخيك، وأدخله الجنة » قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم؛ فإن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة ))

[ أبو داود عن أنس]

 قال تعالى:

﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة آل عمران: 134 ]

قانون الالتفاف و الانفضاض :

 اسمحوا لي أن أقول لكم: إن هناك آية قرآنية مثل المعادلة الرياضية تماماً قال تعالى:

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾

[ سورة آل عمران: 159 ]

 أي يا محمد بسبب رحمةٍ في قلبك من خلال اتصالك بنا كنت ليِّناً مع الخلق فالتفّ الناسُ حولك فأحبُّوك، ولو لم تكن لك هذه الصلة بنا استقرّت في قلبك القسوة فكنت فظاً غليظَ القلب فانفضّ الناسُ من حولك، فأين المعادلة؟ اتصال، رحمة، لين، التفاف، انقطاع، قسوة، فظاظة، انفضاض؛ يلتّفُ الناس حول الرحيم، وينْفضُّوا من قاسي القلب، وعلامة الإيمان رحمة الله في قلبك، وعلامة البُعْد عن الله القلب القاسي، وإنّ أبْعَدَ قلْبٍ عن الله هو القلب القاسي، وإذا أردتم رحمتي فارْحَموا خلقي، والراحمون يرحمهم الرحمن، وارْحموا من في الأرض يرحمكم مَن في السماء، لا تنتقِم ولا تُحاسِب الناس، أنت أحْسِنْ إليهم لِوَجه الله، أنت سيّدهم.

((لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه، ويعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه))

[ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق عن أبي هريرة]

 فَيُنْدَبُ العفوُ عن المسيء لقوله تعالى:

﴿ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾

[ سورة النور: 22 ]

 لقد علَّقَ الله المغفرة بالعفو والصَّفْح.

من حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فلْيأت الذي هو خير :

 الحكم الثالث في هذه الآية: ذهب الفقهاء إلى أنّه من حلفَ على يمينٍ فرأى غيرها خيرًا منها ينبغي له أن يأتي الذي هو خير، وأن يُكفِّر عن يمينه، فأكثر الناس في ساعة الغضب يحلف يمينًا، لن أزور أختي، لن أتصدَّق، لن أُقرضَ أحدًا، لن أفْعل خيراً، الحكم الشرعي يجب عليك بأمْر النبي عليه الصلاة والسلام:

((من حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير))

[ مسلم عن أبي هريرة]

 هذا هو الحكم الشرعي، ولا أحدَ يحْتجّ باليمين، النبي الكريم يأمرك أن تكفِّر عن يمينك، وأن تأتي بالذي هو خير، لذلك قالوا: تجب الكفارة بالحنث في اليمين سواءٌ أكان الحانث في أمرٍ فيه خير أو غير ذلك؛ خير أو شرّ فالحنث في اليمين يوجب الكفارة.
 هناك رأْي مرجوح أنّ الذي يأتي بما هو خير ليس عليه كفارة، لكن الاستدلال ضعيف، ولكن الأرجح والأقوى أنّه بِمُجرّد أن تتحلّل من يَمينك أو أن تحنث بها عليك الكفارة، والفرْق بين التَّحلّل والحنْث، أنَّ دَفعُ الكفارة قبل الحنث تحلُّل، ودفع المال بعد الحنث كفارة، قبل الحنث أيْ قبل مخالفة اليمين، قبل أن تخالف دفعْت؛ هذا تحلل، وبعد المخالفة كفارة فصار أوَّل حكم وثاني حكم وثالث حكم.

آية اليوم تعلمنا الأخلاق و مقابلة الإساءة بالإحسان :

 أيها الأخوة، والله هذه آية مهمّة جدًّاً، هذه تعلّمنا الأخلاق، تعلّمنا أنَّ هناك مرتبة مقبول، ومرتبة أولي الفضْل، أولو الفضل أن تصلَ من قطعَك، وأن تعْفُوَ عمَّن ظلمكَ، وأن تعْطِيَ من حرمك، وألا تقابل المسيء بالإساءة، قابِلْ إساءتهُ إليك بالإحسان إليه، والدليل الأخير قال تعالى:

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾

[ سورة فصلت: 33-34]

 أيْ اِدْفع السيّئة لا بالحُسنى، ولكن بالتي هي أحْسَن، قال تعالى:

﴿ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾

[ سورة فصلت:34-35]

 دخل عمَير على رسول الله والخنزير أحبّ إليّ منه، وخرج من عنده وهو أحبّ إليّ من بعض أولادي، لا توجد عداوة، عوِّدْ نفسكَ قلبًا منفتِحًا، وقلبًا طيِّبًا، وقلبًا يعفو، وقلبًا صافيًا، والله عز وجل هو العفوّ، وهو الكريم والغفار، وهو الذي يتجاوَزُ عن إساءتنا، فتَعَلَّمَ من الله عز وجل كيف يعْفُوَ على عباده المُذْنبين.
 أتمنَّى من أخواننا الكرام إن كانت هناك خصومة أو مشكلة بين شخصين اِذْهب واعْتذِر، أو قدِّم هديَّة، أو حاوِلْ أن تُبادِرَ أنت، لا تجعل بينك وبين أحدٍ حقْدًا، ولا بغْضًا، ولا قطيعةً، ولا هوَّةً كبيرة، وهذه آية العفْو، إن أردْت أن ترتفع إلى مستوى أهل الفضل فاعْفُ عمَّن ظلمك، وصِلْ من قطَعَكَ، وأعط مَن حرمَكَ.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور