- السيرة / ٠2سيرة الصحابيات الجليلات / ٠1أمهات المؤمنين
- /
- ٠04حفصة بنت عمر
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
متى ولدت السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب, ومتى تزوجها النبي, وعمن روت, ومتى توفيت؟
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس الرابع عشر من دروس سير الصحابيَّات الجليلات رضوان الله تعالى عنهم أجمعين، ومع أهل بيت النبي، ومع نساء النبي، ومع الزوجة الرابعة، من زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، وهي أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطَّاب .
هي صوامةٌ, قوَّامة, لوامة، وارثة الصحيفة الجامعة لكتاب الله عزَّ وجل، أودعت في بيتها، هي حفصة بنت أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب، ولدت قبل البعثة بخمسة أعوام، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلَّم بعد ثلاث سنوات من الهجرة، بعد عائشة، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم, وعن أبيها، وروى عنها أخوها عبد الله بن عمر أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال:
((إن الله اختارني، واختار لي أصحابي))
وأهل بيت النبي جزءٌ من الدعوة، فلذلك الزوجة التي اختارها الله, لتكون زوجة رسول الله, هذه ستنقل عنه، وكلام النبي شرع، النبي مشرعٌ في أقواله، وفي أفعاله، وفي إقراره، فأخطر إنسانٍ في حياته, هو الذي يروي عنه، لأن الذي يُروى عنه شرع نتعبد الله به إلى يوم القيامة .
فلذلك حينما تزوج النبي عليه الصلاة والسلام امرأةً، وقد قيل لها إذا دخل عليكِ قولي: أعوذ بالله منك، -لم تستعمل عقلها، لم تفكر فيما تقول- فلما دخل عليها النبي عليه الصلاة والسلام، قالت: أعوذ بالله منك, قال:
((الْحَقِي بِأَهْلِكِ))
لماذا؟ لأنها ستروي عنه، أين عقلها؟ أين إدراكها؟ أين حكمتها؟ أيقال للنبي عليه الصلاة والسلام أعوذ بالله منك؟ فلذلك زوجات النبي ينبغي أن يكُن في أعلى مستوى، لأنهن سينقلن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقواله, ويتحدثن عن أفعاله, وعن إقراره، وهذا كله شرعٌ نعبد الله به .
فهذه حفصة رضي الله عنها بنت عمر بن الخطاب عملاق الإسلام، توفيت أول ما بويع معاوية بالخلافة، أي ولادتها قبل البعثة بخمس سنوات، ووفاتها عند بيعة معاوية بن أبي سفيان .
من هو زوجها السابق, وكيف كانت وفاته, وما هي الغزوات التي شهدها هذا الصحابي, وكم كان عمر السيدة حفصة حينما توفي زوجها الأول؟
أيها الأخوة, كان النبي عليه الصلاة والسلام قد تزوجها بعد انقضاء عدتها، من زوجها المهاجر خُنيس بن حذافة السهمي، الذي توفي من آثار جراحةٍ, أصابته يوم أُحد، وكان رضي الله عنه من السابقين في الإسلام، هاجر إلى أرض الحبشة, فراراً بدينه، وعاد إلى المدينة، وهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تأييداً له ونصراً، هذا زوج حفصة السابق .
الحقيقة هذه الصحابية الجليلة, كانت زوجةً صالحة، ولا تنسوا أن الدنيا كلها متاع, وخير متاعها المرأة الصالحة، التي إذا نظرت إليها سرَّتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك، ودودةٌ ستِّيرة، هكذا قال عليه الصلاة والسلام .
فكانت حفصة زوجةٌ صالحةً للصحابي الجليل، وأن تكون الزوجة صالحة يكفيها هذا لدخول الجنة، لأن النبي عليه الصلاة والسلام, قال:
((انصرفي أيتها المرأة, وأعلمي من وراءك من النساء, أن حسن تبعل إحداكن لزوجها, وطلبها مرضاته, واتباعها موافقته, يعدل ذلك كله))
والجهاد كما تعلمون ذروة سنام الإسلام، فالمرأة التي تتعهد أمر زوجها وأولادها, هي امرأةٌ تستحق دخول الجنة، ودين المرأة يسير, إذا صلَّت خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها، وحفظت نفسها، دخلت جنة ربها .
هذا خُنيس رضي الله عنه من أصحاب الهجرتين، هاجر إلى الحبشة كما قلت قبل قليل فراراً بدينه، وهاجر إلى المدينة نصرةً لنبيِّه عليه الصلاة والسلام، شهد بدراً، وهؤلاء الذين شهدوا بدراً, النبي عليه الصلاة ولسلام أثنى عليهم ثناءً كبيراً:
((اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ))
لأنهم نصروا هذا الدين، الإنسان أحياناً إما أن يستفيد من الدين، وإما أن يُفيد الدين، إما أن يكون محمولاً، وإما أن يكون حاملاً، إما أن يكون إيجابياً، وإما أن يكون سلبياً، إما أن يأخذ، وإما أن يعطي، هؤلاء الذين يعطون؛ من وقتهم، وجهدهم، ومالهم، وأرواحهم، هؤلاء لهم حسابٌ آخر، هؤلاء الذين يحملون، هؤلاء الذي يفتحون، هؤلاء الذين يُعطون كل ما آتاهم الله عز وجل في سبيل نصر هذا الدين، هؤلاء ليسوا سواءً مع المنتفعين، فهذا الصحابي الجليل شهد بدراً, قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾
ضعاف، ليس عندهم سلاح، ولا مال، ولا تجمُّعات، لأنهم افتقروا إلى الله عز وجل نصرهم، ثم شهد أحداً، فأصابته جراحةٌ, توفي على أثرها، وترك من ورائه زوجةً, هي حفصة بنت عمر, شابةٌ في ريعان الشباب، فترمَّلت ولها عشرون عاماً .
كيف كانت حالة سيدنا عمر حينما توفي زوج ابنته, وماذا فعل حينما تطاولت الأيام على ابنته ولم يأتها خاطب, وما هي البشرى التي زفت لسيدنا عمر ولابنته ؟
أيها الأخوة, تألم عمر أشد الألم، الإنسان لا يعرف مكانة الولد ذكراً كان أو أثنى إلا إذا كان أباً، والله سبحانه وتعالى كأنني أتصور أنه أرادنا أن نعرفه من خلال نظام الأبوَّة، ما هذا الأب؟ كله رحمة، كله حرص، كله عطف، كله اهتمام بأولاده، فالأب أب، لما توفي زوجها وترمَّلت تألم أشد الألم، اسأل الآباء: ما الذي يسعدهم؟ أن يروا أولادهم بخير، لو أعطيته ملء الدنيا ذهباً لا يساوي أن يكون ابنه قرة عينٍ له .
أحياناً الإنسان يرى أولاده بخير على استقامة، يرى بناته بخير على تفاهم مع أزواجهم، هذه الدنيا كلها للأب، لذلك ربنا عز وجل جعل مكافأة الأب الذي يربي أولاده مكافأةً عجالةً قبل مكافأة الآخرة, قال تعالى:
﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾
فأحياناً أقول لبعض الآباء: هذا ابنك الصالح، والله إن أموال الدنيا كلها لا تعدله، لأنها سيخلفك من بعدك، وكل أعماله في صحيفتك .
لذلك الإنسان عليه أن يعتني بأولاده عناية لا حدود لها، لأنهم استمرار له، وأنا أذَكِّر الشباب، أنا أقف وقفة متأنية، كل إنسان أحياناً يتفاعل مع الحياة، في نهاية المطاف, يستنبط حقائق ، يستنبط حكم، يستنبط أشياء مهمة جداً، لو شققت على صدره, يقول لك: لا أتمنى إلا شيئاً واحداً أن أعود شاباً لأستفيد من هذه الخبرات .
الآن إذا شاب في مقتبل عمره, سمع من رجل خلاصة تجاربه هذه الحقائق، شيء ثمين جداً, معاناة أربعين سنة, تقدم لك في كلمة، هذه الحكمة، تجارب إنسانية مكثَّفة جداً، تستفيد منها، فما أروع الشاب الذي يستفيد من خبرة الشيوخ، وما أروع الشيخ الذي فيه توقُّد حماس الشباب، الشاب والشيخ يتكاملان، أعني بالشيخ الكبير بالسن، هذا الكبير في السن, يملك حكم، خبرات، عارك الحياة، وتفاعل مع الحياة، واستنبط حقائق، هي كلمات، تضغط في كلمات، لكنها تعبر عن تجارب سنوات وسنوات، فالشاب الموفق، إن استمع من إنسان مخلص، أي أنه خبر الحياة, وخبر حقائق الأمور، افعل كذا ولا تفعل .
أنا أقول لكم: الشاب إذا كان أقبل على الزواج، لا شيء يسعده في الدنيا, كأن تكون زوجته وأولاده قرة عين الله، وهذا يحتاج إلى جهد كبير .
سيدنا عمر تألَّم أشد الألم، لأن ابنته في ريعان الشباب ترمَّلت, ولها عشرون عاماً, وأوجعه أن يرى ملامح الترمُّل تغتال شبابه .
النبي أذاقه الله كل شيء، أذاقه تطليق بناته، أذاقه موت الولد، أذاقه الهجرة، فسيدنا عمر أذاقه الله ترمل ابنته، وأصبح يشعر بانقباضٍ في نفسه, كلما رأى ابنته الشابة, تعاني من عُزلة الترمل، لأن هذه المرأة وهذا الرجل صمما على الزواج، الزوج يسكن إلى زوجته، والزوجة تسكن إلى زوجها، يتألفان، يأنسان ببعضهما، فلذلك تألم سيدنا عمر، وهي التي كانت في حياة زوجها, تنعُم بالسعادة الزوجية .
بالمناسبة هناك من يتوهَّم أن السعادة الزوجية بالمال، المودة التي بين الزوجين سبب السعادة الزوجية، لو أطعمها أخشن الطعام، لو أسكنها بأصغر بيت، العبرة أن تكون هناك المودة والحب، مع الحب يغدو الطعام الخشن طيباً، ومع الحب يغدو البيت الضيق واسعاً، ومع النَكَد والبُغض, يغدو البيت الكبير كوخاً, والطعام الطيب خشناً .
أخذ يفكِّر بعد انقضاء عدتها في أمرها؛ من سيكون زوجاً لابنته؟ الآن معظم الآباء يقلقهم شيءٌ واحد، أن يكون أبنائهم وبناتهم في حالة طيبة، فسعيهم لتزويج بناتهم، وتزويج أولادهم, هذا عمل طيِّب، وكنت أقول لكم: الأبوة الصالحة سبب للجنة، والبنوة الصالحة سبب للجنة، والأمومة الصالحة سبب للجنة .
ومرت الأيام متتابعة، وما من خاطبٍ لها، أحياناً الإنسان ابنته، سبعة عشر، ثمانية عشر، تسعة عشر، عشرون، واحد وعشرون، اثنان وعشرون، أربعة وعشرون، ستة وعشرون, ولا يوجد ولا خاطب، يصير هناك قلق شديد، قد يتوهم أنها فاتها قطار الزواج، ثم يأتي زوجٌ يجبر كسرها, ويسكن روعها, ويملأها سعادةً، فالإنسان ليستسلم لأمر الله عز وجل ولا يلِج.
مرت الأيام متتابعة, وما من خاطبٍ لها، وهو غير عالمٍ بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذت من اهتمامه، فأسر إلى أبي بكر الصديق أنه يريد أن يُخَطِّبَها، على علاقةٍ متينةٍ جداً، كل الأخ بالمسجد له أخ قريب منه كثير، قريب من عقليته، من أخلاقه، من قيمه، من متانة إيمانه، وأنا أتمنى على كل أخ في المسجد, أن يؤاخي أخاً في لله، يتفقده، يعاونه، يسأله، يستشيره، يأخذ بيده، يعاونه أحياناً، الأخ في الله أثمن شيءٍ في الوجود، والمؤمن لا يعيش وحده في الحياة .
علماء النفس يقولون: إذا الإنسان تكلم عن همه يرتاح، أحد أنواع المعالجات يجلس عالم النفس، أو الطبيب النفسي إلى المريض, يقول: حدثني, لمجرد أن يتكلَّم المريض يرتاح، فالبوح, هذا يسمى بوح, إذا الإنسان يثق بشخص, وشكا له همه، وضع سليم جداً, حتى إنه قيل: من اشتكى إلى مؤمنٍ, فكأنما اشتكى إلى الله، ومن اشتكى إلى كافرٍ, فكأنما اشتكى على الله, إذا الإنسان له صديق حميم، مخلص، واعي، كتوم، وبثه مشكلته يرتاح .
في شيء ثاني: الإنسان إذا عانى من مشكلة, هو تحت ضغط شديد، هذا الضغط الشديد يحجب عنه الرؤية الصحيحة، لو شكا همه لأخ مؤمن، هذا الأخ المؤمن لا يخضع لهذا الضغط الشديد، رؤيته صحيحة، فقد يشير عليك موقفاً لا تعرفه أنت، قد يشير عليك موقف غاب عن ذهنك، لذلك الله عز وجل أمر النبي وهو سيد الخلق أن يشاور أصحابه, قال تعالى:
﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
أنا أقول: أن كل أخٍ من أخواننا, أتمنى عليه أن يصطفي من أخوانه واحداً, يثق بإخلاصه، ورجاحة عقله، وحكمته، وليبثًّه شكواه، أحياناً تأتي نصيحة رائعة جداً، يأتي رأي سديد ، يأتي توجيه ما خطر في باله إطلاقاً، لذلك الجماعة رحمة والفرقة عذاب،
((فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِد,ِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَد))
إن أنت استشرت الرجال استعرت عقولهم، إنسان عنده عقل راجح، حكمة بالغة، خبرات متراكمة بالحياة, اسأله، والعباقرة دائماً, والموفقون في حياتهم, يستشيرون، استشر، فلذلك ورد عن النبي الكريم أنه:
((ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار))
الاستخارة لله، والاستشارة لأولي الخبرة من المؤمنين، عوِّد نفسك أستخير الله، وأستشير أصحاب الخبرة من المؤمنين قبل أن أُقدم على أي عمل .
ولما تطاولت الأيام عليه, وابنته الشابة الأيم التي يؤلمها الترمُّل عرضها، نحن في حياتنا عار كبير, أنْ يعرض الإنسان ابنته على الزواج، مع أن سيدنا شعيب, قال لسيدنا موسى:
﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾
فهذا من السنة، لكن عاداتنا لا تسمح بذلك، عادتنا عار أن تعرض ابنتك على شاب، مباشرةً يتوهَّم أنها كاسدة، أو فيها عيب، أو فيها مشكلة، قال تعالى:
﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾
فنشأ من تفاعل الإسلام مع التقاليد والعادات والأمم الأخرى، نشأ عادات وتقاليد جديدة ليست من الإسلام في شيء، فمثلاً: ما قولكم أن تقول امرأةٌ لزوجها: افعل ما تشاء، ولكن إياك أن تتزوج عليَّ؟ تسمح له بالزنا، ولا تقبل أن يكون لها ضرة، هل هذه مسلمة بالمعنى الدقيق؟.
مرة استمعت إلى برنامج يسألون عالمة في مصر عن رأيها في التعدد، وهي امرأة، قالت: ليس لي رأيٌ في هذا إطلاقاً، لأن الله سمح به، هذا أقوى جواب .
ولما تطاولت الأيام عليه، وعلى ابنته الشابة المترملة, عرضها على أبي بكر، فلم يجبه بشيء، وعرضها على عثمان, فقال: (بدا لي اليوم ألا أتزوج)، فوجد عليهما, أي حمل عليهما بنفسه، وشكا حاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله, عرضت ابنتي على أبي بكر فرفض، وعلى عثمان فرفض، فقال النبي الكريم:
((يتزوج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوج عثمان من هو خيرٌ من حفصة))
وهو لا يدري ما يعنيه قول النبي, ثم خطبها النبي عليه الصلاة والسلام، فزوجه عمر رضي الله عنه ابنته حفصة، ونال شرف مصاهرة النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يرى أنه قد قارب المنزلة التي بلغها أبو بكر، أبو بكر زوجه ابنته، وعمر زوجه ابنته، وهذا شرف لا يدانيه شرف، أن الإنسان يكون صهرًا للنبي، أو يكون النبي صهره .
تحققت فرحة عمر وابنته حفصة، وبارك الصحابة يد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم, وهي تمتد لتكرِّم عمر بن الخطاب بشرف المصاهرة منه عليه الصلاة والسلام، ومسحت حفصة آلام الترمُّل، وجبر الله كسرها .
ما سبب إعراض أبي بكر عن زواج حفصة, وهل اعتذر لعمر بشأن ذلك, وماذا نستنبط من هذا الموقف ؟
الآن لقي عمر أبا بكر، تعودوا مهما بدا لك الشيء غير معقول، وفي إساءة، التمس لأخيك عذراً، فلما التقى سيدنا عمر بسيدنا أبي بكر, اعتذر أبو بكرٍ, وقال:
((لا تجد عليه يا أبا حفصة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكر حفصة، فلم أكن لأُفشي سره، ولو تركها لتزوجتها))
لماذا لم يجبه؟ لأن الرسول ذكر حفصة أمامه، خاف الأمر لا يتم، فظل ساكتاً، غير معقول أن يطلبها، قال له: أَكَدَ .
هذا الشيء مهم، إذا أنت حملت على أخيك, التمس له عذر، هو موقفه الصحيح, يبين لك، سيدنا عمر عرض ابنته على سيدنا الصديق لم يجبه، فتألم، سيدنا الصديق سمع من النبي أنه يريد الزواج من حفصة، لكن النبي أسر له سر، هذا السر لا يفشى، وأخطر شيء في خطبة، أخفوا الخطبة, وأعلنوا النكاح، هذه السنة، فسكت سيدنا الصديق, إذا أجابه خان رسول الله، وإذا أفشى سر النبي, أخطأ خطأ كبير، فسكت، كم من مرة الإنسان يحمل على أخيه, ولو عرف الحقيقة, لذاب خجلاً منه، لذلك النبي علمنا:
((التمس لأخيك عذراً، ولو سبعين مرة))
سبعين مرة التمس له عذر، مرة قلت لكم: أن سيدنا رسول الله قبل معركة بدر, قال:
((لا تقتلوا عمي العباس))
فالعباس بمكة، مشرك، صحابي جليل, فكر ملياً، هذا عمه، لأنه تعصب, فقال: أحدنا يقتل أباه وأخاه, وينهانا عن قتل عمه .
طبعاً أنا ذكرت قصة في خطبة قبل أسبوعين, أن سيدنا العباس خلاف ما يتوهَّم البعض، سيدنا العباس كان مسلماً، وكان عين النبي، والدليل: لما الحجاج بن علاق السلمي أشاع في مكة أن سيدنا محمد أُسر، وسيؤتى به إلى مكة ليقتل, شلت حركته، وأرسل إلى الحجاج قائلاً: إن الله أجل وأكرم من أن يكون هذا الخبر صحيحاً .
هذا يؤكد إسلامه, وهو في مكة، فلما كُشفت الحقيقة، سيدنا العباس مسلم، وكان عين النبي في مكة، فلو أن النبي قال: إنه أسلم, لا تقتلوه، فبذلك كشفه, وانتهى دوره، لو العباس لم يشارك قريش في المعركة، كشف نفسه, وانتهى دوره، لو النبي سكت, قتل، لا بد من أن يقول النبي:
((لا تقتلوا عمي العباس))
من دون أي تفصيل، التمس له عذر .
يقول هذا الصحابي الجليل: والله بقيت عشر سنوات, وأنا أتصدق, رجاء أن يغفر الله لي سوء ظني برسول الله .
أعيدها مرة ثانية: أحياناً تسيء الظن بأخيك، ثم تنكشف الحقيقة، تذوب كالشمعة خجلاً من الله، هو في أعلى درجة من الكمال، وأنت لا تعرف، فلا تتسرع .
قصص نقتبس منها العبر :
فقد سمعت قصة: أب عنده خمسة بنات، يبدو في واحدة لا تصلح أن تكون زوجة, شكلها أقل مما ينبغي بكثير، فكأن الأب والأم خططوا أن هذه لكبرتهم، ولم يتورعوا أن يقولوا لها هذا الكلام، وعندها أربع أخوات متزوجات، هذه الأخت مستحيل أحد يخطبها، ثم جاءها خاطب بزَّ كل الأصهار؛ غنى، وأدب، ودين، وأكرمها إكراماً منقطع النظير .
فالإنسان أحياناً يقشعر جلده من حكمة الله عز وجل، هذه الكسيرة جبرها الله عزوجل، ورد:
((أنا مع المنكسرة قلوبهم))
((الحزانى في كنف الله))
((إن الله يحب كل قلب حزين))
((الحزانى معرضون للرحمة))
إذا كنت حزينًا فإن الله معك، إذا كنت مظلومًا فإن الله معك، إذا كان بين زوجين، بين شريكين، بين صديقين شيء, فالله مع المظلوم، ومع الصادق، ومع البريء، مع سليم الصدر، وليس مع الطرف الآخر، فهذه الفتاة التي لم يتوقع أبوها إطلاقاً أن يأتيها من يتزوجها لدمامةٍ صارخةٍ في شكلها، وقد تركت لتخدم أمها وأباها، في المستقبل جاءها أفضل من كل أزواج أخواتها، قال: كن لِما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، سيدنا موسى قال:
﴿إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى﴾
ذهب ليأتي بقبسٍ من النار, فناجاه الله عز وجل، لا تعلم أنت أين الخير؟ قد يأتيك الخير كله من جهة لا تعجبك، وقد يأتيك الشر كله من جهةٍ هي ملء السمع والبصر .
أنا أقول مُطمئنًا الأزواج جميعاً: زواجك أخطر حدث بحياتك، وقد اختيرت لك الزوجة بعناية فائقة من الله عز وجل، وهذه هدية الله لك، ودائماً وأبداً تلقَّى هذه الهدية بالقبول، فلعل الله سبحانه وتعالى, يهبك منك الخير الكثير .
إنسان دخل على زوجته ما أعجبته أبداً, فهام على وجهه في المدينة عشرين عاماً, من شدة الألم، عاد بعد هذه المدة، وصلى في المسجد، فرأى درس علم, وآلاف مؤلفة متحلقين حول شاب، سأل عنه: قال: هذا مالك بن أنس، الأب اسمه أنس، هو ابنه من هذه المرأة التي لم تعجبه ، هي حينما رأته تألَّم منها, قالت: يا أبا فلان, قد يكون الخير كامناً في الشر، أي إذا رأيتني شراً قد يكون الخير كامناً فيه، أنت عليك أن تستقيم, وعلى الله الباقي, هو يختار لك أفضل شيء, قال تعالى:
﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
خطب أحدُهم فتاة, فرآها رائعة، بعد العرس, وجد أن رِجلا أطول من رِجل، لبست ثياب طويلة، والحذاء متفاوت، مفصَّل خصوصي فلم يظهر شيء، والثياب فضفاضة طويلة، فوافق، بعد ما اكتشف الأهل, أنها عرجاء, أقاموا النكير، فهذا الشاب قال: واللهِ لا أطلِّقها، أنا رضيت بها ، وأسكت الجميع، والله سمعت أن الله آتاه رزقاً يفوق حد الخيال، وهو من أسعد الناس بها .
الحياة الزوجية لها أسرار، لها صفات ظاهرة, وفيها حقائق، الصفات الظاهرة؛ المنزل الواسع، الدخل الكبير، الشكل الرائع، هذه الصفات الظاهرة لكن فيها أسرار, إذا كان هذا البيت رحماني، سلوك الزوج والزوجة فيما يرضي الله, يبتغيان وجه الله عز وجل، الله عز وجل يتجلى برحمته على هذا البيت, فإذا هو جنة على وجه الأرض، والصفات متواضعة جداً، وأحياناً الصفات رائعة جداً, لكنها جحيم .
كم كان عدد زوجات النبي حينما دخلت حفصة على بيته المبارك, وما هو موقف السيدة عائشة من هذا الزواج؟
حظيت هذه الزوجة الطيبة الطاهرة بالشرف الرفيع الذي حظيت بها سابقتها عائشة بنت أبي بكر الصديق، وتبوَّأت المنزلة الكريمة بين أمهات المؤمنين، وأي شرفٍ أعظم من هذا الشرف, أن تكون زوجة سيد الخلق، دخلت حفصة بيت النبي ثالثة الزوجات في بيوته عليه الصلاة والسلام، فقد جاءت بعد سودة، وعائشة، الثالثة من الأحياء الآن، أما الرابعة بمجموع الزوجات؛ السيدة خديجة، سودة، عائشة، حفصة .
السيدة سودة رحبت بها راضية، لا تنافسها، تحدثنا عن السيدة سودة، أما عائشة فحارت ماذا تصنع مع هذه الزوجة الشابة؟ هذه منافسة, أحياناً الإنسان لا يتألم من شخص لا ينافسه، المشكلة مع من ينافسه، فالسيدة عائشة بنت أبي بكر شابة، والسيدة حفصة بنت عمر شابة، وهذه الغيرة أودعها الله في النساء لصالح الأزواج .
وقد يقول قائل: لمَ لم تكن زوجات النبي كالدمى في البيت؟ لكانوا أراحوه ، مثل هذه الدمى ، ولا مشكلة، ولا طلب، ولا سؤال، ولا غيرة، ولا مؤامرة، لكن شاءت حكمة الله عز وجل أن يكون بيت النبي كبيت أي مسلم، فيه مشكلات، ليقف موقف الكامل ليعلمنا .
فالآن في عندنا مشكلة؛ هناك زوجتان شابتان، إحداهما بنت أبي بكر, والثانية بنت عمر ، يتنافسان على حب النبي عليه الصلاة والسلام, وعلى امتلاك قلبه .
عائشة سكتت أمام هذا الزواج المفاجئ، من أين أتت هذه الزوجة الآن؟ فشيء صعب، ملكت قلب النبي، فأتت أخرى ونافستها، وهي التي كانت تضيق بيوم ضرتها سودة التي ما اكترثت لها كثيراً، كيف يكون الحال اليوم حينما تقتطع حفصة من أيامها مع رسول الله ثلثها؟.
في واحد جاءت امرأته إلى سيدنا عمر, قالت له:
((يا أمير المؤمنين, إن زوجي صوامٌ قوَّام، يظهر أنه ما انتبه لها, قال: بارك الله لكِ في زوجك، ما شاء الله, فقال له سيدنا علي: إنها تشكو زوجها, قال له: هكذا فهمت، إذاً: اقض بينهما))
سيدنا علي, لو أن إنسان أخذ أربعة، لها حق يوم واحد من الأربعة، فهذا المستغرق في طاعة الله وعبادته, من حقه ثلاثة أيام لله، ويوم لهذه الزوجة، فحكم لها يوماً من أربعة أيام، فهو حكم رائع جداً .
ما هو سبب هذا الود المتقارب بين عائشة وحفصة, وماذا فعل سيدنا عمر حينما علم بذلك ؟
أيها الأخوة, ثم تضاءلت غيرة عائشة من حفصة, لما رأت النساء يتوافدن على بيت النبي, زوجاتٍ أخريات؛ زينب، وأم سلمة، جويرية، وصفية, فلما كثرت الضرات, خفَّت عليها مشكلتها من حفصة .
زواج النبي له حكمة كبيرة جداً؛ هو أبعد ما يكون عن رغبته في المرأة، لكنه ألَّف قلب عمر من زواجه من حفصة، ألف قلوب أصحابه الكبار، وألف القبائل، وألف الأطراف الأخرى، فزواجه زواج مصلحة عليه الصلاة والسلام .
لكن عائشة صافتها الود، حدث غريب، أن ضرتين متنافستين يتفقان، سيدنا عمر تنبَّه، تنبه لهذا التقارب غير المألوف بين المرأة وضرتها، وجد مؤامرة السيدة عائشة والسيدة حفصة على وفاق، وعلى وئام، في محبة، وتعاون, على خلاف المألوف، فلما شَمَّ عمر من تقاربهما أن من ورائه ما يشبه أن يكون حلفاً داخلياً تجاه تزايد زوجات رسول الله، أخذ عمر يحذر ابنته من مسايرة صاحبتها، وليس لها مثل حظها من حب رسول الله، ولا من مكانتها في قلبه .
فسيدنا عمر أدرك أن السيدة عائشة بنت أحب الناس إليه، انظر إلى تواضع سيدنا عمر ، لم يخطر في باله أن ينافس سيدنا الصديق، قال لها مرة:
((يا حفصة, أين أنتِ من عائشة، وأين أبوكِ من أبيها؟))
لا أنتِ مثلها، ولا أنا مثل سيدنا الصديق، فأنتِ لستِ بمستواها، لو أنك تآمرتِ أو اتفقت معها على شيء, قد يرضى الله عنها, ويغضب عليكِ، أنت لستِ بمستواها، قال لها:
((يا حفصة, أين أنتِ من عائشة، وأين أبوكِ من أبيها؟))
لماذا زجر سيدنا عمر ابنته حفصة وعلا صوته عليها ؟
سمع سيدنا عمر يوماً من زوجته, أن ابنته حفصة, تراجع رسول الله بالكلام, أي ترد, فمضى إليها غاضباً، فما إن دخل عليها، سألها عما قد سمع عنها، وهي صادقة, أجابته بأنه قد حصل، فعلا صوته عليها وزجرها، وقال لها:
((تعلمين أني أحذركِ عقوبة الله، وغضب رسوله يا بُنية، لا يغرنَّك هذه التي أعجبها حسنها، وحب رسول الله إياها، والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لولا أنا لطلقك))
أي أبقاك عنده من أجلي .
هذه الزوجة, كانت صاحبة جرأة أدبية، جريئة، ومتكلمة، وفصيحة، ولو كانت بين يدي رسول الله، فكلكم يعلم أنه مرفوعة الكلفة بين الزوجين, لا يوجد حواجز إطلاقاً، فالواحد منا يكون خارج بيته له مكانته وشأنه, لكن في البيت هو أحد أفراد الأسرة، العلاقات الحميمة بين الزوجين تذيب الحواجز الضخمة، في مودة، وفي طمع، وفي أيام كلمة زائدة أحياناً، فالنبي لولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر, لما كان سيد البشر .
روى ابن سعدٍ في الطبقات من حديث الحديبية وبيعة الرضوان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عند حفصة أصحابه الذين بايعوه تحت الشجرة، فقال:
((لا يَدْخُلُ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا
-ألم يقل الله:
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾
فقالت حفصة: بلى, يا رسول الله! فانتهرها، فتلت عليه الآية الكريمة:
﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾
سيدخل الذين بايعوا النبي تحت الشجرة، فقال عليه الصلاة والسلام:
﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً﴾
فهي مناقشة لطيفة جداً، لا يكن الرجل جمادًا، ذكر النبي الحقيقة, فقالت له: لكن في آية:
﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾
طبعاً تعلمون أن ورود النار غير دخولها، بحكمةٍ أرادها الله كل مؤمن يمشي على الصراط، ويرى النار، ويرى مكانه في النار, لو لم يكن مؤمناً، كي تتضاعف سعادته في الجنة، لكن لا يتأثَّر، ولا بوهجها، هذا معنى:
﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾
فذكرت هذه الآية, فرد عليها النبي، سيدنا عمر, عد هذه مراجعة، هذا تطاول .
إليكم سبب نزول هذه الآية من سورة التحريم :
حادثة أخرى حصلت مع حفصة, كانت سبباً في طلاقها طلاقاً رجعياً، طلقة واحدة، الحقيقة: أن الطلقة الواحدة:
﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾
قال العلماء: هذه الآية سياقها في سورة الطلاق، من اتقى الله في تطليق امرأته, جعل الله له مخرجاً إلى إرجاعها، فالنبي أدبها بطلقة واحدة، هي عندها جرأة أدبية، لأنها أفشت سر رسول الله، أفشت سراً استكتمها إياه رسول الله .
إحدى النساء في الجاهلية, لها وصية رائعة لابنتها، قالت: يا بنيتي, لا تفشي له سراً، ولا تعصي له أمراً، إنكِ إن أفشيتِ سره أوغرتِ صدره .
القصة: أن النبي عليها الصلاة والسلام, خلا مرة بمارية القبطية في بيت حفصة، تألَّمت حفصة أشد الألم من هذه الضرة، لم يتزوجها بعد، فمارية جاءته هدية من المقوقس، وبكت أمامه ، فلما بكت أراد النبي أن يسترضيها, فقال:
((ألا ترضين أن أحرمها على نفسي فلا أقربها؟ قالت : بلى، فحرمها على نفسه، وقال لها: لا تذكري ذلك لأحد))
جاءته مارية من عند المقوقس هديةً له، فلما رأتها حفصة, بكت منها غيرةً, حرمها على نفسه، إرضاءً لها، وتطيباً لقلبها، وقال لها:
((لا تذكري ذلك لأحد، فرضيت حفصة بذلك، وسعدت ليلتها بقرب النبي عليه الصلاة والسلام، حتى إذا أصبحت الغداة, لم تستطع كتمان هذا السر، فنبَّأت بها عائشة، وقالت لها: البارحة جاء عندي النبي صلى الله عليه وسلم، وبكيت أمامه فحرمها على نفسه، فأنزل الله قوله الكريم, معلماً ومرشداً، وهادياً ومؤدباً, لحفصة خاصة, وللنساء عامة:
﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾
لم تقدِّر حفصة رضي الله عنها, وهي تذيع السر لعائشة, عواقب هذا الإفشاء، فيقال, ليس على التأكيد: إنه طلقها طلاقاً رجعياً, طلقة واحدة تأديباً لها، بلغ ذلك عمر، كما تروي الرواية, حسا التراب على وجهه من شدة ألمه، اسود وجهه أمام رسول الله، وقال: وما يعبأ الله بعمر وابنته بعدها، -هو اعتبر نفسه, حقق مكسبًا كبيرًا جداً, بتزويج ابنته من رسول الله، فصار النبي صهره- .
فنزل جبريل عليه السلام من الغدِ على النبي عليه الصلاة والسلام, فقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمةً بعمر))
لمكانة عمر عند الله .
وفي رواية أخرى, أن جبريل قال:
((أرجع حفصة, فإنها صوامةٌ قوامة، وإنها زوجتك في الجنة))
غيرة المرأة جزء من طبيعتها، فإذا الإنسان شعر بالبرد, هل نؤاخذه؟ طبيعي، الدنيا شتاء، والجو بارد جداً، فبرد، إذا شعر بالحر, هل نؤاخذه؟ غيرة المرأة طبيعيٌ جداً، شعورها بالبرد والحر كغيرتها .
ماذا فعل النبي مع أهل بيته بعد هذه الحادثة, وهل الخبر الذي شاع بأن النبي طلق زوجاته صحيح, وما هو الحوار الذي جرى بين النبي وعمر؟
بعد هذا الحادث, اعتزل النبي نساءه شهرًا، وأدَّبهن، وشاع الخبر أن النبي طلق نساءه، ولم يكن أحد من الصحابة, يجرؤ على الكلام معه في ذلك، حتى إن عمر استأذن عدة مرات ليدخل عليه، فلم يؤذن له، فذهب مسرعاً إلى بيت ابنته حفصة, فوجدها تبكي، فقال :(لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طلقكِ، إنه كان قد طلقكِ مرة، ثم راجعكِ من أجلي، فإن كان طلقكِ مرة أخرى, لا أكلمك أبداً، هكذا ورد في السيرة .
ثم ذهب ثالثةً يستأذن النبي، فأذن له، فدخل عمر والنبي متكئٌ على حصير, قد أثر في جنبه, فقال:
((يا رسول الله! أطلقت نساءك؟ فرفع النبي رأسه إلي، وقال: لا، فقلت: الله أكبر ، -النبي له مهابة كبيرة جداً، فالصحابة الكبار هؤلاء أقرب الناس إليه:
((أبو بكر وعمر مني بمنزلة السمع والبصر من الرأس))
ومع ذلك لم يجرؤ أحدٌ أن يسأله- قال سيدنا عمر من شدة فرحه, قال: لو رأيتنا يا رسول الله, وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة, وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا, يتعلمن من نسائهم، فغضبت على امرأتي يوماً, فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني, فقالت: ما تنكر أن أراجعك, فو الله إن أزواج النبي ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل؟ فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها بغضب رسول الله، إذاً: هي قد هلكت، هذا كلام سيدنا عمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
تبسَّم النبي لهذا القول، وأعجبه، فقلت: يا رسول الله, قد دخلت على حفصة, فقلت لها: لا يغرنَّك أن كانت جاريتك, أي عائشة, لأنها كانت أصغر منها, هي أوسم وأحب إلى النبي منكِ ، فتبسم عليه الصلاة والسلام مرةً ثانية, فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ أي أجلس، فقال: نعم، فجلست, فرفعت رأسي في البيت، والله ما رأيت في البيت شيئاً يرد البصر، فقال: رسول الله ينام على الحصير, -البيت فارغ، فراش غرفة، والله لا أعتقد أن هذا مبالغة، يمكن أن تكون مساحته مترًا في مترين، ولا فراش فيه .
لما دخل سيدنا عدي عنده, قال:
((أعطاني وسادةٍ من أدمٍ محشوةً ليفاً, وقال: اجلس عليها ، قلت: بل أنت، قال: بل أنت، قال: فجلست عليها, وجلس هو على الأرض))
أي أن في بيته لا يوجد إلا وسادة واحدة- .
قال له: رسول الله ينام على الحصير, وكسرى ملك الفرس ينام على الحرير, فاستوى النبي جالساً, وقال: أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا بْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .
-وفي رواية:
((إنها نبوةٌ وليست ملكاً))
وفي رواية:
((أما ترضى أن تكون الدنيا لهم والآخرة لنا؟))
فقلت: استغفر لي يا رسول الله))
هذا الحوار الحميم بين النبي وبين سيدنا عمر .
وكان عليه الصلاة والسلام: أقسم ألا يدخل عليهن شهراً, من شدة ما وجده عليهن, حتى عاتبها الله عز وجل:
﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾
المقصود عائشة وحفصة, قال تعالى:
﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾
هذه الآية لها معنى عميق، أي أن أي إنسان فكر يعمل شيء ضد الدين، ليعرف من هو الطرف الآخر؟ .
طبعاً ثم جاءت الآية:
﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً﴾
ملخص هذه القصة :
ملخص هذه القصة: أن الذي جرى في بيت النبي, يجري في بيوت المؤمنين، والنبي وقف الموقف الكامل، لاحظتم؛ في شدة، وفي لين، وفي رحمة، وفي عطف، وفي حكمة، وفي منافسة شريفة، وفي طباع أنثوية طبيعية، هذا كله نتعلَّمه في بيت النبي عليه الصلاة والسلام .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا, وأن يلهمنا الخير .