- التربية الإسلامية
- /
- ٠6علم القلوب
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
النية :
أيها الأخوة الكرام, لازلنا في النية, فهي أساس العمل.
يقول أحد العلماء: " النية هي روح العمل, وكما لا قيمة للجسد إلا بالروح, كذلك لا قيمة للعمل إلا بالنية, والنية هي زمام القلب, فكما أنه لا صلاح للدابة في سيرها إلا بإحكام الزمام, كذلك لا صلاح للقلب في مقاصده إلا بإحكام النية".
قال عليه الصلاة والسلام:
(( إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ))
فنظرُ علام الغيوب إلى القلوب, إنما هو موضوع النية, لذلك قالوا: "القلب منظرُ الرب".
(( إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ))
والنية أيها الأخوة كما قال بعض العلماء: "مثل الأمير في الجند, فلو كان الجند ألفَ ألفِ رجل, لما اجترؤوا على محاربة العدو, إلا إذا خرج الأمير وساسهم, كذلك العمل وإن كثر, لا يصلح للعرض على الجليل, إلا إذا كان معه النية الخالصة".
قلت البارحة: النية شطر الدين, بل هي الدين كله؛ لأنه إن لم تصح النية لا يصح العمل, والنية محصلة إيمانك.
آيات متعلقة بالنية :
الآية الأولى :
العرب كانوا إذا ذبحوا الإبل, لطَّخوا جدران بيوتهم بدمائها، أي هم ذبحوا هذه الإبل لله, وهذه الدماء علامة, فلما جاء الإسلام, المسلمون فعلوا مثل فعلهم, فقال الله عز وجل:
﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾
الذي يريده الله منكم هذا الإخلاص له, أما هذه المظاهر فلا تقدم ولا تؤخر, إذاً ماذا يُقاس عليها؟
الإنسان أحياناً يعمل عملاً طيباً, فيريد أن يُذكر هذا العمل في لوحة مثلاً, هذه اللوحة لا تقدم ولا تؤخر, الله يريد إخلاصك, ولا يريد هذه اللوحة.
والعلماء قالوا: "لا تصعد الملائكة بلحمها وبدمها؛ ولكن يصعد إلى الله التقوى منكم".
لذلك قالوا: "نية المؤمن خير من عمله, ونية الكافر شر من عمله".
المؤمن يتمنى أكبر مما هو فيه, والكافر يتمنى من الإفساد, والضلال, والإضلال أكبر مما هو فيه.
الآية الثانية :
﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾
﴿تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾
زكاة البدن في تطهيره من المعاصي والمخالفات, وزكاة المال في تطهيره من الشبهات.
وقد أوحى الله إلى داود -عليه السلام-: "ليس كل من صلى قُبلت صلاته, ولا من تصدق رفعت صدقته, ولا من نكس رأسه صار من الصالحين, إنما أتقبل من الأعمال ما أريد به وجهي".
وقال بعضهم: "يا عبيد الدنيا؛ ما أحلى كلامكم وما أمرَّ أفعالكم, وما أطيب رائحتكم وأنتن قلوبكم, وما ألين ألسنتكم وأصلب قلوبكم".
إذا لم يكن هناك إخلاص, يصبح هناك مجاملة بالوجه, كلام أحلى من العسل, ينصرف, يطعن به, وهذا حال أهل الدنيا, حينما يبتعدون عن الله عز وجل, لا يوجد إنسان له مكانة إلا في حضرته, فإذا غاب, بدأ الغمز, واللمز, والطعن.
الآية الثالثة :
الآية الثالثة المتعلقة بالنية:
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً﴾
الإنسان إذا عمل عملاً لا يبتغي به وجه الله يبحث عن مكافأة مادية أو عن ذكر طيب :
في الغالب الإنسان إذا عمل عملاً لا يبتغي به وجه الله, يبحث عن مكافأة مادية, أو عن ذكر طيب, فإذا عمل عملاً, والناس لم يتكلموا عن عمله يستثيرهم, كيف وجدتم هذا العمل؟ من أجل أن يمدحونه, فهو عبد المديح؛ إما مكافأة مادية, أو مديح معنوي, أما لا مكافأة, ولا مديح, فمعنى ذلك أنك تبتغي وجه الله:
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً﴾
والعلماء قالوا:
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ﴾
ما قالوها بألسنتهم, الله عز وجل اطلع على قلوبهم, فعبَّر عن لسان حالهم, لا عن لسان قالهم:
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً﴾
النية غيب لا يطلع عليه إلا الله عز وجل :
والشيء الثابت: إذا عمل الإنسان عملاً لله ,لا يتأثر أبداً برد فعله؛ قد يكون ردّ فعل سيئ, قد يكون عمل عملاً مع إنسان لم يشكره, ولا أثنى عليه, ولا انتبه له:
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾
لا نريد منكم جزاء مادياً, ولا شكوراً معنوياً.
يُقال: "إن العبد إذا ذكر ربه في نفسه, كتب الله ذلك بيده في صحيفته, فتقول الملائكة: ربنا عملُ هذا العبد كله قد أحصيناه, وهذا -أي الأجر الزائد-, فيقول الله عز وجل: إن هذا العبد ذكرني في نفسه, فكتبته في صحيفته, فإذا كان يوم القيامة, لم يكن له جزاء دون النظر إلى وجه الله الكريم".
وقيل في معنى الحديث: النية غيب لا يطلع عليه إلا الله, وسائر الأعمال مشتركة بين رؤية الله ورؤية الخلق.
إنسان قام ليصلي, الصلاة يراها الله عز وجل, ويراها الناس, تصدق, أي عمل تعمله, مشترك بين الله وبين الخلق, إلا ما في القلب لا يعلمه إلا الله.
تقييم الإنسان من شأن الله وحده :
لذلك أنا أخذت قاعدة من وقت طويل: لا أجرؤ على تقييم إنسان, أقول: تقييم الإنسان من شأن الله؛ قد يبدو عمله غير منطقي, لكن وراءه نية طيبة, وقد يبدو عمله كالجبال, لكن وراءه نية خبيثة.
أي لم يكن يخطر في بالي, أنه من الممكن لإنسان أن يعمر مسجداً, ولا يبتغي به وجه الله، فأخ أطلعني: أراض كبيرة مهملة, يأتي إنسان يهب قطعة من الأراضي, ليُنشأ عليها مسجد, البلديات حينما توهب أرضاً لمسجد, تُنظم هذه الأراضي, فإذا نظمت, ارتفع سعرها مضاعفة, فقد يأتي إنسان ليس له علاقة بالدين إطلاقاً, فيهب بعض أرضه لتكون مسجداً, فإذا البلديات تنظم الأرض, تصبح محاضر, ويرتفع سعرها إلى الضعف.
هو أمام الناس بنى مسجداً, من يعلم الحقيقة؟ الله وحده يعلمها.
سمعت عن مدرسة, طبعاً القسط عال جداً, القسط تقريباً فوق المئة ألف, المدرسة راقية جداً؛ أول ساعة دين, قرآن, وحفظ, بعد ذلك رقص مشترك بين الفتيات والفتيان, بعد ذلك سباحة مختلطة, كل المعاصي والآثام في هذه المدرسة؛ ذكور, وإناث, واختلاط, أما أول ساعة فقرآن, ودين, وحفظ, والقسط مئة ألف.
يمكن أن تتاجر بالدين, و لكن النية هي الأساس.
الصدقة أنواع كثيرة :
وقيل في معنى الحديث: النية غيب, لا يطلع عليه إلا الله, بينما بقية الأعمال مشتركة بين رؤية الله ورؤية الخلق.
وكما قيل: "إن الملائكة تصعد بصحيفة العبد إلى الله, فإذا بنداء من قِبل الله عز وجل: ملائكتي, اكتبوا لهذا العبد كذا, فتقول الملائكة: إلهنا, إنه لم يعمل شيئاً في ذلك, فيقول الله عز وجل: إنه نواه".
فهذا يدلك على أن النية لا يطلع عليها أحد إلا الله.
أعرف رجلاً لا يزال حياً يرزق, له عمل طيب مع امرأة مقعدة, خدمها قرابة عشرين سنة, في غرفة في مسجد, امرأة مقعدة, ليس لها أحد, فكان يخدمها باستمرار, يؤمن لها طعامها وشرابها, ينظف لها غرفتها, امرأة مسنة, هو رجل صالح, فكان يسكن في حي, انتقل إلى حي بعيد جداً عن الحي الأول, وعمره فوق السبعين عاماً, وكل يوم يركب السيارة العامة, من أول باص, لثاني باص, يتابع خدمتها, فأهله بذلوا المستحيل لصرفه عن هذا العمل, خدمتها لمدة عشرين سنة يكفي, أي تعهدها إلى نهاية الحياة, فلما رأوا إصراره, وصار من المستحيل أن يترك العمل, فقالوا له: ائت بها إلينا, فنقلت إلى البيت, أعطوها غرفة, أشفقوا على والدهم, عشرة أيام توفاها الله عز وجل.
هو نيته أن يخدمها إلى آخر لحظة في حياته, وأصر على ذلك, فلما أصر على ذل: جيء بها إلى البيت, عشرة أيام توفاها الله عز وجل, وكتب الله له نيته الطيبة لها طوال الحياة.
لذلك قالوا:
((ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط))
إنسان ورع عمله بنية عالية أفضل ألف مرة من أعمال كالجبال فيها تخليط.
أحد الصحابة لا يوجد عنده شيء يقدمه إطلاقاً, فقير جداً, اسمه أبو ضُمضم, ماذا قدم؟ نوى أن يتصدق بعرضه على من نال منه، فقال:
(( اللهمَّ إني تصدَّقت بعرضي على المسلمين، فمن تحدَّث عني بما أكره فقد سامحته ))
فيروى أن النبي -عليه الصلاة والسلام-, غدا إلى أصحابه, فقال: "من المتصدق بعرضه البارحة؟ ألا إن الله قد قَبِل صدقته, ثم عظم رسول الله فعله, وقلل فعل الآخرين".
لا يملك شيئاً, يا رب! أنا عرضي من نال منه أنا مسامحه.
ثبات نية المؤمنين سبب خلودهم في الجنة :
امرأة عمران ماذا فعلت:
﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً﴾
كل شخص منا, أنت تأخذ شهادة عليا, تقول: يا رب, هذه الشهادة في سبيلك, كل ما أحصّله من هذه الشهادة؛ من مكانة, ومن مال, أستخدمه في الدفاع عن دينك, وفي الدعوة إليك؛ ممكن إنسان يدرس الأدب الانكليزي ينوي بهذا الاختصاص أن ينقل فيه الحق للأجانب, هذا واحد كألف, ممكن أن تنوي تجارة, يكون ريع هذا المال للحق, تأخذ حاجتك, وما تبقى في خدمة الحق.
أسعد الناس الذي نوى أن يكون اختصاصه, وماله, وقوته, وبدنه, ووقته, وعضلاته في سبيل الله؛ فصار ثبات نية المؤمنين سبب خلودهم في الجنة, ثبات نية المنافقين سبب خلودهم في النار.
يقول عليه الصلاة والسلام:
((إن بالمدينة أقواماً ما قطعنا وادياً, ولا وطئنا موطئاً يغيظ الكفار, ولا أنفقنا نفقة, ولا نصبنا نصباً, ولا أصابنا مخمصة, إلا ويشركوننا في ذلك, وهو في المدينة, قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله, وليسوا معنا؟ قال: حبسهم العذر))
أي إنسان حبسه العذر, مرض, فلم يشارك النبي في هذه الغزوة.
حتى المؤمن إذا مرض يُكتب له عمله صحيحاً مقيماً.
وهناك إنسان هاجر إلى المدينة, لأنه أحب امرأة في مكة, ولم تقبل الزواج منه, إلا إذا هاجر, فهاجر, اسمها أم قيس, قصار اسمه مهاجر أم قيس, لأنه ابتغى بهجرته الزواج من هذه المرأة فهاجر.
((...مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ))
يعاقب العبد على إرادة الشر من غير عمل :
بالمناسبة: عندنا ذنبين كبيرين جداً؛ الذنب الأول: إذا كان الإنسان في مكة المكرمة, في بيت الله الحرام, يكفي أن ينوي إيذاء هذا البيت حتى يستحق عقاب الله, مع أنه لم يفعل شيئاً, قال تعالى:
﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾
فإن الله تعالى: يعاقب العبد على إرادة الشر من غير عمل.
والآية الثانية:
﴿الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾
لم يفعل شيئاً, لم يتكلم بكلمة, لكن علامة إيمانك إذا أصاب مؤمن شيئاً, أصابه شر, يجب أن تتألم ألماً شديداً, أما إذا مؤمن سقط فتفرح, فهذا موقف المنافقين دائماً؛ فعلامة إيمانك إذا أصاب أخوك خيراً وفرحت فهذه علامة إيمانك, فرح حقيقي. أي أنت لست متعلماً, أخوك أخذ دكتوراه مثلاً, تسلم منصباً رفيعاً, اشترى بيتاً, الله أكرمه بشيء؛ علامة فرحك له أنك مؤمن, وعلامة حسدك له أنك غير مؤمن, منافق.
قال:
((رجل آتاه الله علماً وآتاه مالاً فهو يعمل بعلمه في ماله، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فيقول لو أن الله تعالى آتاني مثل ما أوتي فلان لفعلت فيه مثل ما يفعل فلان فهما في الأجر سواء ، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يمنعه من الحق وينفقه في الباطل ، ورجل لم يؤته الله علماً ولم يؤته مالاً فيقول : لو أن الله تعالى آتاني مثل ما أوتي فلان لفعلت فيه مثل ما يفعل فلان فهما في الوزر سواء))
قال: من غاب عن معصية فأقرها, كان كمن شهدها, ومن شهد معصية فأنكرها, كان كمن غاب عنها.
شيء خطير.
حدثني شخص عن قصة في كندا, هكذا يفعلون, والله لو كنت هناك كنت سررت، مثلاً أنت تسكن في الشام, والقصة بكندا؛ هكذا يفعلون, هكذا يسبحون, هكذا يحتفلون, هكذا مثلاً يزنون, فتمنى أن يكون جالساً معهم, ويسكن في الشام لا يوجد عنده شيء.
((....فهما في الوزر سواء))
من غاب عن معصية فأقرها, كان كمن شهدها, ومن شهد معصية فأنكرها, كان كمن غاب عنها.
النية موضوع خطير جداً :
لعلي أطلت في موضوع النية, لكن والله الموضوع خطير أيها الأخوة, أنا والله أذكر نفسي وأذكركم, لأن هناك أعمالاً كالجبال.
حديث يقصم الظهر, قلته لكم سابقاً:
((يُؤتى يوم القيامة برجال لهم أعمال كجبال تهامة, فيؤمر بهم إلى النار, فقالوا: يا رسول الله! جَلّهم لنا, -صفهم لنا-, لئلا نكون منهم, قال: هم يصلون كما تصلون, ويأخذون من الليل كما تأخذون, ولكنهم كانوا إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا))
لهم موقف معلن ذكي جداً, موقف بينهم وبين الله, موقفهم الخاص يفعلون كل شيء, أما أمام الناس فمحترمون جداً, هؤلاء لو فعلوا أعمالاً كجبال تهامة, يُؤمر بهم إلى النار؛ لأنهم لم يفعلوا شيئاً لله, فعلوا شيئاً لتحقيق مصالح مادية في الدنيا.
نرجو الله أن نكون من المخلصين.