وضع داكن
21-11-2024
Logo
علم القلوب - الدرس : 46 - محبة العبد لله جوهر الدين.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

أقدس علاقة هي علاقة الحب بين العبد والرب :

 أيها الأخوة الكرام: خلق السموات والأرض بني على ما يسمى بالمحبوبية، أحبّ الله أن يسعد خلقاً, فخلقهم ليسعدهم.
 فأصل الخلق المحبوبية, وأن يحب الله عز وجل هو جوهر الدين, لأن الله بدأ بمحبته, فقال تعالى:

﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾

[سورة المائدة الآية:54]

 أقدس علاقة, وأول علاقة, وأخطر علاقة, وآخر علاقة، علاقة الحب بين العبد والرب.
 فحقيقة التوبة, العلماء قالوا: "الورع: من كان ورعاً كان تائباً, وحقيقة الورع الزهد: أن تزهد نفسُك, وأن تزهد بنفسك, -أي حظوظ النفس, مطالبها, ميولها, شهواتها, أن تزهد بها, وأن تؤثر طاعة الله عليها-, والرضا: أن تقبل بأحكامه عليها".

﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾

[سورة الطور الآية:48]

 أن ترضى عن الله هو جوهر الدين.

 

من آثر الله على حظوظ نفسه فالطريق إلى الله سالك :

 إنسان يطوف حول الكعبة, يقول: يا رب, هل أنت راض عني؟ فكان وراءه الإمام الشافعي قال: يا هذا, هل أنت راض عن الله حتى يرضى عنك؟ قال: يا سبحان الله! كيف أرضى عنه وأنا أتمنى رضاه؟ قال: إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة, فقد رضيت عن الله, وحقيقة الرضى المحبة, وعلامة المحبة أن تؤثر الله على محبتك, ولا تؤثر عليه شيئاً:

﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾

[سورة التوبة الآية:24]

 هناك حقائق في الطريق إلى الله؛ إذا كان هناك شيء في الأرض آثرُ عندك من الله, فالطريق إلى الله غير سالك, أما حينما يكون الله عز وجل آثرُ عليك من كل شيء فعندئذ الطريق إلى الله سالك.
 قال بعض العارفين: "طلقت الدنيا ثلاثاً ثلاثاً، بتاتاً لا رجعة فيها, وصرت وحدي إلى ربي, فناديته بالاستعانة: إلهي أدعوك دعاء من لم يحبّ غيرك, فلما علم صدق الدعاء من قلبي, كان أول ما ردّ عليّ من إجابته؛ أن أنساني نفسي بالكلية, ونصب الخلائق بين يدي, مع إعراضي عنهم".

 

من يحبّ لله و يعطي لله فقد زهد بنفسه :

 ما دام هناك نفس لها حظوظ, ولها شهوات, وتغضب لها, وترضى لها, وتعطي لها, وتمنع لها, فأنت محجوب بها عن الله, أما حينما تفنى عن ذاتك, وتحب لله, وتعطي لله, وتمنع لله, وتبغض لله, فقد زهدت بنفسك.
 لأحد العارفين كلمة طيبة قال: "غلطت في ابتداء أمري؛ حسبت أنني أذكره, فإذا هو ذكرني قبل أن أذكره, وحسبت أني أطلبه, فإذا هو طلبني قبل طلبي له, وحسبت أني أعرفه, فإذا هو عرفني قبل معرفتي له, وحسبت أني أحبه, فإذا هو أحبني قبل محبتي له, وحسبت أني عبده, فإذا هو جعل الخلائق في الأرض في خدمتي".
 سئل بعض العارفين عن حقيقة المؤمن فقال: "هو الذي يأخذ الكتاب بيمينه, وسنة رسول الله بشماله, وينظر بإحدى عينيه إلى الجنة, وبالأخرى إلى النار, ويتزر بالدنيا, ويرتدي بالآخرة, ويلبي من بينهما للمولى, لبيك اللهم لبيك".
 وقال: "من اختار الدنيا على الآخرة غلب جهله على ذكره, ومعصيته على طاعته, ومن اختار الآخرة على الدنيا, غلب سكوته على كلامه, وفقره على غناه, وهمه على سروره, ومن اختار رضا المولى على الدارين, غلبت نفسه الرحمة, وقلبه المحبة, وسره القرب, وصارت نفسه مقيدة بقيد الخدمة, وقلبه أسيراً بخوف الفرقة, وسره مستأنساً بأنس الصحبة".

أهمية الجانب النفسي في الدين :

 الجانب النفسي في الدين مهم جداً, والذي أراه أنه أخطر جانب؛ لأن الإنسان من داخله, إن سعد في داخله, صحت حركته في الخارج, إن لم يسعد في داخله, اضطربت حركته في الخارج.
 هؤلاء الصحابة الكرام بمَ نالوا أعلى المراتب؟ بمَ نالوا هذا التأييد الإلهي؟ بمَ نالوا هذا العطاء الرباني؟ بمحبتهم لله عز وجل.
 والشيء المناسب أن نقتدي بهم؛ فالشيء الذي أهمهم ينبغي أن يهمنا, والشيء الذي لم يعبؤوا به ينبغي ألا نعبأ به. فإذا وصلنا إلى زمن؛ شيء ما فكر فيه الصحابة إطلاقاً, ولا انتبهوا له, ولا شغل من وقتهم شيئاً, ينبغي ألا يشغلنا هذا الشيء, والشيء الذي أهمهم ينبغي أن يهمنا, لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- شهد لهم بالخيرية, فقال:

((خير القرون قرني, ثم الذي يلونهم, ثم الذين يلونهم))

[ البخاري عن عمران بن حصين]

 إن وجدت واقع المسلمين يبتعد بعداً كبيراً عن ماضيهم, وعن عصر الصحابة, فنحن في تخلف كبير؛ قد تجد خلافات تمزق وحدة المسلمين, قد تجد موضوعات يعالجها المسلمون بشكل غير معقول, والصحابة لم يفكروا فيها إطلاقاً, هذا من بعد المسلمين عن منهج الله عز وجل.
 سئل بعض العارفين: "من تأمرنا أن نصحب؟ فقال: من إذا مرضت عادك, وإذا أذنبت في حقه كان عليك".
 الصاحب المؤمن مسامح؛ التقييد, والتكلف, والمحاسبة الدقيقة, والثأر للنفس, ليس من صفات المؤمن.
 وقال بعض العارفين: "طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب, وانتظار الشفاعة بلا فضيلة نوع من الغرور, ورجاء الرحمة من غير طاعة حمق وجهالة".

 

من كانت همته الدنيا فقيمته لا شيء ومن كانت همته الآخرة فقيمته الجنة :

 ورد في الأثر:

((من عمل بلا عمل ورثه الله علم ما لا يعلم))

 العلماء أوردوا في شرح هذا الأثر معان كثيرة:
 فقال أبو القاسم الجنيد -رحمه الله-: "من عمل الرواية ورثه الله علم الدراية".
 من تعلم علم الرواية, وأتقنها, ورثه الله علم الدراية, دراية متن الحديث.
 قال غيره: "من عمل بما دعا إليه من الفرائض ورثه الله العونة في الزيادة في النوافل".
 إذا أيقنت الفرائض أكرمك الله بالنوافل.
 وقال بعضهم: "من عمل بما دعا إليه ورثه الله الإخلاص, والرضا, واليقين في القلب, وهو فعل الله تعالى".
 وقال بعض العارفين: "إذا كانت همته الدنيا, فقيمته لا شيء, - أي إذا اطلع الله على قلب العبد, فرآه ممتلئاً بحب الدنيا, فلا شأن له عند الله-"

﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً﴾

[سورة الكهف الآية:105]

﴿صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ﴾

[سورة الأنعام الآية:124]

(( من أصبح و أكبر همه الدنيا جعل الله فقره في عينيه، وشتت عليه شمله ولم يؤته من الدنيا إلا ما قدر له ))

[الترمذي عن أنس]

 ومن كانت همته الآخرة, فقيمته الجنة, وعلامته أن يكون غضبه بحق الله, ورضاه بحق الله, لا للنفس ولا للدنيا, أي يغضب لله, ويرضى لله.
 مثال بسيط: إنسان فرضاً أنكر منكراً, وغضب أو تغاضب, لو أعطيته مبلغاً من المال كبيراً فسكت, ورضي عنك, هذا غضبه للدنيا, فاتخذ من الدين مادة لمكاسبه, أما إذا أعطيته ملء الثقلين مالاً, وبقي غاضباً, فغضبه لله, وهذه علامة دقيقة.
 إذا القضية تحل بالمال, انتهيت عند الله, إذا عندك غضب فيما يبدو لله, فإذا أعطيت عطاء وفيراً, رضيت, فهذا الغضب ليس لله, إنه للدنيا.

 

المؤمن لا قيمة للدنيا عنده وهمه اتصاله بالله عز وجل :

 من كانت همته الآخرة, فقيمته الجنة, وعلامته أن يكون غضبه بحق الله, ورضاه بحق الله, لا للنفس ولا للدنيا, ومن كانت همته لله, فقيمته رضا الله عز وجل, وعلامته ألا يستأنسه, ولا يوحشه, ولا يؤنسه شيء غير الله.
 فالإنسان إذا كان له صلة مع الله لا يسعده إلا أن تعود له هذه الصلة, إذا له تجربة ناجحة جداً مع الله لا يسعده إلا أن يكون مع الله, فإذا بدت جفوة بينه وبين الله كان مُصابه كبيراً.
 لذلك: المؤمن يتقلب في اليوم الواحد بأربعين حالة, بينما المنافق يثبت على حاله أربعين سنة, قضية الآخرة خارج اهتمامه؛ لو جرى له اتصال, لم يجر له اتصال, حجب, لم يحجب, همه الدنيا, أما المؤمن فلا قيمة لها عنده, همه اتصاله بالله عز وجل، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

((إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه))

[أخرجه ابن ماجه عن عبد الله بن عمر]

 قال بعض العلماء: كريم القوم؛ أي تقيهم, لقوله تعالى:

﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾

[سورة الحجرات الآية:13]

 نحن نرقى عند الله إذا اتخذنا مقياس التقوى؛ الناس يعظمون التقي, يعظمون القوي, يعظمون الذكي طليق اللسان, لا يعظمون المستقيم, وهذا من علامة تخلف المسلمين, أما إذا عظم المستقيم, وكان في أعلى مقام, فهذه علامة الصحة النفسية في هذا المجتمع:

((وإن الله ليغضب إذا مدح الفاسق))

[ البيهقي عن أنس]

 والإنسان أحياناً يكيل المديح بغير حساب للغني أو للقوي, وهذا من بعده عن الله, وحبه للدنيا؛ لأنه يرى أن الدنيا بيديه, فإذا مدحه أخذ من هذه الدنيا ما يشاء, وهذا ديدن معظم الناس.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور