وضع داكن
13-11-2024
Logo
الدرس : 67 - سورة البقرة - تفسير الآيات 196-203 ، الحج عبادة مالية وبدنية وشعائرية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الحج من العبادات الكبرى في الإسلام :

أيها الأخوة المؤمنون.. مع الدرس السابع والستين من دروس سورة البقرة، ومع الآية السادسة والتسعين بعد المئة، وهي قوله تعالى:

﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾

أيها الأخوة المؤمنون.. بعد الحديث عن الصيام، جاء الحديث عن الحج، وهذا يؤكِّد أن في القرآن الكريم تناسُقاً بين الآيات، بل إن كل سورةٍ تعدُّ وحدةً معنويةً فيما بين آياتها، فبعد الحديث عن آيات الصيام، ومن لوازم الصيام الدعاء:

﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي ﴾

[ سورة البقرة: 186]

جاء الحديث عن آيات الحج، أولاً: يستنبط أن الحج من العبادات الكبرى في الإسلام، لذلك إذا بدأت هذه العبادة ينبغي لك أن تتمها، مما يدل على أن هذه العبادة كُبرى في الإسلام، لقوله تعالى:

﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾

حينما ذكر الله الحجَّ وذكر العمرة، العطف كما يقول علماء اللغة يقتضي شيئين، يقتضى المشاركة والمغايرة، فإذا لم يتحقق الشرطان معاً فالعطف ليس له معنى، فأنت حينما تقول: جاء سعيدٌ وأحمد، اشتركا في المجيء، ولكن سعيداً غير أحمد، أما إذا قلت: جاء سعيد وسعيد، سعيد الثاني نفس الأول، فليس لهذا العطف معنى.

 

يجب أن يؤدّى الحج فريضة وأن تؤدى العمرة واجباً :

إذاً الحج شيء والعمرة شيءٍ آخر، كلاهما يؤدّى في بيت الله الحرام، لكن الحج في وقتٍ مخصوص، وفي مكانٍ مخصوص، وفيه وقوفٌ بعرفة، بينما العمرة تؤدَّى في أي يومٍ من أيام العام، وليس فيها وقوف في عرفات، إذاً ربنا عزَّ وجل يقول:

﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾

أما في قوله تعالى:

﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا ﴾

[ سورة آل عمران: 97 ]

الحج في هذه الآية فرضٌ على كل مسلم مستطيع، والاستطاعة: القدرة البدنية والمالية معاً. إذاً أصبح الحج فرضاً عَيْنِيَّاً على المستطيع، والعمرة واجبٌ على كل مسلم، ففرقٌ بين العمرة والحج، العمرة زيارة، الحج يؤدَّى في وقت واحد، وفي مكانٍ واحد، وفيه وقوفٌ بعرفة، وسمَّاه الله " يوم الحج الأكبر "، إذاً العمرة حج أصغر، فحينما وصف الله الوقوف بعرفة بيوم الحج الأكبر، إذاً هناك حجٌ أصغر، إنها العمرة، وعلى كلٍ يجب أن تؤدّي الحج فريضة، وأن تؤدي العمرة واجباً، وإذا بدأت بالحج، وإذا بدأت بالعمرة يجب أن تتمهما، لعظم هاتين العبادتين.
وبالمناسبة فالعمرة والحج عبادة شعائرية، وذكرت في الخُطبة اليوم أن: هناك عبادات تعاملية، وهناك عبادات شعائرية، والفرق بينهما أنك تقطف ثمار العبادات التعاملية في الدنيا فثمارها ملموسة، المنهج الإلهي لو طبقه كافر لقطف ثماره في الدنيا، وحينما تذهب إلى بلادٍ بعيدة ترى شيئاً يجذب النظر؛ فهناك من يصدُق، والأكثرون يصدقون، أعمال متقنة، ونظام دقيق، إذ تحترم حرية الإنسان ووقته، فهذا منهج إسلامي، وأي مجتمعٍ طبق المنهج الإسلامي التعامُلِيّ، قطف ثماره في الدنيا ولو كان كافراً به، أي بمرسله.

 

لا تصح العبادة الشعائرية إلا إذا صحت العبادة التعاملية :

إذاً هناك منهج تعاملي، وهناك منهج شعائري، فالمنهج التعاملي أن تكون صادقاً، وأميناً، ومنصفاً، ووقافاً عند كتاب الله، وألا تؤذي جارك، وألا تغتاب مؤمناً، وألا تقع في فاحشةٍ، وهذا منهج تعاملي، فإن صَحَّ المنهج التعاملي صح المنهج التَعَبُّدِيّ الشعائري، فيجب أن نفقه هذه الحقيقة، إذ لا معنى إطلاقاً لمنهج شعائري دون منهج تعبدي، وهناك إنسان يأكل الحرام، ويكذب على الناس، ويسخرهم لمصلحته، ويغشّهم في بضاعتهم، ولا يقيم قيمة لوعده، ولا لعهده، إنه إنسان خرق المنهج التعامُلي، فهذا لو وقف ليصلي، فالطرق ليست سالكة أمامه، والخط ليس حاراً، إنه منقطع بينه وبين الله، إذاً لا تصح العبادة الشعائرية إلا إذا صحت العبادة التعاملية، فلذلك الحج عبادة شعائرية، يقول الله تعالى:

﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾

أيْ القَصْدُ طلب مرضاة الله، القصد الإخلاص لله، فإن لم يكن هناك إخلاص فهذه العبادة لا معنى لها إطلاقاً، فإذا صدق أحدهم لينتزع إعجاب الناس، وليحقق مصالحه بالصدق، كما يفعل الأجانب؛ صدقهم، وأمانتهم، وإتقانهم، واحترامهم للآخرين، هذه مصلحة، مصلحتهم في أن يفعلوا هذا.
إذاً هذه عبادة تعاملية تقطف ثمارها في الدنيا ولو كنت كافراً بمن أرسلها، أما العبادة الشعائرية ليس لها أي مصلحة في الدنيا، الذهاب للحج إنفاق أموال، وتحمُّل مشاق، ومكابدة الحر والقَرّ، ومكابدة الازدحام، وتضييع الوقت، والحرمان من الأهل، والبيت، والعمل، والأقارب. فإن لم يكن الإنسان الذي يحج بيت الله الحرام مستقيماً على أمر الله، إن لم يكن دخله حلالاً، إن لم يكن تائباً ما معنى هذا الحج؟ لا معنى له، لذلك من حج بمالٍ حرام، ووضع رجله في الرِكاب وقال: لبيك اللهم لبيك. يناديه منادٍ ويقول له: لا لبيك، ولا سعديك، وحجك مردودٌ عليك.

﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾

من لوازم قَبول الحج أن يكون بمالٍ حلال، وتسعة أعشار الاستقامة في كسب المال، فمن كان ماله حلالاً كان حَجُّه مقبولاً، لا يُقبل حج الحاج قبل أن يؤدي ما عليه من حقوقٍ للناس، وقبل أن يستسمح من الناس، و أن يعطيهم حقوقَهم، وأن يؤدي ما عليه من ديون وواجبات.
إذاً هذا هو الفصل الدقيق بين العبادة التعاملية والشعائرية، فالعبادة التعاملية إن لم تصح لا تصح معها العبادة الشعائرية، فالحج يحتاج إلى استقامة، وإلى توبة، وإلى أداء حقوق حتى يصبح الحج مقبولاً عند الله عز وجل.

 

الحج عبادة مالية وبدنية وشعائرية :

قال تعالى:

﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ ﴾

قد يقول قائل: الحج شحنة العمر، بينما الصيام شحنة العام، وخطبة الجمعة شحنة الأسبوع، والصلوات الخمس؛ كل صلاةٍ شحنةٌ إلى صلاة، فأنت بحاجة إلى غذاء لجسمك، وإلى غذاء لقلبك، فأغذية القلب هي العبادات، فبالصلاة تُشحَن، وبصلاة الجمعة تُشحَن، وبصيام رمضان تشحن، وبالحج تشحن، لكن الحج أكبر عبادة وهو يؤدَّى في العمر مرةً واحدة، وما دام يؤدَّى في العمر مرةً واحدة إذاً ينبغي أن يكون في المستوى المطلوب.

﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾

الحج يحتاج إلى تفرُّغ، فأنت تصلي في بلدك، وتصوم في بلدك، وبيتك، وغرفتك، ومكان إقامتك، وحيث تكون زوجتك وأولادك، وحيث يكون عملك، ولكن الحج هذا العبادة الشعائرية ينفرد بخصيصة؛ لا بد من التفرُّغ، ولا بد من أن تدع بيتك، وأن تدع زوجتك، وأولادك، وبناتك، ومكتبك، وتجارتك، وبلدتك وأن تذهب إلى مكان بعيد متجشماً مشاق السفر، ونفقاته، والحج عبادة مالية وبدنية وشعائرية، فهو مالية إذ يحتاج إلى نفقة، بدنية يحتاج إلى صحة قوية، وأنا أتمنّى على كل إنسان أن يحج في أقرب وقت ممكن لأنه بحاجةٍ ماسةٍ إلى جُهد، فالطواف والسعي والوقوف في عرفات ومزدلفة ومنى، هذا الحج عبادة بدنية مالية شعائرية يحتاج إلى تفرغ، وأنت حينما تفرِّغ نفسك لله فهناك شيء مع الحج اسمه "التفريغ"، فأنت فرغت نفسك لله؛ وتركت بلدك، وأهلك، ومالك، ومكتبك، وتركت الثياب، إذ لا بد من أن تخلع هذه الثياب، والناس يتفاوتون في ثيابهم، والثياب تدلُّ على غنى الإنسان، فقد يلبس الإنسان ثياباً غاليةً جداً، فهذا الذي يمكن أن يكون موضع فخرك يجب أن تنزعه، وأن ترتدي ثوبين، رداءً وإزاراً أبيضين، بلا شيء مخيط ولا محيط، وبلا نعل ساتر للكعبين، فلا بد من خُفٍ لا يستر ظاهر القدم ولا الكعبين، ولا بد من إزارٍ ورداء، وهذه هي الثياب، إذاً هناك تقشف حتى في الثياب، ويمنع عليك أن تتعطر، وأن تحلق، وأن تقلم أظافرك، إذاً يريد الله عز وجل أن يذكِّرنا بالرحلة الأخيرة، إن صح التعبير الحج رحلةٌ قبل الأخيرة، عندما يقوم الناس جميعاً لرب العالمين.

وحدة المسلمين تبدو واضحة جداً في مناسك الحج :

هناك ترى الناس في عرفات؛ أغنياؤهم وفقراؤهم، أقوياؤهم وضعفاؤهم، وقد وقفوا على صعيدٍ واحد بثيابٍ موحدة، بتضرعٍ واحدٍ إلى الله عز وجل، وحدة الإنسان مع أخيه الإنسان تبدو واضحة في الحج، فلو جاء مَلكٌ ليحج بيت الله الحرام لا بد أن يخلع ثياب المُلْك، ولا بد من أن يقوم بمناسك الحج مع دَهْمَاء الناس، إذ لا يوجد أماكن خاصة لأصحاب الألقاب، ولا طواف خاص للملوك، ولا سعي خاص لأصحاب الشأن، فوحدة المسلمين تبدو واضحة جداً في مناسك الحج.
إذاً الحج عبادةٌ ماليةٌ شعائرية بدنية، تحتاج إلى تفرُّغ، وإلى ترك البلد، والأوطان، والأهل، والخُلاَّن، ثم تحتاج إلى أداء مناسك، وكل مَنْسَك له حكمةٌ بالغةٌ لا يعرفها إلا من ذاقها، يقول الله عز وجل:

﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾

طبعاً كل أمرٍ يقتضي الوجوب، ولكن هناك آية أخرى جعلت الوجوب فرضاً وهي قوله تعالى:

﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾

[ سورة آل عمران: 97 ]

" مَنْ كَفَرَ " قال: من لم يحج البيت وهو مستطيع، أو من أنكر حج البيت، أو من استغنى عن أن يحج لله في بيته الحرام، فقد وقع في نوعٍ من الكفر.

﴿ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ ﴾

[ سورة آل عمران: 97 ]

 

الإحصار نوعان قدَري وبشري :

قال تعالى:

﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾

ما دام الأمر " وأتموا ".

﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾

فالإحصار نوعان، إحصار قدري، وإحصار بشري، فأحياناً ـ لا سمح الله ولا قدر ـ يقع ابن أحد الناس من شرفةٍ فيقع ميتاً، هذا قدر، أما إذا ساق الإنسان مركبته بشكلٍ أرعن ودهس طفلاً، فهذَا مُقَدَّر، القدر من الله مباشرةً، والشيء المُقَدَّر قد يأتي على يد إنسان، أنت في القدر ليس لك غريم؛ هو فعل الله مباشرةً، أما بالمقدر فأمامك غريم، إذ أمامك إنسان يمكن أن تقاضيه، ولذلك قال تعالى:

﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾

[ سورة لقمان: 17 ]

وقال أيضاً:

﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾

[ سورة الشورى: 43]

تقديم هدي إلى الله عز وجل إذا مُنِعت أن تتم مناسك الحج :

قد يأتيك المُقَدَّر على يد إنسان، فأنت حينما تصبر على قضاء الله، وتصبر على غريمك الذي جعل الله هذه المصيبة على يديه فإن هذا من عزم الأمور، فقد يمنع الحُجاج مانعٌ إلهي؛ كزلزال، أو فيضان، أو أمر قاهر، أو طاعون، أو مرض شديد، هذا مُقَدَّر، أمر إلهي.

﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾

من قِبَلِ القدر، أو قد يكون إحصاركم من قبل البشر، أي أُناسٌ منعوكم من الحج؛ كما منع النبي عليه الصلاة والسلام من أن يؤدّي العمرة في وقت الحُديبية، فهناك إحصار قدر، وهناك إحصار بشر إذا منعت أن تتم مناسك الحج، يقول الله عز وجل:

﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾

إذا مُنِعْتَ إما من قبل القَدر أو من قبل البشر أن تؤدي مناسك الحج قال:

﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾

" الهَدْي " الدابة التي تذبحها، وتطعمها الفقراء، وتهديها إلى الله عز وجل، هديةٌ إلى الله، فإذا أحصرت بفعل القَدر أو البشر، فعليك أن تقدِّم هدياً إلى الله عز وجل، وتفك إحرامك، وتعود إلى بيتك.

﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾

قال:

﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ ﴾

أي أن مال الهدي مُيَسَّر لك، أو ميسَر لك شراؤه، قد تجد المال ولا تجد المُثَمَّن، وقد تجد المثمن ولا تجد الثمن، فالتيسير هنا أن تجد الثمن والمُثمن؛ وأحياناً إنسان معه مال وهو بحاجة إلى دواء ولكن الدواء غير موجود، الثمن موجود أما المثمن فغير موجود، وأحياناً يكون الإنسان فقيراً فالدواء موجود، ولكن لا يملك ثمنه، معنى:

﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ ﴾

أي ما تيسَّر لكم من الهَدْيّ امتلاكاً لثمنه أو توفراً لعينه.

﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾

 

الحلق من مناسك التحلُّل :

كلكم يعلم أن من مناسك التحلُّل الحلق، قال:

﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾

أيْ يجب أن تتأكد أن هذا الهَدْي وصل إلى بطونٍ جائعة، فما الذي كان يحصل قبل سنوات عديدة؟ هناك مليونَا حاج تقريباً، وما يقرب من خمسمئة ألف دابَّة تذبح في منى، وتلقى في العراء في حرٍ لا يحتمل، وقد حدَّثني صديقٌ لي، قال لي: تبقى روائح اللحم المتفسِّخ في منى أشهراً طويلة. فهل يعقل أن يكون هذا منهج الله؛ أي أن نذبح هذه الأنعام، ونلقيها في العراء، ليصبح الجو فاسداً بتفسُّخها، وهل هذا هو الدين؟ الآن والحمد لله هذه الذبائح تذبح، وتوضع في البرَّادات، وتنقل هديةً إلى فقراء المسلمين، وهذا أمر معقول، الآن هنا:

﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾

فهذه الشاة، إن العبادات هادفة تُذبَح كي يأكلها الفقراء، أما أن تذبحها وأن تلقيها في الطريق، ليس هذا نُسْكَاً، ولا منهجاً إلهياً بل هو إتلافٌ للمال.

﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾

أيْ هذا الذي لا يستطيع أن يحلق رأسه وهو محرم، ماذا عليه أن يفعل؟ يجب أن يصوم، أو أن يتصدق ويطعم ستة مساكين، أو أن يذبح هدياً. والتسلسل تصاعدي؛ تصوم وحدك، أو تطعم ستة أشخاص بالصدقة، أما بالهدي تطعم عشرات الأشخاص.

 

الفرق بين الحج المفرد والحج القارن والحج المتمتع :

أيها الأخوة... صار معنى قول الله عز وجل:

﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾

وإن حال بينك وبين إتمامها قدرٌ أو بشر، فلا بد من أن تسوق الهدي، وأن تُبَلِّغَهُ إلى أهله، أي أن يصل إلى بطونٍ جائعة، فهذا هو الشرع، وهذا هو الدين فأنت تتقرب إلى الله بإطعام الجائعين لا بإفساد الجو.

﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ﴾

طبعاً اختلف العلماء في أيهما أفضل أن تحج مفرداً وأن تأتي بعمرةٍ في سفرةٍ أخرى، أي أن تجعل لكل منسكٍ من الحج والعمرة سفراً خاصاً، أو أن تجمع العمرة إلى الحج؟ هناك كما تعلمون بالفقه لدينا حج مفرد، وحج قارن، وحج متمتع.
المفرد لا هدي عليه، أما المتمتع فعليه هدي، والقارن عليه هدي، وهو الذي يحرم بعمرةٍ، ويبقى محرماً إلى الحج فيتابع حجه، أيْ يجمع بين العمرة والحج بإحرامٍ واحد ونُسُكٍ واحد، وهذا يحتاج إلى جهد كبير، فقد تأتي قبل عشرة أيام، ويجب أن تبقى محرماً فيها.
أما المُتَمَعِّ فهو الذي يحرم بعمرة فيؤديها ويتحلل، ويبقى متحللاً إلى اليوم الثامن من ذي الحجة، وبعدها يحرم بحجٍ ويتابع حجه، فماذا فعل؟ اعتمر، وتحلل، وحج، فهذا متمتع، وعليه هدي أيضاً، لكن العلماء قالوا: هدي المتمع هدي جَبر، أما هدي القارن فهدي شكر، لأن الله أمدَّه بقوة، وجعل بدنه صحيحاً، وتمكن أن يعتمر ويحج بشكل مستمر.
فهناك حجٌ مفرد، أن تحج فقط، وهناك حجٌ قارن أن تجمع بين العمرة والحج معاً، وهناك حجٌ متمتع؛ أن تحرم بعمرة، وأن تتحلل منها، وفي اليوم الثامن من ذي الحجة تحرم بحج، فعلى المتمتع هديٌ وعلى القارن هديٌ، لكن هدي القارن هدي شكرٍ، بينما هدي المتمتع هَدْيُ جبرٍ لنقصٍ حصل في حجِّه، ولك أن تحج مفرداً من دون عمرة فلا هدي عليك، وهناك من يحج مفرداً، وبعد أن ينتهي من الحج، وفي خامس أيام العيد يأتي بعمرة منفصلة عن الحج، هذه هي الخيارات التي أمامنا في موضوع الحج والعمرة.

 

الإنسان المكي الذي يعيش ضمن حرم مكة هذا لا عمرة عليه :

قال تعالى:

﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾

لو أحرم إنسان بعمرةٍ وأداها وتحلل منها، وبقي إلى اليوم الثامن من ذي الحجة متحللاً، وفي اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بحج، فهذا متمتع، وعليه هدي، ولكنه فقير، قال:

﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾

في الإسلام هناك بدائل دائماً، والإسلام لكل الناس، هو تشريع لكل الناس، إنسان حاج فقير ولا يوجد معه ثمن هدي، نقول له: صم ثلاثة أيامٍ في الحج، وسبعةٍ إذا رجعت..

﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾

هذا اسمه الإنسان الآفاقي، الذي بلده خارج المواقيت، أما إذا كان من ضمن البيت الحرام، أي من ضمن حرم مكة لا عمرة عليه، فهناك خريطة للمواقيت، وهناك خريطة للحرم، وعندنا بيت الله الحرام، المسجد الحرام شيء، وحوله منطقة هي الحَرم، وهناك التنعيم بالجنوب، الجعرانة في اتجاه آخر، فهناك منطقة تحيط بالحرم، إنها منطقة الحرم، وهي في حكم الحرم، وعندنا مواقيت للحج، وعندنا خارج مواقيت، من كان سكنه ضمن الحرم فلا عمرة عليه، لماذا؟ لأنه في الأعم الأغلب يطوف دائماً، فبيت الله الحرام تحيته الطواف، فأنت إن دخلت إلى مسجد تؤدي ركعتين تحية المسجد، أما إن دخلت إلى بيت الله الحرام تحية هذا المسجد الطواف، فإذاً الإنسان المكي الذي يعيش ضمن حرم مكة هذا لا عمرة عليه، فهذا الحكم عنده مُعَطَّل.

 

الفرق الكبير بين حج الفريضة وحج النَفل :

قال تعالى:

﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾

يمكن أن نلخص هذه الآية الدقيقة: أن الحج عبادةٌ كبرى في الإسلام، وهي فريضة، فرضٌ عينيٌ على المستطيع بدنياً ومالياً، معنى الفرض العيني أي لا بد من أن يؤدَّى.
لذلك من يقول: أنا أريد أن أزوج ابني؟ أقول له: أن تحج حج نفل وابنك بحاجة إلى زواج، أما الحج الفريضة فلا يقدَّم عليه شيء، وفرقٌ كبير بين حج الفريضة وحج النَفل، وهناك من يحج عشرات المرَّات، وأهله في أمسِّ الحاجة إلى المال، وبإمكان ولي أمر المسلمين أن يمنع نافلةً أدت إلى ترك واجب.
والحج والعمرة ما دام هناك عطف فهما يشتركان ويختلفان، يشتركان في أنهما يؤديان في بيت الله الحرام، ويختلفان في أن للحج وقتاً مخصوصاً، ومكاناً مخصوصاً، وأفعال مخصوصة، بينما العمرة تؤدى في أي وقت بأفعالٍ مخصوصة، وليس فيها وقوف في عرفة.

﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾

إذا تيسر لك ثمنه أو المثمن.

﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾

أيْ يجب أن يصل الهدي إلى بطون الجياع.

 

أي حديث يثير الشهوة ممنوع في الحج :

قال تعالى:

﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾

شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.

﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ ﴾

الحديث عن النساء ممنوع في الحج، ومقدِّمات الجماع ممنوعة، وأي حديث يثير الشهوة فهذا ضمن الرفث.

 

ما يجب أن تكون عليه أخلاق الحاج :

قال تعالى:

﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ ﴾

ولا معصية أيضاً..

﴿ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾

حتى المجادلة والمشاحنة فهي ممنوعة في الحج، إنك أَتَيْتَ إلى بيت الله الحرام من مكانٍ بعيد لا من أجل أن تحرق أعصابك بالمُشاحنات والجَدَل.

﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾

أيْ يجب أن تفعل الخير في الحج، فأنت تؤدي أرقى أنواع العبادات، فهذا الحاج الذي يضرب أخوانه من أجل أن يُقَبِّل الحجر، وهذا الذي لا يعمل هناك عملاً صالحاً، لا يفقه حقيقة الحج.

﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ ﴾

أنت بالحج في أرقى عبادة، يجب أن تؤدي أرقى معاملة، أن تكون في أعلى درجات الصبر، والتسامح، والعطاء، والإكرام.

﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾

على الحاج أن يملك نفقة الحج لأنها عبادة مالية على المستطيع :

لا يجوز لإنسان أن يذهب إلى الحج متكففاً عطاء الناس فلا بد من أن تكون مستطيعاً، بل إن بعض الأحكام الشرعية تعتبر أنّ الإنسان لا يُعَدّ مستطيعاً إذا كان لا يملك أجرةً نومٍ في مكة والمدينة، ليس مستطيعاً، أما أن يذهب إلى بيت الله الحرام وينام في الطرقات، وزوجته إلى جانبه وقد تتكشف في الليل!! فليس هذا هو الحج، إنْ لم تملك أجرة سكنٍ في مكة والمدينة لا تعد مستطيعاً، الحج عبادة مالية فرضها الله على المستطيع، فإن كنت غير مستطيع فلا تقترض من أجل أن تحج، إذ ليس عليك حج، لا تتسول وأنت في الحج، لا تكن عبئاً على أحدٍ وأنت في الحج، أما أن تملك مالاً كافياً كي تذهب وتعود، وأن تقيم في بيت في مكة وفي المدينة، وإلا فلا حج عليك.

﴿ وَتَزَوَّدُوا ﴾

للحج، ولكن:

﴿ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾

أحد الناس يحج على باب الله كما يدَّعي، هذا ليس فقيهاً ولا يوجد معه مال، وعينه على ما يأكل الناس، يحشر نفسه معهم، ويكون عبئاً عليهم، فليس هذا هو الحج، بل ينبغي لك أن تحج وأنت عزيز، ينبغي أن تحج ومعك نفقة هذا الحج، لأنها عبادة مالية تجب على المستطيع فقط.

 

من ذهب إلى الحج وبعد الحج قام بعمل تجاري فهذا لا يمنع الحج :

 

قال تعالى:

﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ* لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ ﴾

أيْ إذا كان للإنسان ـ فرضاً ـ عمل أثناء الحج ليس له علاقة بالحج، هذا لا يلغي الحج، كمن ذهب إلى الحج وبعد الحج قام بعمل تجاري، هذا لا يمنع الحج.

﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾

المشعر الحرام: مكانٌ ينبغي أن نذكر الله فيه.

﴿ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾

معنى ذلك أن الإنسان حقق هدفاً كبيراً جداً من الحج.

﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

كان لشُرَفاء مكة قبل الإسلام مكان إفاضة خاص، وقد ألغي هذا في الحَج من خلال هذه الآية:

﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾

اصطفى الله مكاناً وزماناً وشخصاً ليكونوا قدوة لنا دائماً :

الحج عبودية لله عز وجل في أعلى درجاتها، فإذا ذهب الإنسان إلى هناك ونفسه أنه يحتل مكانة اجتماعية معينة، إذ له رتبة خاصة، فهذا مما يفسد الحج، ويجب أن تذهب إلى هناك وقد خلعت مع ثيابك كل الأقنعة المزيَّفة، وكل مراتب الدنيا.

﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ﴾

النقطة الدقيقة في الصيام والحج هي أنّه بعد انتهاء رمضان يجب عليك أن تستمر فيما أنت عليه في رمضان، وبعد انقضاء الحج يجب عليك أن تستمر فيما أنت عليه في الحج من كثرة ذكر الله عز وجل، والله عز وجل اصطفى رمضان من بين أشهر العام لينسحب ما يحصل للصائم في رمضان على كل أشهر العام، وحينما اصطفى مكان كبيت الله الحرام؛ حيث فيه الصفاء، والإقبال، والدعاء، والعبادة، لينسحب هذا الصفاء، والإقبال، والدعاء، والعبادة على كل الأماكن، وحينما اصطفى سيد الخلق ليكون مثلاً أعلى ينبغي أن ينسحب هذا المثل على كل الخلق، اصطفى الله مكاناً، وزماناً، وشخصاً؛ فقد اصطفى رمضان، لتكون كل أشهر العام كرمضان، واصطفى بيت الله الحرام ليكون كل مكانٍ كبيت الله الحرام، واصطفى محمداً سيد الأنام ليكون كل البشر على شاكلة محمدٍ عليه الصلاة والسلام.

 

الآية التالية تبين أن للأب مكانةً كبيرة :

قال تعالى:

﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ﴾

يتضِّح من خلال هذه الآية أن للأب مكانةً كبيرة، بل إن الله جل جلاله ينتظر من العِباد أن يذكروه كما يذكرون آباءهم، كلما قويّ إيمان إنسان فالأب معزز مكرم في المجتمع، وإذا ما ضعف إيمانه فالأب لا يعزز ولا يكرم.

﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾

هذا موجود في معظم بلاد العالم، دنياهم في أعلى مستوى وما لهم في الآخرة من خلاق.

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 44]

﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾

من الممكن أن تحصِّل الدنيا بذكاء، لكن الآخرة لا تحصل إلا بعبادة، منهج الله كما قلت قبل قليل هو منهج موضوعي، إذ لو طبقه كافر لقطف ثماره، فأنت إن أردت الدنيا فقد تعرف أبوابها ومداخلها ومخارجها، ولكنك إن أردت الآخرة فلا بد من أن تعبد الله العبادة الصحيحة.

﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾

الحج لقاء مع الله عز وجل :

أيها الأخوة الكرام... آيات الحج هذه مهما قرأناها، ومهما تأمَّلنا في معانيها، ومهما وقفنا عند تفاصيلها ودقائقها، تبقى معلومات نظريّة ولا بد من أن تحج بيت الله الحرام، واسألوا الله من أن يمكنكم من حج بيت الله الحرام، لأن الحقيقة أن هذه العبادة كبيرة، وأنها مديدة، وأنها متنوعة، وأنها مالية، وشعائرية، ومناسك، فإذا أدِّيَتها كما أراد الله عز وجل عشت في سعادةٍ لا توصف وكانت شحنةً كبيرةً جداً.
والله أيها الأخوة... تستمع إلى بعض الحجاج بعد أن يعودوا من بيت الله الحرام فتصعق، يحدثك عن كل شيء إلا الحج، يحدثك عن كل شيء أين سكن؟ ماذا أكل؟ والتكييف، والماء البارد، والطرقات، والأقواس، وبيت الله الحرام، والإضاءة، وتكبير الصوت، يحدثك عن كل شيء، لكن بماذا شعرت وأنت تطوف؟ ماذا فعلت وأنت بين الصفا والمروة؟ ماذا دعوت وأنت في عرفات؟ معظم الناس إن جهلوا حقيقة الحج يحدثونك عن كل شيءٍ إلا الحج.
وهناك بعضٌ من هؤلاء يحدّثك عمّا شعر وهو في هذه المناسك، تشتهي أن تذهب إلى الحج فوراً، وتشتهي أن تحج كل عام، وتشعر أن الله قد استضافك، وأنت ضيف الرحمن، وأكرمك إكراماً لا حدود له، فهل من المعقول أن تترك بيتك، وولدك، وزوجك، ومالك، ومتجرك، ومحلك، ومكانتك، ووظيفتك، ورتبتك، ولباسك، ومركبتك، وأن تذهب إلى بيت الله الحرام! يتابع الكلام دون انقطاع.
تكون إنساناً عادياً جداً لا أحد يعرفك، وتؤدي مناسك الحج في وقتٍ حارٍ جداً، تنفق نفقة باهظة، الأسعار هناك غالية جداً، هكذا دون أن تكافأ!! قال: من وقف في عرفات ولم يغلب على ظنه أن الله غفر له فلا حج له. فهل من المعقول أن تأتي من بلادٍ بعيدة، قد تأتي من الصين، وقد تأتي من أمريكا، وقد تأتي من استراليا، تركب الطائرة عشرين أو ثلاثين ساعة، تدفع مئتين أو ثلاثمئة ألف ليرة، وأن تقف في عرفات هكذا؟!
والله سمعت من يتحدَّث عن الدنيا في عرفات، فهل من المعقول أنّ إلهاً عظيماً قال لك: تعالَ إليّ يا عبدي. قلت: لبيك اللهم لبيك، وتأتي إلى عرفات وتنشغل بحديث دنيوي، أو تنام، يقول لك: أنا أخذت معي فرشة للنوم، أهذا هو الحج الذي أمرنا الله به؟ فهل من الممكن أن تدخل على ملك وتدير له ظهرك؟ أممكن أن تدخل على ملك في مقابلة تجد مقعداً مريحاً فتنام، وتغط في النوم! ما هذا اللقاء؟ الحج لقاء مع الله عز وجل، الحج عرفة، فتجد في الحج أشياء لا يقبلها الدِّين ولا العقل، أيُمكن أن تؤذي المسلمين من أجل أن تُقَبِّل الحجر؟! تدفع هذا بيدك، وتدفع الآخر بقدمك من أجل أن تقَبِّل الحجر وأن تؤذي جميع المسلمين، هناك جهلٌ كبير في الحج.

أيام ما بعد الوقوف في عرفة :

أيها الأخوة:

﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾

هذه أيام ما بعد الوقوف في عرفة، والنزول إلى مزدلفة، ورمي جمرة العقبة، هناك أيام ثلاثة أو يومان ترمي فيها الجمرات الثلاث وتؤدَّي بعض المناسك.

﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾

ينبغي لك أن تبيت بمنى وأن ترجم الجمرات الثلاث؛ الكبرى والصغرى والوسطى.

﴿ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور