وضع داكن
29-03-2024
Logo
موضوعات في التربية - الدرس : 099 - قواعد السلوك إلى الله6 - العفة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وأرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام ؛ موضوع الدرس اليوم خُلُقٌ من أخلاق المؤمن، ألا وهو العفة، وتذكرون أن الصحابة الكرام حينما التقوا النبي عليه الصلاة والسلام لفت نظرهم صدقه وأمانته وعفته، وكأنما هذه الأخلاق الثلاثة أعمدة صرح الأخلاق، ففي الحديث صادق، وفي التعامل أمين، وفي الشهوات عفيف، تكلُّم، تعامُل، اندفاع، حينما يندفع لتلبية شهوته فهو عفيف، وحينما يتكلم فهو صادق وحينما يتعامل مع الناس فهو أمين، حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه.
وقد ورد في بعض الأحاديث أن الإيمان عفة عن المطامع، عفة عن الشهوات، عفة عن الرغائب.
 أيها الإخوة الكرام: محور الدرس اليوم العفة، فمتى يكون الإنسان عفيفاً ؟ إذا تعلقت آماله في الدار الآخرة، فإن لم يكن كذلك كان شهوانياً، وإن كانت الدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه صار شهوانياً، أما إذا عرف أن الله خلقه لدار الآخرة، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لمجرد أن تنقل اهتماماتك من الدنيا إلى الآخرة، لمجرد أن تمسك بيدك ميزان الآخرة، فكل شيء في الآخرة بين يديك، نظام الآخرة نظام رائع، لا علاقة له بالسعي إطلاقا، قال تعالى:

﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)﴾

( سورة ق )

 إنّ الدنيا مبـنية على السعي، فمن أجل أن تأكل طبقًا من الطعام تبذل جهداً كبيراً، ومن أجل أن تسكن بيتاً صغيراً تبذل جهداً كبيراً، ومن أجل أن يكون لك في البيت زوجة تبذل جهداً كبيراً، ومن أجل أن تربي أولادك وأن تعلمهم تبذل جهداً كبيراً، لأن الحياة الدنيا أساسها الكدح، قال تعالى:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ (6)﴾

 

( سورة الانشقاق )

 سمعت عن إنسان اشترى بيتًا في الشام بمائة وستين مليونًا، فكيف يداوم في معمله ؟ منذ عشرين عامًا يداوم من الساعة الخامسة صباحاً حتى منتصف الليل، بهذه الدقة وهذا السعي، وحرم نفسه كل شيء حتى صار غنياً، حتى الغنى له ثمنٌ باهظٌ، حتى يقال لإنسان دكتور يحتاج إلى ثلاثٍ وثلاثين سنة دراسة، أمضى زهرة شبابه في الدراسة حتى يوضع أمام اسمه دال، ترى بيتًا في طرف المدينة، وجهته شمالية، ومساحته ستون متراً، ثمنه خمس مائة ألف، راتب هذا الرجل أربعة آلاف، كيف جمعها ؟ وعلى مدار كم سنة وهو يجمع هذا المبلغ حتى سكن في هذا البيت.
الحياة الدنيا أساسها الكدح أما الآخرة فأي شي خطر في بالك تجده أمامك، قال تعالى:

 

﴿ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ﴾

 

( سورة الحاقة )

 الفواكه، قال تعالى:

 

﴿ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)﴾

 

( سورة الواقعة )

﴿وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)﴾

( سورة الواقعة )

