وضع داكن
23-04-2024
Logo
موضوعات فقهية متفرقة - الدرس : 28 - أحاديث في باب الصبر .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .

الصبر :

 أيها الأخوة المؤمنون ، مع درسٍ جديد من دروس الحديث النَّبوي الشريف .
 بعض الأحاديث في هذا اليوم معقودةٌ تحت باب الصَبر ، والصَّبر كما قال عليه الصلاة والسلام نصف الإيمان ، الإيمان نصفٌ صبرٌ ، ونصْفٌ شكرٌ ، فالصبر من الإيمان كالرأس من الجسد فإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان .
 والصَّبر أساسه المعرفة ، فإذا عرفْت أنّ الله سبحانه وتعالى رحيمٌ بك ، وخلقكَ لِيُسْعِدَك فإذا رآك قد حِدْتَ عن الطريق الذي يؤدِّي إلى سعادتك ساقَ لك من الشَّدائد ما يُعيدُك إلى الطريق الصحيح ، فالصَّبر معرفة ، ولن تكون صابرًا إلا إذا كنتَ عارفًا ، فإذا عرفْت الله ، وعرفْت حبَّه ، وعرفْت حِرْصهُ ورحمتهُ ، ولماذا خَلَقَكَ ؟ وعرفْت أنّ هذه الدُّنيا دار عمل ، فإذا جَعَلتها دار أمل لا بد من عِلاج ، وإذا علمْت أنّ هذه الدنيا دار تكليف وجعلتها دار تَشريف فلابدّ من عِلاج ، إذا عرفْت أنَّ الدنيا دارَ سَعي والآخرة دار جزاء فعَكَسْت الآية لابدَّ من عِلاج، فالإنسان متى يُعالج ؟ ومتى يقسو الأب على ابنِهِ ؟ لا يمكن لأبٍ يرى ابنهُ على الطريق الصحيح ، وفي الاتِّجاه الصحيح ، وفي السرعة المناسبة ويقسُو عليه ، ويؤكِّدُ هذا قوله تعالى :

﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَءَامَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾

[سورة النساء: 147]

 فلمّا الإنسان تأتيه الشدائد ، والشدائد أنواع منوَّعة ، هناك شدائد نفْسِيَّة ، وهناك شدائد جسدِيَّة كالأمراض ، وشدائد ضيق في الدَّخْل ، وشدائِد ألم ، وشدائِد قهر ، وشدائِد فقد الحُريَّة ، أنواع الشدائد أنواع منوَّعة ، ويجب أن تعلمَ عِلْم اليقين أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يسوقها إلا لِحِكمةٍ بالغة لو كُشِفَتْ لك لذابَتْ نفسُكَ محبَّةً لهذا الربّ العظيم ، والمؤمن يعرف هذا الكلام ، والمؤمن الصادق يقيس على ما قد سلف ، أيَّةُ مشكلةٍ ساقها الله إليك انتَهَت بثَمَرةٍ طيِّبة، قد يكون هناك انْحِراف طفيف ، وسوء ظنٍّ بالله تعالى ، شِرْكٌ خفيّ ، اعْتِماد على غير الله ، وطَمَع في الدنيا ، وطمأنينة لها ، تأتي المشكلة لِتُطَهِّر النَفس مِمَّا علِقَ بها من حبّ الدنيا، يُرْوى أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام زار أحد أصحابه وكان مريضًا فقال هذا الصحابيّ المريض: " يا رسول الله اُدع الله أن يرْحمني ؟ فقال: يا ربّ ارْحَمْهُ ؟ فقال الله عز وجل : وعِزَّتي وجلالي لا أقبضُ عبْدِيَ المؤمن وأنا أحِبّ أن أرحمَهُ إلا ابتَلَيْتُهُ بكلّ سيّئةٍ كان عملها سُقْمًا في جسَدِه ، أو إقْتارًا في رزقه ، أو مصيبة في ماله أو ولده ، حتى أبلغَ منه مثل الذرّ فإذا بقِيَ عليه شيءٍ شدَّدْتُ عليه سكَرات الموت حتى يلْقاني كيَوْم ولدَتْهُ أُمُّه "

الصبر علم :

 أُريد أن أقول لكم كلمة : والله الذي لا إله إلا هو لو كُشِفَ لك الغِطاء من أنَّ الله سبحانه وتعالى إذا تابعَ عبْدهُ المؤمن بِعِقابٍ إثْرَ كلّ مَعْصِيَة لكان هذا العبدُ مكرَّمًا عند الله عز وجل ، فإذا تركَهُ هملاً فهذه هي الإهانة ، الإهانة ليْسَ أن يدَعَكَ الله وانْحرافك ، الإهانة أن يدَعَكَ وانْحِرافَكَ من دون معالجة ، ولكنَّ التَّكريم أن يُتابِعَك على كلّ ذَنْب تقترفهُ عُقوبةً أو ضيقًا أو شِدَّة .
 أريد أن أقول لكم : إنَ الصَّبر عِلم ، والإنسان لن يصبر إلا إذا كان عالمًا بالله عز وجل ، حينما ترى الأب يُضيِّقُ على ابنِهِ ، فأنت كأبٍ آخر تعرف أنّ هذا رحمة ولُطف و عَطف وشفقَة وحِرص ، لذلك مجموعة أحاديث اليوم من باب الصَّبر ، والله سبحانه وتعالى يقول:

﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾

[سورة الزمر : 10]

 ما أرْوَعَ المؤمن حينما تأتيه الشِّدَة فيقول : يا ربّي لك الحمْد ، وأنا راضٍ بِحُكْمك، أليْسَ النبي عليه الصلاة والسلام قدوتنا في هذا الموضوع ؟ ألم يذهب إلى الطائف مَشْيًا على قدَمَيْه ؟ ألمْ يلْقَ من أهل الطائف ردًّا قبيحًا واسْتهزاءً وكُفرًا وتكذيبًا ؟ ألم يضيِّق عليه أهل الطائف ويرجئوه إلى الحائط ؟ أما دعا عليه الصلاة والسلام قائلاً : " اللَّهم إنِّي أشْكو إليك ضَعْف قوَّتي وقلَّة حيلتي وهواني على الناس ، يا ربّ المستضعفين إلى من تكلني ؟ إلى عدوٍّ ملَكْتهُ أمري ؟ إن لم يكن بك عليّ غضبٌ فلا أُبالي ، ولك العتبى حتى ترضى ، ولكنَّ عافيتَكَ أوسَعُ لي " هذا هو حال المؤمن ، والنبي الكريم قُدوَةٌ لنا ، لا تخْلو حياة أحدنا من شدَّة ، قال تعالى:

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَريبٌ ﴾

[سورة البقرة: 214]

 قال تعالى:

﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾

[سورة العنكبوت: 2]

 والله الذي لا إله إلا هو من ظنَّ أنَّه يُبْتلى أو لا يُبْتلى فقد ضلَ وأخطأ ، الصحيح أنَّهُ لابدَّ من أن نُبْتَلى ، وإنَّ الله سبحانه وتعالى جعَلَ هذه الحياة الدنيا دار ابْتِلاء وامْتِحان ، المركبة لا تُمتحَن في الطريق النازلة ، مهما كانت المركبة ضعيفةً ، ففي الطريق النازلة تُسْرع ، ولكنَّ المركبة لا تمْتحن إلا في الطريق الصاعدة ، وكذا الإنسان لا يُمْتحنُ بالرَّخاء فجَميع الناس يشكرون الله سبحانه وتعالى ، ولكنَّ البُطولة أن تشكرهُ في الشِّدة ، قال الإمام عليّ كرَم الله وجهه: " الرِضا بِمَكروه القضاء أرْفَعُ درجات اليقين " البُطولة وأنت في الضِّيق المادّي تقول : يا ربّ لك الحمد مِن أعماق أعماقك ، والبطولة في ساعة الشِدة ، وأنت في الضِّيق ، وأنت في الهمّ والحزن ، يا أرحم الراحمين بِرَحْمتِكَ أسْتغيث ، يا ذا الجلال والإكرام بِرَحمتك أسْتغيث ، اللهمّ إنِّ عبدك ، اللهمّ أنت خلقتني وأنا عبدك ، أبوء بذنبي ، حالة المؤمن حالةٌ راقيَة .

الصبر نصف الإيمان :

 قبل أن أمضي في الحديث عن أحاديث الصَّبْر لا بدّ أن تعرفوا أنَّ الصَّبْر نصف الإيمان ، والصَّبر تمامًا يُشبه مريضًا جالسًا على كرسي طبيب أسنان ، هذا المريض الواعي الراشد والواعي والعاقل مع أنَّ آلامًا مبرِّحة في الأسنان حين الحَفر ، وفي أثناء المعالجة ، لكنَ هذا المريض يضْغط على يدَيْه ويحْتملُ الآلام ، وفي النِهاية يشْكر الطبيب لأنَه يعلمُ علم اليقين أنَ هذا الذي يؤلِمُه هو في مَصْلحته .
 قلتُ لكم مرَةً أنّ أحد الأعراب كان يطوف بالبيت وهو يقول : يا ربّ هل أنت راضٍ عنِّي ؟! كان خلفهُ الإمام الشافعي فقال له : يا هذا ، هل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك؟! فقال : يا سبحان الله ! من أنت ؟ فقال : أنا الشافعي ، فقال : وكيف أرضى عنه وأنا أتمنَى رِضاه ؟ قال : إذا كان سرورك بالنِّقمة كَسُرورِكَ بالنِّعمة فقد رضيت عن الله ! هذه هي البطولة ، البُطولة عند الصَّدمة الأولى ، وعندما يأتي الخَبَرَ المؤْلِم ، هذا فعلُك ، وفِعلكَ لا يخلو من حكمة بالغة ، هذه إرادتك ، وهذه مشيئتك ، وهذا قضاؤُك ، وأنا راضٍ به ، والله كلمةُ : أنا راضٍ بهذا القضاء تعْدلُ الدنيا وما فيها ؛ لأنَّ هذه الكلمة امْتِحان ، وقد نَجَحْت في هذا الامتِحان، وسوف يمضي كلّ شيء ، الخَير سيَمضي ، والضِّيق سيَمْضي ، وتبقى هذه الكلمة التي قلتها معبِّرًا بها عن امْتِنانك ، وعن رضاك بِقَضاء الله ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " إذا أحبَّ الله عبده ابتلاه ، فإن صبَرَ اجْتباه ، وإن شكر اقْتَناهُ " معنى هذا أنِّي غالٍ عليك يا ربّ ، ومعنى هذا أنَّك لم تنْسَني ، ومعنى هذا أنَّك تحبّني ، ومعنى هذا أنَّه لولا حرصك عليّ لما ضيَّقْت عليّ ، ومعنى هذا أنَّك تريد أن تُقوِّمَ سُلوكي ، ومعنى هذا أنَّك تريد أن تقرِّبني إليك ، ومعنى هذا أنَّك تبتغي بِيَ مقامًا أعلى مِن مقامِي بهذه المصيبة .

المصائب محض عدل و فضل :

 المصائب أيُّها الأخوة الأكارم مَحْض فضْلٍ ، ومَحضُ عَدْلٍ ، وقد سمَّاها العلماء النِّعَم الباطنة في قوله تعالى:

﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾

[سورة لقمان: 20]

 النِّعَم الباطنة هي المصائب ، والدليل قوله تعالى:

﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

[ سورة آل عمران: 123 ]

 الإعزاز خَير ، والإذلال خَيْر ، والعطاء خَير ، والمنعُ خَير ، لذلك علماء التوحيد يحظِّرون على المسلم أنْ يذكر بعض أسماء الله عز وجل وحدها ، فلا بد أن تقول : المانع المعطي لأنَه يمنَعُ لِيُعْطي ، والضَّار النافع ، أيْ يضرّ لِيَنفَعَ ، والخافض الرافع ، يخفض لِيَرْفَعَ قال تعالى :

﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾

[سورة القصص: 4 ـ 6 ]

 هؤلاء المستضعفون نريد أن نمكِن لهم في الأرض ، قال تعالى:

﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾

محبة رسول الله تحتاج إلى بطولة و صبر :

 إذا أردْت أن تكون من عباد الله المقرَّبين فاسْتَعِدَّ للبَلاء ، ولكن إيَّاك أن تطلب البلاء فهذا سوءُ أدبٍ مع الله عز وجل .

(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ : قَال رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ ؟ فَقَالَ : انْظُرْ مَاذَا تَقُولُ ، قَالَ : وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ ، فَقَالَ : انْظُرْ مَاذَا تَقُولُ ، قَالَ : وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَقَالَ : إِنْ كُنْتَ تُحِبُّنِي فَأَعِدَّ لِلْفَقْرِ تِجْفَافًا فَإِنَّ الْفَقْرَ أَسْرَعُ إِلَى مَنْ يُحِبُّنِي مِنْ السَّيْلِ إِلَى مُنْتَهَاه ))

[ الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّل]

 هناك امْتِحان ، وهذه دَعوة كبيرة جدًّا أن تُحِبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه تحتاج إلى بطولة ، وإلى ابتِلاء ، وتحتاج إلى صَبْر ، أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أُلْقيَ القبض عليه ليقْتَل ويعذَّب قبل أن يُقْتَل تقدَّم منه أبو سفيان أظنّه خُبيْبًا ، فقال له : يا خُبَيب أتُريد أن يكون محمَّد مكانك وأنت معافى ؟ فقال خُبَيب رضي الله عنه : والله ما أحبّ أن أكون في أهلي وولدي ، وعند عافِيَة الدُّنيا ونعيمها ويُصاب رسول الله بِشَوْكَة ! هذا هو الإيمان ، هل أحْببْت في الله ؟ هل أعْطَيْت في الله ؟ هل منعْت لله ؟ ماذا قدَّمتَ ؟ ومع من وَقَفت ؟ من عادَيْتَ ؟ الإيمان مواقف ، والإيمان الْتِزام وبذْل وعطاءٌ ، فلذلك حينما يظنّ الإنسان أنَّ هذه الدنيا دار نعيم ، ودار مُتَعٍ وسُرور فقد وقعَ في خطأ كبير ، هذه الدنيا دار عمل ، ودار ابْتِلاء ، ودار بَذْل ، ودار عطاء ، النَّعيم المقيم في الآخرة، والسَّعادة العظمى في الآخرة ، والطمأنينة في الآخرة ، والتَّشريف في الآخرة ، أنت الآن في دار تَكليف ، هذه المقدِّمة أردْتُ أن تكون بين يديّ بعض هذه الأحاديث الشريفة .

من أحبه الله عجّل له التأديب في الدنيا قبل الآخرة :

 عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))

[الترمذي عَنْ أَنَسٍ]

 هذا العبد له إمكانيات طيِّبة ، ويحبّ الله ورسوله ، يُنْتَظَر منه أن يكون ذا مقامٍ عالٍ، هذا العبد مخلص ، يسأل الله عز وجل أن يطهِّرَ قلبه من الأغيار ، هذا هو طلبه ، فلهذا الطَّلَب العالي ، ولهذا السموّ الرفيع ، الله سبحانه وتعالى يُعجِّل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد الله بِعَبْدِهِ الشرّ أمْسكَ عنه بِذَنْبِهِ حتى يُوافي به إلى يوم القيامة ، يجبُ أن تعلموا عِلْم اليقين أنَّه في اللَّحظة التي يُتْركُ فيها العَبْد وشأنَهُ ، يُتْركُ فيها العَبد وذَنبهُ ، يُتْركُ فيها العبد وتقصيرهُ ، يُتْركُ فيها العَبد ومخالفته ، في هذه اللَّحظة يجب أن تعلمَ عِلْم اليقين أنَّك مُهانٌ عند الله تعالى ، أما إذا حاسبَكَ حِسابًا سريعًا ، انْحرفْتَ قليلاً فجاء العقاب ، وقصّرْت فجاء الدّواء ، تجاوَزت فجاء العلاج ، اتَّكَلْت على غيره فجاء التخلي ، أشْركت به فجاء التأديب ، إذا كنتَ كذلك فأنت في نعمة كبرى ، لأنَّ هذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى يحبُك ، وهذه النُّقطة مهمّة جدًّا .
 عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))

[الترمذي عَنْ أَنَسٍ]

 المؤمن كأنّ له رداءً أبيض ناصعًا فإذا وقعَ عليه شيءٌ مهما بدا صغيرًا يبْدو صارخًا ، الثَّوبُ الأبيَض الناصع البياض ، والنَظيف ، لو أنَّ شيئًا وقَعَ عليه لا يزيدُ عن أنملةٍ يبْدو صارخًا لذلك يُسارعُ صاحبُ الثَّوب الأبيَض إلى مسْح هذه البقعة الملوّنة ، ولكن هذا الذي يرْتدي ثوبًا أسْود قد تمرَّغَ به في الوَحل والزُّيوت ، وفي الشُّحوم ، لو ألْقَيْتَ عليه محبرة فلا يظهر لها أثر ، فهناك إنسان ثوبهُ أسْوَد ، وهناك من ثَوبُهُ أبْيَض ، فالمؤمن ثوبُهُ أبْيَض ، لذا ما مِن عثرةٍ ولا اخْتِلاجِ عِرْقٍ ولا خَدْش عودٍ إلا بما قدَمَتْ أيديكم وما يعْفو الله أكثر ، والآية الكريمة قوله تعالى:

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾

[سورة الشورى: 30 ]

 وما هنا اسم شرْط جازم ، ومعنى الشِّرط أنَّ تعلّق الجواب بِفِعل الشَّرط هو تعلُّق حَتمي .

أنواع المصائب :

 الآن عندنا نقطة مهمَّة جدًّا أتمنَاها عليكم جميعًا ، هذه النُّقطة أنّ المؤمن إذا أصابتْهُ مصيبة عليه أن يتَّهِم نفسهُ بالتَّقصير ، الله سبحانه وتعالى عادِل ، ورحيم ، ولا بدّ من زَلَّةٍ زَللْتَ بها ، ولا بدَّ من مَعْصِيَةٍ اقْترفتها ، ولا بدّ من مخالفةٍ وقعْتَ بها ، لا بدَ من تقصيرٍ بدَر منك ، ولا بدَّ من تَطاوُلٍ تكلَّمْت به ، ولا بدّ من شِرْك ، ومن اعْتِمادٍ على غير الله تعالى هكذا الأدَب ، إذا وقعْت في مشكلةٍ فاتَّهِم نفْسكَ ، أما إذا رأيْت أنَّ أخاك قد وقعَ في مشكلة فإيَّاك أن تتَّهِمَهُ ، فهذا من سوء الأدب وعليك أن تقول : هذه مصيبة أرْجو الله أن يرفعهُ بها ، فهذه اعْتبِرْها مصيبة رَفْع أما لك فاعْتَبِرْها مصيبة عِقاب ، وكما تعلمون هناك مصيبة القصْم ، وهناك مصيبة الرَّدع ، وهناك مصيبة الدَّفع ، وهناك مصيبة الرَفع ، وهناك مصيبة الكَشف ، فالقصْم لمَّا يسْتوفي الإنسان كلّ رغباته في الدنيا ويريد أن يفجر ويؤذي ، عندئذٍ يقْصِمهُ الله عز وجل ، هذه مصيبة القَصْم ، إذا طغي ، وبغى ، واعتدى ، وتكبَّرَ ، وأصْبحَ يزْدادُ شرًّا كلّ ساعةٍ فرحْمةٍ به يقْصمهُ الله سبحانه وتعالى ، أما مصيبة الرَّدع فقد ينْحرفُ الإنسان ، قد يأكل مالًا حراماً فيفقد أموالًا طائلة ، أكل أمس فأذهب أموالاً طائلةً ، مصيبة قاسية جدًّا ، هذه مصيبة الردع ، أما مصيبة الدفع ؛ مؤمن مستقيم لكنه مقصِّرٌ ، فتأتي المصيبةُ لتدفعه إلى الأمام ، أما الرفعُ مؤمن مستقيم و يسرع في طريقه إلى الله ، لكنه يحتمل ، و مادام يحتمل فيضاعف اللهُ له أجره بهذه المصيبة ، و أما الأنبياء ففي أنفسهم من الكمال ما لا يبدو إلا في المصيبة ، أي فيه آلات أو فيه محرِّكاتٌ جبَّارةٌ ذاتُ قوى عالية جدًّا لا تبدو إلا في طرق وعْرة جدًّا و في صعود حادٍّ جدًّا و إلا محرِّك آخر أدنى بكثير يقوم بهذه المهمَّة ، فهذه مصيبة الكشف ، و على كلٍّ إذا أراد اللهُ بعبده الخيرَ عجَّل له العقوبةَ في الدنيا ، و إذا أراد اللهُ بعبده الشَّرِّ أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة ، هذه الفكرةُ ضعْها في ذهنك ، إذا عجَّل اللهُ لك العقوبةَ فأنت محبوبٌ ، فأنت مرغوبٌ ، فأنت مطلوب ، محبوب و مرغوب و مطلوب ، و إذا تُرِكْت هملًا والعياذ بالله ، المصيبة عندئذ أن تُترك هملًا من دون عقاب .
 كلُّكم يعلم أب عنده ثلاثة أولاد ، ولد ابن ذكيٌّ و متفوِّقٌ ، و ابنٌ آخر ذكيٌّ و مقصِّر، وابنٌ ثالث أبله ، فهذا الأبُ لن يضيِّق على الأبلهِ لعدم الجدوى على التضييق عليه ، فيدعه و شأنه لا يحتاج إلى تأديب ، لكنَّ تأديب هذا الأب ينصبُّ على الابن الثالث الذكيِّ المقصِّر ، فالإنسان لمَّا يقصّر يبْتَلِيه اللهُ عز وجل ، فإذا تفوّق ربَّما ابتُليَ بنوع آخر ، فإذا تفوَّق في معرفة الله عز وجل له امتحاناتٌ من نوع أخر أرقى ، هناك متاعب مقدَّسةٌ و هناك متاعب مؤدِّبةٌ ، و هناك متاعب فيها عقوبة .

إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه :

 و قال النبيُّ عليه الصلاة و السلام :

((عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ))

[ الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]

 رواه الترمذي و قال حديث حسن ، الشقُّ الثاني من الحديث يؤكِّد المعنى الأول .
 ملخَّص هذه الكلمة المطوَّلةُ حول هذين الحديثين أنك إذا شعرتَ أن اللهَ يتابعك بالعقاب فهذه بادرةٌ طيِّبةٌ جدًّا ، و أنت محبوبٌ و مرغوبٌ و مطلوبٌ ، و إذا شعرت أن الله قد ترك الإنسانَ هملاً بلا عقاب مع إساءته ، و مع تقصيره ، و مع معصيته ، فهذه علامةٌ خطيرةٌ على أن الله سبحانه و تعالى تركه هملاً .

* * *

آثار عن فتوحات المسلمين في كتب الفرنجة :

 و الآن إلى الفقرة الثانية من قصَّة التابعي الجليل عبد الرحمن الغافقي .
 تحدَّثنا في الدرس الماضي عن القصَّة الأولى ، و اليوم نتحدَّث عن القصَّة الثانية و الأخيرةِ .
 الحقيقة أن الأجانب الفرنجة في كتبهم ، و في تاريخهم ، و في كتب أدبهم ، آثارٌ كثيرةٌ عن فتوحات المسلمين في بلاد الأندلس ، فالشاعر الإنجليزي سوذي يصف جيوش المسلمين التي غزتْ أوروبا بعد فتح الأندلس ، و تعلمون أن جيوش المسلمين فتحت الأندلس ، أي أسبانيا اليوم و البرتغال ، و بعدها توجَّهت إلى فتح أوروبا بدءًا بفرنسا ، ووصلتْ إلى مئة كيلومتر من باريس ، و في بعض الروايات إلى مسافة أربعة عشر كيلو متر من باريس فهذه المعركة الشهيرة ؛ معركة بلاط الشهداء يتحدَّث عنها بعضُ الأجانب ، فيقول الشاعرُ الإنجليزي سوذي يصف جيوش المسلمين التي غزت أوروبا بعد فتح الأندلس ، من عربٍ و بربرٍ ، جموعٌ لا تُحصَى من عرب و بربر و رومٍ خوارج و فرسٍ و قبطٍ و تتَر قد انضَوَوْا جميعا تحت لواء واحد يجمعهم إيمانٌ ثائرٌ راسخُ الفتُوَّة ، و حميَّةٌ متلظِيةٌ كالشَّرر ، و أخوَّةٌ مُذهلةٌ لا تفرِّق بين البشر ، تجمعهم أخوَّةٌ مذهلةٌ لا تفرِّق بين البشر ، قال تعالى:

﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "﴾

[سورة الانفال: 63 ]

 تجمعهم أخوَّةٌ مذهلةٌ لا تفرِّق بين البشر ، لم يكن قادتُهم أقلَّ منهم ثقةً بالنصر بعد أن ثمِلوا جميعاً بحُمَّى الظَّفرِ ، أي أنَّ النصرَ تتابع عليهم و اختالوا بتلك القوَّة القوية التي لا يقف أمامها شيءٌ ، هذه القوَّة القويةُ التي لا يقف أمامها شيءٌ ، و أيقنوا أنّ جيوشهم لا يمكن أن يُلِمَّ بها الكلالُ أي التعب ، فهي دائماً فتِيَّةٌ مشبوبةٌ كما انطلقتْ أوَّلَ مرة ، و آمنوا بأنها حيثما تحرَّكت مشى في رِكابها النصرُ و الغلبةُ ، و أنها ستندفع دائمًا إلى الأمام حتَّى تصبح مثل الرمال المُحرِقة المنتثرة على صحراء العرب ، و تقف فوق صخور مكة الصلبة .
 هذا مقطعٌ مترجَمٌ لقصيدة لشاعر إنجليزي اسمُه سوذي يصف فتوحَ المسلمين لأوروبا في عهد التابعيِّ الجليل عبد الرحمن الغافقي .

دخول الناس في الإسلام كان همّ الجيش الذي قاده عبدُ الرحمن الغافقي :

 مؤلِّفُ الكتاب يخاطب هذا الشاعر : لم تكن أيُّها الشاعرُ بعيدًا عن الحقيقة أو هائمًا في أودية الخيال في كثيرٍ ممَّا قلتَ ، فقد كانت الجيوشُ التي قادها المجاهدون لإخراج آبائك من جاهليَّتهم الجهلاء كما وصفتَ ، ففيها عربٌ أقوياء ، أقوياءُ بالله هبُّوا إليكم من الشام ، من الحجاز ، من نجدٍ ، من اليمن ، و من كلِّ مكان في جزيرة العرب كما تهُبُّ الريحُ المرسلَة ، و فيها بربرٌ أعزَّةٌ بالإسلام تدفَّقوا عليكم من فوق جبال الأطلس كما يتدفَّق السيلُ العرِم ، و فيها فُرْسٌ عافتْ عقولُهم وثنيةَ الأكاسرة و فاءت إلى دين التوحيد و صراط العزيز الحميد ، و فيها رُومٌ خوارج كما قلتَ ، و لكنَّهم خرجوا عن الظلم و الظُّلمات و انحازوا إلى نور الأرض و السموات ، وهُدُوا إلى الدين القيِّم ، و فيها قِبطٌ رفعوا عن رقابهم نيرَ العبودية للقياصرة ليعيشوا كما ولدتْهم أمَّهاتُهم أحرارًا في أكناف الإسلام ، نَعَم لقد كان الجيشُ الذي قاده عبدُ الرحمن الغافقي و أسلافُه لإنقاذ أجدادك من الجاهلية فيه الأبيضُ و الأسودُ و العربيُّ و الأعجميُّ ، و لكنَّهم انصهروا جميعًا في بوتقة الإسلام فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا ، و قد كان همُّهم كما ذكرتَ أن يدخلوا الغربَ في دين الله كما أدخلوا الشرقَ من قبلُ ، وأن يجعلوا البشريَّةَ كلَّها تُطأطِئ الرأسَ لإله الناس ، و أن يعُمَّ نورُ الإسلام بَطاحَكم و أوديتَكم ، و أن تشرق شمسُه في كلِّ بيتٍ من بيوتكم ، و أن يُسوِّيَ عدلُه بين ملوككم و سُوقتِكم ، و كانوا قد عزموا على أن يدفعوا أرواحَهم ثمنًا لهدايتكم إلى الله و إنقاذكم من النار .

القصة الأخيرة لجيش عبد الرحمن الغافقي :

 و بعد : فالقصَّةُ الأخيرةُ لهذا الجيش كما يلي: تناهتْ إلى دُوقِ أُوكتانيا - الدوق أي الحاكم؛ أوكتانيا مقاطعة من مقاطعات فرنسا - الأخبارُ المُفزِعةُ عن مصرع صهره عثمان بن أبي نُسعة ، و بلغته أنباءُ النهاية الحزينة التي صارت إليها ابنتُه الحسناءُ مِينِين ، ابنةُ هذا الدوقِ قِيدَتْ أسيرةً إلى دمشق ، وصهره الذي خان المسلمين في الأندلس قُتل ، فأدرك هذا الدوق - دوق أوكتانيا - أنّ طبول الحرب قد دقَّت ، و أيقن أنّ أسد الإسلام عبد الرحمن الغافقي مُمْسٍ في دياره أو مُصبِح ، فتأهَّب للدفاع عن كلّ شبر من أرضه دفاع المُستَميت ، و استعدَّ للنضال دون نفسه ومملكته استعدادَ المُسْتبسِل ، فقد كان يخشى أنْ يُساق هو الآخر أسيرًا إلى دار الخلافة في الشام كما سِيقتْ ابنتُه - الشامُ هي دمشقُ – التي كانت تحكم معظمَ جمهوريات الاتِّحاد السوفيتي ، و كانت تحكم شمالَ إفريقيا بكامله ، و بلادَ إسبانيا اليوم و البرتغال ، و جزءاً كبيراً من بلاد فرنسا ، قال تعالى:

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾

[سورة النور: 55 ]

 فقد كان يخشى أن يُساق هو الآخرُ أسيراً إلى دار الخلافة في الشام كما سيقت ابنتُه ، أو أنْ يُحمَل رأسُه على طبقٍ و يُطاف به في أسواق دمشق كما طِيفَ برأس لذِرِيق ملكِ إسباني من قبلُ ، لم يُكذِّب عبدُ الرحمن الغافقي ظنَّ الدوق فانطلق بجيشه من شمال الأندلس ، انطلق كالإعصار و انصبَّ على جنود فرنسا من فوق جبال البِرِنيه كما ينصبُّ السيفُ ، و كان عدَّةُ جيشه مئة ألف مجاهد ، بين جوانح كلٍّ منهم قلبُ شجاع لا تأخذه في الله لومةُ لائمٍ ، في عروقه عزيمة ماردٍ ، يمَّم الجيشُ الإسلاميُّ وجهه شطرَ مدينة آرِل الواقعة على ضفاف نهر الرُّون ، فلقد كان له معها حساب ، ذلك أنَّ آرل هذه كانت قد صالحت المسلمين على أن تدفع لهم الجزيةَ فلمَّا استُشهد السَّمحُ بن مالك الخولاني في معركة تولوز و تضعْضَع المسلمون لمصرعه ، نبذ أهلُ آرل الطاعةَ ، و نكثوا العهدَ ، و امتنعوا عن دفع الجزية ، و لما بلغ عبدُ الرحمن الغافقي ضواحي المدينة وجد أنَّ أَوَد دوق أوكتانيا قد عبَّأ قوَّاته الكثيفة عندها ، و حشدها حول تُخومها ، و تصدَّى لردّ الزحف الإسلامي عليها ثم ما لبث أن التقى الجيشان وجهًا لوجهٍ و دارت بين الفريقين معركةٌ طحونٌ ، قذف خلالها عبد الرحمن الغافقي بكتائبَ من جيشه تحبّ الموتَ أكثر مما يحب أعداؤُها الحياةَ ، فزلزل أقدامَ العدوِّ و مزَّق صفوفه ودخل المدينة منتصرًا ، و غنِم منها غنائم عزّت عن الحصر ، أما دوق أود فقد فرَّ بمن بقي حيًّا من جنوده ، و طفق يُعِدّ العدَّة للقاء آخر مع المسلمين فقد كان يعلم أن معركة آرل كانت بدايةَ الطريق و ليست نهايته .
 عبر عبد الرحمن الغافقي بجيشه الجرَّار نهرَ الجارون و طفقت كتائبُه الظافرة تجوس مقاطعة أوكتانيا ذاتَ اليمين و ذات الشمال ، و أخذت المدنُ و القرى تتساقط تحت سنابك خيله كما تتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف إذا هبّت عليها الرياح الهوج ، و أضاف المسلمون إلى غنائمهم السابقة غنائم لاحقة لم ترها عينٌ من قبلُ ، و لم تسمع بها أذنٌ ، و قد حاول دوق أوكتانيا أن يتصدَّى لهذا الزحف الكبير مرةً أخرى فاشتبك مع المسلمين في معركة ضروس ، لكنَّ المسلمين ما لبثوا أن هزموه هزيمةً طاحنة ، سو أنزلوا به نكبةً ساحقة مدمِّرةً ، و مزَّقوا جيشه شرَّ ممزَّق ، و تركوا جيشه بين قتيل و أسير و هزيم ، ثم اتَّجه المسلمون إلى مدينة بوردو كبرى المدن الإفرنسية آنذاك ، و عاصمة مقاطعة أوكتانيا ، و خاضوا مع أميرها معركة لا تقلُّ هولاً عن المعارك السابقة ، و استبسل فيها المهاجمون و المدافعون استبسالًا يثير العجب و الإعجاب ، و لكنَّ المدينة الكبيرة الخطيرة ما لبثت أن سقطت في أيدي المسلمين كما سقطت أخواتُها من قبل ، و ما لبث أميرُها أنْ قُتل في جملة القتلى ، و أحرز المسلمون غنائمَ بوردو ما هوَّن في أعينهم كلَّ ما حازوه من غنائم ، و كان سقوطُ بوردو في أيدي المسلمين فاتحةً لسقوط مدنٍ آخرى كثيرة خطيرة أهمُّها لِيون - ثاني مدن فرنسا الآن - وبيزانسون و سانسْ ، و كانت هذه الأخيرةُ لا تبعد عن باريس أكثرَ من مئة ميل ، أي مئة وخمسون كيلو متراً ، اهتزَّت أوروبا من أقصاها إلى أقصاها لسقوط نصف فرنسا الجنوبي كلِّه في يد عبد الرحمن الغافقي خلال بضعة أشهر ، و فتح الفرنجةُ أعينَهم على الخطر الداهم ، و دبَّ الصريخُ في كل مكان يدعو العجزةَ و القادرين إلى الوقوف في وجه هذا الهول القادم من الشرق ، و يحضُّهم على التصدّي له بالصُّدور و السيوف ، و يدعوهم إلى سدِّ الطريق أمامه بالأجساد إذا انعدم العتادُ ، فاستجابت أوروبا لدعوة الداعي ، و أقبل الناسُ على الانضواء تحت لواء شَارْل مارتل ، و معهم الشجر و الحجر و الشوكُ و السِّلاح ، و كان الجيشُ الإسلاميُّ آنذاك قد بلغ مدينة تور ، طليعة مدن فرنسا وفرةً في السكان ، و قوَّةً في البنيان ، و عَراقةً في التاريخ ، و كانت المدينةُ فوق ذلك تختال على أكثر مدن أوروبا بكنيستها الفخمة الضخمة العامِرة بجميل الأعلاق ن وكريم النفائس، فأحاط بها المسلمون إحاطة الغِلِّ بالعنق و انصبّوا عليها انصباب المنون إذا جاء الأجلُ ، و استصرخوا في سبيل افتتاحها الأرواحَ و المُهج ، فما لبثتْ أن سقطت بين أيديهم على مرأى شارل مارتل و سمعه .
وفي العشر الأخير من شعبان سنة أربع و مئة للهجرة زحف عبد الرحمن الغافقي بجيشه الَّلجب على مدينة بوَاتييه ، و هناك التقى مع جيوش أوروبا الجرَّارة بقيادة شارل مارتل ووقعت بين الفريقين إحدى المعارك الفاصلة لا في تاريخ المسلمين و الفرنجة فحسب ، و إنما في تاريخ البشرية جمعاء ، وقد عُرِفت هذه المعركة بمعركة بِلاط الشُّهداء ، و كان الجيشُ الإسلاميُّ يومئذٍ في ذِروة انتصاراته الباهرة ، لكنَّ كاهله كان مُثقلًا بتلك الغنائم التي انصبَّت عليه انصبابَ الغيث ، و تكدَّستْ في أيدي الجنود تكدُّس السُّحب ، و قد نظر عبد الرحمن الغافقي إلى هذه الثروة الهائلة نظرةَ قلق و إشفاق و توجَّس منها خِيفةً على المسلمين ، فقد كان لا يأمن أن تشغل هذه النفائسُ قلوبهم عند اللِّقاء ، و أنْ تُوزَّع نفوسُهم في لحظات البأس ، و أن تجعل إحدى عيني المقاتل منهم على العدوِّ المُقبِل عليه و عينَه الأخرى على الغنائم التي في يديه ، و لقد همَّ بأن يأمرَ جنودَه بالتَّخلُّص من هذه الثروات الطائلة الهائلة ، و لكن خشِيَ ألا تطيبَ قلوبُهم بذلك القرار الخطير ، و ألا تسمح نفوسُهم بالتَّخلِّي عن ذلك الكنز الثمين ، فلم يجد وسيلة خيرًا من أن يجمع هذه المغانم في مُخيَّمات خاصَّة و أن يجعلها وراء المُعسكر قبل إنشاب القتال .

أحداث معركة بلاط الشهداء :

 وقف الجيشان الكبيران بضعةَ أيام ، كلٌّ منهما قُبالةَ الآخر في سكون و ترقُّبٍ و صمت كما تقف سلسلتان من الجبال إحداها في وجه الأخرى ، فقد كان كلٌّ من الجيشين يخشى بأسَ عدوِّه و يحسب للقائه ألف حساب فلمَّا طال الوقتُ على هذه الحال ووجد عبد الرجمن الغافقي مراجِلَ الحميَّة و الإقدام تغلي في صفوف رجاله ، آثر أن يكون هو البادئ بالهجوم معتمدًا على مناقب جنده ، متفائلًا بحسن طالعه في النصر ، انقضَّ عبد الرحمن الغافقي بفرسانه على صفوف الفرنجة انقضاض الأسود الكاسرة ، و صمد لهم الفرنجةُ صمود الأطواد الراسخة ، و انقضى اليومُ الأول من المعركة دون أن ترجح فيه كفَّةٌ على كفَّةٍ ، و لم يحجز بين المتقاتلين غير هبوط الظلام على ميدان القتال ، ثم تجدَّد النِزالُ في اليوم الثاني ، و حمل المسلمون على الفرنجة حملاتٍ باسلة و لكنَّهم لم ينالوا منهم وطرًا ، و ظلَّت المعركةُ تدور على هذه الحال سبعة أيامٍ طويلةٍ ثقيلةٍ ، فلمَّا كان اليوم الثامنُ كرَّ المسلمون على عدوِّهم كرَّةً واحدةً ، ففتحوا في صفوفه ثُغرةً كبيرةً لاحَ لهم من خلالها النصرُ كما يلوحُ ضوءُ الصبح من خلال الظلام - الذي حصل في معركة أُحُدٍ تكرَّر في هذه المعركة - عند ذلك أغارت فرقةٌ من كتائب الفرنجة على معسكرات الغنائم ، فلما رأى المسلمون أنَّ غنائمهم قد أوشكت أن تقع في أيدي أعدائهم ، اِنكفأ بعضُهم لاستخلاصها منهم فتصدَّعت بذلك صفوفهم ، و تضعضعت جموعُهم، وذهبت ريحُهم فهبَّ القائدُ العظيمُ يعمل على ردِّ المنكفئين لمدافعة الهاجمين ، و سدِّ الثغور ، و فيما كان بطلُ الإسلام عبد الرحمن الغافقي يزرع أرض المعركة على صهوة جواده الأشهبِ جِيئَةً و ذهاباً ، و كرًّا و فرًّا أصابه سهمٌ نافذٌ فهوى عن متن فرسه كما يهوي العُقابُ من فوق قمم الجبال ، و ثوى صريعاً شهيدًا على أرض المعركة ، فلما رأى المسلمون ذلك عمَّهم الذُّعرُ ، و أصابهم الاضطرابُ ، و اشتدَّت عليهم وطأةُ العدوِّ ، و لم يوقِف بأسَه عنهم إلا حلولُ الظلام ، فلما أصبح الصُّبحُ وجد شارل مارتل أن المسلمين قد انسحبوا من بواتييه ، من أرض المعركة ، فلم يجرؤ على مطاردتهم ، ذلك أنه خشي أن يكون انسحابهم مكيدةً من مكائد الحرب دُبِّرتْ في الليل ، فآثر البقاءَ في مواقعه مكتفيًا بذلك النصر الكبير ، لقد كان يومُ بلاط الشهداء يومًا حاسما في التاريخ ، أضاع فيه المسلمون أملًا من أعزِّ الآمال ، و فقدوا خلاله بطلاً من أعظم الأبطال ، ما هو الاملُ ؟ أنْ تُفتَح القسطنطينية لا من الشرق ، بل من الغرب ، أي أن تُفتح أوروبا بأكملها بدءًا من فرنسا و انتهاءً بالقسطنطينية ، و تكرَّرت فيه مأساةُ يوم أحُد ، سنَّة الله في خلقه ، و لن تجد لسنة الله تبديلاً .

تعليقٌ لبعض المؤرِّخين الأجانب على معركة بلاط الشهداء :

 الشيءُ المهمُّ جدًّا في هذه القصة تعليقٌ لبعض المؤرِّخين على هذه المعركة لبعض المؤرِّخين الأجانب : هزَّت أنباءُ فاجعة بلاط الشهداء نفوس المسلمين في كلِّ مكان هزّا عنيفاً ، و زُلزلت لهولها أفئدتُهم زلزالاً شديداً ، و عمَّ الحزنُ بسببها كلَّ مدينة و كلَّ قريةٍ و كلَّ بيتٍ ، و ما زال جرحُها المُمِضُّ ينزف من قلوبهم دمًا حتى اليوم ، و سيظلُّ ينزف ما ظلَّ على ظهر الأرض مسلم ، و لا تحسبن أنَّ هذا الجرح العميق الغائر قد أمضَّ أفئدة المسلمين وحدهم - اسمعوا الآن - و إنما شاركهم في ذلك طائفةٌ من عقلاء الفرنجة ، رأوا في انتصار أجدادهم على المسلمين في بواتييه مصيبةً كبرى ، الفرنجة رأوا في انتصار أجدادهم مصيبةً كبرى رُزِئت بها الإنسانية ، و خسارةً عظمى أصابت أوروبا في صميمها ، و نكبةً جُلَّى نُكِبت بها الحضارة، و إذا شئتَ أن تقف على رأي بعض هؤلاء في فجيعة بلاط الشهداء فاستمع إلى هنري دي شامبون مدير مجلَّة ريفي الفرنسية حيث قال - و اسمعوا بدقَّة ماذا قال هذا الإنسانُ -:" لولا انتصار جيش شارل مارتل الهمجي على العرب المسلمين في فرنسا لما وقعت بلادُنا في ظلمات القرون الوسطى- في القرون الوسطى مخازي ، وجهل ، وطغيانٌ ، و استغلال ، و كان الإنسان محتقرًا ، هذه ظلماتٌ – قال : لولا انتصار جيش شارل مارتل الهمجي على العرب المسلمين في فرنسا لما وقعت بلادُنا في ظلمات القرون الوسطى ، و لما أُصيبت بفظائعها ، و لا كابدت المذابح الأهلية التي دفع إليها التعصُّبُ الديني المذهبي ، نعم لولا ذلك الانتصارُ الوحشي على المسلمين في بواتييه لظلَّت إسبانيا تنعُم بسماحة الإسلام ، و لنجتْ من وصمة محاكم التفتيش ، و لما تأخَّر سيرُ المدنيةِ ثمانيةَ قرون ، و مهما اختلفت المشاعرُ و الآراءُ حول انتصارنا ذلك فنحن مدينون للمسلمين بكلِّ محامد حضارتنا ، نحن مدينون للمسلمين بكل محامد حضارتنا في العلم و الفنِّ و الصناعة ، مدعُوُون لأن نعترف بأنهم كانوا مثال الكمال البشري ، في الوقت الذي كنا فيه مثالَ الهمجية ، و افتراء ما ندَّعيه اليوم من أن الزمان قد استدار و أن المسلمين وصلوا في هذا العصر إلى ما كنا عليه في العصور الوسطى "
 كلمةُ مؤرِّخٍ مُنصِف ، أي أن انتصار الفرنجة على المسلمين في معركة بلاط الشهداء كان سببَ تأخُّر أوروبا ثمانية قرون ، و كان سببَ المآسي التي وقعت في العصور الوسطى ، و كان سبب الحروب الاهلية التي ذاقتها أوروبا أو ذاقت من ويلاتها ، و على كلٍّ سنة الله لن تتغيَّر فإذا قاتلتَ في سبيل الله ثم طمعتَ في الدنيا تخلَّى اللهُ عنك ، في أُحُد و مع النبيِّ الكريم و النبيُّ عليه الصلاة و السَّلامُ كان بين ظهرانيهم ، لمَّا طمعوا في الغنائم تخلَّى اللهُ عنهم ، و في حُنَين قال تعالى:

﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾

[ سورة التوبة:25]

 تخلى اللهُ عنهم ، و في اللحظة التي تُعجَب بها بقوَّتك يتخلَّى اللهُ عنك ، و في اللحظة التي تطمع بها في الدنيا يتخلَّى اللهُ عنك ، هذه سُنَن الله في خلقه .

* * *

آفات اللسان :

 بقيت كلمةٌ قصيرةٌ من إحياء علوم الدين حول آفات اللسان التي كنا قد بدأنا بها قبل رمضان .
 من آفات اللسان الوعدُ الكاذب ، و اللسانُ سبَّاقٌ إلى الوعد ، و معظم الناس يطلق الوعودَ بدون حساب ، فقد يعِد ابنَه بدرَّاجة ، و قد يعِد امرأتَه بثوبٍ على العيد ، و قد يعد أخاه بهديَّة ، و أحياناً صاحب محلٍّ يعد الموظف بالشراكة ، وهو قد صدَّقك و بنى عليها آمالًا و أحلامًا ، و أنت وعدتَه و مشيتَ ، فهذه من آفات اللسان ، الوعد الكاذب ، قال : إن اللسان أسبقُ إلى الوعد ثم النفسُ ، ربما لا تسمح النفسُ بالوفاء ، فيصير الوعدُ خُلفاً ، و هذا من أمارات النفاق ، أنا أمتحن رصانةَ المؤمن و نضجَه و ذكاءَه من اقتصاده بالمواعيد ، يسكت ، و الشيءُ الذي يتمكَّن من تنفيذه يتكلَّم فيه ، أمّا دائماً يعطي وعودًا برَّاقةً ، الناسُ بعد فترة لن يصدِّقوه ، و أصبحت وعودُه لا قيمة لها إطلاقًا ، و لا تؤثِّر أبدًا ، قال الله تعالى:

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾

[سورة المائدة: 1]

 تخلى اللهُ عنهم ، و في اللحظة التي تُعجَب بها بقوَّتك يتخلَّى اللهُ عنك ، و في اللحظة التي تطمع بها في الدنيا يتخلَّى اللهُ عنك ، هذه سُنَن الله في خلقه .

الوفاء بالوعد :

 و قد أثنى الله تعالى على نبيِّه إسماعيل عليه السلام في كتابه العزيز فقال:

﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾

[سورة مريم: 54 ]

 و لما حضرتْ عبدَ الله بن عمر الوفاةُ قال : إنه كان قد خطب إليَّ ابنتي رجلٌ من قريش ، وكان مني إليه شبهُ الوعد ، فوالله لا ألقى اللهَ بثُلُث النفاق ، أُشهدكم أني زوَّجته ابنتي - وعد - و إيَّاك أن تعد دون أن توَفِيَ هذا الوعد ، و كان ابنُ مسعود لا يعد وعداً إلَّا و يقول : إن شاء اللهُ ، و هو الأولى ، ثم إذا فُهِم مع ذلك الجزم في الوعد ، فلا بدَّ من الوفاء إلا أن يتعذَّر ، فإن كان عند الوعد عازمًا على ألا يفي فهذا هو النفاق ، و قد قال عليه الصلاة و السلام :

((مِنْ عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِ ثَلَاثَةٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ))

[ مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 و في رواية

((وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ))

[ مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

((وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ : لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ ))

[ أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]

 و النبيُّ عليه الصلاة و السلام أثنى على التجَّار الذين هم عند وعودهم فقال : " إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدَّثوا لم يكذبوا ، و إذا وعدوا لم يخلفوا ، وإذا أؤتمنوا لم يخونوا ، وإذا اشتروا لم يذموا ، و إذا باعوا لم يُطروا ، و إذا كان لهم لم يعسِّروا ، و إذا كان عليهم لم يمطلوا ".
 الإنسان لمجرّد أن يخلف وعده أو يكذب في حديثه أو يخون في أمانته فقد سقط من عين الله و ضُمَّ إلى زمرة المنافقين ، طبعًا إذا كان فيه الثلاثة فهو منافق خالص ، أما واحدة فثلث النفاق ، و قد قال عليه الصلاة و السلام :

((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا ، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ))

[ متفق عليه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو]

 و هذا ينزل على من وعد وهو على عزم الخُلف ، أو ترك الوفاء لغير عذر ، الإنسان وعد وهو عازمٌ على الوفاء بهذا الوعد و لم يتمكَّن ، فهذا ليس منافقاً ، أما المنافق فحينما وعد الوعد عازمٌ في قلبه على ألا يفي بهذا الوعد ، هذا هو المنافق ، و النبيُّ عليه الصلاة و السلام يقول :

((من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، و وعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته))

[ مسند الشهاب عن علي بن أبي طالب]

على الإنسان أن يتحرى دقة المواعيد لأنها ترفع من قيمته :

 لكن العلماءُ قالوا : أمَّا من عزم على الوفاء و كان له عذرٌ منعه من الوفاء لم يكن منافقاً وإن جرى عليه ما هو صورة النفاق ، الصورةٌ الخارجية للنفاق انطبقت عليه ، فهو غيرُ منافق و لما وعد نوى و عزم عزمًا جازمًا على أن يفيَ ، و لكن ظهر له عذرٌ قاهرٌ ، ولكن هذه الصورة الخارجية صورة نفاق ، و لكن ينبغي ان يحترز من صورة النفاق أيضاً ، كما ينبغي أن يحترز من حقيقته ، انتبِهْ ، يجب أن تبتعد عن صور النفاق ، و طبعاً المؤمن يبتعد عن حقيقته وهي عزم القلب على إخلاف الوعد ، هذه حقيقة النفاق ، لكن صورة النفاق أن تعد وعدًا ثم لا تتمكَّن من الوفاء به ، فأنت فكِّرْ مادام الشيء فيه احتمال ألا تفي به فلا تعد الوعد ، و أصحابُ المصالح أنت تقدر أن تنجز العمل في عشرة أيام فقل له في أسبوعين احتياطًا ، فإذا ظهر معك أمرٌ قاهرٌ ولم تتمكَّن من الوفاء في هذا الوقت صارت الصورة نفاقًا ، أما إذا أخذت الاحتياط أسبوعاً ثانيا فهذا الأسبوع احتياط ، فيجب أن نبتعد لا عن حقيقة النفاق بل عن صورة النفاق ، و صورةُ النفاقِ أن تخلف الوعدَ لعذرٍ مقبولٍ ، و لكن على الإنسان أن يعتمد أو أن يتحرَّى دقَّةَ الوعد لأنها ترفع من قيمة الإنسان .

تحميل النص

إخفاء الصور