وضع داكن
29-03-2024
Logo
مكارم الأخلاق - الدرس : 18 - التفكر
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

لن تحصل على معرفة الله وهدفك المنشود إلا بالتفكر في آلائه:

أيها الأخوة الكرام, الخلق اليوم بالمفهوم الواسع التفكر؛ أي أن من صفات المؤمن أنه يتفكر، ففي المعاجم التفكر هو التأمل، والتفكر إعمال الفكر في الشيء، أو تصرف الفكر في معاني الأشياء لدرك المطلوب، هذا التعريف المعجمي اللغوي للتفكر, أما أحد كبار العلماء، وهو ابن قيم الجوزية يقول:
التفكر أصل الخير والشر، فإن الفكر مبدأ الإرادة والطلب، وأنفع الفكر الفكرُ في مصالح المعاد، وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد، وفي طرق اجتنابها.
التفكر نشاط واسع جداً، أن تعمل فكرك في الشيء، تقلبه على وجوهه، ولكن أعلى مستويات الفكر: أن تتفكر في مصالح المعاد الآخرة، وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد، وفي طرق اجتنابها، فهذه أربعة أفكار هي أجل الأفكار؛ أن تفكر بالآخرة، وأن تفكر بالطرق السالكة لها، وأن تفكر في متاعب الآخرة، وفي طرق اجتنابها.
يعني أن تفكر في الجنة والطرق إليها، وأن تفكر في النار وفي طرق اجتنابها، ويليها أربعة أفكار، فكر في مصالح الدنيا، وطرق تحصيلها تحتاج إلى حرفة؛ تدرس، تتاجر، تتوظف، وفكر في مفاسد الدنيا، وطرق الاحتراز منها، فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء، التفكر في الجنة، وفي أسباب الوصول إليها، وفي النار، وفي أسباب اجتنابها، والتفكر في مصالح الدنيا، ووسائل الوصول إليها، وفي مفاسد الدنيا، وفي طرق اجتنابها.
أما رأس القسم الأول تاج القسم الأول: التفكر في آلاء الله, ونعمه, وأمره, ونهيه، وطرق العلم به، وبأسمائه، وصفاته من كتابه, وسنة نبيه، وما والاهما, وهذا الفكر: التفكر في آلاء الله يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة، تعرفه وتحبه, إن فكرت في آلائه، فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها، وفي الدنيا وخستها وفنائها, أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا، وكلما فكر في قصر الأمل، وضيق الوقت, أورثه ذلك الجد والاجتهاد، وبذل الوسع في اغتنام الوقت، هذه الأفكار تعلي همته، وتحييها بعد موتها وسكونها، وتجعله في واد، والناس في واد آخر، وبإزاء هذه الأفكار، الأفكار الرديئة التي تجول في قلوب أكثر الخلق, كالفكر فيما لم يكلف الفكر فيه، ولا أعطي الإحاطة به من فضول العلم الذي لا ينفع, كالفكر في كيفية ذات الرب، مما لا سبيل للعقول إلى إدراكه.
كلام طيب، الفكر يأتي قبل الإرادة، والإرادة تأتي قبل العمل، فإذا صح تفكرك استقامت إرادتك، وإذا استقامت إرادتك صح عملك، وإن صح عملك سعدت في الدنيا والآخرة، كلام دقيق جداً.
الإمام الغزالي -رحمه الله- يقول في الإحياء: كثر الحث في كتاب الله تعالى على التدبر والاعتبار، والنظر والابتكار، ولا يخفى أن الفكر هو مفتاح الأنوار، ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم، ومصيدة المعارف والفهوم، وأكثر الناس قد عرفوا فضله ورتبته، لكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره.
التفكر في آلاء الله, يورث المحبة والمعرفة والتفكر في الآخرة وشرفها ودوامها، والتفكر في الدنيا وخستها وانقطاعها, يورث الزهد في الدنيا والتعلق بالآخرة.
الآيات التي تحث على التفكر وتصف المؤمنين بأنهم يتفكرون, تقترب من عشرين آية, من أبرزها:

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾

[سورة آل عمران الآية: 190-191]

التفكر في حقيقة نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى:

﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾

[سورة الأعراف الآية: 184]

بعض أصحاب النبي سألوا السيدة عائشة -رضي الله عنها-, قالوا لها: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: فسكتت، ثم قالت: لما كانت ليلة من الليالي, قال: يا عائشة, ذريني أتعبد الليلة لربي، قالت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك، قالت: قام فتطهر، ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره، قالت: ثم بكى، فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى, فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، لم تبكِ، وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا أكون عبداً شكورا؟ لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها: إن في خلق السموات والأرض.

فضيلة التفكر:

أيها الأخوة الكرام, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:

((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ؛ الْإِمَامُ الْعَادِلُ, وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ, وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ, وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ, وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ, فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ, وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى, حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ, وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ))

أين الشاهد؟

((وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ))

عن عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ قال:

((كُنْتُ وَأَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ, أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلَالَةٍ, وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ, -هذه الفطرة-, وَهُمْ يَعْبُدُونَ الأوْثَانَ, فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَارًا, فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي, فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ, فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُسْتَخْفِيًا جُرَآءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ, فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ, فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا نَبِيٌّ, فَقُلْتُ: وَمَا نَبِيٌّ؟ -دققوا وهو في الجاهلية شعر أن هؤلاء الناس بفطرته ليسوا على شيء, في ضلال-, فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا نَبِيٌّ, فَقُلْتُ: وَمَا نَبِيٌّ؟ قَالَ: أَرْسَلَنِي اللَّهُ, فَقُلْتُ: وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الأرْحَامِ, وَكَسْرِ الأوْثَانِ, وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ, قُلْتُ لَهُ: فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: حُرٌّ وَعَبْدٌ, -الإسلام بدأ باثنين, الآن مليار ومئتا مليون:

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾

[سورة إبراهيم الآية: 24-25]

حُرٌّ وَعَبْدٌ, قَالَ: وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ, فَقُلْتُ: إِنِّي مُتَّبِعُكَ, قَالَ: إِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا.

-هناك ضغط على المسلمين، وعلى هذه الدعوة لا يحتمل، إنك لا تستطيع اليوم ألا ترى حالي وحال الناس، أرأيتم على حرصه على سلامته؟ هؤلاء الذين يدفعون بالناس إلى الموت، وهم قابعون في بيوت فخمة، هؤلاء ليس في قلبهم رحمة، هو لو أراد أن يستكثر من الناس، أصبحنا ثلاثة-.

قال له: إنك لا تستطيع اليوم, ألا تَرَى حَالِي وَحَالَ النَّاسِ؟ وَلَكِنْ ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ, فَإِذَا سَمِعْتَ بِي قَدْ ظَهَرْتُ فَأْتِنِي

-إذا نجحت دعوتي فأتني-.

قَالَ: فَذَهَبْتُ إِلَى أَهْلِي, وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ, وَكُنْتُ فِي أَهْلِي, فَجَعَلْتُ أَتَخَبَّرُ الْأَخْبَارَ, وَأَسْأَلُ النَّاسَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ, حَتَّى قَدِمَ عَلَيَّ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةَ, فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي قَدِمَ الْمَدِينَةَ؟ فَقَالُوا: النَّاسُ إِلَيْهِ سِرَاعٌ, -أقبلوا عليه-, وَقَدْ أَرَادَ قَوْمُهُ قَتْلَهُ, فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ, فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ, فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: نَعَمْ, أَنْتَ الَّذِي لَقِيتَنِي بِمَكَّةَ, قَال: فَقُلْتُ: بَلَى, فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ, أَخْبِرْنِي عَمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ وَأَجْهَلُهُ, أَخْبِرْنِي عَنْ الصَّلَاةِ, قَالَ: صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ, ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ, فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ, وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ, ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ, حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ, ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ, فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ, فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ, فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ, ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ, فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ, قَالَ: فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ, فَالْوُضُوءَ حَدِّثْنِي عَنْهُ, قَالَ: مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ فَيَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ فَيَنْتَثِرُ, إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ وَفِيهِ وَخَيَاشِيمِهِ, ثُمَّ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ, إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ, ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ, إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ, ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ, إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ, ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ, إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ, فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى, فَحَمِدَ اللَّهَ, وَأَثْنَى عَلَيْهِ, وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ, وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ, إِلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ))

إذاً: هذا الإنسان تفكر, هؤلاء الجاهليون ليسوا على شيء, فلما سمع بالنبي -عليه الصلاة والسلام-, سأله, وحاوره, وهذا من التفكر.
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ:

((أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ الْوَحْيِ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ, فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ, ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ, وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ, وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ, ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا, حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ, فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ, قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ, قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ, ثُمَّ أَرْسَلَنِي, فَقَالَ: اقْرَأْ, قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ, فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ, ثُمَّ أَرْسَلَنِي, فَقَالَ: اقْرَأْ, فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ, فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ, ثُمَّ أَرْسَلَنِي, فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ, خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ, اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ.

-أخوتنا الكرام, هناك ملمح في هذا الحديث دقيق جداً-:

 

فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْجُفُ فُؤَادُهُ, فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-, فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي, فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ, فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي, فَقَالَتْ خَدِيجَةُ.

-الآن: من خديجة؟ زوجته, ما معها من أفكار الدعوة؟ ليس معها شيء, لم يبدأ الوحي بعد -.

فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا, -هذه الفطرة-, إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ, وَتَحْمِلُ الْكَلَّ, وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ, وَتَقْرِي الضَّيْفَ, وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ...))

هذا الإله العظيم لا يمكن أن يخزيك إطلاقاً, لأنك تفعل كذا وكذا, ألا تحبون البشرى؟
واحد منكم يأتي بعد هذه البعثة بألف وأربعمئة عام, إذا كان صادقاً وعفيفاً, ويعين الناس, ويرحمهم, وكان منصفاً, وكان يقدم مما أعطاه الله لكل من حوله, هل يخزيه الله عز وجل؟ ثق بالله عز وجل في أي زمان, وفي أي مكان, وفي أي عصر, وفي أي مصر, وفي أي وضع يقول لك: وضع متفجر, وضع صعب, وضع متأزم, بلد نامٍ, المؤامرات عليه من كل مكان، الله موجود, ولا إله إلا الله, كن كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-, وقل لنفسك: والله لا يخزيني الله أبداً, هذه القصص ليست للإطلاع, بل لتكون قدوةً لنا؛ كن صادقاً, كن أميناً, كن عفيفاً, كن محباً للخير, قدم مما عندك لمن حولك, وقل: والله لا يخزيني الله أبداً، من أين جاءت خديجة بهذه المعلومات؟ هذه فطرتها.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ:

((بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ, فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً, ثُمَّ رَقَدَ, فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ, قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ, فَقَالَ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ, ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَاسْتَنَّ, فَصَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً, ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ, فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ, ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ))

مرة ألقيت درسًا عن أسباب السعادة الزوجية, فجاء في هذه الأسباب: لا بد من أن تتحدث مع أهلك وقتاً من الزمن كل يوم, أما الزوج الذي يأتي, يأكل وينام كالدابة, ولا يحدثها, ولا يسمع لها, هناك خطر كبير أن تنصرف عنه, ليس لها غيره, فعلى علو مقامه وخطورة رسالته قال:

((فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً, ثُمَّ رَقَدَ, فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ, قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ, فَقَالَ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ, ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَاسْتَنَّ, فَصَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً, ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ, ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ))

التفكر.
عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ:

((صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ لَيْلَةٍ -لكن هذا شيء فوق طاقة جميع المؤمنين الآن-, فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ, فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ, ثُمَّ مَضَى, فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ, فَمَضَى, فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا, ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا, ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا, يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا, إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ, وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ, وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ, ثُمَّ رَكَعَ, فَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ, فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ, -كان أخف الناس صلاة إذا إماماً, أما الآن يصلي وحده, ولا يعلم أن حذيفة وراءه, الركوع بقدر قراءة البقرة, والنساء, وآل عمران-, ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ, ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ - أعاد بقدر ما قرأ البقرة, وآل عمران, والنساء-, ثُمَّ سَجَدَ, فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى, فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ, قَالَ: وَفِي حَدِيثِ جَرِيرٍ مِنْ الزِّيَادَةِ, فَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ, رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ))

ولم يستطع متابعته, فانصرف دون أن يعلم, هكذا كان عليه الصلاة والسلام.
عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:

((قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ, قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ, قَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي, فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤزُلَاءِ شَهِيدًا؟ رَفَعْتُ رَأْسِي أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى أجَنْبِي, فَرَفَعْتُ رَأْسِي, فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ))

ما قيل عن التفكر:

أخواننا الكرام, التفكر سبب كل خير، التفكر في آلاء الله والتفكر في الآخرة يورث المعرفة والمحبة، وأنت في واد، والناس في واد، والتفكر في الآخرة في جنتها وفي نارها, يورث الزهد في الدنيا والتعلق بالآخرة.
كان لقمان يطيل الجلوس وحده، فكان يمر به مولاه ويقول له: لقمان, إنك تديم الجلوس وحدك، فلو جلست مع الناس كان آنس لك، فيقول لقمان: إن طول الوحدة أفهم للفكر، وطول الفكر دليل على طريق الجنة.
وقد قيل: الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس، ينبغي أن تستأنس بربك.
ويقول ابن عباس: ركعتان مقتصدتان في تفكر, خير من قيام ليلة بلا تفكر.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أتت قريش اليهود فقالوا: ما جاءكم موسى من الآيات؟ -ما هي آيات موسى؟-, قالوا: عصاه ويده البيضاء للناظرين، وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى فيكم؟ فقالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، فأتوا النبي -عليه الصلاة والسلام- فقالوا: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهباً، -اجعل لنا الصفا كلها من الذهب-, عندئذ نصدقك, فدعا ربه فنزلت:

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾

[سورة آل عمران الآية: 190]

أي خرق العادات ليس بشيء أمام التفكر في ملكوت الأرض والسموات، الكون بوضعه الراهن أكبر معجزة.
وعن ابن عباس قال: تفكروا في كل شيء، ولا تفكروا في ذات الله.
التفكر في ذات الله مهلك، أما التفكر في آلاء الله مسعد.
وقال عمر بن عبد العزيز: الفكرة في نعم الله من أفضل العبادة.
سألت أم الدرداء: ما كانت أفضل عبادة أبي الدرداء؟ قالت: التفكر والاعتبار.
وقد قال بعض أصحاب النبي: إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان هو التفكر، وإن من أفضل العمل الورع والتفكر، وتفكر ساعة خير من قيام ليلة.
وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: اعلم أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به, والندم على الشر يدعو على تركه، وليس ما فني، ولو كان كثيراً يعدل ما يبقى، وإن كان طلبه عزيزاً، واحتمال المؤونة المنقطعة التي تعقب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعة تعقب مؤونة باقية.
ويقول بعضهم: ما طالت فكرة امرىء قط إلا علم, وما علم امرؤ قط إلا عمل.
ورجل مر براهب عند مقبرة ومزبلة, فناداه فقال: يا راهب، إن عندك كنزين من كنوز الدنيا، لك فيها معتبر؛ كنز الرجال المقبرة، وكنز الأموال المزبلة.
الرجال إلى المقبرة، والأموال الطائلة إلى القمامة في النهاية.
أبو سليمان الداراني يقول: إني لأخرج من منزلي, فلا يقع بصري على شيء إلا رأيت الله فيه، ولي فيه نعمة, ولي فيه عبرة.
ويقول بشر بن الحارث: لو تفكر الناس في عظمة الله, ما عصوا الله أبداً.
قيل لإبراهيم بن الأدهم: إنك تطيل الفكرة، فقال: الفكرة مخ العقل.
والشافعي -رحمه الله تعالى- يقول: استعينوا على الكلام بالصمت, وعلى الاستنباط بالفكر .
والفضيل يقول: الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك.
ويقول أبو سليمان: عودوا أعينكم البكاء، وعودوا قلوبكم التفكر.
وقال بعضهم: الفكر في الدنيا حجاب عن الآخرة، والفكر في الآخرة يورث الحكمة، و يحيي القلوب.
أيها الأخوة, من فوائد التفكر أنه: أوسع طريق وأقصره إلى رضوان الله ومحبته، وفيه ينشرح الصدر ويسكن القلب، والتفكر يورث الخوف والخشية من الله عز وجل، ويورث الحكمة ويحيي القلوب، والتفكر قيمة عقلية كبرى تؤدي إلى يقظة الأفراد والأمم.

دعاء الختام :

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم, والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور