وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 25 - سورة المائدة - تفسير الآية 45-49، القصاص وحفظ القرآن من التغيير والتزوير.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق 
 حقاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. 

القاتل يبقى حياً والمقتول يبقى حياً حينما يشرع أن القاتل يُقتَل: 

 أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس والعشرين من دروس سورة المائدة، ومع الآية الخامسة والأربعين، وهي قوله تعالى: 

﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلْأَنفَ بِٱلْأَنفِ وَٱلْأُذُنَ بِٱلْأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُۥ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ(45) ﴾

[ سورة المائدة ]

 أي شرعنا لهم ، على أيّ كلمة تعود (فيها)؟ الآية التي قبلها:

﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلْأَنفَ بِٱلْأَنفِ وَٱلْأُذُنَ بِٱلْأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُۥ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ(45) ﴾

[ سورة المائدة ]

 أي في التوراة ، أيها الأخوة الكرام؛ الله عز وجل يقول:

﴿ وَلَكُمْ فِى ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يَٰٓأُوْلِى ٱلْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) ﴾

[ سورة البقرة ]

 أي إذا أيقن القاتل أنه سيُقتَل فلا يَقتُل، فإن لم يَقتُل بقي حياً، وإذا أيقن القاتل أن القتل ينتظره إذا قتل أبقى على من سيكون ضحيته حياً، فالقاتل يبقى حياً، والمقتول يبقى حياً، حينما يشرع أن القاتل يقتل. 

العالم اليوم يقترب من الدين لا عن إيمان بالدين ولكن عن تحقيق لمصالحه: 

 أيها الأخوة؛ الإنسان أحياناً يجتهد، وقد يحاول أن يأتي بتشريع جديد، وحينما ألغي حكم الإعدام من بعض الدول تفاقمت الجرائم بشكل واضح جداً، فهذا يقتل عشرين شخصاً، وهذا عشرة، وهذا يدخل إلى مدرسة ابتدائية ويقتل معظم الطلاب، فحينما يكون السجن هو العقاب، ففي السجن بقي الإنسان حياً، على كلٍ هذا تشريع خالق الأكوان، الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تُتَّبَعُ تعليماتها هي الجهة الصانعة، لأن الجهة الصانعة هي الجهة الخبيرة. 

﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) ﴾

[ سورة فاطر ]

 والعالم اليوم يقترب من الدين لا عن إيمان بالدين، ولكن عن تحقيق لمصالحه، لأن الذي خلق الإنسان هو أعلم به، أعلم بما يردعه، أعلم بما يمنعه، من أن يفعل كذا وكذا فالله عز وجل يقول: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ ﴾ تقتل ﴿ بِالنَّفْسِ ﴾ والقاتل يقتل، وأن العين تفقأ بالعين، وأن الأنف يجدع بالأنف، وأن الأذن تُصلَمُ بالأذن، وأن السن تخلع بالسن ﴿ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ أي الجرح أيضاً يقتص به بجرح، لكن هذا الحكم حكم العدل، فأين الإحسان؟ والله عز وجل:

﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإِحْسَٰنِ وَإِيتَآئِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ وَٱلْبَغْىِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (20) ﴾

[ سورة النحل ]

من حكم الله أن الذي قتل له إنسان هو ولي المقتول يجب أن يباشر القتل بيده: 

 من حكم الله عز وجل أن الذي قتل له إنسان هو ولي المقتول، يجب أن يباشر القتل بيده، لأن في هذا شفاء له، والإنسان حينما يملك أن يقيم حد القتل بيده قد يعفو، والحالات التي تنتهي بالعفو لا تعد ولا تحصى، حينما يشعر ولي القتيل أنه بإمكانه أن يقتص من قاتل ابنه، ويوضع الأمر بيده طبعاً برقابة وبضوابط كثيرة جداً كما هو مطبق في بعض البلاد الإسلامية، في الأعم الأغلب يعفو، لأنه حينما سلمناه أمر أن يأخذ بيده بالقصاص شفي صدره، بينما في بعض البلاد الأخرى التي يقتل فيها القتيل تثور الثارات بين أطراف الأسر، وقد لا تنتهي إلا بعدد كبير من القتلى، هذا شرع الله عز وجل ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ لكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يدعونا إلى الإحسان، والقاعدة أيها الأخوة أن الله عز وجل حينما قال:

﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) ﴾

[ سورة الشورى ]

 من صفات المؤمن أنه ينتصر:

﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) ﴾

[ سورة الشورى ]

 حينما يعفو صاحب الدم، ويغلب على ظنه أن عفوه يصلح من عفا عنه فينبغي أن يعفو، وعندئذٍ يتولى الله مكافأته. 

العفو مشروع في الإسلام لكن إقامة العدل قسري والإحسان طوعي:

(( بَعَثَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ برَجُلٍ مِن بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ له: ثُمَامَةُ بنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بسَارِيَةٍ مِن سَوَارِي المَسْجِدِ، فَخَرَجَ إلَيْهِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَالَ: ما عِنْدَكَ يا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِندِي خَيْرٌ يا مُحَمَّدُ؛ إنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وإنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ علَى شَاكِرٍ، وإنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَلْ منه ما شِئْتَ، فَتُرِكَ حتَّى كانَ الغَدُ، ثُمَّ قَالَ له: ما عِنْدَكَ يا ثُمَامَةُ؟ قَالَ: ما قُلتُ لَكَ: إنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ علَى شَاكِرٍ، فَتَرَكَهُ حتَّى كانَ بَعْدَ الغَدِ، فَقَالَ: ما عِنْدَكَ يا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِندِي ما قُلتُ لَكَ، فَقَالَ: أطْلِقُوا ثُمَامَةَ. فَانْطَلَقَ إلى نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنَ المَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ المَسْجِدَ، فَقَالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، يا مُحَمَّدُ، واللَّهِ ما كانَ علَى الأرْضِ وجْهٌ أبْغَضَ إلَيَّ مِن وجْهِكَ، فقَدْ أصْبَحَ وجْهُكَ أحَبَّ الوُجُوهِ إلَيَّ، واللَّهِ ما كانَ مِن دِينٍ أبْغَضَ إلَيَّ مِن دِينِكَ، فأصْبَحَ دِينُكَ أحَبَّ الدِّينِ إلَيَّ ، واللَّهِ ما كانَ مِن بَلَدٍ أبْغَضُ إلَيَّ مِن بَلَدِكَ، فأصْبَحَ بَلَدُكَ أحَبَّ البِلَادِ إلَيَّ، وإنَّ خَيْلَكَ أخَذَتْنِي وأَنَا أُرِيدُ العُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَمَرَهُ أنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ له قَائِلٌ: صَبَوْتَ! قَالَ: لَا، ولَكِنْ أسْلَمْتُ مع مُحَمَّدٍ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولَا واللَّهِ، لا يَأْتِيكُمْ مِنَ اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. ))

[ أخرجه البخاري ]

العفو مشروع في الإسلام، لكن إقامة العدل قسري، بينما الإحسان طوعي، فالله عز وجل العدل : ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ﴾ أي له أن يقتل فعفا، وله أن يقتص لعين، أو لأنف، أو لأذن، أو لسن، فعفا، وله أن يقتص لجرح فعفا، فهذا الذي يعفو يكفر الله له من ذنوبه بقدر ما عفا: ﴿ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ ﴾ وكأن العفو شيء يتصدق به: ﴿ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ .

حينما ترد قضية من قضايا العقائد في الإسلام فهذا كفر: 

 لو استعرضنا أيها الأخوة هذه الآيات الثلاثة، الآية الأولى حينما قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ أنت حينما ترد قضية عقدية، أو حينما ترد قضية من قضايا العقائد في الإسلام، حينما ترد ربوبية الرب العظيم، أو حينما ترد ألوهية الإله العظيم، أو حينما ترد كتاباً أنزله الله عز وجل، فهذا كفر:﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ لكن حينما لا تقتص من القاتل، أو ممن تسبب فيه فَقْء العين، أو جدع الأنف، أو صلم الأذن، أو خلع السن، أو إيقاع الجرح، فهذا ليس كفراً، ولكنه ظلم شديد: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ .

الذي يتميز به نبينا محمد أن المعجزة التي جاء بها مطابقة للكتاب الذي أنزله الله عليه: 

 قال تعالى: 

﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَىٰةِ ۖ وَءَاتَيْنَٰهُ ٱلْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَىٰةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ(46) ﴾

[ سورة المائدة ]

سيدنا عيسى جاء بعد سيدنا موسى، معنى قفينا أي جاء بعده ﴿ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ﴾ الإنجيل يصدق ما في التوراة، والقرآن يصدق ما في التوراة والإنجيل، لأن المصدر واحد، إلا أن الحقيقة التي ينبغي أن تكون واضحة جداً هو أن الله سبحانه وتعالى جعل لكل قوم نبياً يوم كان التقاطع بين الأمم، أما حينما صار التواصل جعل نبياً واحداً، وجعله آخر الأنبياء لكل أمم الأرض.

﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) ﴾

[ سورة سبأ ]

 لأن الله علم أنه سيكون ثمة تواصل بين بني البشر، الأرض الآن سطح مكتب، أي شيء يحدث في أطراف الدنيا يصلك بعد ثوانٍ من وقوع الشيء، يصلك صوتاً وخبراً وصورة، والأرض كلها في متناول يدك، إذاً الله عز وجل جعل نبينا عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعل رسالته لكل الناس أجمعين، إلا أن الذي يتميز به النبي عليه الصلاة والسلام أن المعجزة التي جاء بها مطابقة للكتاب الذي أنزله الله عليه. 

لكل قوم نمط من المخالفات والمعاصي وجاء التشريع معالجاً لهذا النمط بالذات:

 سيدنا عيسى معجزته إحياء الموتى، بينما الكتاب الذي بين يديه هو الإنجيل، وسيدنا موسى معجزته العصا، بينما الكتاب الذي بين يديه هو التوراة، هناك انفصال بين الكتاب والمعجزة، وسيدنا عيسى وسيدنا موسى كلفا، وكلف بالمقابل أتباعهما بحفظ التوراة والإنجيل بأمر تكليفي، لا بأمر تكويني، لذلك نفذ الأنبياء الكرام هذا الأمر، ولم ينفذه أتباعهم، فطرأ على التوراة والإنجيل تغيير وتبديل، وهذا ما جاء في القرآن الكريم، أما نبينا عليه الصلاة والسلام لأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، ولن يأتي كتاب بعد القرآن يصحح التغيير الذي تم فيه كما كان في السابق، لأن النبي عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء والمرسلين، ولأن كتابه الذي جاء به القرآن الكريم خاتم الكتب المنزلة، ولأن المعجزة هي نفسها الكتاب الذي جاء به، لذلك تولى الله حفظه بأمر تكويني، لذلك لا يمكن لأحد كائناً من كان إلى يوم القيامة أن يغير في القرآن حرفاً ولا حركةً، وذكرت لكم في الدرس السابق أن هناك دراسات متعلقة بنظم القرآن الكريم تؤكد أنه لو غير حرف واحد لفسد نظام القرآن كله: ﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ﴾ .
 أيها الأخوة؛ ما دام الأقوام في تباعد فقديماً كان لكل قوم مشكلات، قوم لوط عليه السلام انحرفوا في العلاقات المثلية، قومٌ آخرون بخسوا الكيل والميزان، قوم آخرون أكلوا أموال الناس بالباطل، فلكل قوم نمط من المخالفات والمعاصي، وجاء التشريع معالجاً لهذا النمط بالذات، وهذا يؤكده قوله تعالى: 

﴿ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلَآ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِۦٓ ۗ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ ۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) ﴾

[ سورة الرعد ]

 ويؤكده قوله أيضاً:

﴿ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ ۚ لِكُلٍّۢ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَىٰكُمْ ۖ فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَٰتِ ۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(48) ﴾

[ سورة المائدة ]

جاء القرآن الكريم مهيمناً على الكتب السابقة وناسخاً لها يعالج قضايا البشر كافة: 

 إلا أن سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام كما قال الله عز وجل: ﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ﴾ الهدى والنور في الإنجيل غير الهدى والنور في التوراة، لأن التوراة نظمت العلاقات المادية لليهود، فأصبحوا ماديين، إذاً هم بحاجة إلى شحنة روحية، فجاء الإنجيل بهدى ونور يختلف عن الهدى والنور الذي جاء به التوراة، هنا تنظيم علاقات مالي، هنا شحنة روحية، فجاء القرآن الكريم مهيمناً على الكتب السابقة، وناسخاً لها، يعالج قضايا البشر كبشر مجتمعين، ويعالج هذه القضايا إلى يوم الدين ﴿ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ هناك ملمح لطيف جداً في الآية أن الإنجيل فيه هدى ونور ﴿ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ لمن أراد أن يتقي الله عز وجل، هناك طلب أولي، أنت حينما تريد أن تتقي الله، حينما تريد أن تعرف الله، حينما تريد أن تطيع الله، حينما تريد أن تسأل: لماذا أنا في الدنيا؟ الآن أي شيء ينفعك، أية آية تدلك، أية موعظة تهزك، أية حادثة تثيرك، لأنك اتخذت قراراً أولياً بطلب الحقيقة. 

ردّ العقائد كفر وردّ حقوق البشر ظلم وردّ العبادات فسق: 

 أيها الأخوة؛ قضية دقيقة جداً، أنت إذا أردت الحقيقة، أردت الحق، أردت الهدى، أردت أن تحقق الهدف من وجودك، أردت الله والدار الآخرة، هذا قرار أولي، إذاً أي شيء بعد اتخاذك هذا القرار ينفعك ويرقى بك، ويمدك بعلم وبطاقة وبإرادة. أما حينما لا تتخذ هذا القرار الأولي لو كنت في أكبر محطة فضاء في الأرض، وترى بعينك المجرات البعيدة جداً، ولو كنت على مجهر الكتروني ترى الخلية مكبرة أربعة آلاف مرة، وحينما ترى بالتلسكوبات والميكروسكوبات عجائب خلق الله عز وجل لا تهتدي، وما من مثل يقرب هذه الحقيقة من أنك إذا أردت الحقيقة، وسعيت إليها كنت كآلة تصوير فيها فيلم يلتقط الصورة، أما إذا لم ترد الحقيقة، ولم تسعَ إليها كنت كآلة تصوير ليس لها فيلم، فمهما فتحت العدسة مئات المرات فليس لهذه الصور أي أثر في الآلة، لذلك الله عز وجل يقول: 

﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلْإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ(47) ﴾

[ سورة المائدة ]

 الذي لا يحكم بما أنزل الله إن كان عدم الحكم متعلقاً بالعقائد فهذا كفر، والذي لا يحكم بما أنزل الله إذا كان عدم الحكم متعلقاً بالحقوق فهذا ظلم، والذي لا يحكم بما أنزل الله إن كان عدم حكمه متعلقاً بالعبادات فهو فسق، رد العقائد كفر، ورد حقوق البشر ظلم، ورد العبادات فسق: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ .

ردّ العقائد كفر وردّ حقوق البشر ظلم وردّ العبادات فسق: 

 أيها الأخوة: 

﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾

[ سورة المائدة ]

 الآن الخطاب إلى النبي عليه الصلاة والسلام: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾ أي القرآن، أي المعهود، تقول: هذا الرجل، وتكلم هذا الرجل، الألف واللام في الكلمة الثانية للعهد، المعهود، نكون في دائرة نقول: جاء المدير، أي مدير؟ مدير الدائرة، نكون في احتفال نقول: جاء الوزير، أي وزير؟ المعني المعهود، فهذه أل العهد، فنحن بيننا معهود أن الكتاب الذي أنزل على رسول الله هو القرآن: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾ بالحق، أي أن هذا القرآن لا يستطيع أحد تحريفه، ولا تبديله، ولا إضافة شيء عليه، ولا حذف شيء منه لأن الله تولى حفظه بأمر تكويني، والدليل: أن العالم كله يهتم بالقرآن وطباعته وتيسيره بشكل لا يصدق، مؤسسات كبيرة جداً. 

