- التربية الإسلامية
- /
- ٠6علم القلوب
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
سرّ وجود الإنسان على وجه الأرض أن يعرف الله عز وجل :
أيها الأخوة الكرام: سبع آيات كريمة تبين معرفة العارفين بالله عز وجل, من هذه الآيات:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾
قال ابن عطاء السكندري: "إلا ليعرفون".
سرّ وجودك على وجه الأرض أن تعرف الله؛ لأنك إن عرفته عبدته, وإن عبدته سعدت بقربه, فغاية المعرفة أن تسعد بقرب الله عز وجل, وأية سعادة بما سوى الله عز وجل سعادة جوفاء لا تدوم.
والله عز وجل خلق التراب للنبات, وخلق الماء للتراب, وخلق النبات للحيوان, وخلق الحيوان للإنسان, وخلق الإنسان لله عز وجل.
((ابن آدم خلقت لك ما في السماوات والأرض من أجلك فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك))
الدين وحدة كاملة :
أيها الأخوة, الإنسان حينما يسعى لغير الله يحتقر نفسه, لقول الله عز وجل:
﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾
لا يليق بالإنسان أن يكون لغير الله, فإذا كان لغير الله فقد احتقر نفسه.
لأن الله عز وجل كما ورد:
(( عبدي خلقت لك السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن، أفيعييني رغيف أسوقه لك كل حين، لي عليك فريضة، ولك علي رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك، وعزتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي، وكنت عندي مذموماً، أنت تريد وأنا أريد، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد ))
أيها الأخوة, هذه الآية وحدها:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾
تلخص سرّ وجود الإنسان على وجه الأرض.
في بعض تعريفات العبادة؛ فيها جانب معرفي, وجانب سلوكي, وجانب جمالي, وهذه حقيقة؛ الدين معرفة, وطاعة, وسعادة؛ تعرفه, تطيعه, تسعد بقربه في الدنيا والآخرة, وحينما نقصر في واحدة من هذه الشروط نقع في التطرف, أما إذا حققناها كلها فنقع في التفوق.
فالدين وحدة متكاملة, فمن لم يأخذه من كل جوانبه وقع في العرج والتفرق؛ فالدين معرفة، "ما اتخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلمه"
من لم يتخذ موقفاً بناء على إيمانه فليس مؤمناً :
والدين انضباط أي:
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾
والدين هجرة.
دائماً هناك شيء اسمه موقف, أنت لأنك مؤمن يجب أن تأخذ موقفاً؛ في صلة, في قطيعة, في رضا, في غضب, في عطاء, في منع, ما لم تتخذ موقفاً بناء على إيمانك فلست مؤمناً.
لا يوجد شيء اسمه الإيمان في القلب, والسلوك عادي, إنسان مثله مثل الناس, يدعي أنه مؤمن, ولا يوجد عنده موقف يؤكد إيمانه.
ما إن تستقر حقيقة الإيمان في نفس الإنسان حتى تعبر عن ذاتها بحركة, فلا يوجد إيمان سكوني, الإيمان حركة.
من لا يوالي المؤمنين و يتبرأ من الكفار فليس مؤمناً :
الإنسان عنده سؤال كبير جداً؛ ماذا قدمت لله عز وجل؟ ماذا فعلت في سبيل الله؟
لو أن الله عز وجل أوقفك يوم القيامة بين يديه, قال: يا عبدي, ماذا فعلت من أجلي؟
((أوحى الله - عز وجل - إلى نبي من الأنبياء أن قل لفلان الزاهد: أما زهدك في الدنيا فتعجلت به راحة نفسك، وأما انقطاعك إلي فقد تعززت بي، فماذا عملت فيما لي عليك؟ فقال: يا رب وما لك علي؟ قال هل واليت في ولياً؟ أو عاديت في عدواً؟))
أي هل لك ولاء للمؤمنين ولك براء من أهل الكفر والعصيان؟.
فالإنسان إذا كان جميع الناس أصحابه, ليس له موقف, لا يقف موقفاً معيناً, أما إنسان يعصي الله جهاراً, يقاطعه, إنسان يطيع الله, يقترب منه؛ ما لم تأخذ موقفاً توالي المؤمنين, وتعادي أهل الكفر والنفاق, لا تكون قد فعلت لله شيئاً، ربنا عز وجل قال:
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾
قيل: "الكافر والزنديق؛ صم عن سماع الحق, بكم عن التكلم به, عمي عن النظر للآخرة, فهم لا يعقلون".
أكبر صفة ماحقة: صم, لا يستمع إلى الحق، يقابل ذلك قوله تعالى في وصف حال أهل النار:
﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾
أزمة علم, أزمة استماع, لأن البنية مؤهلة لتكون من أهل الجنة، فإذا الإنسان وصل للنار, بسبب لم يسمع الحق, لأن الإنسان يحب نفسه, وحريص على سلامتها وسعادتها, فلو سمع الحق, لطبق الحق, لكن لم يسمع الحق, إذاً: أزمة علم.
حاجة الإنسان إلى التوحيد :
على كلٍّ؛ من منا تأتيه رسالة يمزقها قبل أن يقرأها؟ هذا القرآن, كتاب الله للبشر, ينبغي أن نفهمه, وبعد ذلك افعل ما تشاء.
لو إنسان عرف المعرفة التي عرفها النبي -عليه الصلاة والسلام- بحكم فطرته, لفعل كما فعل النبي, لو عرف ما عرفه النبي لفعل كما فعل النبي, فالأزمة أزمة معرفة؛ بحكم حب الإنسان لذاته, حبه لسلامته, حبه لسعادته, فلو عرف الحقيقة, لفعل كما فعل الأنبياء والمرسلون.
ورد في الأثر:
((إذا أراد الله بعبد خيراً؛ أعماه, وأصمه, وأخرسه, وأجهله عن غيره))
المؤمن لا يرى إلا الله, وطبعاً التوحيد الإنسان يحتاجه حاجة شديدة أثناء الأزمات, أحياناً قوى البغي والشر تتفوق, تهيمن, تسيطر, في هذه الحالة الصعبة المؤمن في أمس الحاجة إلى التوحيد, إلى أن يرى الله وحده هو المتصرف, وليس مع الله أحداً.
الإنسان كلما عرف حقيقته كان إلى التواضع أميل :
وفي قوله تعالى:
﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾
﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾
يقال إن رجلاً جاء إلى الشبلي, فقال له: " دلني على معرفة الجنين, كيف ينبغي الدخول فيها؟ وبماذا ينال ذلك؟ -وكان الرجل له معرفة بعلم الظاهر-, فقال الشبلي: يا رجل! من أي شيء خلقت؟ ومتى؟ وفي ماذا؟ وبماذا؟ فإذا أجبتني عن ذلك أجبتك عما تسأل, وإلا فأنت إلى معرفة ما أخبرتك به أحوج إلى معرفة ما سألت عنه, فقال الرجل: بل خلقت من نطفة للابتلاء والمحنة, فقال الشبلي: ويحك! من علم أنه خلق من نطفة كيف يطمع في معرفة من قطع الأوهام عن إدراك الحقيقة وأظهر اسماً من أسمائه؟".
أي:
((بئس العبد عبد عتا و طغى و نسي المبتدا و المنتهى))
فالإنسان إذا عرف أساسه من نطفة؛ خرجت من عورة, ودخلت إلى عورة, ثم خرج من عورة, فكيف يتكبر!؟
والإنسان كلما عرف حقيقته كان إلى التواضع أميل, الإنسان قائم بالله, وجوده واستمرار وجوده مبني على معرفته بالله عز وجل, في اللحظة التي يغفل عن الله, وقد يقطع الله الإمداد عنه, فإذا هو في قبضة الله عز وجل.
أمر كل شيء بيد الله عز وجل :
الآية التي تبين حقيقة التوحيد:
﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾
الإنسان أحياناً يصنع شيئاً و يبيعه, فأمر هذا الشيء بيد من اشتراه, لكن الله عز وجل كل شيء خلقه مالكه, كل شيء خلقه هو الذي يأمره, لا يوجد الله عز وجل عنده شيء خلقه وتركه, أو خلقه وأطلقه, حتى الإنسان يطمئن, لا يوجد شيء مخيف, الله خلقه وأطلقه:
﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾
﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾
الإحاطة بعلم الله عز وجل مستحيلة على العباد إلا ما سمح الله به :
الآية التي تليها في التوحيد:
﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾
الإحاطة بعلم الله عز وجل مستحيلة على العباد, لكن الله عز وجل بالقدر الذي يشاء يسمح للعبد أن يعرف, أنا لا أستغرب إذا عرف الإنسان مثلاً نوع الجنين كان ذكراً أو أنثى, الله سمح, لكن الله عز وجل قال:
﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾
لم يقل: يعلم من في الأرحام, إذا كان يعلم من ذكر أو أنثى, أما:
﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾
يوجد عند الإنسان خمسة آلاف مليون معلومة مركزة في الحوين, هذه كلها معارف مبرمجة, معلومات مبرمجة على الحوين, فالله عز وجل يعلم عن هذا الإنسان كل شيء, فإذا عرف الإنسان ذكراً أو أنثى بطريقة أو بأخرى, هذا الشيء الله سمح فيه, وإذا سمح فيه فلحكمة بالغة.
لا يعرف الله إلا الله :
والآية التي تليها:
﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾
قال ابن عطاء: "خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوعظنا موعظة ذرفت منها العيون, ووجلت منها القلوب, واقشعرت منها الجلود, ثم قرأ:
﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾
و:
((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته ، واشتد غضبه ، حتى كأنه منذر جيش يقول : صبحكم ومساكم . ويقول : " بعثت أنا والساعة كهاتين " ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى))
فالناس كلهم في ذات الله حمقى.
لا يعرف الله إلا الله, حتى الأنبياء و الرسل معرفتهم نسبية, أما أن تعرف حقيقة الله عز وجل المعرفة المطلقة فمستحيل على أي إنسان, لا يعرف الله إلا الله.
فالناس كلهم في ذات الله حمقى، أي: لا يصلون إلى المعرفة المطلقة.
وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: "سبحان من لم يجعل لأحد من خلقه سبيلاً إلى معرفته إلا بالعجز عن درك معرفته, العجز عن إدراك الإدراك إدراك".
كلمة سيدنا الصديق.
التوحيد نهاية العلم والتقوى نهاية العمل :
لذلك قالوا: "عين الجهل به عين العلم به, وعين العلم به عين الجهل به".
هذا الذي يدّعي أنه يعرف الله معرفة مطلقة جاهل, وهذا الذي يقول: لا أعرف الحقيقة الإلهية إلا بقدر يسير هو العالم.
وقال يحيى ين معاذ: "وما قدروا الله حق قدره حين خالفوه في أمره, وما قدروا الله حق قدره حين استخفوا بحفظ حرمته, وما قدر الله حق قدره من بادر الجبار بالمعاصي, وما قدر الله حق قدره من استعان على معاصيه بنعمته, وما قدر الله حق قدره من أفنى شبابه في مخالفته, وما قدر الله حق قدره من اختار دنياه على آخرته, وما قدر الله حق قدره من عمل الطاعة لطلب جنته, وما قدر الله حق قدره من ترك المعاصي خوفاً من ناره, وما قدر الله حق قدره من شكاه إلى أعدائه".
لذلك قالوا: من شكا إلى مؤمن فكأنما اشتكى إلى الله، ومن اشتكى لكافر فكأنما اشتكى على الله، " وما قدر الله حق قدره من أرضى نفسه بإعطائها كل ما تشتهي".
وقال بعض الحكماء: "يا صاحب الظلمات هيهات أن تهتدي إلى حفظ الحرمات, ويا صاحب الغفلات هيهات أن تُكشف لك المشاهدات, ويا صاحب أكل الشبهات هيهات أن تزداد بطاعتك غير البعد وسوء الخطرات".
أيها الأخوة, حقائق التوحيد ليس لها نهاية، كما قال العلماء: التوحيد نهاية العلم, والتقوى نهاية العمل.
أعلى علم ألا ترى مع الله أحداً, وأعلى عمل أن تطيع الله عز وجل فلا تخالفه أبداً؛ فنهاية العلم التوحيد, ونهاية العمل التقوى:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾
تعرفه فتطيعه فتسعد بقربه في الدنيا والآخرة.