وضع داكن
19-04-2024
Logo
علم القلوب - الدرس : 16 - الحكمة 12 - أولى علاماتها ، الصمت
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

الصمت والكلام على قدر الحاجة أول علامة من علامات الحكمة :


أيها الأخوة الكرام لا زلنا في الحكمة, فمن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً:

﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾

[سورة البقرة الآية:269]

أول علامة من علامات الحكمة الصمت, والكلام على قدر الحاجة.
فمن علامات الحكيم أنه يغلب عليه الصمت, ولا يتكلم إلا بالكلمة الضرورية التي تغطي الحاجة، لذلك المؤمن يعد كلامه من عمله.
فرب كلمة لا يلقي الإنسان لها بالاً, يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً, ورب كلمة طيبة تطير في الآفاق, يهتدي بها أناس كثيرون:

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾

[سورة إبراهيم الآية:24]

﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾

[سورة إبراهيم الآية:25]

والأنبياء على عظمتهم جاؤوا بالكلمة فقط.

الكلمة الصادقة الطيبة قلبت المجتمعات من الظلمات إلى النور ومن الشقاء إلى السعادة:


الآن المؤسسات العلمية أتت باختراعات, وبأجهزة, والمؤسسات العسكرية جاءت بأسلحة فتاكة, هناك إنجازات مادية مذهلة, أما قوم البشر, صفوة الله من خلقه, بماذا جاؤوا؟ بالكلمة الصادقة, بالكلمة المخلصة, بالكلمة الطيبة, بالكلمة التي تنطبق على الحقيقة, هذه الكلمة قلبت المجتمعات, نشرت الفضيلة في الآفاق, نقلت الناس من الظلمات إلى النور, من الشقاء إلى السعادة.

الآن: الكلمة كفر الناس بها؛ لأنها لا تعبر عن حقيقة, لا تعبر عن واقع, فشا الكذب, والنفاق, فالكلمة ساقطة, لا قيمة لها, ولا بد من أن يعود لها رونقها, وبهاؤها, وألقها عن طريق المصداقية.
فالأنبياء جاؤوا بالكلمة؛ بكلمة صادقة, طيبة, مخلصة, والمؤمن حينما يستقيم, وحينما يأتي عمله مؤكداً لكلمته, يملك ما يسمى بالمصداقية, عندئذ لكلمته فعل كفعل السحر.
قد يأتي أعداء الدين بإنجازات حضارية كبيرة, والإنسان لا يزال شقياً في مجتمعاته, وقد يؤتى بكلمة طيبة طاهرة, والقرآن الكريم كلام رب العالمين, والنبي -عليه الصلاة والسلام- كلمته حكمة. فعلامة الحكيم أنه يغلب عليه الصمت, ولا يتكلم إلا كلاماً فصلاً, لا هذراً, ولا نذراً, لا يوجد في كلامه حشو, كلامه موجز إيجاز غني.
والإنسان حينما تلتقي به؛ تنظر إلى طوله, وإلى لونه, وإلى لون عينيه, وإلى ثيابه, وإلى أناقته, وإلى, وإلى..... فإذا تكلم نسيت هيئته, ونسيت ثيابه, الآن إذا عاملك نسيت كلامه.
فالكلمة الطيبة إذا جاء الواقع يؤيدها, أصبح لها فعل كفعل السحر, والأنبياء جاؤوا بالكلمة الطيبة, والحكيم يغلب عليه الصمت, ولا يتكلم إلا عند الضرورة , وبالقدر المناسب, ومن كثر كلامه كثر خطؤه, ومن عدّ كلامه من عمله فقد نجا, والكلام عمل.

ما من شيء الواحد منه خير من ألف مثله إلا الإنسان :

هناك نقطة دقيقة جداً: الأشياء في الأرض؛ حيوانات, أو جمادات, أو نباتات, لا يوجد شيء في الأرض, واحد من هذا الشيء يساوي مليون واحد من نفس الشيء, لا يوجد غير الإنسان, أي إنسان واحد يساوي مليار إنسان من نوع ثان؛ الأنبياء قلة, الأنبياء بشر, ولهم شكل كشكل البشر, لكن ينطوون على معرفة بالله, وعلى حكمة, تجعل واحداً من الأنبياء يساوي مئة مليون, لكن ما سوى الإنسان, لا يوجد شيء يساوي مليون شيء إلا الإنسان, أي واحد كألف, وألف كأف.
الآن هناك ملايين مملينة في العالم, لا يقيم الله لهم وزناً, هينون على الله, لكن مؤمن واحد آتاه الله الحكمة, يساوي من جنسه مليون.
وقد يُعزى هذا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-, فيما رواه الطبراني عن ابن عمر قال -عليه الصلاة والسلام-:

((لا نعلم شيئاً خيراً من ألف مثله))

[أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط الصغير والإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر]

إلا الرجل المسلم, أي قد يكون الرجل المسلم في عصر الفتن والانحرافات شخصاً عادياً من هؤلاء الأشخاص, لكن هو إنسان عادي بمقياس المادة؛ دخله محدود, بيته محدود, عنده زوجة, وأولاد, أما معرفته بالله عز وجل, ومقامه عند الله, ومقعده الذي احتله عند الله عز وجل, فيفوق ملوك الأرض مجتمعين، وما من شيء الواحد منه خير من ألف مثله إلا الإنسان.
وقالوا: "قلب حكيم خير من قلب ألف عليم".
العليم: كتاب متنقل.
لما قيل للإمام الغزالي: "إن فلاناً حفظ كتاب الأم -وكتاب الأم من أوسع كتب الفقه للشافعي- فما زاد عن أن قال: زادت نسخة".
كان في السوق مئة نسخة, صار هناك مئة وواحد.
فالإنسان إذا حفظ العلم ولم يعمل به, إذا حفظ العلم ولم يؤت الحكمة, زادت نسخة.
لذلك قال: "قلب حكيم خير من قلب ألف عليم, وقلب مؤمن خير من قلب ألف مسلم, وقلب موقن خير من ألف قلب مؤمن".
موقن يتعامل مع الحقائق التي يراها لا التي يعلمها بل التي يراها.
والإمام النووي -رحمه الله تعالى- يقول: "لست أُعظم أحداً, كتعظيم رجل تكون معه كلمة من الحكمة".
والله عز وجل يقول:

﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾

[سورة البقرة الآية:269]

أعظم عطاء يناله الإنسان من الله أن يكون حكيماً :

نحن في هذا البلد الطيب دروس العلم كثيرة, والدعاة إلى الله كثر, والحق مألوف, لكن لو ذهبت إلى بلاد الكفر, بلاد البعد عن الله عز وجل, الكلمة الطيبة ثمينة جداً, بل لا تقدر بثمن, هي مفتاح السعادة.
شخص يمشي في طريق خاطىء, تجده يسمع كلمة غيّر اتجاهه, عندما غيّر اتجاهه تلقى الأنوار من الله عز وجل, تلقى الأمن, والطمأنينة, والسعادة, والتوازن, يقول لك: حياتي انتقلت قفزات نوعية كبيرة جداً.
فالإنسان يجب أن يعلم، أعظم عطاء تناله من الله أن تكون حكيماً, أن تعرف الحقيقة الكبرى في الكون وهي الله عز وجل, أن تعرف الطريق الموصل إليه.
هناك شخص مرة قال لي- وهو أحد أخواننا الكرام توفي رحمه الله, عنده معمل كاتو- زارني شخص أرمني, دخل إلى المعمل, قال له: علمني صنعة الكاتو, قال لي: بكل نفس طيبة على عيني, عمل أمامه الطبخة, بعدما انتهت, ونجحت الطبخة, طلب منه أن يعمل طبخة أمامه, وتدرب, وسافر, قال لي: مضى على الحادثة خمس وعشرون سنة, كل سنة يأتي لي بهدية, يقول لي: أنا توفقت كثيراً, والخير الذي وصلت إليه عن طريقك.
فهناك إنسان أرباحه كلها بسبب توجيه إنسان دله على أصول التجارة، فكيف إذا إنسان دلك على الله عز وجل؟

شقاء الإنسان من سلوكه المنحرف وعمله الطيب بسبب الحكمة التي آتاه الله إياها :

لذلك: لك آباء ثلاثة؛ لك أب أنجبك, وأب زوجك, وأب دلك على الله؛ طبعاً الأب الذي أنجبك ينتهي فضله عند الموت, والأب الذي زوجك ينتهي فضله بفراق الزوجة, -بفراقها, أو بفراقك عنها-, أما الأب الذي دلك على الله ففضله يستمر إلى أبد الآبدين.
فلذلك: على الإنسان ألا يستهين بالحكمة؛ لأن شقاء الإنسان من سلوكه المنحرف, وانحرافه من ضعف علمه, وسعادته من عمله الطيب, وعمله الطيب بسبب الحكمة التي آتاه الله إياها.
الآن: أكثر الناس يشقون حتى في أعمالهم المهنية بسبب جهلهم بالله عز وجل, لا يعرف الله, يعتدي على حقوق الآخرين, فيعاقبه الله عقاباً أليماً.
قوانين ربنا لا تتعطل إن لم تؤمن بها هي نافذة؛ آمنت بها, أو لم تؤمن, عظّمتها, أو لم تعظّمها, أيقنت بها, أو لم توقن, اهتممت بها, أو لم تهتم, هي قائمة, نافذة, فلما الإنسان يغفل عنها, ويتحرك حركة فيها عدوان, ربنا عز وجل يهلكه, وهلاك ربنا عز وجل مخيف:

﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾

[سورة البروج الآية:12]

ممكن أن أقول لك كلمة فيها تعنيف شديد: في القارات الخمس من آدم إلى يوم القيامة؛ ما من مشكلة ظهرت في الأرض إلا بسبب خروج عن منهج الله,وما من خروج عن منهج الله إلا بسبب الجهل, هذا الجهل أعدى أعداء الإنسان, يقابله الحكمة أن تعرف الحقيقة, وأن تعمل بها.
الفلاسفة قالوا: "هناك إنسان فيلسوف لكن ليس حكيماً, أما حينما يطبق فلسفته في سلوكه فصار حكيماً".
الحكيم هو عالم انتفع بعلمه, عالم نفذ علمه, عالم ترجم علمه إلى سلوك, هذا الحكيم.
فقال بعضهم: "نور القلب من الحكمة, وظلماته من اللقمة, وعمارته من كثرة الفكرة, وخرابه من طول الغفلة والقسوة".
المؤمن ينور, تصور إنساناً يمشي في غابة في الليل؛ يوجد في الغابة وحوش, يوجد في الغابة حشرات, و أفاع, و عقارب, فيها حفر, فيها صخور, فيها أشجار, إنسان معه مصباح شديد, الأمور واضحة جداً أمامه, طبعاً الحفرة ابتعد عنها, والحشرة قتلها, والفاكهة أكلها, إنسان يمشي في هذه الغابة بلا مصباح، سيقع في متاعب كثيرة. 

الجهل سبب شقاء الإنسان :

الآن: أحياناً الإنسان -هناك نقطة دقيقة جداً- يركب سيارة موديل (38), موديل (40), يعمل حادثاً يموت, نقول: مات؛ لأن السيارة فيها أخطاء كبيرة جداً, مهترئة, غير متوازنة, ويمكن أن يركب الإنسان مركبة أحدث ماركة موديل (99), ثمنها خمسة وعشرون مليوناً, يمشي في طريق في الليل؛ كله منعطفات, وانطفأ الضوء فجأة, وعن اليمين واد, وعن اليسار واد, يعمل حادثاً فيموت, بأحدث نوع من السيارات لأنه انطفأ مصباحه فجأة.
هذا الكلام تؤكده الآية الكريمة: أهل النار وهم في النار يتصايحون, يعبرون عن سبب شقائهم؛ لأنهم كانوا لا يسمعون أو يعقلون، آية دقيقة جداً:

﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾

[سورة الملك الآية:10]

سبب شقائنا ما سمعنا الحق, ولا عقلناه, ليس سبباً ببنية الإنسان, بنيته راقية جداً, السبب الجهل, الجهل سبب شقائه.

 

الإنسان بالإيمان يحبه الناس جميعاً و العكس صحيح :

فيا أيها الأخوة يمكن أن نقول: إن الجهل أعدى أعداء الإنسان, والحكمة هي العلم الذي يطبق, و لا يوجد شيء يساوي مليون من جنسه إلا الإنسان.
مثل بسيط: إنسان من ثلاثة أيام لم يأكل, وجائع, وضعوه أمام لحم مشوي طازج, متقن, مع مقبلات, يقبل على هذا اللحم بنهم شديد, أما لو كان هناك قطعة لحم متفسخة, يكاد يخرج من جلده, تقززاً منها؛ هذا لحم, وهذا لحم, هذه تقبل عليها وتتمناها, وهذه تنفر منها, وتبتعد عنها.
وهكذا الإنسان بالإيمان يحبه الناس جميعاً, عندما يكفر يصبح شخصاً شرساً, وقحاً, أنانياً, أصولياً, متكبراً, متعجرفاً, يعتدي على حقوق الآخرين, هذا شأن الإنسان؛ ولا تعلم قيمة المؤمن إلا إذا عاملت غير المؤمن, لا تعرف تواضع المؤمن, ولطف المؤمن, ورحمة المؤمن, وعدل المؤمن إلا إذا عاملت إنساناً بعيداً عن الله.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور