- التربية الإسلامية
- /
- ٠6علم القلوب
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
الله جلّ جلاله جعل وصف المؤمنين هدفاً للإنسان أو مقياساً له :
أيها الأخوة: حينما نقرأ في القرآن الكريم وصفاً للمؤمنين, ينبغي أن نقف وقفة متأنية, وأن نتأمل أين نحن من هذه الأوصاف؟ كأن الله جل جلاله جعل هذا الوصف هدفاً لنا, أو مقياساً, والأصح أن نبدأ بالمقياس, هذا المقياس: المؤمن هكذا يشعر, وهكذا يفعل, وهكذا يقف, وهكذا يتصرف, وهكذا يفعل الله معه, وهكذا يدافع عنه, وهكذا ينصره, وهكذا يطمئنه.
لو أن الإنسان منا جمع صفات المؤمنين التي وردت في القرآن الكريم, فجعلها مقياساً لإيمانه, وسأل نفسه أين أنا من هذه الصفات؟ فإن انطبقت عليه, فهذه نعمة كبرى, وإن لم تنطبق عليه, فليجعلها هدفاً يسعى إليه, أما أن يقرأ صفات المؤمنين, دون أن يفكر لحظة أن يطبقها على نفسه, فهذه قراءة غافلة, ساهية, لاهية.
الله عز وجل جعل هذه الصفات مقياساً, فإن لم تتوفر هدفاً, إن انطبقت عليك هذه نعمة كبرى, وإن لم تنطبق فتحرك إلى أن تصل إليها, أما تقرؤها, وتمر عليها مرور الكرام, ولا تفكر أبداً أن تطبقها على نفسك, فهذه مشكلة, وهذه القراءة التي لا يرضاها الله عز وجل, لأنك لم تنتفع منها, قرأت القرآن بلا فهم.
على الإنسان أن يقلق على قلبه كما يقلق على صحته :
يقول الله عز وجل:
﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ﴾
المخبتون:
﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾
لذلك هناك عالم يقول: -الحسن البصري من كبار التابعين-: "إذا صليت فلم تشعر بشيء, وذكرت الله فلم تشعر بشيء, وقرأت القرآن فلم تشعر بشيء, فهناك خلل خطير في إيمانك".
والإنسان عندما تصيبه أعراض في جسمه, يقلق أشد القلق, ويذهب إلى عند أكبر الأطباء, ويقول لك: يا أخي, هذه عين ليس معها لعبة, يحاول أن يتأكد من سلامة قلبه, من سلامة أعضائه, من سلامة حواسه, يعمل تقريراً, يعمل نسخاً, يعمل تحليلاً, حتى يطمئن, فلماذا نقلق على صحتنا ولا نقلق على قلوبنا؟ مع أن الله عز وجل يقول:
﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ﴾
كلما اتسعت دائرة المعرفة اتسعت معها دائرة الصبر :
علامة الإيمان الصحيح أن يضطرب قلبك إذا ذكرت الله, وعلامة الإيمان الصحيح أن تصبر على قضاء الله وقدره, فالصبر علم؛ الذي يصبر يعرف الله, والذي لا يصبر يغفل عن الله عز وجل, وأكبر دليل: طفل عند طبيب أسنان وراشد, الطفل يبكي؛ وقد يسب, وقد يمتنع, وقد يتحرك حركات عشوائية, لأن إدراكه محدود, لا يحتمل الألم, أما الراشد فقد يقلع ضرساً من دون مخدر, يقول: قلبك لا يتحمل مخدراً, فيصبر.
كلما اتسعت دائرة المعرفة اتسعت معها دائرة الصبر, فالمؤمن يصبر؛ لأنه يوجد عنده يقين أن أفعال الله كلها حكيمة, وكلها رحيمة, وكلها عادلة, وكلها خبيرة. فالعلم يدعو إلى الصبر.
معرفة الإنسان بالله تظهر في الشدة :
ثم يقول تعالى:
﴿وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ﴾
لماذا لم يقل الله: أقام الصلاة و إنما المقيمي الصلاة؟ هناك فرق كبير، هناك معان كثيرة لهذه الآية؛ لكن الله أعلم.
شخص يقول: أقمت البناء؛ لأن البناء يحتاج إلى رخصة, إلى ممهدات, إلى موافقات, إلى حفر أساسات, إلى تأسيس هيكل, ثم إلى إكساء الهيكل, ثم إلى إكساء الهيكل خارجياً, ثم إلى تأسيس البيت, كلمة أقام بناء أي عمل له مراحل عديدة.
كل إنسان يستطيع بأي لحظة أن يصلي, الله أكبر, لكن لا يوجد اتصال, أما الاتصال فيحتاج إلى تمهيد؛ يجب أن يعرف الله, يجب أن يستقيم على أمره, يجب أن يضبط حواسه, وحركاته, وسكناته, ودخله, وإنفاقه, وضبط بيته, وضبط دخله, وضبط إنفاقه.
أن يسمح الله لك أن تتصل به ليست قضية سهلة, لا تأتي بثانية, ليس عملاً عشوائياً, عملاً له ممهدات:
أقام الصلاة- فقط للتوضيح- أقام البناء أولاً جمع أموالاً, بعد ذلك طلب رخصة, بعد ذلك حفر أساسات, بعد ذلك أتى بمهندس, بعد ذلك رسم الخطط, أي مراحل متعددة.
حتى الله عز وجل يسمح لك أن تتصل به, معنى ذلك أنت طاهر, دخلك طاهر, علاقاتك كلها طيبة, عندك انضباط, عندك التزام.
فهذا المخبب الذي يُبشره الله عز وجل إذا ذكر الله وجل قلبه:
﴿وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾
مستحيل الله عز وجل يمنحك الجنة وأنت في الدنيا في رخاء تام, مستحيل أن تمتحن السيارة في النزول, لا بد من أن تمتحن محركها في الصعود.
كل إنسان بالرخاء يمشي, لكن في الشدة المعرفة تظهر في الشدة؛ معرفتك بالله تظهر في الشدة, إيمانك يظهر في الشدة, قوة صبرك تظهر في الشدة, الابتلاء يظهر في الشدة, الشدة تكشف, مثلاً إذا كان الصعود قاسياً جداً, تكشف السيارة يا ترى ترتفع حرارتها؟ يضعف المحرك؟ المحرك حاله متعبة؟ كل الأغلاط تظهر في الصعود, فالابتلاء من سنن ربنا عز وجل:
﴿وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾
الفرق الصارخ بين المؤمن و الكافر :
فهذه الآية أيها الأخوة:
﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾
هناك شيء اسمه إستراتيجية، المؤمن بانت إستراتيجيته على الإنفاق, على العطاء, يسعد إذا أعطى, نذر حياته لله عز وجل, هناك إنسان بانت إستراتيجيته على الأخذ, همه الأول الجمع, والأخذ, واستهلاك جهد الآخرين, واستهلاك أموال الآخرين, همه أن يتمتع، هذا الكافر, المؤمن همه أن يعطي, حتى يرضى الله عز وجل عنه.
فتجد هناك فرقاً صارخاً, أو فرقاً حاداً, أو فرقاً يكاد يكون متناقضاً بين المؤمن وبين غير المؤمن؛ المؤمن بنى حياته على العطاء, الكافر بنى حياته على الأخذ, المؤمن يعطي ولا يأخذ, الكافر يأخذ ولا يعطي, من الصعب أن يجتمعا, لا يجتمع كافر ومؤمن, وكل شيء اسمه وحدة أديان كلام فارغ, ليس له أي معنى, هناك تناقض صارخ.
المؤمن يرجو الله و يتخلق بأخلاقه والكافر تحكمه الأهواء والشهوات والمصالح :
إنسان بنى حياته على الأخذ, وعلى الاستمتاع الرخيص, والمصلحة الذاتية, ولا يعبأ بأي قيمة, وأي مبدأ, هذا الكافر كيف يجتمع مع مؤمن بنى حياته على المبدأ والقيم والعطاء لا على الأخذ و عدم الخوف من الله عز وجل؟ من سابع المستحيلات أن يجتمعا, كما يجتمع الظلام مع النور, لا يجتمعان, أحدهما ينقض الآخر.
يتعاكس لونان -أبيض وأسود-, هناك أشياء متعاكسة, وقد تجمعها أبيض وأسود, أما الأشياء المتناقضة فوجود أحدهما ينقض وجود الآخر, هناك مئة وثمانون درجة بين المؤمن والكافر.
لذلك: التقسيم الحقيقي, البشر يقسمون إلى مؤمنين وإلى كفار؛ المؤمن يرجو الله, يتخلق بأخلاق الله, يسعى لمرضاة الله, يتقرب إلى الله بخدمة الخلق, والنصح لهم, الكافر تحكمه الأهواء, والشهوات, والمصالح فقط.
الحق قيمة موضوعية تحتاج إلى قوة :
في أمريكا قاعدة, يؤمن بها كل من في هذه البلاد: القوة تصنع الحق, أنت قوي, افعل ما تشاء, هذا هو الحق؛ القوي لو انتهك الحرمات في نظرهم حق, لو اعتدى على الشعوب في نظرهم حق, لو داس القيم بقدمه هذا هو الحق, أما عند المؤمنين فالحق ما جاء به الكتاب والسنة, ويحتاج إلى قوة, الحق قيمة موضوعية, تحتاج إلى قوة, أما عند الكفار فالقوة هي الحق, هذا حق أهل الكفر.
أيها الأخوة, مرة ثانية: إذا قرأت القرآن, ووقفت عند أوصاف المؤمنين, فاجعلها مقياساً, فإن انطبقت عليك, فاشكر الله عز وجل, وإن لم تنطبق عليك, فاجعلها هدفاً, واسع نحوها.