 هذا كلام رب العالمين، هذا كلام خالق الأكوان، الإنسان عملياً وكما أشعر فإن معظم المسلمين لم يُدخِلوا موضوع الدار الآخرة في حساباتهم فهم يقرؤون القرآن، ويعتقدون في الآخرة، لكن لا يعملون لها، وذكرت لكم ذات مرة في خطبة الجمعة أن أحد العارفين بالله اسمه إبراهيم بن أدهم، كان يمشي في أسواق البصرة قيل له: يا إبراهيم لماذا ندعو الله ولا يستجيب لنا ؟ قال: لأنكم أمتم قلوبكم بعشر خصال، ادّعيتم حب نبيكم ولم تعملوا بسنته، دفنتم موتاكم ولم تتعظوا، قلتم: إنكم آمنتم بالجنة فلم تعملوا لها، قلتم: إنكم تخافون من النار فلم تتقوا لهيبها، ذكر عشر صفات، كلها مواعظ و لم يعملوا بها.
إنّ الإنسان إذا لم يُدخِل في حساباته الدار الآخرة، إذا تصدق رب العالمين فمن تصدق ؟ إن لم يكن هذا القرآن الكريم المعجز عندك صادقاً فمن تصدق، أيُّ كتاب تصدقه إن لم تصدق هذا الكتاب ؟
 أيها الإخوة ؛ الإنسان لا يعف عن المحارم، ولا يعف عن المطامع إلا إذا آمن بالدار الآخرة وعمل لها، ذات مرة أخ كريم من باب المداعبة قال لي: أنت تقول: إن المؤمن سعيد في حياته، ولكني أرى العكس، قلت له: كيف، قال: يصيب المؤمن ما يصيب الناس، إذا كانت موجة الحر تصيبه مع الناس، وإذا جاءت موجة البرد تصيبه مع الناس، إذا عمَّتْ موجة كساد كما هو الحال الآن يتحمل مع الناس ما يتحمل، إذا وقعتْ أزمة مواصلات فإنه يعاني منها كما يعاني غيرُه، إذا انتشر وباء فقد يمرض أولاده، فكيف تقول المؤمن سعيد وله معاملة خاصة ؟ فالله عز وجل ألهمني مثلاً تعرفونه، وذكرته كثيراً،وهو مثَل تركيبي ؛ مثل تركيبي، إنسان معاشه ألف وثمان مائة ليرة، وعنده خمسة أولاد، بيته بالأجرة، وعليه دعوة إخلاء، مرض ثلاثة في البيت، ولا يملك ثمن الدواء والطعام والكساء، ويملك ما يسدِّد به أجرة البيت، ويريد أن يوكل محاميًا للإخلاء، وله عم حجمه المالي خمسة مائة مليون، وهو بخيل، وليس له أولاد، ومات في حادث فجأةً، فمن الوريث ؟ هذا الإنسان الفقير، إنسان بين ليلة وضحاها أصبح يملك خمسة مائة مليون لكن إجراءات المالية، وبراءات الذمة، والتركات قضية معقدة، وقبض أول مبلغ من هذه التركة بعد سنة ونصف من وفاة قريبه، لماذا هو في هذه السنة والنصف من أسعد الناس ؟ هو مثل تركيبي وضعي، تجده أسعد الناس مع أنه لم يذق لقمة طيبة في هذه الفترة، ولم يرتدِ ثياباً جديدة، ولم يسكن بيتاً واسعاً، ولم يقتنِ سيارةً، ما الذي يسعده وهو لا يملك شيئاً ؟ كان في هذه السنة والنصف بين وفاة عمه وبين قبض المبلغ مِن أسعد الناس في هذه الفترة، مع أنه لم يأكل لقمة طعام تتميز أو تزيد على طعامه الأساسي فهو أسع الناس، لأنه دخل في الأمل والوعد، كان في هذه السنة والنصف كلما رأى سيارةً جميلة جداً قال أقتني مثل هذه إن شاء الله، كلما رأى بيتاً رائعاً جميلاً قال هذا أشتريه، دخل في الوعد.
هذا المؤمن، قال تعالى:

 

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

 

( سورة القصص )

 أيها الإخوة ؛ صدقوني أن المؤمن حينما يقرأ وعد الله له يحلِّّق في آفاق السعادة، قال تعالى:

 

﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)﴾

 

( سورة التوبة )

﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)﴾

( سورة الزمر )

 كلما قرأ آية تبشير، آية ترغيب يفرح، سعادة المؤمن أن الله وعده بالجنة، والمؤمن يصدق الله عز وجل، هذا أحد أسباب عفة الإنسان، أما إذا الآخرة أسقطها من حسابه وأمامه الدنيا فقط وتتراءى له شهواتها، فشيء طبيعي حينئذٍ أن ينكب على هذه الشهوات يعبُّ منها، شيء طبيعي أن يندفع لتحقيق رغباته، فلا عفة تحجزه، بل تزاحم لديه طمع وجشع، وانطلق عاديًا يحدوه هوًى في العدوان على الأعراض والأموال، وعلى تحقيق المكانة والشهرة، يمكن أن ينتحل كتابًا ويقول: أنا مؤلفه، يريد بذلك مكانة، والإنسان لِِمجرد أن يجعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه لا يعود عفيفاً.
إنّ الإيمان عفة عن المطامع، عفة عن المحارم، عفة عن المال، وعفة عن النساء، مرة التقيت برجل عمره ستة وتسعون عاماً في فترة العيد، وهو والد صديقي، قال لي: البارحة أجرينا تحاليل، والحمد لله كل شيء طبيعي، تحاليل كاملة، قال لي: والله لم آكل درهماً حراماً في حياتي، هذه عفة عن المطامع، وقال: ولا أعرف الحرام، عفة عن الشهوات.
 وأهم شيء المال والنساء، العفة عن المال عفة عن المطامع، والعفة عن النساء عفة عن المحارم، وأكبر إنسان يُحطم بسبب المال والنساء، وأكبر إنسان يُفضح بسبب تهافته على المال والنساء، صوَّروه مثلاً، له مكانة كبيرة ففضح، لكن المؤمن محصن من المال والنساء، بينما غير المؤمن وقد سمعت - ولا أدري مبلغ صحة هذه الأخبار - في بعض البنوك في أمريكا مودِع حجمه المالي كبير، فهذا لو طلب مبلغه لهزَّ البنك، استدرجوه إلى فندق أو إلى مكان موبوء، وأغروه بامرأة، فلما سقط في حمأة الزنا صوَّروه، ثم أخذت هذه الصور، وأُطلع عليها، وأخبروه أنه لمجرد أن تطالب بالرصيد ننشر هذه الصور في المجلات، فصار عبدًا، فالإنسان حينما تزلّ به قدمه يصبح عبداً لمَن يملك للصور، لكن المؤمن دائماً رافع الرأس، فعفته عن المحارم، وعفته عن المطامع تجعله عفيفاً، وأكبر رجل يذل إن تلبس بسرقة أو إن تلبس بزنا، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام حرم علينا أن نخلو بامرأة ولو كنتَ نبياً.
 عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

((إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ، قَالَ: الْحَمْوُ الْمَوْتُ ))

 

(متفق عليه)

 وعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

((لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ الْحَمْوُ يُقَالُ هُوَ أَخُو الزَّوْجِ كَأَنَّهُ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا ))

 

(رواه الترمذي)

 فما قال: كافر، ما قال: فاسق، ما قال: عاصٍ، وما قال: مؤمن، بل قال: رجل مؤمن، عاص، كافر، مشرك، فاسق، تقي، صديق،

((...لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ..))

 إنّ الإيمان عفة عن المحارم عفة عن المطامع، درس اليوم العفة كما وردت في الصحاح أيْ: في الكتب الصحيحة.

 

((عَنْ حُبْشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ السَّلُولِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ أَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ فَأَخَذَ بِطَرَفِ رِدَائِهِ فَسَأَلَهُ إِيَّاهُ فَأَعْطَاهُ وَذَهَبَ فَعِنْدَ ذَلِكَ حَرُمَتِ الْمَسْأَلَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ إِلا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ وَمَنْ سَأَلَ النَّاسَ لِيُثْرِيَ بِهِ مَالَهُ كَانَ خُمُوشًا فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرَضْفًا يَأْكُلُهُ مِنْ جَهَنَّمَ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُقِلَّ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُكْثِرْ ))

 

(رواه الترمذي)

 لنا أخ جراح قال لي: جاءني رجل بسيط له ابن متعلق به أشد التعلق، عمره سبع سنوات، معه آفة قلبية، والعملية تحتاج إلى مائتين وخمسين ألفًا، فحصه ووعده بإجراء العملية، بين الوعد وإجراء العملية اتصل إنسان مُحسن بالطبيب وقال له: العملية مغطاة، إنسان يسكن في رأس الجبل عنده ورشة أحذية، متواضعة وابنه معه آفة قلبية، أهل الخير كثيرون، ولما جاء والد الطفل الفقير، قال له الطبيب: نبشرك أن العملية مغطاة من قبل جهة محسنة، فقال له: لا أقبل، فقال الطبـيب: أقول لك مغطاة، وانتهى الأمر، جهة اتصلت بالمستشفى وسألت عن العملية، وكان الجواب: الفاتورة مغطاة كلها لوجه الله، فقال له: أنا عندي بعض الآلات لصنع الأحذية أبيعها، وأدفع ثمن العملية، وهذا المبلغ دعه لمن لا يملك شيئاً يبيعه، يقول لي هذا الطبــيب: أنا لم أر في حياتي إنساناً أكبر مروءةً منه، فقير ومعلوماته متواضعة، وقال: أنا عندي شيء أبيعه، وأعود صانعًا وأبيع الآلات، وهذا المبلغ دعه لإنسان عنده مشكلة في صحته، وليس له ما يبيعه، قال لي الطبيب: أنْ يكون ثمة إنسان بهذه العفة شيء لا يصدق، ولم يرض إلا وباع الآلات، وعاد يعمل صانعًا ودفع المبلغ بالتمام والكمال.
 الإيمان عفة عن المطامع، عفة عن المحارم، تذكرون أم سلمة رضي الله عنها أثناء الهجرة ما فعل بها أهل زوجها، ما أعجبهم أن يهاجر أبو سلمة مع زوجته إلى المدينة، فمنعوه من أن يأخذ زوجته ومعها ابنها سلمة، وأهل زوجها ما استطاب لهم أن يدَعُوا ابنها معها، فأخذوه من يده، وشدوه فخلعوا يده، ففي دقائق معدودة فُرِّق بين أم سلمة وبين زوجها وبين ابنها، زوجها هاجر إلى المدينة ليلحق برسول الله، وهي أُخذت إلى بيت أهلها، وابنها سلمة أخذه أهل زوجها، وبقيت فيما تروي الروايات عاماً بأكمله تذهب إلى التنعيم، وتبكي وفي روايات سبعة أيام، ، إلى أن رق بعض أهلها وسمحوا لها أن تلحق بزوجها، وجاء من استعطف أهل زوجها أيـعقل أن تذهب إلى المدينة وابنها عندكم، موضوع الحكم الشرعي له تعريف دقيق، أما هي فمن شدة فرحها لأنه سُمح لها أن تلحق برسول الله وبزوجها ومعها ابنها، خافت أن ينشأ ظرف آخر فيعودوا و يمنعونها، لذلك رأساً أعدت ناقة وركبت مع ابنها وانطلقت من مكة، رآها رجل مشرك في التنعيم، قال: إلى أين ذاهبة قالت: إلى المدينة لألحق بزوجي، فقال: من معك، قالت: ما معي أحد إلا الله، وابني هذا، الرواية من الصعب أنْ تصدق، هذا المشرك طيلة اثني عشر يوماً وهو يقود جملها إلى المدينة، بعد مرحلة من السير ينيخ الجمل، ويبتعد بعيداً حتى لا يراها، فإذا ذهبت لتستريح عاد وهيأ الجمل، وقد استراح هو أيضا، ثم هيأ الجمل لتركب، ويعود فيقوده، وليس له شيء في المدينة، بعد أن أوصلها عاد إلى مكة، فقد مضى أربعةٌ وعشرون يومًا بلياليها لم ينظر إليها، قالت: ما رأيت إنساناً أشرف منه.
 وسيدنا يوسف لأنه قال: معاذ الله، كم إنسان مِن يوضِع في ظرف مشابه لسيدنا يوسف، ويرى هذا مغنماً، ويسقط في الوحل، والرسول اللهم صلِّ عليه بلغه أن شخصًا اعتدى على زوجة جار مسافر، ولديهم كلب عقور قتله، فقال عليه الصلاة والسلام: خان صاحبه والكلب قتله، والكلب خير منه.
لقد درسنا اليوم العفة عن المال، والعفة عن النساء، وإذا كنت عفيفاً عن المال والنساء، كنت في حصن حصين ولا يستطيع أحد على وجه الأرض أن ينالك بأذى أو أن يتهمك ولا أن يهددك.
 مرة سمعت امرأة طلبت دينًا من شخص وهي جاهلة، كيف يأخذ منها سندًا ضمانا للمال، فقال لها أتصور معك في الأستديو، فتصور معها ومعه الصورة، إن امتنعت عن الدفع فيهددها بالصورة، شيء مخيف، الإنسان دائماً يجب أن يعلم أنه بعفته يكون قويًا، بعفته عن المال يكون رافعًا رأسه، بعفته عن النساء يكون محصنًا.
وبالإيمان يكون عفيفًا عن المحارم عفيف عن المطامع، قال عليه الصلاة والسلام:

 

((...إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ..))

 

(رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو)

 اثنان ؛ رجل غني ورجل قوي، هذان الإنسانان لا تحل لهم الصدقة، إلا في حالات نادرة جداً، رجل غني افتقر، لكنه قوي، إذا كان غنيًّا وله شأن اجتماعي كبير وافتقر فجأةً فليس معقولاً أن نقول له: اعمل عتالاً، بل نعطيه من مال الزكاة، ونحن نحفظ له ماء وجهه، هذا هو الحكم الشرعي.
أما بشكل عام فالقوي لا يجوز أن يعطى من الزكاة، والغني لا يعطى من الزكاة، وهناك حالة ثانية، قوي ولا يوجد عمل، بل بطالة، والآن العالم كله يعاني من أكبر مشكلة ألا وهي البطالة، في فرنسا ستة عشر مليونًا أو ستة عشر بالمائة لست متأكداً، يعانون من البطالة، نسبة مذهلة، والبطالة مخيفة، لذلك تأمين الأعمال من أعظم الأعمال الصالحة.
 مرة أخ كريم عنده معمل قال لي: لا أربح، والقصة قديمة، المواد الأولية صعب تأمينها، وتأمينها بشكل صحيح غير ممكن، وبشكل غير نظامي هناك مسؤولية كبيرة، وعنده ثمانون عاملاً، والعمال لهم تأمينات، إن أغلق المعمل يدفع مبلغًا ضخمًا تأمينات وتعويضَ عمل، وإن أحضر بضاعة غير نظامي فالخطر كبير من الجمارك، والبضاعة النظامية غير موجودة، قال لي: فوقعت في حيرة كبيرة، ماذا أعمل، بعد حين توفرت المواد أولية، وشعر أنه يميل إلى ترك العمل، قلت له: ثماني عشرة أسرة توفر لها قوتها، ولو كنتَ لا تربح أبدًا، لكن هذا المعمل أنتج ما يغطي مصاريف المعمل، ورواتب العمال، فأنت إذًا قمت بعمل عظيم، أنت صنت ثمانين أسرة من الضياع، لذلك سيدنا عمر قال لأحد الولاة: ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب، قال: أقطع يده، قال: وإذا جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك، لماذا العمل محبب والربا محرم ؟ أنت افتح محلاً، واعمل مؤسسة، أو شركة تشغل خمس مائة شخص وأنت لا تدري، يعمل عندك خمس مائة بين موظفين ومهندسين ومحاسبين ومندوب مبيعات، فأنت تشغل خمس مائة شخص، وإليكم بيان ذلك، فالبضاعة طبعا مستوردة، و تحتاج إلى مخلص جمركي، والمخلص لديه موظفون وآلات، وهؤلاء لهم رواتب شهرية، والمخلص يحتاج إلى مطبوعات، يكلف بها المطبعة، كما يحتاج إلى وسيلة نقل، وهذه تحتاج إلى تصليح بين الحين والآخر، كذلك لا بد للمطبعة من حبر وورق و عمال، وهذه المؤسسة تحتاج إلى موظف يجيد اللغة الأجنبية للمراسلات وشحن البضاعة، ولا بد من مكاتب شحن، وهكذا، فالمؤسسة إذًا أو الشركة التي تمّ تأسيسها توظف لديها ثلاثمائة عامل وموظف أو أربعمائة، معنى ذلك أن الله أراد لنا أن نكسب المال عن طريق العمل، وبذلك تتوزع الكتلة النقدية بين الناس، وكمثل بسيط، لو أن شابا عمل في هذه المؤسسة أو غيرها وكان له دخل يقدَّر بخمسة أو ستة آلاف ليرة شهرية، فإنه يستطيع أن يكون خارج دمشق فيبيت يستأجره بألفين تقريبا، ويتزوج ويكوِّن أسرة، و يكرمه الله بذرية تملأ عليه البيت سعادة، وقد يعمل عملاً آخر إضافيا بعد الظهر، أو في المساء فيصير صحيح النفس، لأن دخله يغنيه، سويًّا في صحته، منتجاً في وطنه، راعيًا لأسرته، كريما في مجتمعه.
 وكل إنسان يكسب المال عن طريق الأعمال يسهم في تخفيف البطالة وهو لا يدري، والبطالة مرض خطير، قال أهل الخبرة: ما ذهب الفقر إلى بلد إلا قالت له الجريمة خذني معك.
كاد الفقر أن يكون كفراً،

((...إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ إِلا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ وَمَنْ سَأَلَ النَّاسَ لِيُثْرِيَ بِهِ مَالَهُ كَانَ خُمُوشًا فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرَضْفًا يَأْكُلُهُ مِنْ جَهَنَّمَ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُقِلَّ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُكْثِرْ ))

(رواه الترمذي)

 أنا لا أحب أن أزهدكم في العمل الصالح، لكن من فضل الله عز وجل لنا إخوة كرام لهم أيادٍ بيضاء على هذه البلدة، هؤلاء الإخوة تمكنوا من تأسيس جمعية تكافح التسول، فقال لي أخ كريم منهم: نحن ألقينا القبض على ألف ومائة متسول في دمشق، خمسة فقط منهم فقراء، وفيهم مَن يملك سبع مائة ألف، وبينهم واحدة رصيدها في البنك ثمان مائة ألف، وواحدة أخرى تملك خمس مائة ألف، أغنى منا كلنا، وهي متسولة.
وأخ آخر أقسم بالله: وهو عندي صادق أنه يعرف متسولاً سلم محلاً بأربعين مليونًا، وهو متسول وعنده سيارتان عموميتان، كما يملك بيتين في ضاحية القدم .

 

((...إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ...))

 قبل أن تلقي المال جزافاً تأكَّدْ، فمنذ يومين قصة طفل صغير والمطر ينهمر، قال لي: أنا جائع، فنظرت إليه حافيًا، لا حذاء ينتعله، ما هي قصتك يا بني ؟ قال: أنا أمي مطلقة وخالتي طردتني وأنا جائع، أين أمك ؟ في حوران، في درعا كلامه قصة مركبة، أحد إخواننا أمن له حذاء، وأطعمه، وأنا أعطيته مائة ليرة ليذهب إلى درعا، ثم رأيته في مكان وقد خلع الحذاء وعاد حافياً، فهذه أحوال النصابين، فانظر أين تضع صدقَتك.
يقـطع القـلب، أمه مطلقة، وخالته طردته، وجائع، والمطر ينهمر، ويسير حافيًا، أعطيته مائة ليرة ليذهب إلى درعا وأحد إخواننا أطعمه وأمن له حذاء، وكلامه هذا تلفيق واختلاق.
واحدة تتسوّل، عندها بناء مؤلَّف من ثلاثة طوابق، كل ولد من أولادها في طابق، فلما تحققوا وجدوها صاحبة البناء، لذلك فالتسول مرض، وقد سألوا متسولاً: أنت معك فكيف تسأل الناس ؟ فقال: القضية قضية مبدأ.

 

 

((...إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ...))

 إنّ الإنسان حينما يعمل يرفع رأسه، إني أرى الرجل ليس له عمل فيسقط من عيني.

 

 

((...إِلا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ...))

 غرم يعني عليه دية، قَتَلَ خطأً في حادثِ سير، والدِّية مائة ألف، ولا يملك، فهذا اسمه غرم مفظع، أو صار عنده إشكال، أحيانا بعض المحاسبين يُسرَق منهم مال، مليون ليرة اغتُصِبت منه في الطريق، ولا مجال أمامه إلا أن يدفع المبلغ، فتلك حالات نادرة، غرم مُفظع، وفقر مدقع، هذا إذا سأل فلا مانع لديه.
 ولكن في المقابل فقد التقيت مع رجل زوجته أصيبت بمرض في أمعائها، سأل طبيبًا فقال له: تحتاج إلى تنظير، ولا يملك ثمن التنظير، فأهمل التنظير، بعد أشهر صار لديها ورم خبيث في الأمعاء، وانتقل إلى كل الجسم، أنا أشعر بخطأ كبير ارتكبه هذا الرجل، يجب أن يسأل، وألف إنسان يعطيه، وليس واحدًا، لا زلنا بخير، امرأة قالت لقريبة لي: في أثناء المعالجة عند طبيب الأسنان عرف أنها بحاجة إلى عملية لابنها فأعطاها المبلغ بكامله، امرأة ثانية ابنها بحاجة إلى عملية في القلب، لها جار أعطاها مائتي ألف، بلدنا فيه خير كبير، نحن بفضل الله، قبل فترة جمعنا إلى المنكوبين نتيجة فيضان مياه الأمطار، فهذا المسجد المتواضع القائم في حي شعبي جمع أكبر رقم في دمشق، بعد خطبة الجمعة، عدا جامع واحد لأنه جمع مرتين، فلذلك أيها الإخوة موضوع العفة أولاً، وقد ذكرت هذه القصص وأنا أقصد العبرة منها، فقبل أن تلقي المال جزافا انتبه إلى أنه في المجتمع مؤمن عزيز لا يسأل، يتحلّى بعفة تامة، قال تعالى:

 

 

﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)﴾

 

( سورة البقرة )

 ابــحث عن هؤلاء، الشيء الثاني، ما دام الذي يستحق أن تعطيه لا يسألك يترتب عليك واجب لم يكن في الحسبان، وهو أن تسأل عنه، فلا بد من أن تسأل عن كل محتاج.

 

((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: عُرِضَ عَلَيَّ أَوَّلُ ثَلاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ شَهِيدٌ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ وَعَبْدٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَنَصَحَ لِمَوَالِيهِ))

 

(رواه الترمذي)

 شهيد أمْر بدهي، عفيف متعفف، العفة داخلية، والتعفف ظاهري، ذات مرة قلت لكم: أخ أحب أن يعمر جامعًا بالميدان بنهر عائشة، وبحث عن أرض مناسبة، هو رجل من أهل اليسار الغنى، وحجمه المالي كبير، فشاهد أرضًا مناسبة بثلاثة ملايين ونصف المليون، سأل عن صاحبها وصاحبها ورثها منذ أيام، آذن مدرسة لا يملك من الدنيا شيئًا إلا ثلاثة آلاف ليرة راتبه، وعنده خمسة أولاد، فقال له: هذا شيك بمليوني ليرة والمليون والنصف عند التنازل في الأوقاف، فقال له: ما شأن الأوقاف ؟ فقال له: نريد أن نبني عليها جامعًا، فقال له: تبنون جامعًا، فأرجع الشيك لصاحبه، وقال: أنا أولى منك أن أقدمها في سبيل الله، وقدمها فعلاً وأحد إخواننا عمّر المسجد، وهذه القصة واقعية وصارخة في واقعيتها، وعين صاحب الأرض الأصلي أيْ آذن المدرسة ناطورًا، ورتّب أربعة آلاف ليرة في الشهر فما رضي أن يأخذ المبلغ، وقال له: هذا كثير، فقال له: هكذا أجرة الناطور في أيّ مكان في الشام، فرضي أن يأخذ أربعة آلاف، وبشق الأنفس.
 يقول هذا الغني الذي لم يستطع أن يشتري الأرض منه: في حياتي ما صغرت أمام شخص كما صغرت أمام هذا الإنسان، احتقر نفسه، فقال أنا أملك مائتي مليون، وأستطيع أنْ أدفع ثلاثة ملايين ونصف المليون، وهذا المبلغ بالنسبة لي لا يقدِّم ولا يؤخِّر، أما هو فلا يملك من الدنيا سوى هذا المبلغ، وتنازل عنه للمسجد، هذه هي العفة، عفت نفسه عن المال، ورأى أن العفة هي المال، ولعلها أغلى وأثمن.

 

((مرة سيدنا ربيعة رضي الله عنه، خدم النبي اللهم صلِّ عليه، وكل خدمة تقدم للنبي الكريم يراها ديناً عليه، فليس هناك عنصرية، هذا الصحابي ربيعة بن كعب خدم النبي سبعة أيام، فقال النبي: يا ربيعة سلني حاجتك، قال له: أمهلني، رآها فرصة ذهبية، لن أتسرع بالجواب، بل انصرف سيدنا ربيعة وهو بلا زوجة ولا ولد ولا بيت، ينام في المسجد مع أهل الصفة، فقير، فقال: لو سألته أن يزوجني أو أن يعطيني مالاً ينتهي هذا العطاء عند الموت، سأسأله أن أكون رفيقه في الجنة، قال له النبي ثاني يوم: ماذا عندك يا ربيعة، قال: أسألك أن تسأل الله لي أن أكون معك في الجنة، فقال: من علمك أن تقول هذا، قال: والله ما علمني أحد، لكن آثرت الآخرة على الدنيا، فالنبي أعجبه فقال: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ))

 

(( فعن رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي سَلْ فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُ هُوَ ذَاكَ قَالَ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ))

(رواه مسلم)

 وهناك أمر مهم، فمهما كان لك علاقة طيبة مع والدك الذي هو مدرس رياضيات مثلاً، ووالدك نزيه، إذا لم تدرس والمسألة حللتها بنفسك لم ينجحك، فهناك شيء عليك أنت حصرًا، أبوك أستاذ رياضيات، وأنت تلميذه، وغداً امتحان وأوراق مغلقة وأبوك يعرف خطك، ولكن لا يمكن أن ينجحك إذا لم تجب الإجابات الصحيحة.
 مرة خطر في بالي مثل ؛ لو أنّ ملكًا قال له ابنه: أريد سيارة، طائرة خاصة، بيتًا فخًام، أتزوج، فحقق له رغباته كلها، فقال له: أريد أن أكون مدير جامعة، فقال له: هذه عليك وليست عليَّ، خذ دكتوراه أولاً حتى أعينك، لا تُحل بالمال، تحتاج إلى علم.
فقال له: أسألك أن تسأل الله لي أن أكون معك في الجنة، فقال له: أعني على نفسك بكثرة السجود.
لذلك دعاء النبي في أعلى درجة من الأدب ؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى الأسْلَمِيِّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ

(( مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى اللَّهِ أَوْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ لِيَقُلْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ وَالسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ أَسْأَلُكَ أَلا تَدَعَ لِي ذَنْبًا إِلا غَفَرْتَهُ ولا هَمًّا إِلا فَرَّجْتَهُ ولا حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إِلا قَضَيْتَهَا لِي ثُمَّ يَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مَا شَاءَ فَإِنَّهُ يُقَدَّرُ))

(رواه الترمذي)

 موجبات، الله كبير تطلب منه الجنة بلا ثمن، أفمِن المعقول أنْ تدع بائع سجاد يفرد لك خمسين سجادة، هذه بثمانمائة ألف، وهذه بمليون، هذه إيرانية، هذه أصفهانية، وتلك كاشانية، وتقول له: خذ ثمن هذه خمس ليرات ؟
أمِن المعقول أن تدفع ثمن سجادة قيمتها ثمانمائة ألف خمس ليرات ؟ أَوَ تريد جنة بركعتين بلا وضوء، حضر حفلة ومولدًا، وقام بما يُسمّى حضرة، أهذا ثمن الجنة، إنه خداع ولهو.

 

((عن أبي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ ))

 

(رواه الترمذي)

 وطلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب.

 

((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: عُرِضَ عَلَيَّ أَوَّلُ ثَلاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ شَهِيدٌ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ وَعَبْدٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَنَصَحَ لِمَوَالِيهِ))

 

(رواه الترمذي)

 عفيف من الداخل، متعفف من الخارج، لا يسأل، وإذا أعطي يرفض، واللهِ حدثني أخ عن شخص يسكن في بيت أجرة، وهو موظف، ومحمي من القانون، ومرتبته عالية، فقدم البــيت لصاحبه، ونام سنة ونصف في مكتبه، وزوجته أرسلها إلى بيت أهلها، وما سأل أحدًا بأنه يريد بيتًا، فهل هناك مثل هذه الحالات ؟ الإنسان العفيف كبير، عفة عن المطامع عفة عن المحارم، عفة عن المال وعفة عن النساء.

 

((عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، إِنَّ نَاسًا مِنَ الأنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ: مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ ))

 

(رواه البخاري)

 قال لي أحدهم: دخلت إلى بستان كله خيرات وثمار وأشجار، وشجرة من شجر التفاح مثقلة بحملها، وعليها تفاحة أكبر قياس، وصفراء، ولها خد أحمر، يعني تُشتهَى، وقال له صاحب البستان: تجوَّلْ وكلْ تحب، قال: تاقت نفسي أن آكل هذه التفاحة كثيراً، فهي مغرية ؛ حجمٌ ولونٌ ورائحة، وتجولتُ في البستان لكن نفسي عفت أن قطفها وأكلها، قال لي: بعد الطعام وضع لنا طبق تفاح، وهذه التفاحة في أعلى الطبق.
نفسه عفت أن يأخذها وجاء صاحب البيت وقدمها له، قال لي: أكلتها من دون أن أسأل، بل ساقها الله تكرمةً، طبعاً هذا مثل بسيط لكن له معنى كبير.
لي كلمة أقولها من زمن، إن هذه التفاحة على الغصن الثالث بالفرع الخامس، الشجرة الثانية في بستان، فلان في منطقة كذا هذه لفلان، الآن فلان يمكن أن يأخذها سرقة، وممكن أن يأخذها تسولاً، وممكن أن يشتريها، وممكن أن تقدم له هدية، وممكن أن تقدم له ضيافة، فهي له، والإنسان العاقل يتعفف، فالذي لك لك.
مرة زارني أخ كريم، عندي كاتو قدمتها له، أكل أول قطعة دعا دعاء واللهِ أبكاني، قال: سبحان من قسم لنا هذا، ولا ينسى من فضله أحدًا.
 أنت عبـد من عباده لا ينساك من فضله، هذا الكلام أقوله للشباب لك عند الله زوجة وبيت وعمل، لستَ محرومًا، ولكن كل شيء له أوان، من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، له أوان اصبر على الحرام يأتِك الحلال، وهناك حالات وقصص كثير، إنسان تعفف، وحين تعفف أعطاه الله، وإنسان سقط، مد يده إلى الحرام فقصمه الله.
 لا بد من امتحان، الله عز وجل يحيطك بسور محكم الإغلاق، إلى أن تيأس من الناس يفتح لك باب السماء، إذاً:

 

((...وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ ))

 

((عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى ))

(رواه مسلم)

 احفظوا هذه القاعدة ؛ ثلاثة أركان للأخلاق، صدق، أمانة، عفة، صدق بالحديث، أمانة بالتعامل، عفة عن النساء والأموال، هذه أركان الأخلاق، وقول سيدنا جعفر: كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونسيء الجوار ونقطع الرحم، حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه.
هذه أركان الأخلاق عفاف، نسب، تاج يوضع على رؤوس المؤمنين، عفاف صدق أمانة.
سيدنا الصديق قال: ما ندم على شيء فاته من الدنيا قط.

 

((عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا حِفْظُ أَمَانَةٍ وَصِدْقُ حَدِيثٍ وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ وَعِفَّةٌ فِي طُهْرٍ ))

 

(رواه أحمد)

 قال أحد كبار العلماء وله أم في مدينة أرادت أن تجعله عالماً، أعطته أربعين ديناراً ذهبياً، ووجهته إلى البصرة مع قافلة لطلب العلم هناك، يعني جمعت كل ما تملك، وأعطته لابنها الصغير، وأوصته ألاّ يكذب، وفي الطريق قطاع طرق، أول قاطع طريق أوقفه، ما معك يا غلام؟ قال له: معي أربعون دينارًا ذهبيًا، اعتبره مجنونًا، فقال له سر، ولم يصدقه، القاطع الثاني أو الحاجز الثاني، ما معك يا غلام ؟ قال له معي أربعون دينارًا، قال له: أتكذب، قال: لا، والله فلِم ذكرت هذا ؟ فقال له: لأن أمي أوصتني ألاّ أكذب، فأنا أخاف أن أخون عهد أمي، فبكى هذا اللص القاطع، قال: أنت تخاف أن تخون عهد أمك، وأنا لا أخشى أن أخون عهد الله، فتاب على يديه وتاب من حوله من اللصوص على يدي هذا الغلام، هذا العالم الجيلاني إن شاء الله.

 

(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا حِفْظُ أَمَانَةٍ وَصِدْقُ حَدِيثٍ وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ وَعِفَّةٌ فِي طُهْرٍ ))

 

(رواه أحمد)

 لكن إذا الشخص سألته زوجته: أتحبني ؟ وكان لا يحبها، فلا ينبغي عليه أن يصدق، هنا مسموح لك أن تكذب.

 

((عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لأعْلَمُ أَوَّلَ ثَلاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ الشَّهِيدُ وَعَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ وَفَقِيرٌ عَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ وَإِنِّي لأعْلَمُ أَوَّلَ ثَلاثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارَ سُلْطَانٌ مُتَسَلِّطٌ وَذُو ثَرْوَةٍ مِنْ مَالٍ لا يُؤَدِّي حَقَّهُ وَفَقِيرٌ فَخُورٌ ))

 

(رواه أحمد)

 ورد في الأثر القدسي: " أحب ثلاثاً وحبي لثلاث أشد، من هؤلاء الثلاثة، أحب الفقراء وحبي للفقير الكريم أشد، وأحب الأغنياء وحبي للغني السخي أشد "

 

(( عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ))

 

(رواه أحمد)

 هناك حديث شريف يخلع القلب:

 

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا قَالَ لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ ))

 

(رواه أحمد)

 الخائن ما فيه إيمان أبداً، والذي يغدر ليس فيه إيمان أبداً.

 

((عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأشْجَعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - وَأَوْمَأَ يَزِيدُ بِالْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ - امْرَأَةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى يَتَامَاهَا حَتَّى بَانُوا أَوْ مَاتُوا *))

 

(رواه أبو داود)

 يعني امرأة مرغوبة كثيراً ومطلوبة جداً، تعففت من أجل أولادها.
أيها الإخوة الكرام ؛ أرجو الله سبحانه وتعالى أن تنقلب هذه الأحاديث إلى سلوك، وإلى عفة حقيقية، وأنت بالعفة أقوى إنسان، تعيش عاليَ الرأس، لأنك عزيز والله هو الغني، وكل إنسان ابتغى وجه الله فإنّ الله يغنيه.

 

تحميل النص

إخفاء الصور