ترتيب الآيات وترتيب السور ترتيب توقيفي: 

 القرآن يطبع بأحلى الخطوط، ويضاف إلى نصه الحركات والسكنات وأحكام التجويد بشكل رائع، ثم يترجم إلى جميع اللغات، وبأحجام وأشكال وأساليب لا يصدقها العقل، هذا كله تنفيذ بحكمة حكيم من الذي تولى حفظه، الآن أي برنامج تجد فيه البحث، يمكن أن تبحث عن كلمة في القرآن الكريم، فتأتي كل الكلمات في كل الآيات، يمكن أن تقتني حجماً صغيراً جداً يسمعك كلام الله عز وجل بقراءة أشهر القراء، والنص على الشاشة، وحجمه حجم صغير جداً، فهناك وسائل للقرآن طباعية والكترونية وجدارية وبأحجام وبأشكال وبخطوط وبترجمات تفوق حد الخيال، لأن الله تولى حفظه، ولأن الله تولى تيسيره للناس.

﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) ﴾

[ سورة القمر ]

 والذي يدهشك أنك إذا سافرت إلى بلاد بعيدة شرقاً تستمع إلى القرآن الكريم من أفواه الطلاب بشكل لا يصدقه العقل، ولا يفهمون كلمة واحدة باللغة العربية ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ .
﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾ بالحق أي بالثبات، القرآن الذي بين أيديكم بكل طبعاته، وكل أشكاله، هو الكتاب نفسه الذي نزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إن ترتيب الآيات ترتيب توقيفي، حتى إن ترتيب السور ترتيب توقيفي، مع أنه نزل منجماً فكان جبريل عليه السلام يقول: يا محمد ضع هذه الآية في المكان كذا، وهذه الآية في المكان كذا، ترتيب الآيات وترتيب السور ترتيب توقيفي. 

لا يمكن أن تنجح حالة من حالات تزوير أو تبديل القرآن الكريم لأن الله تولى حفظه: 

 قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ لكن لا يعني هذا الكلام أنه لا تجري محاولة للتغيير، لأن الحفظ لا يعني عدم وجود محاولة، ولكن الحفظ يعني عدم نجاح المحاولة، لذلك قبل خمسين عاماً تقريباً طبع خمسين ألف نسخة من المصحف بحذف كلمة واحدة، ومن يبتغي الإسلام ديناً فلن يقبل منه، بحذف كلمة غير، والنسخ جمعت وأحرقت، الكلام الدقيق أنه لا تنجح حالة من حالات التزوير أو التبديل، لأن الله تولى حفظه، هذه حكمة أرادها الله عز وجل أنه ما منع المحاولات، ولكن منع نجاحها، أما أن تضاف كلمة أو أن تحذف كلمة، وأن يكون الكتاب بين أيدينا، ولا ننتبه لذلك هيأ الله لهذا الكتاب علماء كبار وعندهم باع طويل، وعندهم جهد كبير، وعندهم صبر مديد، وعندهم طاقات كبيرة جداً من أجل حفظ هذا الكتاب ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ الكتاب الثاني جنس الكتاب، أل الجنس، أي كتاب نزل قبل القرآن هو كتاب، بمعنى أن الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه قبل القرآن اسمه الكتاب، أي جنس الكتاب، تقول: التمرُ، أي جنس التمرِ، الألف واللام هنا ليست عهدية ولكن جنسية: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ﴾ لأنه كتاب خاتم، ولأنه كتاب لكل الأمم والشعوب، ولأنه كتاب إلى نهاية الدوران، إذاً كل حاجات الشعوب، وحاجات الأقوام في هذا الكتاب، وأنت حينما ترى بعض الأخوة الذين آمنوا في بلاد الغرب، كيف يستمتعون بقراءة القرآن، وكيف يذوبون من خشية الله يتأكد لك هذا الذي أقوله لك الآن. 

الحق لا يتعدد لكن الأهواء تتعدد: 

 قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ﴾ يا محمد: ﴿ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ أي لا تجاملهم، الحق أحق أن يتبع، والأهواء تختلف، الحق لا يختلف، الحق لا يتعدد لكن الأهواء تتعدد، أي بشكل أو بآخر حقائق العلم لا اختلاف فيها أبداً في العالم كله، حقائق الفيزياء والكيمياء، مثلاً الذرة في كل بلاد الأرض، شرقاً وغرباً، الحقائق التي يعرفها العلماء في بلاد متخلفة كالحقائق التي يعرفها العلماء في بلاد متقدمة، وقوانين الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك والطب والهندسة قوانين مضطردة وشاملة وموحدة في العالم كله، لكن لماذا تقوم الحروب؟ لأن الشعوب لها أهواء، حينما تتبع أهواءها تقتتل، أما حينما تتبع العلم لا تقتتل، لذلك الله عز وجل قال: ﴿ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ .
مبدأ الطائرة، مبدأ السيارة، مبدأ نقل الصوت، مبدأ البث الإذاعي، أي مبدأ بأي مكان في العالم موحد ومطبق كما هو مطبق في أي بلد آخر، أما الخلافات في الأطروحات الفكرية، والعقائدية، والاجتماعية، والنفسية، والصراعات الطبقية، والصراعات بين الأمم والشعوب، والصراع على الثروات، والصراع على البترول، والصراع على الهيمنة، والصراع على السيطرة، هذه كلها أهواء. 

المحبة أساس العلاقة بين الخالق والخلق: 

 لذلك: ﴿ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ لو أن الإنسان يعتقد أن الله قادر على هداية الخلق هذا اعتقاد صحيح، ولكن قد يسأل لمَ لم يهدهم؟ لأن الله ما أرادنا أن نأتي إليه قسراً، ما أرادنا أن نحمل على الطاعة قسراً، هذه الطاعة القسرية لا تسعد صحابها، أرادنا أن نأتيه طوعاً، أرادنا أن نأتيه محبين، أرادنا أن نأتيه مختارين، أرادنا أن نحبه، المحبة أساس العلاقة بين الخالق والخلق.

﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31) ﴾

[ سورة آل عمران ]

 يحبهم ويحبونه، إذاً: ﴿ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ .
 مثلا: ألا يستطيع عميد كلية العلوم أن يوزع على الطلاب أوراق الامتحان، وقد طبع عليها الإجابة الكاملة؟ طبعاً، بالمطبعة، وأن يكلف الطالب أن يكتب اسمه ورقمه فقط ويخرج، والعلامات مئة بالمئة لجميع الطلاب دون استثناء، ممكن، ما قيمة هذا النجاح؟! لا قيمة له إطلاقاً لا عند إدارة الجامعة، ولا عند الطلاب، ولا عند أولياء الأمور، ولا عند الناس، نجاح ساقط لا قيمة له. 

سعادتنا أن نأتي الله طائعين لا مكبلين: 

 لو أن الله أرادنا أن نهتدي قسراً لهدانا قسراً، ولو شئنا أن نلغي اختياركم، وأن نلغي تكليفكم، وأن نلغي حريتكم، وأن نلغي مبادرتكم: 

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَءَاتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَىٰهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) ﴾

[ سورة السجدة ]

 لو أراد الله أن يجبرنا على شيء فما أجبرنا إلا على الهدى، ولكن جعلنا مختارين، جعلنا أصحاب إرادة، نؤمن أو لا نؤمن، نشكر أو لا نشكر، نصلي أو لا نصلي، نصدق أو لا نصدق ﴿ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ﴾ ليمتحنكم.

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) ﴾

[ سورة الإنسان ]

﴿ وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍۢ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا(29) ﴾

[ سورة الكهف ]

﴿ وَلِكُلٍّۢ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَٰتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ (148) ﴾

[ سورة البقرة ]

 لأن سعادتنا في اختيارنا، لأن سعادتنا في حريتنا، لأن سعادتنا أن نأتي الله طائعين لا مكبلين. 

ابتلاء الله للإنسان هو امتحان له: 

 قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ﴾ ليمتحنكم، يعطي المال لفلان، فلان ينفقه على ملذاته، وعلى شهواته، ويحرمه للفقراء، وفلان يوظفه في أعمال الخير، المال واحد، يعطي الصحة لفلان فيستهلكها في المعاصي والآثام، ويعطي الصحة لفلان فيستهلكها في الطاعات والعبادات: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ﴾ يعطي الإنسان أولاداً وذرية فيربيهم على طاعة الله، ويعطي إنساناً آخر أولاداً وذرية فيربيهم على التمثيل والرقص والغناء والموسيقى، أليس كذلك؟ ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ﴾ يهبكم تمكيناً في الأرض فبعض الذين يمكنون في الأرض يقيمون العدل، ويتواضعون، وبعض الذين مكنوا في الأرض يتغطرسون، ويستعلمون، ويقتلون، ويبتزون أموال الناس بالباطل كما ترون فيما يجري في العالم من طغيان وقتل ونهب وسلب وإفقار وإضلال وإذلال. 

كل جماعة تدّعي أنها على حق لكن الله وحده سيفصل بين عباده يوم القيامة: 

 قال تعالى: ﴿ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ أنتم مخيرون: ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ﴾ بالنهاية نحن جميعاً نرجع إلى الله، وسوف يفصل الله بيننا، وسوف يحاسبنا على كل حركة، وسكنة، وكلمة، وغمز، ولمز، وعبوس، وابتسامة.

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8) ﴾

[ سورة الزلزلة ]

﴿ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ كل يدعي وصلاً بليلى، كل جماعة تدعي أنها على حق، لكن الله وحده سيفصل بين عباده يوم القيامة، ليس هناك عصر كثرت فيه الأطروحات والضلالات والترهات والمشكلات كهذا العصر، لكن الحمد لله على وجود الله، الحمد لله أن الله سيفصل بين عباده يوم القيامة. 

مشكلة المسلمين في العالم اليوم أن الإسلام كشكل وكتراث مقبول أما كمنهج فمرفوض: 

 قال تعالى: 

﴿ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) ﴾

[ سورة المائدة ]

 قال:

﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) ﴾

[ سورة الإسراء ]

هذه مشكلة المسلمين في العالم اليوم، يسمح لنا أن نقيم شعائر الإسلام، وأن تكون هناك مساجد، ومؤتمرات، ومؤلفات، ومكتبات، ولكن لا يريدوننا أن نقيم شرع الله في حياتنا، الإسلام كشكل، كفلكلور، كتراث مقبول، أما كمنهج فمرفوض، لذلك: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾ ما يجري الآن من فسق وفجور في العالم بكل قاراته شيء لا يصدق، لذلك:

(( بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء ))

[ أخرجه مسلم عن أبي هريرة ]

 ما لم تشعر بالغربة في هذا العصر الذي ملئ فساداً وانحرافاً وانحطاطاً وإباحيةً فلست مؤمناً، ما لم تشعر بالغربة فلست مؤمناً، إن كنت منسجماً مع ما يجري، ومع ما يعرض، ومع ما يمثل، ومع كل البرامج، ومشارك بكل برنامج ومستمتع بما يجري فاعلم أنك على خطر شديد، وأن صلاتك الجوفاء لا تقدم ولا تؤخر. 

التغيير والتزوير الآن لا بالنص ولكن بالتأويل: 

 الآن يا أخوان هناك حالة اسمها الخلط، خلط الأوراق، أي كل شيء مباح، وأنت مسلم، كل شيء مباح وأنت مؤمن، وكل شيء مباح والصلاة لوحدها، والقرآن وحده افعل ما بدا لك، انغمس في لذاتك حتى قمة رأسك وأنت مؤمن ومسلم، وإيمانك بقلبك، من الداخل فقط، هذا الخلط الذي نعيشه اليوم .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور