وضع داكن
28-03-2024
Logo
مكارم الأخلاق - الدرس : 27 - التفاؤل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا بما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

التفاؤل صفة ثابتة لا تتغير في طبيعة المؤمن:

أيها الأخوة الكرام, حينما ينطلق الإنسان من مقولة: أن طباع الإنسان ثابتة لا تتغير، وأن أخلاقه لا تتبدل, بهذا الكلام يلغي إمكانية الإنسان لإصلاح نفسه، ويلغي جدوى التربية, ويلغي عمل المصلحين، يجب أن تعتقد أن الإنسان يمكن أن يتغير تغيراً جذرياً، وقد يؤخذ هذا المعنى من قوله تعالى:

﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾

[سورة الفرقان الآية: 70]

كان جباناً فصار شجاعاً، كان بخيلاً فصار كريماً، كان محسناً فصار مسيئاً.
الحديث اليوم عن طبع من طباع الناس، هذا الطبع في الكافر تشاؤم، وفي المؤمن تفاؤل، مهما ألقيت على أذن إنسان من خبر طيب، ينفي ذلك، ويقول لك: أنت لا تعرف شيئاً، الأمر أسوأ من ذلك بكثير، فهذا التشاؤم واليأس والسوداوية، وأن ينظر للعالم بمنظار أسود، وكلما لاحت بشائر انفراج يغلقها لك، وكأنه شامت، وكأنه يتشفى منك إذا ألقيت على مسامعه خبراً طيباً.
أيها الأخوة, لذلك موضوع درس اليوم التفاؤل, التفاؤل ضد التشاؤم، ضد الطيرة.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ:

((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ, وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الْأَسَد))

تشاؤم من نظرة، من إنسان، من بيت، من أسبوع، هذا كله ليس وارداً إطلاقاً، إنه من فعل الشيطان, ليوقع بين الناس العداوة والبغضاء، المؤمن يتفاءل، والمؤمن يحسن الظن في الأعم الأغلب.
أيها الأخوة, الفأل: الكلمة الصالحة، أو الطيبة، أو الحسنة، الأمطار انقطعت، وخطوط المطر تبدلت، سوف نشهد جفافاً ما بعده جفاف، وسنشهد أزمة اقتصادية طاحنة بسبب نقص المياه، إن شاء الله لعل الله يرزقنا بغيث من السماء، هذا الموقف الكامل.
رجل طبيب توفي -رحمه الله-, زارني قبل سبع سنوات، وقال لي: أنا عضو في لجنة حوض دمشق، وقال: منسوب هذا الحوض أصبح في وضع خطر، وأصبحت دمشق مهددة بالجفاف، وسيضطر الناس لمغادرة هذه المدينة، والله تكلم كلامًا في الغرفة هناك, لم أستطع أن أقف على قدمي، طبيب ومثقف ثقافة عالية جداً، وعضو في لجنة حوض دمشق, يتكلم عن علم!! نحن إلى جفاف، وقحط، ويبس الأشجار ....

أيها الأخوة, في العام الذي تلا كلامه, هطل في دمشق أمطار بمعدل ثلاثمئة وخمسين ميليمترًا! كالعام الماضي تماماً، وهناك ينابيع من ثلاثين عامًا جفت تفجرت، ومياه منين وصلت إلى برزة، والشيء الذي لا يصدق: أن كل توقعات الناس باءت بالإخفاق، العام الماضي كان يوجد ثلاثمئة وخمسين ميليمترًا أيضاً، وإن شاء الله إذا جاء هذا العام كالعام الماضي: حلت أزمة المياه في المنطقة الجنوبية أصلاً.
أنا كنت في الغوطة في الصيف, أطلعني صاحب البستان على مستوى المياه في البئر، عنده بئر واسع, قال: كان عمق المياه أربعين ميليمترًا، بعد أمطار العام الماضي أصبح البعد خمسة عشر مترًا، ارتفع منسوب المياه الجوفية خمسة وعشرين متراً في المنطقة الجنوبية، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يحب التفاؤل، والإنسان اليائس من رحمة الله يحب التشاؤم.
بنية في الإنسان, أقصد صفة عميقة, كلما سمع خبراً مبشراً نفاه، أو وجهه توجيهاً آخر، أو قال لك: كذب من أجل أن تبقى خائفًا أو مضطربًا أو يائسًا، التفاؤل من صفة المؤمن، والتشاؤم من صفات غير المؤمن.

عام الثلاثة والثلاثين سمع أحدهم كلامًا من إنسان من أصحاب القرار: أن عام الثلاثة والثمانين نهاية القطاع الخاص، باع آلاته، وأصابه غم وهم وحزن، ثم تنشط هذا القطاع نشاطاً لا حدود له. فأنت:

كن مع الله ترَ الله معك واترك الكـل وحاذر طمعك
وإذا أعطاك من يمنعه ثم من يعطيك إذا ما منعك!؟

الفأل: الكلمة الطيبة الحسنة الصالحة، إنسان لا ينجب, تنجب إن شاء الله، كلمة طيب قلبه بها، وقد يسلك الأطباء هذا السلوك, يعطيه يأسًا كاملا، ويأتي الشفاء مخيبًا لظن الأطباء.
تأدب مع الله، وقل الأمر بيد الله عز وجل.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمِعَ كَلِمَةً فَأَعْجَبَتْهُ, فَقَالَ:

((أَخَذْنَا فَأْلَكَ مِنْ فِيكَ))

[أخرجه أبو داود في سننه]

كان يحب الكلمة الطيبة، ويحب الفأل، ويحب البشارة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:

((كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ الْحَسَنُ, وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ))

كان يكره التشاؤم، ويحب الفأل الحسن.

تساقط القيم الأرضية أمام قيم الإسلام ومبادئه:


أنا أقول لكم: إن شاء الله على الرغم من كل ما يجري في العالم الإسلامي؛ من إضلال, وإهلاك, وقصف, وهدم, وقتل, وإفساد, وإذلال، على الرغم من كل ما يجري في العالم العربي الإسلامي من شدة لم يسبق لها مثيل.
ذكرت في الخطبة: أن كل شِدة من الله للمؤمن وراءها شَدة، وأن كل محنة للمؤمن وراءها منحة لله عز وجل:

﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾

[سورة البقرة الآية: 216]

أيها الأخوة, عقب الأحداث الجسيمة بدءاً من الحادي عشر من أيلول حتى الآن, حصل تبدل في العالم الإسلامي, لا يمكن أن يتبدل من دون هذه الأحداث، لكن هذا التبدل لا يعلمه جميع الناس، تبدل خطير جداً في المفاهيم, والتصورات, والمعتقدات, والأهداف.

قبل أن آتي إليكم: كنت في حفل من أعلى مستوى, حفل أكاديمي، فألقيت كلمات، أنا قلت بالضبط: في ساحة القيم كان هناك كتل ثلاث؛ كتلة قيم الشرق الذين يؤمنون بأنه لا إله، وكتلة قيم الغرب، وكتلة الإسلام، الكتلة الشرقية تداعت من الداخل:

﴿وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾

[سورة الأحزاب الآية: 25]

تداعت من الداخل وانتهت، بقي في الساحة قيم الإسلام، وقيم الغرب، قيم الغرب رائعة, لا أكتمكم: رائعة جداً الحرية، قيمة ما بعدها قيمة؛ حقوق الإنسان، الديمقراطية، العدل، المساواة، تكافؤ الفرص، كل بحسب جهده، والفضل لله عز وجل: حينما وضعوا على المحك، أصبحوا وحوشاً، وهذه القيم التي نادوا بها، ورفعوها شعارات, أصبحت في الوحل، بقي الغرب قوة غاشمة، ولم يبق حضارة, أليس كذلك؟.
أنا في خطبة الجمعة أجريت حواراً مع صلاح الدين الأيوبي, قلت له: عذراً يا صلاح الدين, لقد أخرجت الفرنجة القدامى من العراق ومن الشام، ونحن وعدناهم بأخطائنا, عادوا للعراق, وفلسطين، و....
قلت له: لا تقلق علينا، حينما عادوا قالوا: إنما عدنا من أجل أن تنعموا بحرية كحريتنا، ورخاء كرخائنا، وسلام كسلامنا، ولا أتمنى عليك أن تسأل: هل حققوا هذه الأهداف بوسائل من جنسها, أم بالقتل والإفقار والإضلال والإفساد والإذلال؟.
الغرب كقيم سقط, بقي قوة مخيفة!.
أيها الأخوة, أقول كلاماً دقيقاً جداً: لم يبق في ساحة القيم والمبادئ إلا قيم الإسلام, وعلى الرغم من كل ما يجري، بل إني أقول: إن هناك حرباً عالمية ثالثة معلنة على الإسلام في القارات الخمس، وعلى الرغم من كل ذلك: أنا متفائل، لماذا؟ لأن الغرب كان منافساً للإسلام ، سقوطه كحضارة إنجاز كبير جداً، كان نخبة, قلة قليلة من المثقفين العرب والمسلمين يعرفون حقيقة الغرب، أما أطفالنا اليوم يعرفون حقيقة الغرب, هذا إنجاز لا يقدر بثمن، وضعوا بامتحان فسقطوا.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ, عَنْ أَبِيهِ:

((أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ لَا يَتَطَيَّرُ مِنْ شَيْءٍ, وَكَانَ إِذَا بَعَثَ عَامِلًا سَأَلَ عَنِ اسْمِهِ, فَإِذَا أَعْجَبَهُ اسْمُهُ, فَرِحَ بِهِ وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ, وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهُ, رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ, وَإِذَا دَخَلَ قَرْيَةً سَأَلَ عَنِ اسْمِهَا, فَإِنْ أَعْجَبَهُ اسْمُهَا, فَرِحَ وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ, وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهَا, رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ))

يحب الاسم الحسن, والخبر الطيب, والبشارة, والتفسير الطيب.
لذلك أيها الأخوة: جاءتني رسالة بالبريد, يمكن كررت مضمونها مئات المرات، ولا أشبع من تكرار مضمونها: عالم كبير في أمريكا هداه الله على الإسلام، وزار بريطانيا، والتقى بالجالية الإسلامية هناك، وقال: أنا لا أعتقد أن يستطيع العالم الإسلامي اللحاق بالغرب في المدى المنظور لاتساع الهوة بينهما، ولكنني مؤمن أشد الإيمان: أن العالم كله سيركع أمام أقدام المسلمين، لأن خلاص العالم بالإسلام، ولكن بشرط أن يحسنوا فهم دينهم، وتطبيقه، وعرضه على العالم.
الآن: ساحة القيم والمبادئ فارغة إلا من قيم الإسلام ومبادئه، المنطلقات الجماعية، وأقصد بها: العالم الشرقي لم تنجح، والفردية كذلك، وأقصد بهم العالم الغربي، الشهوة وحدها ما نجحت في إسعاد الإنسان، المال وحده لم ينجح، العادات والتقاليد لم تنجح، ما من فكر طرح على الساحة، ونجح في إسعاد البشر، ولا يسعدهم إلا ربهم, ودينهم, وانتماؤهم لهذا الدين العظيم، لكن هذا الدين بقي شكلاً.
فيا أيها الأخوة, كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يحب الفأل الحسن، والكلمة الطيبة، والبشارة، ولا يسفه لك بشارتك، ولا حسن ظنك بالله عز وجل.
يقول ابن عباس -رضي الله عنه-: الفرق بين الفأل والطيرة: أن الفأل من طريق حسن الظن بالله، وأن الطيرة لا تكون إلا في السوء فلذلك كرهت.

لن يسمح الله لأعداء البشرية في تنفيذ مخططاتهم إلا بما أراد:

أيها الأخوة, قبل الحادي عشر من أيلول كنت في أمريكا في مؤتمر كبير جداً، ومن عادة هذا المؤتمر: أنه يدعو الضيوف في حفل الختام لإلقاء كلمة لكل ضيف, مقدارها دقيقة واحدة، طبعاً الكلمات في المؤتمر كانت طويلة، مدتها ساعة ونصف، لكن حفل الختام دقيقة واحدة، هكذا قلت: حينما ترى قوة قوية في العالم تخطط لصالح شعوبها على حساب شعوب الآخرين, وعلى حساب ثروتهم وكرامتهم وثقافتهم، نجاح هذه الخطط في المدى البعيد يتناقض مع وجود الله، لأن الله لا يسمح لجهة في الأرض أن تتألّه.
لذلك: من سنن الله عز وجل: أنه يرخي الحيل للطاغي, حتى يتوهم جهلاً أنه يفعل ما يريد، إذا توهم كذلك, جاء بطش ربك:

﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾

[سورة البروج الآية: 12]

وقد تجدون: كيف أن القوي يتوهم أنه لا يمكن لأحد أن يقف أمامه، ثم يفاجأ باستنزاف قوته كل يوم كما يجري، وكل هذه الأسلحة الفتاكة, والصواريخ, والطائرات, والبوارج, وحاملات الطائرات، والقنابل العنقودية, والذكية, والانشطارية، والأقمار الصناعية لا تجدي مع إنسان جاء ليضحي بحياته ليهز أركان العدو، حتى إن بعض كبار الضباط في البنتاغون يقولون: ماذا نفعل بأسلحتنا مع إنسان جاء ليموت؟ لا بد من خطط جديدة كلياً، لذلك الله عز وجل لا يسمح لجهة أن تتأله.
كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يعجبه الفأل، لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به.
أيها الأخوة, من فوائد التفاؤل: أنه يعبر عن حسن ظنك بالله عز وجل، وأنه يجلب السعادة إلى النفس والقلب، ولأنه ترويح للمؤمن، وسرور له، ولأن في الفأل تقوية للعزائم, ومعونة على الظفر، وباعثاً على الجد، لولا الأمل بطل العمل، وفي التفاؤل اقتداء بالسنة المطهرة، وأخذ بالأسوة الحسنة، حيث كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يتفاءل في حروبه وغزواته.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور