- التربية الإسلامية
- /
- ٠6علم القلوب
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
منزلة الفرار إلى الله عز وجل :
أيها الأخوة الكرام, يقول الله عز وجل:
﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾
بعض العلماء استنبط من هذه الآية منزلة: هي منزلة الفرار إلى الله.
قد تخشى شيئاً فتفر منه, لكن الله وحده تفر إليه: "لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك".
وفي بعض أدعية النبي -عليه الصلاة والسلام-: "أعوذ بك منك".
ومن بعض أدعية النبي -عليه الصلاة والسلام-: "اللهم إنا بك واليك".
دعاء جامع مانع, أنا بك أي قائم بك؛ كل شيء تفوقت فيه بفضلك, كل شيء أتقنته بفضلك, كل ما أنا فيه من خير من فضلك, "أنا بك", وينبغي أن يكون كل شيء إليه.
على هاتين الكلمتين, الموجزتين, البليغتين: "اللهم إنا بك واليك"، "أعوذ بك منك"، "لا ملجأ منك إلا إليك"، قال بعضهم:
﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾
أي: لا تشتغلوا بسياسة أنفسكم, فإن مؤونتها عظيمة, ولا تتفرغوا إلى رضا الخلق, فإن رضاهم غاية لا تُدرك؛ ولكن فروا إلى الله, ليكون الله غايتكم.
هناك قضية الإخلاص, هذه مهمة جداً في الطريق إلى الله عز وجل؛ ضمن العمل الديني, ضمن السعي لمرضاة الله عز وجل, وقد تزل القدم, ويهتم الإنسان بالخلق أكثر من اهتمامه بالحق, هذا أيضاً جزء من التقصير.
بطولة الإنسان أن يتوازن مع كل الجوانب في حياته :
لذلك ربنا عز وجل أعطانا مثلين صارخين؛ مثل سيدنا داود, ومثل سيدنا سليمان, وقصة هذين النبيين العظيمين فيها موعظة كبيرة؛ سيدنا داود آثر أن يكون مع الله عن أن يكون مع الخلق, فعاتبه الله عز وجل, سيدنا سليمان آثر حب الخير أكثر من حبه ليكون مع الله عز وجل فعاتبه الله.
من السهل أن تأخذ موقفاً متطرفاً, ولكن البطولة في التوازن؛ ممكن أن تكون مع الخلق في أعلى درجة من النجاح, على حساب علاقتك بالله, وممكن أن تكون مع الله في أعلى درجة من النجاح, على حساب العمل الصالح الذي خلقت من أجله.
لذلك ورد: "إن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار, وإن لله عملاً في النهار لا يقبله في الليل".
وكما قلت قبل قليل: من السهل أن تأخذ موقفاً إلى جانب, أما أن تتوازن مع كل الجوانب فهذه بطولة. فلذلك يجب أن يكون لك مع الله ساعة لا تعمل فيها لغيره, وأن يكون لك مع الخلق ساعة لا تعمل فيها لغيرهم.
على الإنسان أن يفر من المعصية إلى الطاعة ومن الجهل إلى العلم :
الآن: الجلوس مع الخلق أحد أسباب الأعمال الصالحة, أنت بالمجتمع ترقى بعمل صالح؛ بدعوة, بخدمة, ببذل, بتضحية, بنصيحة, بإرشاد مع الخلق, لا بد من أن تشحن.
هناك شيء بالإنسان -إن صحّ التعبير- هو الشحن؛ الصلاة تشحن نفسك شحنة روحية, الصيام كذلك, الحج كذلك؛ فلابد من شحنة, ولا بد من أن تفرَّغ هذه الشحنة, تشحن وتفرغها في العمل الصالح, الذي أدرك سرّ هذا التوازن بين أن تُشحن وأن تفرغ هذه الشحنة بعمل صالح, هذه الحقيقة هي الهدف الكبير من هذا التوازن في هذا الموضوع.
قال بعض العلماء: فروا إِلَى اللَّهِ بمعنى فروا من المعصية إلى الطاعة, ومن مقام الجهل إلى مقام العلم, ومن مجالس الغفلة إلى مجالس الذكر.
الآن أكثر مجالس الناس مجالس غفلة؛ يجلسون, يضحكون, غيبة, نميمة, تطاول أحياناً, مزاح لا يرضي الله, وحديث فيه شرك, وتأليه بعض الجهات دون أن يشعروا.
فقال: هذا المجلس مجلس غفلة, يجب أن تفر منه إلى مجلس الذكر, هناك مجالس كذب, كل ما يقال فيها كذب, فكلهم اصطلحوا بشكل أو بآخر على أن يكذبوا, فالذي يُقال في هذه المجالس لا يصدر عن قناعات المتكلمين بل يصدر عن نفاقهم.
فأن تفر من مجلس كذب إلى مجلس صدق, من مجلس غفلة إلى مجلس ذكر, من مجلس جهل إلى مجلس علم, من مجلس معصية إلى مجلس طاعة, هذا معنى:
﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾
معاني منزلة الفرار إلى الله :
الآن: يجب أن تفر أيضاً من مجالسة المخلطين إلى مجالسة المخلصين, هناك أناس لهم عمل صالح وعمل سيئ, لهم مخالفات ولهم أعمال صالحة, هذا مجلس, وهناك مجلس أرقى منه؛ أن تكون مع المخلصين, مع الذين أخلصوا دينهم لله عز وجل.
فروا من محبة الدنيا إلى محبة المولى, فروا من عذاب الله إلى رحمته, فروا من سخطه إلى رضوانه.
لذلك قال بعض العلماء - وهو ابن القيم-: "منزلة الفرار إلى الله لها معان دقيقة؛ أن تفر من سخطه إلى رضاه, أن تفر من موقف, أو من كلام, أو من تصرف يُسخطه إلى موقف, أو كلام, أو تصرف يُرضيه, من عذابه إلى رحمته, من محبة الدنيا إلى محبة المولى, من مجالسة المخلطين -الذين خلطوا عملاً صالحاً, وآخر سيئاً- إلى مجالسة المخلصين, فروا من مجالسة الغفلة إلى مجالسة الذكر, من مقام الجهل إلى مقام العلم, من المعصية إلى الطاعة".
هذا معنى:
﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾
وقال أبو جعفر النيسابوري: "وا عجباً! كل من خاف من شيء أُمر بالفرار منه, وأنا أخاف من الله, وقد أمرت أن أفر إليه".
أي ما سوى الله, كل شيء مخيف تفر منه, إلا الله عز وجل إذا خفت منه فيجب أن تفر إليه.
الله عز وجل يبين للإنسان عجزه عن الغيب :
آية أخرى متعلقة بالتوحيد وهي قوله تعالى:
﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾
هذه العندية في الآية تشتمل على كل شيء, سواء أكان هذا الشيء عرضاً أم جهوراً, ويبين الله تعالى للإنسان عجزه عن الغيب:
﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾
ويبين الله عز وجل في آية أخرى صفات ما عند الإنسان وما عند الرحمن, بقوله:
﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾
الحقيقة:
﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾
هو التوحيد.
على الإنسان ألا يبدأ بمعرفة الله من خلال أفعاله بل من خلال خلقه ثم كلامه ثم أفعاله :
كنت قد ذكرت ذلك من قبل, يمكن أن تعرف الله من خلال خلقه, ومن خلال كلامه, ومن خلال أفعاله, لكن النصيحة لا تبدأ بمعرفة الله من خلال أفعاله, يجب أن تبدأ بمعرفة الله من خلال خلقه, طريق سالك وآمن, ثم تعرفه من خلال كلامه وهو القرآن, طريق آمن وسالك؛ إن عرفته أولاً من خلقه, ثم عرفته من كلامه, يمكن أن تعرفه من أفعاله, أما أن تبدأ بأفعاله فقد تفتقر إلى علم, يكشف لك عدله وحكمته.
والناس دائماً يُمتحنون من حالتين, هناك حالات ترى وجود الله صارخاً, هناك حوادث كثيرة حتى البعيد عن الله عز وجل, حتى أهل الغفلة, يرى هذا فعل الله.
مرة جاءت رياح عاتية إلى منطقة زراعية, فأهلكت مئة وثلاثين بيتاً زراعياً, بيت له غلة بمئتي ألف, طبعاً ومزروع, مدفوع عليه نفقات عالية جداً, فهذه الرياح قلعت مئة وثلاثين بيتاً, الشيء الذي لا يصدق أن كل الناس الشريرين اقتُلعت بيوتهم، والذي يلفت النظر هناك بيوت متلاصقة لأخوين, أخ صالح, وأخ سيئ, أحياناً ترى فعل الله صارخاً, وربنا عز وجل أحياناً لحكمة يريدها يري الناس فعل إنسان صارخ, فأهل الدنيا يُفتنون.
لا يوجد جهة في الكون يمكن أن تشرع إلا الله عز وجل :
والآن هناك من يقول: ليس في الأرض إلا دولة قوية واحدة, تفعل ما تريد, هذا نوع من أنواع التأليه والشرك.
فأحياناً فعل الله لا يبدو واضحاً, يبدو فعل الجهة التي يؤلهها الناس واضحاً, هذه فتنة, والفتنة الثانية والموقف الثاني: أن يمتحن الله الناس بشيء واضح جداً, أنه من عند الله عز وجل, هذا معنى قول الله عز وجل:
﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾
أما عامة الناس فهناك حالات معينة يرون هذا من عند الله, وفي حالات أخرى لا يرونه من عند الله, يرونه من عند زيد أو عبيد, لكن المؤمن الصادق الكامل -دائماً وأبداً- يرى أن كل شيء من عند الله.
هناك معنى آخر لهذه الآية: لا يوجد جهة في الكون يمكن أن تشرع إلا الله عز وجل.
بعضهم قال:
يقولون هذا عندنا غير جائز فمن أنتم حتى يكون لكم عندُ؟
***
أنا لا يوجد في حياتي إنسان يشرع, إنسان لا يعبأ بالوحي, يلغي الوحي, هذا عندنا غير جائز, لا يوجد إنسان يستطيع أن يشرع إلا الله عز وجل:
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
لك خيار بالمباحات, أما في شيء بتَّ الله به, أعطى فيه حكماً, فلا يوجد لك خيار كمؤمن.
هذه بعض المعاني التي تنطوي عليها آية كريمة وهي:
﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾
و:
﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