وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0583 - حقيقة التوبة - التمني .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله رب العالمين ، غافر الذنب ، وقابل التوب ، شديد العقاب ، ذي الطول ، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ليتوب مسيء الليل ، وينادي : هل من تائب فأتوبَ عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، يقول : عبدي ، لا تعجز ، منك الدعاء وعليّ الإجابة ، منك الاستغفار وعليّ المغفرة ، منك التوبة وعليّ القبول، من أحبنا أحببناه ، ومن عصانا أمهلناه ، ومن رجع إلينا قبلناه ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، إمام العابدين ، وسيد التائبين ، منقذ البشرية ، ومبعوث العناية الإلهية ، اللهم صلّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، المقتدين به ، المتبعين لسنته ، أمناء دعوته وقادة ألويته ، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين . عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله ، وأحثكم على طاعته ، وأستفتح بالذي هو خير .

رحمة الله بعباده وفرحه بتوبتهم :

 روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال :

((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي ، فاستغفروني أغفر لكم))

[ مسلم عن أبي ذر]

 وقد ورد في مدارج السالكين لابن قيم الجوزية أن رحمة الله بعباده وفرحه بتوبتهم تتمثل في هذا الأثر المتطابق مع النصوص الصحيحة :

((وعزتي وجلالي إن أتاني عبدي ليلاً قبلته ، وإن أتاني نهاراً قبلته ، وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ، وإن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ، وإن مشى إلي هرولت إليه ، وإن استغفرني غفرت له ، وإن استقالني أقلته ، وإن تاب إليّ تبت عليه ، من أقبل عليّ تلقيته من بعيد ، ومن أعرض عني ناديته من قريب ، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد ، ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد ، ومن أراد مرادي أردت ما يريد ، أهل ذكري أهل مودتي ، أهل شكري أهل زيادتي ، أهل طاعتي أهل كرامتي ، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ؛ فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب ، أشكر اليسير من العمل ، وأغفر الكثير من الزلل ، رحمتي سبقت غضبي ، وحلمي سبق مؤاخذتي ، وعفوي سبق عقوبتي ، وأنا أرحم بعبدي من الأم بولدها . . .))

[الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان ]

كلّ جهل قد يُغتفر إلا أن يجهل الإنسان سرّ وجوده :

 إن كل جهل مهما عظمت نتائجه قد يُغتفر ، إلا أن يجهل الإنسان سرّ وجوده، وغاية حياته ، وحقيقة مهمته ، وأكبر عارٍ على هذا المخلوق الأول المكرم ، الذي آتاه الله العقل، ومنحه الإرادة ، أن يعيش جاهلاً وغافلاً ، يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام ، لا يدري شيئاً عن حقيقة وجوده ، ولا عن طبيعة دوره في الحياة ، فيضل الطريق وينحرف عنه بسبب جهله ، وغفلته ، أو بسبب إغراء عابث ، أو شهوة جامحة ، فيهبط مستواه الإنساني ، وتسقط قيمته النوعية ، ويصل إلى الدرك الذي يعوقه عن النهوض بتبعات الحق والخير ، عندئذ يبتعد عن التطهُّر والتسامي ، ويندفع إلى تحقيق ذاته ، وإشباع غرائزه ، وإيثار مصالحه الخاصة ، فيبني مجده على أنقاض الآخرين ، وغناه على فقرهم ، وسعادته الموهومة على شقائهم ، ويظل كذلك سادراً في غفلته ، وممعناً في طغيانه ، حتى يوافيه الموت بغتة ، فيواجه مصيره المجهول دون تنبه له ، ولا استعداد ، فيدفع ثمن غفلته ، وجهله ، وانحرافه ، شقاءً أبدياً ، وحينئذ يندم حين لا ينفع الندم ، ويرجو الخلاص ولات حين مناص . أما الإنسان العاقل فيبادر ويسأل نفسه هذا السؤال : لماذا خُلقت ؟ . . وما مهمتي في هذا الوجود ؟ . . وما رسالتي في هذه الحياة ؟ والقرآن الكريم يجيبه عن هذه الأسئلة قائلاً :

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الذاريات : 56]

 والعبادة غاية الخضوع لله ، في أمره ونهيه ، لأن الجهة الصانعة هي الجهة الوحيدة التي تعرف ما يَصلُح لصنعتها ، وما لا يصلح ، قال تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 21]

 والعبادة غاية المحبة لله ، لأن الإنسان مفطور على حبّ ذاته ، وحبّ وجوده، وسلامة وجوده ، وكمال وجوده ، واستمرار وجوده ، وهذا لا يتحقق إلا بمشيئة الله وفضله ، فما عَبَدَ الله من خضع له ولم يُحبه ، ولا من أحبه ولم يخضع له . فهناك من يعيش ليأكل ، وهناك من يأكل ليعيش ، وهناك من يعيش ليعرف ربه ويعبده ويسعد بقربه ، وقد ورد في الأثر القدسي:

(( عبادي إني ما خلقتكم لأستأنس بكم من وحشة ، ولا لأستكثر بكم من قلة ، ولا لأستعين بكم على أمرٍ عجزت عنه ، إنما خلقتكم لتعبدوني طويلاً ، وتذكروني كثيراً ، وتسبحوني بكرة وأصيلاً ))

[ ورد في الأثر]

(( ابن آدم خلقت لك ما في السموات والأرض من أجلك فلا تتعب ، وخلقتك من أجلي فلا تلعب ، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك))

[ ورد في الأثر]

المصائب من أسباب تكفير الذنوب :

 لقد رُكِّب الإنسان من عقل وشهوة - كما قال الإمام علي كرم الله وجهه - وقد جاء الإسلام ، وهو دين الفطرة ليقيم توازناً دقيقاً عن طريق المنهج الرباني الذي رُسم للإنسان ، من خلال آيات القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبما أن الإنسان مُنح حرية الاختيار ، في دائرة التكليف ، والابتلاء ، لتُثَمَّن أعماله الكسبية ، فتكون سبباً لدخوله روضات الجنات ، أو التردي في حفر النيران ، وبما أن الإنسان خُلق ضعيفاً ، ليفتقر إلى الله في ضعفه ، فيسعد في افتقاره ، ومن لوازم ضعفه أنه ينسى ويسهو ، ويغفل ويغفو ، ويضعف ويُغلب ، فقد يعصي ربه، ويخرج عن المنهج الذي رُسم له .
 لهذا شرع الله للإنسان التوبة ، وفي تشريع التوبة وقبولها صيانة لحركة الهداية في الأرض . إن التوبة مخرجُ النجاة للإنسان حينما تُحيط به خطيئاته ، وهي صمام الأمان حينما تضغط عليه سيئاته ، وهي تصحيح للمسار حينما تُضله أهواؤه ، وإنها حبل الله المتين الذي ينقذ الإنسان حينما تُغرقه زلاته .

((إذا رجع العبد العاصي إلى الله ، نادى مناد في السموات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ))

[ ورد في الأثر]

 قال بعض العارفين : لأهل الذنوب ثلاثة أنهار يتطهرون بها في الدنيا ؛ فإن لم تف بطهرهم طُهِّروا في نهر الجحيم يوم القيامة ؛ نهر التوبة النصوح ، ونهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها ، ونهر المصائب العظيمة المُكفِّرة ، فإذا أراد الله بعبد خيراً أدخله أحد هذه الأنهار الثلاثة ، فجاء يوم القيامة فلم يحتج إلى التطهير الرابع . ولو لم تُشرع التوبة لهلك الناس ، ولعمّ الفساد في الأرض ، لأن الإنسان إذا طُرد من رحمة الله ، لمجرد معصية واحدة ، فلن يرجع إلى منهج ربه لانعدام أمله في القَبول ، ولِمَ يرع وقد طُرد من رحمته ؟ . . عندئذ سيعربد في الأرض انحلالاً وانحرافاً وطغياناً .
 رأى بعض العارفين في بعض سكك المدينة باباً قد فُتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي ، وأمه خلفه تطرده ، حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه ، ودخلت فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكراً ، فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ، ولا من يؤويه غير والدته ، فرجع مكسور القلب حزيناً ، فوجد الباب مُرتجاً ، فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ، ونام ، فخرجت أمه ورأته على تلك الحال لم تملك إلا أن رمت بنفسها عليه ، والتزمته تقبله وتبكي وتقول : يا ولدي أين تذهب عني ومن يؤويك سواي ؟ ألم أقل لك : لا تُخالفني ، ولا تحملني بمعصيتك على خلاف ما جُبلت عليه من الرحمة بك ، والشفقة عليك ، وإرادة الخير لك .
 ثم أخذته ودخلت … لنتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم :

((للهُ أرحم بعبده من الأم بولدها))

[ البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ]

 فحقيقة التوبة الرجوع إلى الله ، ولا يصح الرجوع إلا بمعرفة الله بأسمائه وصفاته، وآثارها في نفسه ، وفي الآفاق ، ومعرفة أنه كان فارّاً من ربه ، أسيراً في قبضة عدوه ، وأنه ما وقع في مخالب عدوه إلا بسبب جهله بربه وجرأته عليه ، فلا بد من أن يعرف كيف جهل ؟ ومتى جهل ؟ وكيف وقع أسيراً ؟ ومتى وقع ؟ .

 

التوبة حقيقة الدين و الرجوع إلى الرحمن الرحيم :

 والتوبة هي التخلص من العدو ، والرجوع إلى الرحمن الرحيم ، والسير على الصراط المستقيم ، إنها خلع ثياب المعصية ، وارتداء ثياب الطاعة ، إنها ترك المحظورات ، وفعل المأمورات ، إنها التزام فعل ما يحب الله وترك ما يكره ، وقد علق الله سبحانه وتعالى الفلاح كله على فعل المأمور ، وترك المحظور ، بقوله :

﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾

[سورة النور : 31]

 فكل تائب مفلح ، وتارك الأمر ظالم لنفسه أشد الظلم ، وفاعل المحظور ظالم لنفسه أشدّ الظلم ، قال تعالى :

﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾

[سورة الحجرات : 11]

 والتوبة حقيقة الدين ، والدين كله داخل في التوبة ، لهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله ، قال تعالى :

﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾

[سورة البقرة : 222]

 ولذلك يفرح الله الفرح العظيم بتوبة عبده المؤمن ، فقد ورد في الحديث الشريف :

((إن الله أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد ، والظمآن الوارد ، والعقيم الوالد))

[ السيوطي في الجامع الصغير عن أنس]

 وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

((لله أشدُّ فرحاً بتوبة عبده المؤمن ، من رجل في أرض دَوَّيةٍ - لا نبات فيها - مهلكة ، معه راحلته ، عليها طعامه وشرابه ، فنام ، فاستيقظ وقد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطش ، ثم قال : أرجعُ إلى مكاني الذي كنت فيه ، فأنام حتى أموت ، فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته ، عليها زاده وطعامه ، فالله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من هذا براحلته وزاده))

[متفق عليه عن عبد الله بن مسعود ]

كيفية التوبة من الذنوب :

 التوبة كما يرى الإمام الغزالي ؛ علم وحال وعمل . . إنها علمٌ ؛ لأن أول مرحلة في حلِّ أية مشكلة أن تعلم أن هناك مشكلة ، وأن أول مرحلة في التوبة من الذنب أن تعلم أنه ذنب ، وأنه يحجبك عن الرب . فكيف يتوب المرء من الشرك الخفي أو الجلي وهو لا يعلم ما الشرك ؟ وما التوحيد ؟ ولا كيف يصل إلى التوحيد ؟ ولا كيف ينزلق في الشرك الذي هو أعظم الذنوب ؟ وكيف يتوب المرء من سوء الظن بالله قال تعالى :

﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾

[سورة الفتح : 6]

 وهو لم يبذل جهداً ولم يُخصص وقتاً لمعرفة الله حق المعرفة ومعرفة أسمائه، أسماء ذاته وصفاته وأفعاله ؟ كذلك لا يعرف مصادر المعرفة ؟ ولا منهج المعرفة ؟ وكيف يتوب المرء من سوء الظن بالأنبياء والمرسلين الذين اصطفاهم الله من خيرة خلقه وطهرهم وزكاهم وعصمهم وجعلهم أسوة حسنة وقدوة صالحة ومثلاً أعلى لخلقه ؟ كيف يتوب المرء من هذا الذنب وهو لم يسأل الراسخين في العلم عن حقيقة عصمتهم وسرّ مواقفهم وتأويل الآيات المتشابهة عنهم ؟
 وكيف يتوب المرء من كسب المال الحرام وهو لا يعرف حدود الحلال والحرام ؟ ولا حقيقة الربا ؟ ولا شروط البيع ؟ ولا ما يلابسه من حالات تجعله فاسداً أو باطلاً كما لا يعرف طرق الكسب المشروعة وغير المشروعة ؟ وقد قال بعض العلماء :

(( ترك دانقٍ من حرام خيرٌ من ثمانين حجة بعد حجةِ الإسلام ))

[ ورد في الأثر]

 وكيف يتوب من الذنوب المتعلقة بإنفاق المال وهو لا يعرف الحقوق والواجبات ؟ ولا الحلال والحرام في الإنفاق ؟ ولا قيمة المال في الإسلام ؟ ولا دوره الخطير في صون العرض والتقرب إلى الرب ؟ وكيف يتوب المرء من ذنب البغي على الشريك وهو لا يعلم متى يكون عقد الشركة صحيحاً ومتى يكون فاسداً أو باطلاً ؟ كذلك لا يعلم أن الله ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه ؟ وكيف يتوب المرء من ذنوب العلاقات الاجتماعية ولا سيما الاختلاط وهو لا يعرف آداب الإسلام وأخلاق المسلم كما بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وكيف يتوب المرء من ذنب عقوق الوالدين والجور في معاملة الأبناء وهضم حقوق الزوجة وحرمان البنات من الميراث وهو لا يعلم أوامر الله ونواهيه في كل ما يتعلق بالأسرة ؟
 وكيف يتوب المرء من الكذب والتدليس والغش والاحتكار ورفع الأسعار وهو لا يعلم ما عند الله من عظيم الإكرام إذا هو نفع عباده وخفف عنهم أعباء الحياة ؟ ولا يعلم ما عند الله من شديد العقاب إذا هو أكل أموالهم بالباطل ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم :

((الخلق كلهم عيال الله ، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله))

[أبو يعلى عن أنس بن مالك ]

 هذا على سبيل الاصطفاء لا الاستقصاء ، فما من مشكلة يعاني منها المجتمع البشري إلا بسبب الخروج عن منهج الله ، الذي ارتضاه لعباده ، وما من خروج عن هذا المنهج إلا بسبب الجهل ، الذي هو أعدى أعداء الإنسان .

 

التوبة علم وحال وعمل :

 التوبة علم وحال وعمل ؛ العلم بالله . . وبأمره . . وبضرر الذنب ، وما يفوِّت على المرء من خير كثير ، وما يجلب له من ضُرٍّ كبير ، إن العلم بخطورة الذنب ، وما يترتب عليه من آثار وبيلة تبدأ في الدنيا وتمتد إن لم يتب إلى الآخرة ، إن هذا العلم يُولِّد حالة نفسية مؤلمة وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها الندم ، فقال :

((الندم توبة))

[أحمد عن أنس بن مالك]

 وقد قال العلماء في تفسير هذا الحديث : لا يخلو الندم من علم سبَّبه ومن عمل أورثه ، وربما وضّحت قصة سيدنا عمر رضي الله عنه مع المرأة المرضع حالة الندم هذه :
 " قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : " قدمت المدينة قافلة نزلت في المُصلى ، فقال لي عمر : هل لك أن نحرسهم الليلة ؟ فباتا يحرسانهم ويُصليان ما كتب الله لهما ، فسمع عمر بكاء صبي فتوجه نحوه وقال لأمه : اتقي الله وأحسني إلى صبيك ، ثم عاد إلى مكانه ، فسمع بكاءه ثانية ، فعاد إلى أمه فقال : اتقي الله وأحسني إلى صبيك ، ثم عاد إلى مكانه ، فلما كان آخر الليل سمع بكاءه فأتى أمه فقال : ويحك إني أراك أمَّ سوء ، ما لي لا أرى ابنك لا يقرُّ هذه الليلة ؟ قالت : يا عبد الله ، قد أضجرتني هذه الليلة ، إني أجبره على الفطام فيأبى ، قال : ولِمَ؟ قالت : لأن عمر لا يفرض العطاء إلا للفطيم قال : وكم له ؟ قالت : كذا وكذا شهر ، قال : ويحك لا تعجلي عليه ثم صاح مخاطباً نفسه والألم يعتصر قلبه : ويحك يا بن الخطاب كم قتلت من أولاد المسلمين !! فلما صلى الفجر إماماً ، ما استبان الناس قراءته من شدة بكائه ، ثم أمر منادياً فنادى : لا تعجلوا على صبيانكم في الفطام ، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام عطاءه ، وكتب بذلك إلى الآفاق " .
 وقد سُمع عمر رضي الله عنه وهو يصلي بالليل في المسجد يُناجي ربه ويقول : " ربِّ هل قبلت توبتي فأهنِّئ نفسي أم رددتها فأعزيها ؟ " . . التوبة علم وحال وعمل . . حالة الندم هذه التي ولَّدها العلم ، تولد بدورها إرادة وقصداً إلى فعل له تعلُّق بالحال وبالماضي وبالاستقبال ، فالتائب يترك الذنب الذي كان متلبساً به في الحال ، ويقلع عنه إذ تستحيل التوبة مع مباشرة الذنب ، وحينما يعرف المرء من هو الآمر إنه خالق السموات والأرض ، وهو على كل شيء وكيل ، ومن إليه يُرجع الأمر كله ، وإليه المصير ، وحينما يعرف المرء أن سعادته في الدنيا والآخرة ، متوقفة على فعل أوامره ، وترك نواهيه ، وحينما يعرف المرء أن مخالفة أمره تعني شقاء لا حدود له ، حينما يعرف المرء كل هذا يقلع عن الذنب لتوه . أما الفعل المتعلق بالاستقبال ، فهو الصادق الأكيد على ألا يعود إلى مقارفة الذنب ، كما يكره الإنسان أن يُلقى في النار ، وقد فسَّر سيدنا عمر رضي الله عنه التوبة النصوح بأن يتوب العبد من الذنب ثم لا يعود إليه كما لا يعود اللبن في الضرع ، وقال سعيد بن المسيب في التوبة النصوح : إنها توبة تنصحون بها أنفسكم .

 

حقوق العباد مبنية عن المشاححة و حقوق الله مبنية على المسامحة :

 أما الفعل المتعلق بالماضي فهو الاستغفار إذا كان الذنب بين العبد وربه، والإصلاح إذا كان الذنب متعلقاً بحق آدمي ، إذ لابد للتائب من أن يخرج من هذا التعلق إما بأداء الحق إلى صاحبه ، أو إلى ورثته ، أو بالتصدُّق عنه ، وإما باستحلاله منه ، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

(( من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض ليتحلله اليوم ، قبل ألا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات ))

[البخاري عن أبي هريرة]

 فحق الآدمي لا يسقط إلا بأدائه أو استحلاله ، إن حقوق العباد مبنية عن المشاححة ، بينما حقوق رب العباد مبنية على المسامحة ، قال تعالى :

﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

[سورة النور : 5]

 وكلمة أصلحوا في الآية تعني كل ذلك . رُوي أن ملك الموت إذا ظهر للعبد أعلمه أنه قد بقي من عمرك ساعة ، وأنك لا تستأخر عنها طرفة عين ، فُيبدي العبد من الأسف والحسرة ما لو كانت له الدنيا بحذافيرها لتخلى عنها ، على أن يضم إلى تلك الساعة ساعة أخرى ليتدارك تفريطه ، فلا يجد إلى ذلك سبيلاً .

[ إحياء علوم الدين للغزالي ]

 قال تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾

[سورة المنافقون : 9-11]

 وفي معنى الأجل القريب أن العبد يقول عند كشف الغطاء : يا ملك الموت أخرني يوماً ، أعتذر فيه إلى ربي ، وأتوب ، وأتزود صالحاً ، فيقول ملك الموت : فنيت الأيام فلا يوم، فيقول : أخرني ساعة ، فيقول : فنيت الساعات فلا ساعة ، فيغلق عليه باب التوبة ، فيتغرغر بروحه ، قال تعالى :

﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾

[سورة النساء :18]

﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾

[سورة النساء :17]

 أي عن قرب عهد بالخطيئة .

 

آثار الحسنة و السيئة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ إن للحسنة ضياء في الوجه ، ونوراً في القلب ، وسعة في الرزق، وقوة في البدن ، ومحبة في قلوب الخلق ، وإن للسيئة سواداً في الوجه ، وظلمة في القلب، ونقصاً في الرزق ، ووهناً في البدن ، وبغضاً في قلوب الخلق ، وهواناً للعبد على ربه ، وسقوطاً من أعين الناس .

قُمْ فِي الدُّجَى يَا أَيُّهَا الْمُتَعَبــــــــــــــــدُ  حَتَّى مَتَــــــــــــــــــــى فَوقَ الأسِرَةِ تَرْقَد
قُمْ وادْعُ مَولاَكَ الَّذِي خَلَقَ الدُّجَــــى  وَالصُّبْحَ وامضِ فَقَد دَعَاكَ المسجدُ
وَ اسْتَغفرِ اللهَ العَظِيمَ بذِلَّـــــــــــــــــــــــةٍ  وَاطَلبْ رضـــــــــــــــــــاهُ فجُودُهُ لاَ يَنَفْذُ
وَانْدَمْ عَلَى مَا فاتَ واندبْ مَا مَضَى  بالأمسِ واذْكُرْ مَا يَجَيء بِهِ الــــــــغَدُ
وَاضرعُ وَقُلْ: يَا رَبّ عَفْوَكَ إِنَّنِــــــــي  مِنْ دُون عَفْوك لَيْسَ لِي مَا يَعْضُدُ
يا ربِّ هب لي توبةً أقضي بـــــــــها  ديناً علــــــــــــــــــيّ به جلالك يشهــــد
***

تقوى الله أفضل العدة على العدو :

 وأنتم أيها الثائرون في الأراضي المحتلة ، بوركت سواعدكم وسلمت أيديكم ، لقد ضربتم المثل في التضحية والفداء ، فأقلقتم مضاجع الصهاينة الأعداء ، يقول لكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن تقوى الله أفضل العدة على العدو ، وأقوى المكيدة في الحرب، والمعاصي أضرّ على الجند من أعدائهم .

﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾

[ سورة محمد : 7 ]

 ونصر الله طاعته وتمكين دينه . قال تعالى :

﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾

[سورة المائدة : 12]

 فتوبوا إلى الله :

﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾

[سورة النساء : 104]

الدعاء :

 اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، إنك أنت الغفور الرحيم . اللهم اجعلنا من الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا وأخلصوا دينهم لله . اللهم ارزقنا توبةً من تضييع الوقت ، وتوبةً من تأخير التوبة . اللهم أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام والمسلمين ، اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين خيراً فوفقه لكل خير ، ومن أراد بهم غير ذلك فخذه أخذ عزيز مقتدر. اللهم وفق ولاة أمور المسلمين ، في مشارق الأرض ومغاربها ، لما تحب وترضى ، اللهم وفق بينهم ، ووحد كلمتهم ، واجمعهم على الحق والخير والهدى ، وانصرهم على أعدائك وأعدائهم يا كريم . اللهم وفق السيد رئيس الجمهورية ، حافظ الأسد ، لما فيه خير البلاد والعباد ، وهيئ له بطانة خير يا رب العالمين ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور