وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 47 - سورة المائدة - تفسير الآيات 109 - 110 ، خصوصية السيد المسيح.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الله تعالى سيجمع الخلائق ويجمع معهم الرسل ويسألهم عن استجابة الناس لهم :


 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس السابع والأربعين من دروس سورة المائدة، ومع الآية التاسعة بعد المئة، وهي قوله تعالى: 

﴿  يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(109)﴾

[ سورة المائدة  ]

 هذه الآية أيها الإخوة يتضح منها أن الله سبحانه وتعالى سيجمع الخلائق، ويجمع معهم الرسل، وسيسألهم: كيف كانت استجابة الناس لكم؟ لم يقل: بماذا أجبتم؟ ولو كان السؤال هكذا لكان الله جل جلاله قد أراد التفاصيل، ولكن سألهم: ماذا أُجِبتم؟ تماماً كما لو أن طالباً أدى امتحاناً مصيرياً، إذا دخل إلى البيت يُسأَل سؤالا إجماليّاً: كيف كنت؟ يقول: جيد، لكن في لقاء أطول يُسأل عن تفاصيل الإجابة. 
إذاً السؤال الآن: 
﴿مَاذَا أُجِبْتُم﴾ هل استجاب الناس لكم أو لم يستجيبوا؟ والآية الثانية التي توضح هذه الآية: 

﴿  فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً(41)﴾

[  سورة النساء ]


أي استجابة من الناس للأنبياء هي استجابة في الظاهر لكن المضمون متعلق بالنوايا :


 الرسل سوف يُسألون: ﴿مَاذَا أُجِبْتُمْ﴾   ماذا قابل الناس دعوتكم؟ استجابوا لكم أو لم يستجيبوا؟ وأتباع الرسل يسألون أيضاً، هل استجبتم لدعوة أنبيائي أم لم تستجيبوا؟ فالرسول له سؤال، والذي أُرسل إليه له سؤال، أما النبي عليه الصلاة والسلام فهو شاهد علينا يوم القيامة: 
﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً﴾ .
 لكن جواب الأنبياء: 
﴿قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا﴾ الحقيقة أن الجواب يحتاج إلى تأمُّل، كيف لا علم لهم به؟ ألم يلتقوا بالناس؟ ألم يروا أن بعض الناس قد آمن بهم، والبعض لم يؤمن؟ لمَ قالوا: لا علم لنا؟ هو يسألهم كيف كانت استجابة الناس لهم؟ هم عاصروا، وهم عاينوا، هم الذين عاشوا مع الناس، فكيف يقولون: لا علم لنا، من أدق ما قاله المفسرون حول هذه الإجابة التي لا تعني التفاصيل: أن الأعمال الظاهرة لا قيمة لها عند الله إلا إذا رافقتها نوايا عظيمة ونوايا مخلصة، فنحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، فأي استجابة من الناس لأنبياء الله عز وجل فهذه الاستجابة في الظاهر، لكن المضمون متعلق بالنوايا.

الإخلاص لا يتطلع عليه أحد إلا الله :


 لو أن إنساناً يملك أراضي شاسعة، وجاء مَن أخبره أنك إذا تبرعت بأرض لمسجد، البلدية تضطر أن تنظّم الأرض، وأن تجعلها محاضر، وعندئذٍ ترتفع قيمتها إلى ضعفين، فهذا صاحب الأرض بدافع من حبه للربح، يقدم قطعة أرض لتكون مسجداً، فكل من شاهد هذا التبرع يثني عليه، ما شاء الله، مُحسِن كبير، قدّم الأرض لتكون مسجداً، لكن الله وحده يعلم أنه ما قدّم هذه الأرض لتكون مسجداً، إلا من أجل تنظيم الأرض، ورفع ثمنها، فلذلك نحن جميعاً كبشر نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، فأنا حينما لا أزكّي أحداً على الله أكون متأدباً مع الله، أنا حينما لا أزكي أحداً أكون متأدباً مع الله، لذلك كان السلف الصالح إذا أرادوا أن يُزكّوا إنساناً قالوا: نحسبه صالحاً، ولا نزكي على الله أحداً، إذاً: إجابة الأنبياء من هذا القبيل: ﴿قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا﴾ بعض الناس استجابوا لنا، لكن بمَ استجابوا؟ ما مستوى إخلاصهم؟ ذلك لأن الإخلاص لا يطّلع عليه أحد إلا الله، لا ملَك ولا غير ملَك، تقوم بعمل طيّب، من هنا جاء قوله تعالى: 

﴿  وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً(23)﴾

[  سورة الفرقان ]

 عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: 

((  لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضاً، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ أخوانكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا  ))

[ أخرجه ابن ماجه عَنْ ثَوْبَانَ ]

 إذاً: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً﴾ .

الإخلاص في العبادة هو الذي يعطي العبادة قيمتها :


 ذكرت مرةً أن رجلاً لزم الصف الأول في صلاة الفجر أربعين عاماً، وفي أحد الأيام غفل عن وقت صلاة الفجر، فلم يحضر الصلاة، فقال: ماذا يقول الناس عني في هذا اليوم؟ فُهِم من هذا القلق أنه إنما يصلي من أجل الناس، فلذلك قضية الإخلاص قضية مهمة جداً، أنا لا أريد أن أُبخّس عمل أي إنسان، ولكن لينتبه الإنسان أن الإخلاص أساس الدين، الإنسان مُكلّف أن يعبد الله مخلصاً له الدين، الإخلاص في العبادة هو الذي يعطي العبادة قيمتها. إذاً من شدة أدبهم مع الله: ﴿قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا﴾ .
 والنبي عليه الصلاة والسلام كان عند بعض أصحابه الذين توفاهم الله، كان من عادته عليه الصلاة والسلام أنه إذا توفي أحد أصحابه كان يأتي بيته قبل أن يُغسّل، من باب التكريم، فبلغه أن أحد أصحابه اسمه أبو السائب قد وافته المنية فذهب إلى بيته فسمع امرأة تقول من وراء الستار: (هنيئاً لك أبا السائب لقد أكرمك الله) لأنه نبي مرسل، ولأن سنته أقواله، وأفعاله إقراره، فلو سكت لكان كلامها صحيح، فقال لها: (وما أدراك أن الله أكرمه؟ قولي أرجو الله أن يكرمه) وفرق كبير بين أن تقول: أكرمك الله، وبين أن تقول: أرجو الله أن يكرمك، قال لها: (وأنا نبي مرسل لا أدري ما يفعل بي ولا بكم) 
عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: 

(( أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ، وَغُسِّلَ، وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟ فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي، وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي، قَالَتْ: فَوَ اللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَداً بَعْدَهُ أَبَداً ))

[ البخاري و أحمد عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ]

 نحن من باب علم اليقين، من هو الذي يدخل الجنة مؤكداً؟ عشرة أشخاص في الأمة الإسلامية، بشّرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالجنة، وما سوى ذلك على الرجاء جميعاً، ليس معنى هذا أن عملك الصالح يضيع عند الله، لا، ولكن من باب الأدب مع الله لا يجوز لأحد أن يتألّى على الله، أنت حينما تحكم على مصير إنسان حكماً قطعياً هذا سماه العلماء التألّي على الله، قال لها: (وَاللَّهِ مَا أَدْرِي، وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي) .

خصوصية السيد المسيح عند الله عز وجل :


 إذاً كلمة الأنبياء والرسل ﴿لَا عِلْمَ لَنَا﴾ كلمة توحيدية، وفي أعلى درجة من الأدب: 
﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ أنت المطلع يا رب على الخبايا، أنت الذي تعرف السرائر، أنت الذي تعرف الظاهر، وتعرف الباطن، وتعرف السرائر، أنت الذي تعرف ما يُخفيه الإنسان عن الآخرين، وتعرف ما يخفى عنه، وتعلم ما يخفي، وتعلم ما يخفى عنه، لذلك قال تعالى: 

﴿ يَوْمَئِذٍۢ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18)﴾

[ سورة الحاقة ]

 علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون. 
﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ .
 الآن يوجد سؤال مُوجّه لسيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام لخصوصية في هذا النبي الكريم، ذلك أن الله سبحانه وتعالى بعث الأنبياء والمرسلين، من الناس مَن استجاب لهم، ومن الناس مَن لم يستجب لهم، من الناس مَن كذبهم، من الناس مَن آمن بهم، لكن السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام له خصوصية، ذلك أن الذين دعاهم إلى الله إما أنهم ألّهوه، أو أنهم وصفوه بأنه ابن الإله، إذاً لا بد من سؤال تفصيلي حول هذه الظاهرة التي ينفرد بها السيد المسيح.

لم يذكر في القرآن إلا السيدة مريم وحدها :


 قال تعالى: 
﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾

﴿ إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِى ٱلْمَهْدِ وَكَهْلًا ۖ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَىٰةَ وَٱلْإِنجِيلَ ۖ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْـَٔةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًۢا بِإِذْنِى ۖ وَتُبْرِئُ ٱلْأَكْمَهَ وَٱلْأَبْرَصَ بِإِذْنِى ۖ وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِى ۖ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَآ إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ(110)﴾

[ سورة المائدة ]

 ولم يُذكَر في القرآن إلا السيدة مريم وحدها، لأن سيدنا عيسى ليس له أب فقال الله عنه: عيسى بن مريم. 
﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ﴾ والحقيقة هناك ملمح في الآية دقيق جداً، هو أن هذه النّعَم يعرفها السيد المسيح معرفة تامة، هو الذي تلقاها من الله عز وجل، أو جرت على يديه، ولكن هذا تقريع للذين لم يؤمنوا به، كل هذه النِّعَم وهذه المعجزات التي أجراها الله عليه، ومع ذلك لم تؤمنوا: 

أقدس ما في المرأة عفتها والسيدة مريم صدّيقة النساء:


﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ حينما أراد الله جل جلاله أن تكون معجزة هذا النبي أنه ولد من دون أب، أمه السيدة العذراء ولدته من دون أن يمسها بشر، والمألوف عند الناس أن التي تلد ولا زوج لها، تُعَد عند الناس زانية، وهذا الذي دعا السيدة مريم أن تقول: 

﴿ فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ قَالَتْ يَٰلَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23)﴾

[  سورة مريم ]

 شيء عظيم أن تُتَّهم المرأة بعفتها، وأقدس ما في المرأة عفتها، وكانت هذه السيدة صدّيقة النساء: 
﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً﴾ .
 وقال سبحانه: 

﴿  يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً(28)﴾

[ سورة مريم ]

 في الآية إشارة إلى أن الوالدَين الصالحَين من لوازم صلاحهما أن يكون الابن صالحاً. 
﴿مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً﴾ لذلك لهذا النبي الكريم خصوصية.

تكلم عيسى عليه السلام في المهد ليبرئ أمه معجزة كبيرة :


﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ روح القدس هو سيدنا جبريل عليه السلام. 
﴿تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾ الطفل في المهد لا يملك شيئاً، فهو ضعيف ضعفاً مطلقاً، لا يستطيع لا أن يتكلم، ولا أن يأكل وحده، ولا أن يقضي حوائجه وحده، فحضيض الضعف حينما يكون الطفل في المهد، المهد فراش مُهيّأ له، لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً، لو أن في الفِراش بحصة لا يستطيع أن يزيلها، هذا الطفل الذي في المهد إذا به ينطق، ويتكلم، لأن أمه لزمت الصمت، هي مُتّهمة الآن، ودفاعها عن نفسها لا يُقدم ولا يُؤخر، والناس لن يُصغوا لها، فكانت هذه المعجزة أن وليداً في المهد يقول: 

﴿  قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً(30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً(31)﴾

[  سورة مريم ]

 تكلُّم هذا الوليد وهو في المهد ليبرّئ أمه، هذه معجزة كبيرة، هذا يذكرنا بماشطة بنت فرعون، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( لَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلَادِهَا، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ سَقَطَتْ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ، فَقَالَتْ لَهَا: ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي، قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ، قَالَتْ: أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْبَرَتْهُ، فَدَعَاهَا، فَقَالَ: يَا فُلَانَةُ، وَإِنَّ لَكِ رَبّاً غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ، فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلَادُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَتَدْفِنَنَا، قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنْ الْحَقِّ، قَالَ: فَأَمَرَ بِأَوْلَادِهَا، فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِداً وَاحِداً، إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا أُمَّهْ اقْتَحِمِي، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ صِغَارٌ؛ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ وَشَاهِدُ يُوسُفَ وَابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْن ))

[ أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ]


الأم آية من آيات الله الدالة على رحمته :


 الأم آية من آيات الله الدالة على رحمته، وحينما رأى النبي عليه الصلاة والسلام أماً تقبّل ابنها وتضمه وتشمه وهي على التنور، سأل أصحابه: (أتُلقي هذه بولدها إلى النار)؟ قالوا: (معاذ الله)، قال: (والذي نفس محمد بيده لله أرحم بعبده من هذه بولدها) عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: 

(( كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ، فَمَرَّ بِقَوْمٍ فَقَالَ: مَنْ الْقَوْمُ؟ فَقَالُوا: نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ، وَامْرَأَةٌ تَحْصِبُ تَنُّورَهَا، وَمَعَهَا ابْنٌ لَهَا، فَإِذَا ارْتَفَعَ وَهَجُ التَّنُّورِ تَنَحَّتْ بِهِ، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَتْ: أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَرْحَم بِعِبَادِهِ مِنْ الْأُمِّ بِوَلَدِهَا؟ قَالَ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ الْأُمَّ لَا تُلْقِي وَلَدَهَا فِي النَّارِ، فَأَكَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْكِي، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَّا الْمَارِدَ الْمُتَمَرِّدَ الَّذِي يَتَمَرَّدُ عَلَى اللَّهِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ  ))

[ ابن ماجه عَنْ ابْنِ عُمَرَ ]

 إخوتنا الكرام، يكاد يكون قلب الأم آية دالة على عظمة الله، وعلى رحمته، بل إن أرحم الخلق بالخلق من دون استثناء هو سيد الخلق وحبيب الحق، ومع ذلك قال الله له: 

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ(159)﴾

[  سورة آل عمران ]

 نكرة، كل هذه الرحمة التي حملته على أن يبكي طوال الليل على الكفار، يقول عليه الصلاة والسلام: 

(( لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً  ))

[ البخاري عن أنس ]

 لأنه يحمل همّ البشرية، وقد يحمل أحدنا همّ أسرته فقط، وهناك من لا يحمل همّ أسرته، يضيّعهم، هناك من يحمل همّ أسرته المُوسّعة، أخواته وإخوته، هناك من يحمل همّ المسلمين في بلدة صغيرة، لكن النبي عليه الصلاة والسلام لعُلوّ مقامه عند الله كان يحمل همّ البشرية، لذلك كان أرحم الخلق بالخلق، ومع كل ذلك قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ .

أحد أنواع النصر أن تموت موحداً :


 الرحمة جاءت نكرة، وهي دليل أنها أقلّ من الرحمة التي قال الله عنها: 

﴿ وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ ۖ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ ۚ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِۦ مَوْئِلًا(58)﴾

[ سورة الكهف ]

 الرحمة كلها عند الله، هذه الأم لما رأت ابنها الرضيع على وشك أن يُلقى في النار تضعضعت وسكتت، فأنطق الله ابنها الرضيع: اثبتي يا أمي فإنك على الحق، وقالت الله ربي وربك وألقاه في النار حتى تفحّم، ثم ألقاها في النار حتى تفحّمت (قَالَ: يَا أُمَّهْ اقْتَحِمِي، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ)
هل انتصر عليها أم انتصرت عليه؟ لقد انتصرت عليه، أحد أنواع النصر أيها الإخوة أن تموت موحِّداً، أحد أنواع النصر ألا تستجيب لأي ضغط، لذلك أصحاب الأخدود هم الذين انتصروا على الذي أحرقهم، وقد تنسحب هذه الحقائق على ما يجري في العالم الإسلامي اليوم، هذا الذي يُقتَل موحِّداً، يُقتل مستقيماً، يُقتل صحيح العقيدة، هذا الإنسان هو المُنتصر، مع أنه فقد الحياة، ولأن هناك حياةً أبدية فيها: 

(( الجنَّةِ ما لا عَينٌ رَأتْ، ولا أُذُنٌ سمِعَتْ، ولا خطَرَ على قَلبِ بَشَرٍ. ))

[ المسند عن أبي هريرة ]

لا قيمة لهذه الحياة الدنيا، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ))

[ الترمذي عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ]

 النبي عليه الصلاة والسلام في الإسراء والمعراج شمّ رائحة ما شم مثلها قط: 
لَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، وَأَوْلَادِهَا.
 إذاً: تهمة كبيرة جداً، امرأة مُتّهمة بعرضها، امرأة مُتّهمة بعفتها، امرأة مُتهمة بأثمن ما تملكه المرأة، لو أنها دافعت عن نفسها لا أحد يصدقها، لو أن أناساً دافعوا عنها لا أحد يصدقهم، شيء لم يكن له سابقة، غلام يولد من امرأة غير متزوجة، بحسب الوقائع والمألوف والعادات هي زانية قطعاً، واليهود اتهموها بالزنا أساساً، لذلك جاء نطْق ابنها أعظم تبرئة لها.

السيد المسيح كلّم الناس في المهد بمعجزة وسيكلمهم كهلاً بعد أن يعود إلى الأرض : 


﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ روح القدس هو جبريل. 
﴿تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾ كنت ضعيفاً، فكلّمتَهم بقدرتي. 
﴿وَكَهْلاً﴾ كلّم الناس في المهد بمعجزة، وسيكلمهم كهلاً بعد أن يعود إلى الأرض. 

﴿ إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّى مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ ۖ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(55)﴾

[  سورة آل عمران ]

 بعد أن تعود: ﴿فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ .
 هذه معجزة، وهذا فضل كبير أن الله برّأ السيدة مريم بأن أنطق ابنها الوليد الذي هو في المهد.

أساليب الدفاع عن المؤمنين لا تعد ولا تحصى:


 إذاً: ﴿اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ﴾ يعني إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان الله عليك فمن معك؟ والحمد لله على وجود الله، وحينما تكون بريئاً أمام الله، الله جل جلاله يتولّى أن يدافع عنك. 

﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُدَٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍۢ كَفُورٍ(38)﴾

[  سورة الحج ]

 وأساليب الدفاع عن المؤمنين لا تُعد ولا تحصى، تكون مُتَّهماً فيأتي إنسان حيادي، بعيد، يشهد ما رأى فيُبرِّئك، هذا الذي دافع عنك هو في الحقيقة دفاع الله عنك، وأنت حينما يحبك الناس، أحبك الله فألقى محبتك في قلوب الخلق، الآن دافعَ الله عنك، أي ألهم أناساً مُنزّهين عن الهوى أن ينطقوا بالحق، فيدافعوا عنك. 
والقصص أيها الإخوة التي تجري مع المؤمنين إذا كانوا أطهاراً ومتقين كيف يتولى الله الدفاع عنهم، والله لا تعد ولا تحصى، يكون في تهمة لا بد من أن تحيط به، فيأتي إنسان، ويتكلم بالحق، ويلغي هذه التهمة.

الكتاب هو الوحي المتلو والحكمة هي الوحي غير المتلو أي الحديث الشريف الصحيح :


﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ﴾ بعضهم فسرها بالكتابة. 
﴿وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ﴾ كلامه كان حكمة، وكان كلام النبي عليه الصلاة والسلام هو الحكمة. 

﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾

[ سورة الجمعة ]

 آياته الكونية. 
﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ الكتاب الوحي المتلو، والحكمة الوحي غير المتلو، وهو الحديث الشريف الصحيح. 
إذاً: الذي تكلم به سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام هو الحكمة، وقد عُلّم الكتابة والتوراة، التوراة: درسها وعلمها، والإنجيل: أُنزِل عليه، هذه النِّعم التترى على هذا النبي العظيم.

شاع الطب كثيراً في عصر سيدنا عيسى فجاءت معجزته مما تفوق فيه القوم:


﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ﴾ وكمعجزة: 
﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ لأنه الذي يخلق الطير طيراً هو الله عز وجل، أما البشر فمكَّنه الله عز وجل أن يصنع من الطين شيئاً يشبه الطير، لكن الله تولى أن ينفخ فيه الروح: 
﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي﴾ بقدرتي وعلمي. 
﴿فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًۢا بِإِذْنِى﴾ جاءت بإذني مرتين: 
﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي﴾ وقد شاع الطب كثيراً في عصر سيدنا عيسى، فجاءت معجزته مما تفوق فيه القوم، تفوقوا في الطب. 

الله عز وجل أجرى على يد سيدنا عيسى معجزة إحياء الموتى :


﴿وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي﴾ فأبرأ الأكمه والأبرص.
﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي﴾ نقل الميت من الموت إلى الحياة، الطب مهما تقدم، لو ذهبت إلى أكبر بلاد العالم تقدماً، لو جُبتَ أعلى مستشفيات العالم، إذا توقف القلب، ومات الدماغ انتهى كل شيء، يقف الطب عاجزاً أمام حالة الموت، ولا يستطيع أن يحيي الميت إلا الله، لكن الله سبحانه وتعالى أجرى هذه المعجزة على يد سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. 
﴿فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي﴾ وحينما ائتمر عليه بنو إسرائيل كي يقتلوه ما استطاعوا أن يفعلوا ذلك، حفظه الله عز وجل، وقتلوا إنساناً شُبِّه لهم، وكان خائناً. 

﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكٍّۢ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًۢا(157)﴾

[ سورة النساء ]

 إذاً: ﴿وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾
 يروى أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الغار قال له الصديق: يا رسول الله لقد رأونا، أي وقعت عينهم عليهما، قال: يا أبا بكر ألم تقرأ قول الله تعالى: 

﴿ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُواْ ۖ وَتَرَىٰهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)﴾

[  سورة الأعراف ]


المعجزات التي جاء بها السيد المسيح كانت بإذن الله وقدرته لا بإذن المسيح وقدرته:


﴿وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ إذاً هناك أسئلة تفصيلية لهذا النبي الكريم لأن له خصوصية، وهي أن الذين حوله، والذين أُرسِل إليهم وصفوه بأنه إله، أو بأنه ابن الإله، فجاءت هذه التفاصيل، فأن يخلق من الطين ما يشبه الطير، فينفخ فيه فيكون طيراً كان هذا بإذن الله وقدرته ولا بإذن المسيح وقدرته: ﴿بِإِذْنِي﴾ جاءت مرتين. 
﴿وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي﴾ لا بقدرة المسيح ولا بإذنه، ولكن بقدرة الله وإذنه.
﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي﴾ أي: بقدرة الله وإذنه، لا بقدرة المسيح وإذنه، إذاً هو عبد يُجري الله على يديه المعجزات.

لم تتحد المعجزة مع الكتاب عند السيد المسيح كتابه الإنجيل شيء ومعجزاته شيء آخر:


﴿وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ﴾ أحياناً الله عز وجل يحفظه، يُعمي عنه الأبصار، أرادوا قتله ولم يستطيعوا: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ .
﴿وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ أيها الإخوة الكرام، لا بد قبل نهاية الدرس من توضيح هذه الحقيقة، إذا أراد الإنسان الحقيقة فأقلّ شيء في الكون يدله على الله، البَعرة تدل على البعير، والماء يدل على الغدير، والأقدام تدل على المسير، وإن لم يتخذ قراراً بطلب الحقيقة، وكان في أكبر محطة فضاء في العالم، يرى المجرات بعينه، لو كان على مجهر إلكتروني يرى الخلية بدقائقها لا يؤمن، العبرة أن يكون هناك قرار ذاتي في أعماق نفسه في البحث عن الحقيقة.
 فهؤلاء رأوا إنساناً يصنع من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فإذا هو طير حقيقي، يُبرئ الأكمه، ويبرئ الأبرص، ويُحيي الموتى، ينطق وهو في المهد، هذه كلها معجزات، والمعجزات هي في الحقيقة شهادة الله للناس أنهم أنبياء الله عز وجل.
 ولكن لم تتحد المعجزة مع الكتاب عند السيد المسيح، كتابه الإنجيل شيء، ومعجزاته شيء آخر، والله عز وجل لم يتولَّ حفظ التوراة والإنجيل، وأمر بحفظهما، والأمر بالحفظ شيء، والحفظ التكويني شيء آخر، أمر بحفظ التوراة والإنجيل فبناء على قوله تعالى: 

﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَىٰةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلْأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُواْ بِـَٔايَٰتِى ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْكَٰفِرُونَ(44)﴾

[  سورة المائدة ]

 فالأنبياء نفّذوا هذا الأمر التكليفي، وحفظوا التوراة والإنجيل، ولكن الأتباع لم ينفذوا هذا الأمر، وغيروا التوراة والإنجيل، لكن المعجزة شيء، والكتاب شيء آخر، ولكن في القرآن الكريم اتحد القرآن مع المعجزة، والمعجزة في القرآن علمية، مستمرة إلى يوم القيامة، ففي القرآن ألف وثلاثمئة آية تتحدث عن الكون، بسبْق علمي لا يصدق عاقل على وجه الأرض أن يستطيع البشر وقت نزول القرآن أن يفهموا هذه القضايا العلمية، لكن تقدم العلم هو الذي كشف عن جوانب عظمة هذه الآيات، فكانت هذه الآيات في خانة الإعجاز العلمي في القرآن، والإعجاز العلمي في القرآن أكبر دليل على أنه كلام الله، الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.
 وفي درس آخر إن شاء الله تعالى نتابع الآيات التي تتحدث عن هذا النبي العظيم، الكريم، السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.

والحمد لله رب العالمين 


دعاء:


بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تُهنّا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أَرضِنا وارضَ عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور