- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (002)سورة البقرة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة المؤمنون مع الدرس الثالث والأربعين من دروس سورة البقرة .
تلاوة الكتاب حق تلاوته أي أن تحسن قراءته وفهمه وتدبُّره والعمل به:
مع الآية الواحدة والعشرين بعد المئة وهي قوله تعالى :
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) ﴾
أي إن هؤلاء الذين آتيناهم الكتاب إذا تلوه حق تلاوته، إذا تلوه كما أُنزل عليهم من دون تحريفٍ أو تغيير، إذا تلوه حق تلاوته يؤمنون بمحمدٍ صلى الله عليه وسلَّم، لأن هذه الرسالات متتالية، وكل رسالةٍ تنسخ الرسالة السابقة، والذي آمن بالله عزَّ وجل ينصاع إلى أمره وإلى الإيمان بما جاءه مجدَّداً عن الله عزَّ وجل .
طبعاً قد تُفهم الآية وحدها بمعنىً آخر، تلاوة الكتاب حق تلاوته أي أن تحسن قراءته، وأن تحسن فهمه، وأن تحسن تدبُّره، وأن تحسن العمل به، فإن قرأته وفهمته وتدبَّرته فقد أحسنت تلاوته، ومعنى التدبر أي أين أنت من هذه الآية ؟ هل أنت مطبقٌ لها، قد تفهمها ولكن يجب أن تقول: ما علاقتي بها، هل أنا مطبقٌ لها ؟ هل أنا مقصرٌ في تطبيقها ؟ هل أنا مغطَّى بهذه الآية ؟ هل هذه الآية تعنيني ؟ التدبر أن تنظر ما علاقتك بهذه الآية من أجل أن تأخذ موقفاً . القرآن الكريم من دقة نظمه أن الآية إذا نُزِعَت من سياقها لها معنى مستقل، فإذا وضعت في سياقها لها معنىً آخر، مثلاً حينما قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ﴾
جاءت هذه الآية في سورة الطلاق، أي من يتقِ الله في تطليق زوجته يجعل الله له مخرجاً في إرجاعها، طلَّقها طلاقاً سنياً، طلقها طلقةً واحدة، وطلقها في طهرٍ ما مسها فيه، ولم يطلِّقها في حيض، ولم يطلقها في موضوعٍ لا علاقة لها به، وأبقاها عنده، هذه المشكلة بعد أيام تلاشت، فأرجعها وحُلَّت المشكلة، فمن اتقى الله في تطليق زوجته يجعل الله له مخرجاً إلى إرجاعها . وهذا هو المعنى السياقي .
لو نزعت الآية التالية من سياقها فهي قانون:
قال تعالى:
﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ﴾
لو نزعت هذه الآية من سياقها فهي قانون، من يتق الله في كسب ماله يجعل الله له مخرجاً من إتلافه، ومن يتقِ الله في اختيار زوجته يجعل الله له مخرجاً من الشقاق الزوجي، ومن يتقِ الله في تربية أولاده يجعل الله له مخرجاً من عقوق الأولاد، ومن يتقِ الله في التوحيد يجعل الله له مخرجاً من الشرك، من يتقِ الله في الإيمان يجعل الله له مخرجاً من الكفر، فهذه الآية يمكن أن تُكتب عليها مجلَّدات، إذا نُزعت من سياقها قوانين، وإذا وضعت في سياقها لها معنى سياقي ـ هذا مثل طبعاً ـ فربنا عزَّ وجل قال:
﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ (121) ﴾
كيف نتلو هذا القرآن حق تلاوته ؟ حينما نحسن قراءته، وبعد أن نحسن قراءته نبحث عن معناه، ويمكن أن يكون حضور درس في تفسير كتاب الله نوعاً من أنواع تلاوته حق التلاوة، فهل هناك كتابٌ في حياتك يعلو على هذا الكتاب ؟ وهل هناك كتابٌ يحدِّد مصيرك الأبدي كهذا الكتاب ؟ هو كلام الله عزَّ وجل، ولا شيء يعلو على أن تفهمه كما أراده الله عزَّ وجل، فطلب العلم فريضةٌ على كل مسلم، فمن تلاوته حق التلاوة أن تعرف معانيه، ثم من تلاوته حق التلاوة أن تنظر أين أنت من هذه الآيات ؟ فهل تنطبق عليَّ آيات الذي يظلم نفسه، أم آيات المُقتصد، أم آيات السابق للخيرات ؟ قال الله عزَّ وجل:
﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ﴾
إن الذي يفعل ما أُمر وقد يقصِّر، ويدع ما نُهي عنه وقد يقع هذا ظالم لنفسه، والذي يفعل ما أُمر ولا يقصر، والذي يدع ما نهي عنه ولا يقع فهذا مقتصد، والذي يدع المحرَّمات ثم ينتقل إلى ترك الشبهات، يدع المحرمات الكبيرة، ثم يدع المعاصي الصغيرة، ثم يدع الشُبهات استبراءً لدينه وعرضه، ثم يدع المكروهات التنزيهية، ثم يدع الحلال إذا أفضى به إلى الحرام، ثم يفعل النوافل هذا سابقٌ بالخيرات، فإذا قرأ الإنسان هذه الآية فلينظر أين هو من هذه الآية ؟ لا سمح الله ولا قدَّر هل أنت مع الذي ظلم نفسه، أم أنت مع المقتصد، أم أنت مع السابق بالخيرات ؟
معنى التدبر:
نقطةٌ دقيقةٌ أيها الأخوة، دائماً اسأل نفسك هذا السؤال: أين أنا من هذه الآية ؟ هل تنطبق عليَّ هذه الآية ؟ اقرأ فواتح سورة البقرة ففيها وصفٌ للمؤمنين الصادقين، وفيها وصفٌ للكافرين، وفيها وصفٌ للمنافقين، إن استبعدنا آيات الكافرين يا ترى هل تنطبق عليَّ بعض صفات المنافقين ؟ هذا هو التدبُّر، قرأت الآية ولكن ما الذي ينبغي أن تفعله حينما تنتهي من قراءتها ؟ أن ترى ما إذا كنت مطبقاً لها أو لست كذلك .
﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ (121) ﴾
يقرؤونه قراءةً صحيحة، ويفهمون معانيه كما أراد الله عزَّ وجل وفق علم الأصول ـ المعنى الدقيق ـ ثم ينظرون ما علاقتهم بهذه الآية ؟ هذا هو التدبر، وبعدئذٍ يطبقون هذا القرآن، والذي لا يطبق هذا القرآن لعلَّ الحديث الذي قاله النبي عليه الصلاة والسلام ينطبقٌ عليه:
(( ورب تال للقرآن و القرآن يلعنه ))
(( مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنِ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ ))
أما هنا المعنى السياقي في هذه الآية أن فئةً من الذين أوتوا الكتاب يتلونه حق تلاوته، فحينما تلوه حق تلاوته آمنوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلَّم:
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ (121) ﴾
يؤمنون بمحمدٍ صلى الله عليه وسلَّم، وهناك نفرٌ من اليهود آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلَّم وكانوا من أصحابه الكبار كعبد الله بن سلام، وكانت أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق .
إذا عُرض عليك الحق ورفضت دعوة الله عزَّ وجل فأنت محتقرٌ لنفسك:
قال تعالى:
﴿ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ (121) ﴾
أي من يكفر بمحمدٍ صلى الله عليه وسلَّم، أي من يكفر برسالته التي جاءته من عند الله عزَّ وجل:
﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) ﴾
أيها الأخوة الكرام: الإنسان مخيَّر، والإنسان حينما يرفض شيئاً من الدنيا يرفضه احتقاراً له، قد يُعرض عليك بيتٌ لا يعجبك فترفض شراءه، وقد تُعرض عليك شراكةٌ لا تغنيك فترفض قَبولها، طبعاً فأنت ترفض هذه التجارة لأنها لا تغنيك، وترفض شراء هذا البيت لأنه صغيرٌ في نظرك، حقير، لكن إذا عُرض عليك الحق ورفضت دعوة الله عزَّ وجل فأنت محتقرٌ لنفسك، تحتقر نفسك:
﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (130) ﴾
الدين وحده إذا رفضته فأنت محتقرٌ لنفسك، ما عرفت قيمة نفسك، ولا عرفت حقها، ولا عرفت أنك المخلوق الأول الذي كرَّمه الله بهذا الدين .
المعنى السياقي للآيات التالية:
قال تعالى:
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ (121) ﴾
طبعاً حق التلاوة هكذا:
﴿ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ (121) ﴾
برسول الله صلى الله عليه وسلَّم:
﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ (121) ﴾
برسول الله:
﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ (121) ﴾
هذا المعنى السياقي:
﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ (122) ﴾
النعمة التي يقتضيها المعنى السياقي، هذه النعمة أن الله عزَّ وجل ذكر لهم في التوراة والإنجيل أنه سيأتي نبيٌ من بعد سيدنا موسى وعيسى اسمه محمد:
﴿ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (6) ﴾
هو أحمد الخلق كافةً، فهذه نعمة أن الله طمأنهم بكتبهم أنه سيأتي نبيٌ عظيم من بعد أنبيائهم، إذا آمنوا به فسيرقون إلى أعلى عليين:
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) ﴾
إن آمنت برسول الله واتبعته ووقَّرته ونصرته فأنت من المفلحين:
أيها الأخوة آيةٌ نستأنس بها في هذا الموضوع، يقول الله عزَّ وجل :
﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا (156)﴾
وقال دقِّق:
﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(156)الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ (157)﴾
فالذين آمنوا بهذا النبي الأمي:
﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(157) ﴾
آياتٌ دقيقةٌ جداً، إن آمنت برسول الله ؛ برسالته، بهذا القرآن الذي جاء به، بسُنته المبينة لهذا الكتاب، واتبعته، ووقَّرته، ونصرته، وعزَّرته فأنت من المفلحين .
الله عزَّ وجل سيسألنا يوم الفصل عن كل أعمالنا صغيرها وكبيرها:
أيها الأخوة، ثم يقول الله عزَّ وجل :
﴿ وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) ﴾
أيها الأخوة، هذا هو اليوم الذي تسوَّى فيه الحسابات، هذا هو يوم الدين، هذا هو يوم الفصل، هذا يوم القارعة، هذا يوم الحاقَّة، هذا يوم الطامَّة الكبرى، هذا يوم النبأ العظيم، الناس في الدنيا مختلفون ؛ أقوياء وضعفاء، أغنياء وفقراء، طلبوا العلم وزهدوا في العلم، استقاموا وانحرفوا، صدقوا وكذبوا، أكلوا المال الحلال أو أكلوا المال الحرام، عفوا أو اعتدوا على أعراض بعضهم بعضاً، هؤلاء الناس بعجزهم وبجرهم، وبانحرافهم واستقامتهم لا بد من أن يقفوا يوماً بين يدي الله عزَّ وجل ليحاسبوا عن أعمالهم كلها، صغيرها وكبيرها .
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه(8) ﴾
العاقل كل العاقل، والذكي كل الذكي، والفالح كل الفالح، والفائز كل الفائز، والمتفوِّق كل المتفوِّق هو الذي يُعد لهذا اليوم عدته، هو الذي يدخل هذا اليوم في حساباته اليوميَّة، ويجب عليه قبل أن ينطق بكلمة، وأن يعطي، وأن يمنع، وأن يعادي، وأن يقطع، وأن يصل، وأن يبتسم، وأن يعبس، وأن يغضب، وأن يرضى يجب أن يقول: ماذا سأجيب الله يوم القيامة ؟ ولذلك فالأبوَّة مسؤوليَّة، والعمل مسؤوليَّة، والحرفة مسؤوليَّة، والله عزَّ وجل سيسألنا عن كل أعمالنا صغيرها وكبيرها .
يوم القيامة يحاسب كل إنسان عن عمله:
قال تعالى:
﴿ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا (49) ﴾
كتاب أعمال الإنسان:
﴿ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً(49)﴾
نحن الآن في بحبوحة في الدنيا، لك أن تحسن ولك أن تسئ، لك أن تصدق ولك أن تكذب، لك أن تبالغ ولك أن تقلِّل من أهمية الشيء، هذا لا ينفعك عند الله شيئاً، لا بد من أن تُسأل لماذا فعلت ؟ ولماذا قُلت ؟ ولماذا ضخَّمت ؟ ولماذا قلَّلت ؟ ولماذا اتهمت ؟ ولماذا اغتبت ؟ ولماذا أعطيت ؟ ولماذا منعت ؟
﴿ وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً (123) ﴾
يوجد في الدنيا تكتُّلات، فهناك جماعات، وهناك إنسان له أتباع، وله مكانة، وسيطرة، وغني كبير، وقوي يحتل منصباً رفيعاً بإمكانه أن يفعل كل شيء، هذا في الدنيا ؛ ولكن في الآخرة:
﴿ لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً (123) ﴾
أدلة من القرآن الكريم والسُّنة الشريفة أنه لا تجزى نفس عن نفس شيئاً:
يقول الله عزَّ وجل :
﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ (19) ﴾
يا محمد يا سيد الخلق:
﴿ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) ﴾
(( يا عباس عم رسول الله، يا فاطمة بنت محمد، أنقذا نفسيكما من النار، أنا لا أغني عنكما من الله شيئاً ))
(( لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم ))
(( من يبطئ به عمله لم يسرع به نسبه ))
لو أنك استطعت أن تستخلص، أو أن تأخذ من فم رسول الله وهو سيِّد الخلق وحبيب الحق فتوى لصالحك أو حكماً ولم تكن محقاً فإنك لا تنجو من عذاب الله:
(( لعلَّ أحدكم ألحن بحجَّته من الآخر فإذا قضيت له بشيء فإنما أقضي له بقطعةٍ من النار ))
أيها الأخوة، هذه الآية دقيقة :
﴿ وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) ﴾
هذه الآية رقمها ثلاثة وعشرون بعد المئة من سورة البقرة، واضحة، ولنا وقفة معها بعد قليل .
لا تُقبل يوم القيامة شفاعة الشفيع ولا حتى الجزاء النقدي:
هناك آية رقمها ثمانية وأربعون في سورة البقرة نفسها، يقول الله:
﴿ وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً (48)﴾
تماماً كالآية السابقة:
﴿ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ(48) ﴾
هناك فرقٌ بين الآيتين، الآية التي نحن بصددها:
﴿ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ (123) ﴾
الآية الأولى :
﴿ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ(48) ﴾
لو أن ملكاً غضب على رجل ـ ولله المثل الأعلى ـ غضباً شديداً، وجاء إنسان ليشفع له، هذا الإنسان الذي أراد أن يشفع له عند هذا الملك قال: لا يقبل منه شفاعة، شفاعته مرفوضة . فإذا أردنا أن نقدِّم الجزاء النقدي وهذا الجزاء لا يُقبل، ترفض في هذا اليوم شفاعة الشفيع، والبديل الذي هو الجزاء النقدي غير مقبول . أما في هذه الآية فهذه النفس الظالمة لا يقبل منها عدلٌ، أي لو أنها أيضاً عادت إلى الدنيا واستقامت:
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
قال:
﴿ كَلا ﴾
هذا هو العدل، لو بحثت عن شفيع لا تجد، آية تشير إلى النفس الجازية، والآية الثانية تشير إلى النفس المجزية عنها، النفس الظالمة لو بحثت عن عدلٍ ينجيها من عذاب هذا اليوم فقالت:
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
قال:
﴿ كَلا ﴾
أمامها بديل آخر، لو بحثت عن شفيع ليس هناك من شفيع، أما النفس التي أرادت أن توسَّط وأن تشفع شفاعتها غير مقبولة، ولو طالبنا بالجزاء النقدي فالجزاء النقدي مرفوض، هذا هو اليوم الصعب، هذا:
﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)﴾
المقاييس ووسائل التقييم كلها تتبدل يوم القيامة :
قد تقف البنت أمام ربها يوم القيامة تقول: يا رب لا أدخل النار حتى أُدخل أبي قبلي . فالإنسان قبل أن يفعل شيئاً، وقبل أن يتجاوز، وقبل أن يطغى، وقبل أن يبغي على أخيه المؤمن، وأن يكذب، وأن يغتاب، قبل أن يطعن، وأن يتهم، قبل أن يقلِّل من قيمة إنسان، وأن يضخِّم إنساناً آخر يجب أن يسأل نفسه: ماذا سأجيب الله يوم القيامة لو سُئلت لمَ فعلت هذا ؟
﴿ وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ (123) ﴾
نكرة، أي أية نفسٍ كائنةً من كانت:
﴿ لَا تَجْزِي نَفْسٌ (123) ﴾
أي نفسٍ كائنةً من كانت ولو كانت نفس رسول الله:
﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ(19) ﴾.
وقال:
﴿ لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ (123) ﴾
هذه النفس التي استحقَّت العذاب مهما كانت مكانتها في الدنيا كبيرة:
﴿ إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ(1)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2)خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3) ﴾
كل المقاييس تُبدَّل، وسائل التقييم كلها تتبدَّل، الناس في الدنيا يعظمون الغني، ويعظِّمون القوي، أما في الآخرة فالذي استقام على أمر الله، والذي أحسن إلى خلق الله هو الذي يحتل مكانةً رفيعةً عند الله يوم القيامة .
الآية التالية من أدق آيات العدل :
هذه الآية أيها الأخوة من أدق آيات العَدل:
﴿ وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً (123) ﴾
مهما كنت، ومهما توسَّطت، لا تستطيع نفسٌ أن تفعل نفعاً مع نفسٍ أُخرى، أي كما قال الله عزَّ وجل :
﴿ قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً(21)﴾
الأبلغ من ذلك:
﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً ﴾
لذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة:
((إنهم مني فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقاً ))
﴿ وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ (123) ﴾
هناك مخالفات في الدنيا تسوَّى بمبلغ من المال، هذه المخالفة ثمنها فرضاً مئة ألف، أو مليون، ولكن لو أن إنساناً ارتكب خيانة عظمى لا بد من أن يُعدم ـ مثلاً ـ فهذه مخالفة لا ينفع فيها الجزاء النقدي، فالإنسان حينما يقف أمام ربنا عزَّ وجل، مهما كان شأنه كبيراً في الدنيا، ومهماً كان الشفيع كبيراً، لا الشفيع ينفعه ولا التعويض المالي ينفعه:
﴿ وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً (123) ﴾
الإيمان الحقيقي باليوم الآخر يعكس كل الموازين التي أمامك:
أيها الأخوة، أحد أكبر أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر، والله الذي لا إله إلا هو حينما تؤمن بهذا اليوم إيماناً حقيقياً تنعكس الموازين كلها أمامك، قبل الإيمان بهذا اليوم ترى ذكاءك في الأخذ، أما إذا آمنت بهذا اليوم ترى الذكاء في العطاء، قبل الإيمان بهذا اليوم ترى مكسباً كبيراً إذا استفدت من جهود الآخرين هذا، أما بعد أن تؤمن بهذا اليوم فترى الفوز عندما تبذل جهدك من أجل الآخرين، فالناس الآن يفرحون بمكسب حرام، وبمال حرام، يعد نفسه ذكياً وشاطراً حينما يأخذ ما ليس له، وحينما يوهم الناس أنه على شيء وهو ليس على شيء، هذا نوعٌ من ضعف التوحيد وضعف الإيمان بالله، اتقوا هذا اليوم، هذا اليوم:
﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ(18) ﴾
يعرض كل شيء، وكل شيء له حساب :
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه(8) ﴾
المؤمن دائماً عنده هاجس مستمر، هل هذا العمل شرعي ؟ وهل يرضى الله به عني ؟ وهل موقفي صحيح ؟ هل أنا مؤاخذ ؟ هل أُعد ظالماً ؟ هل أعد متجاوزاً لحدودي ؟ هذا الصراع اليومي، الساعي، بين المؤمن ونفسه دليل قوة إيمانه، ولذلك يتقلَّب المؤمن باليوم الواحد على أربعين حالاً، بينما المنافق يستقر أربعين سنة على حال واحد، المؤمن يتقلَّب باليوم الواحد أربعين حالاً من شدة خوفه من الله، والمنافق يستقر على حال واحد أربعين سنة .
لا يوجد شيء يكافئ دخول النار:
قال تعالى:
﴿ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ (123) ﴾
أي لا يوجد شيء يكافئ، لو أراد الإنسان أن ينقذ نفسه من النار بملء الأرض ذهباً، ولو أن الأرض كلها ذهب وكانت بيد إنسان استحق النار، لو أنفقها كلها لا ينجو من عذاب الله:
﴿ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ (123) ﴾
لا يوجد أي شيء يكافئ دخول النار:
﴿ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ (123) ﴾
لو أنه ابن نبي:
﴿ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ(45)قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ(46) ﴾
وقال:
﴿ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) ﴾
عدل الله مطلق والخلق كلهم سواسية عنده سبحانه :
عمُّ سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام عمه أبو لهب:
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) ﴾
يجب أن تؤمن بعدل الله المُطلق، وأن الخلق كلهم عند الله سواسية، قال سيدنا عمر كلمات بليغات لسيدنا سعد، من هو سيدنا سعد ؟ هو من أقرب أصحاب رسول الله إلى قلبه، النبي عليه الصلاة والسلام ما فدَّى أحداً من أصحابه إلا سعداً، فقال له:
(( ارم سعد فداك أبي وأمي ))
أن يقول نبيٌ عظيم لصحابيٍ جليل: فداك أبي وأمي:
(( ارم سعد فداك أبي وأمي ))
كان إذا دخل على النبي عليه الصلاة والسلام يداعبه من شدة محبَّته له، ويقول:
(( هذا خالي فليرني امرؤ خاله ))
ماذا قال له عمر بعد وفاة رسول الله ؟ قال له:" يا سعد ـ دقِّقوا ـ لا يغرَّنك أنه قد قيل خال رسول الله فالخلق كلهم عند الله سواسية، ليس بينه وبينهم قرابةٌ إلا طاعتهم له" . أي أنه لا يوجد بينك وبين الله إلا طاعتك له، فبطاعتك له ترقى إلى أعلى عليين مهما يكن نسبك، ومهما تكن مكانتك، ومهما تكن شهادتك، ومهما يكن حجمك الاجتماعي أما إن عصيت الله عزَّ وجل فإنك تهوي إلى أسفل سافلين .
مقياس ربنا عزَّ وجل يوم القيامة هو العلم والعمل :
قال تعالى:
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
هذا مقياس ربنا عزَّ وجل:
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
(( لا منكم، ولا منكم، سلمان منَّا أهل البيت ))
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) ﴾
أين النسب ؟ انتهى النسب، سلمان الفارسي منا آل البيت، عم النبي القرشي الهاشمي:
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) ﴾
هذا هو المقياس الدقيق، يوجد عندنا مقياس واحد العلم والعمل:
﴿ يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ(11) ﴾
وقال:
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا(132) ﴾
ليس في القرآن من قيمة معتمدة في الترجيح بين خلقه إلا العلم والعمل، ترقى بعلمك، فرتبة العلم أعلى الرُتب، وترقى بعملك، ما سوى ذلك ؛ من نسب، ومكانة، ووسامة، وذكاء هذه مقاييس الدنيا .
أدوات اللغة واستعمالاتها:
قال تعالى:
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ (124) ﴾
لدينا كلمة (إذا) وكلمة (إذ)، (إذ) ظرف فقط، أي واذكر حين فقط، وإذ ابتلى أي واذكر حين ابتلى إبراهيم ربه بكلمات، أما (إذا) ظرف متضمنٌ معنى الشرط:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1) ﴾
(إذا) تعني إن، وتعني حين، وتعني سوف، إعرابها التفصيلي ظرفٌ لما يستقبل من الزمن، خافضٌ لشرطه، منصوبٌ بجوابه مبني على السكون، في محل نصب مفعول فيه ظرف زمان . (إذا) فيها معنى الشرط، ومعنى الظرف، ومعنى الاستقبال، الفرق بين (إذا) وبين (إن)، (إن) لشيءٍ محتمل الوقوع، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا (6) ﴾
هذا الفاسق قد يأتي وقد لا يأتي، أما (إذا) لتحقق الوقوع:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1) ﴾
أي لا بد من أن يأتي نصر الله، وأدوات اللغة دقيقة جداً، (إذا) لتحقق الوقوع، (إن) لاحتمال الوقوع، (إذ) غير (إذا)، (إذ) حين، أي واذكر يا محمد حين ابتلى إبراهيم ربه بكلمات، طبعاً ابتلى من الابتلاء والابتلاء ليس شراً، الابتلاء امتحان، كمثل إنسان دارس دخل الامتحان، فنال الدرجة العُليا، وصار طبيباً كبيراً، أو مهندساً كبيراً، أو له مكانة اجتماعيَّة عالية، فكلمة ابتلاء لا تعني أنها مصيبة، ابتلاء امتحان، أي مطلق الامتحان قد تنجح وقد لا تنجح:
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ (124) ﴾
وقال:
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾
لا بد من أن تُبتلى، سُئل الإمام الشافعي: " أندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين ؟ " فقال رضي الله عنه: " لن تُمكَّن قبل أن تُبتلى " .
امتحن النبي الكريم بامتحانات عدة فصبر وتواضع لله سبحانه:
وطِّن نفسك أيها المؤمن أنه لا يُسمح لك بدخول الجنة إلا إذا امتُحنت الامتحانات كلها، هناك امتحان الضعف، النبي امتحن بالضعف بالطائف فقال:
(( ربي أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ))
هذا امتحان القهر، كذَّبوه، وسخروا منه، وأساءوا إليه وقال :
(( اللهمَّ اهدي قومي إنهم لا يعلمون ))
امتحن امتحان القهر فصبر، وامتحن امتحان النصر فتواضع، ودخل مكَّة فاتحاً دخلها مطأطئ الرأس حتى كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره تواضعاً لله عزَّ وجل، بينما التاريخ يشهد أن كل الفاتحين يتغطرسون، ويسفكون الدماء، ويستبيحون الحُرمات، أما هو فقال:
(( مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ ))
(( ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: أقول كما قال أخي يوسف: اذهبوا فأنتم الطلقاء ))
هذه واحدة . الآن امتحن امتحان الفقر، دخل بيته صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: " أعندكم شيء نأكله ؟ " قالوا: لا، قال: فإني صائم .
هل هناك بيت من بيوتات المسلمين لا يوجد فيه شيء إطلاقاً تأكله ؟ مستحيل . امتحن امتحان الفقر فصبر، امتحن امتحان الغنى فشكر .
لمن هذا الوادي يا رسول الله ؟ قال: " هو لك " . قال: أتهزأ بي ؟ قال: " لا والله هو لك " . قال: " أشهد أنك رسول الله تعطي عطاء من لا يخشى الفقر" .
امتحن بموت الولد فقال :
(( إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ ما يُرْضِي رَبَّنا، وَإنَّا بِفِرَاقِكَ يا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ ))
امتحن امتحان فقد الولد، وامتحن امتحاناً قد لا يحتمله معظمكم ؛ أن يقال عن زوجته إنها زانية، هذا امتحان الإفك، وانقطع الوحي أربعين يوماً وهو صابر، هذا امتحان شديد .
امتحن امتحان الهجرة، وامتحن بمؤامرات حيكت ضدَّه، وبشعراء هَجَوْهُ، قال عليه الصلاة والسلام:
(( لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال ))
الثواب على قدر المشقة:
قال تعالى:
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142) ﴾
وقال:
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾
هل هناك جامعة في الأرض تقدِّم لها طلباً من سطرين تقول فيه: يرجى منحي درجة الدكتوراه بمرتبة امتياز وشكراً . توقيع، وطابع، وفي اليوم الثاني تأخذ دكتوراه، هل تستطيع أن تفعل هذا ؟ يقول لك: ثلاثة وثلاثين سنة دراسة لأحصل على الدكتوراه، سهرت حتى الساعة الثانية ليلاً ـ كم كتاباً قرأ ؟ وكم كتاباً ألَّف ؟ وكم موضوعاً أعدَّ ؟ وكم ساعة داوم ؟ هل هناك جهة بالأرض تعطي شهادة بلا امتحان ؟ هل هناك مدرسة في الأرض لا يوجد فيها امتحانات ؟ فهذه الجنة التي عرضها السموات والأرض تريدها بلا عمل ؟ بركيعاتٍ جوفاء، بدريهماتٍ تلقيها في يدي فقير وانتهى الأمر وأنت مقيم على كل الشهوات ؟!
الجنة تفرض علينا مراجعة حساباتنا لأننا الآن في دار امتحان:
أخواننا الكرام نحتاج إلى مراجعة حساباتنا، هذه الجنة:
﴿ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ(59)وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ(60)وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ(61)﴾
كلام مُخيف، مصير أبدي، الآن الطائع والعاصي يعيشان، يأكلان، ويشربان، وينامان، يسكنان في بيوت، ولهما مراكز، وعندهما تجارة، فالآن الأوراق مختلطة لأننا في دار امتحان، أما يوم القيامة:
﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ﴾
قفوا في مكان واحد، نحن في الدنيا أثناء العام الدراسي كل الطلاب يرتدون اللباس النظامي، ويدخلون الصفوف ويستريحون، ويلعبون، ويضحكون، أما عند النتائج فطالب يكاد يرقص من الفرح، وطالب يبكي من شدة الألم، في الدنيا توجد امتحانات لذلك:
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ (124) ﴾
﴿ابتلى﴾
هو الامتحان ولا بد من أن نُمتحن، دقِّق، قل ما شئت، أعطِ نفسك الحجم الذي تريد، لكن الله متكفِّلٌ أن يُحَجِّمك، أن يضعك في ظرفٍ دقيق دَقيق يكشف لك حجمك الحقيقي .
يمتحن الإنسان في اليوم مئات المرات فإما أن ينجح وإما أن يرسب عند الله تعالى:
أنت مثلاً تقول: أنا لا آخذ درهماً حراماً . صح، ترفض الألف والألفين، والعشرة آلاف، جاءك مليونان تفكِّر، وتقول: عندي أولاد . رسبت في الامتحان . فالإنسان يمتحن والدنيا كلها امتحان، وأنت ممتحن في اليوم مئات المرات، باليوم الواحد ممتحن بالغنى والفقر، وبالزوجة والولد .
قال لي أخ: عندي قطعة بمبلغ ضخم، ثمنها خمسة وعشرون ألفاً ما كانت تباع السنة الأولى، والثانية، والثالثة، والرابعة، والخامسة، من جرد إلى جرد، وبعد ذلك جاء إنسان وطلبها . قال لي وأنا على السُلَّم أريد أن أعطيه إياها: أهي أصليَّة ؟ هي ليست أصليَّة أنا تزلزلت ولكنني قلت له: لا ليست أصليَّة . قال له: أنزلها . نجح، تكلَّم الحقيقة ونجح، مادام الشاري عرف أنها ليست أصليَّة وقبلها فالبيع شرعي، أما لو كذب عليه ـ قال لي: والله أعلم علم اليقين أنه لن يعلم حقيقتها ـ فلو قلت له: أصليَّة، لا يوجد عنده وسيلة تكشف أنها ليست كذلك، ولكنه خاف من الله، فأنت ممتحن في اليوم آلاف المرَّات .
قال لي أخ من أخواننا الكرام: عندي موظَّف مهندس دخله أقل من حاجته بكثير، عشرة آلاف، ثمانية آلاف، سبعة آلاف، وجد ثمانمئة ألف في كيس أسود في أحد أحياء دمشق، فقال لي: ما زال يبحث عن صاحبها حتى أعطاها له، وهو بأمس الحاجة لهذا المبلغ . هذا امتحان، دقِّق أنت ممتحنٌ كل يوم، فإما أن تنجح وإما أن ترسب عند الله عزَّ وجل، أنت قل عن نفسك ما شئت، أعطِ نفسك أكبر هالة لكن الله متكفِّل أن يعيدك إلى حجمك الحقيقي .
قد يضعك في ظرف فتغضب وأنت تحدّث الناس عن الحلم سنوات وسنوات، أنت لماذا غضبت ؟ قد تحدِّث الناس عن الورع، فلماذا ارتكبت ؟ وقد تحدث الناس عن السخاء، فلماذا بخلت ؟ وقد تحدث الناس عن التواضع، فلماذا استعليت ؟ الله عزَّ وجل يضع الإنسان في ظرف يحجِّمه فيه .
الكلمة في القرآن تعني الأمر أو تعني الجُملة أما الكلمة في اللغة فتعطي معنىً ناقصاً :
قال تعالى:
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ (124) ﴾
ما هي هذه الكلمات ؟ المفسِّرون لهم في هذه الكلمات بعض التوجُّهات:
أولاً: في اللغة مفرد وفيها جملة، المفرد لا يفيد معنى تاماً، تقول مثلاً: تفاحة هذا معنى غير تام، أما تفاحة حلوة المذاق، فهذا معنى تام، تفاحة كبيرة، معنى تام، أي الصفة والموصوف، المبتدأ والخبر، الفعل والفاعل، هذه جملة . المفرد لا يفيد معنى تاماً، وإن كان هناك مفارقة كنت أضربها للطلاب كمثل: كان عندنا مؤسَّسة اسمها إعادة تسيير الخط الحديدي الحجازي، لو قلت مثلاً: المدير العام لمؤسَّسة إعادة تسيير الخط الحديدي الحجازي في القطر العربي السوري . كم كلمة ؟ ثلاث عشرة كلمة ولكنها في اللغة مفرد، لأنك ما أفادت معنىً، ثلاث عشرة كلمة جاءت متتابعةً وهي في اللغة مفرد، ماذا حلَّ به ؟ عُزل ؟ كُوفئ ؟ عُوقب ؟ أما حرف القاف لوحده جملة، قِ، من وقى، يقي، قِ، فِ، الفاء فقط جملة من وفى، يفي، فِ، هي فعل أمر والفاعل ضمير مستتر، فالجملة تعطي معنىً تاماً، أما المفرد فيعطي معنىً ناقصاً، إذن مبتدأ وخبر جملة، فعل وفاعل جملة، أما كلمة لو جئت بعشرات الأوصاف لها ولكن لا حلَّ لها ؟ المدير ؛ مدير رئيس مجلس إدارة مؤسَّسة إعادة الخط الحديدي الحجازي في القطر العربي السوري . كم كلمة ؟ باللغة مفرد لأنها لم تفد معنىً تاماً، أما كلمة ( قِ ) تفيد معنىً تاماً .
هذا في اللغة، أما في القرآن الكلمة تعني الجملة، أو تعني الأمر، مثلاً :
﴿ وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً(4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِباً(5)﴾
وقال:
﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (116) ﴾
هذه عند الله كلمة واحدة، إذاً الكلمة في القرآن تعني الأمر أو تعني الجُملة قال تعالى:
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ (124) ﴾
في كل سورة من السور الأربع التالية عشر صفات للمؤمنين:
الكلمات قالوا: هناك أربع سور:
﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ(112)﴾
هذه كلمات عَشر، وفي سورة المؤمنون:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1)الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3)وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ(4)وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5)إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6)فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ(7)وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(9)أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ(10)الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(11) ﴾
وقال:
﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً(35) ﴾
وهذه عشر كلماتٍ أُخَر، هذه العشرة الثالثة، والعشرة الرابعة:
﴿ إِلَّا الْمُصَلِّينَ(22)الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ(23)وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ(24)لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(25)وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ(26)وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ(27)إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ(28)وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(29)إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(30)فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ(31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(32)وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ(33)وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(34)أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ(35) ﴾
يقول ابن عبَّاس رضي الله عنهما: " إن هذه الكلمات في هذه السور الأربع، وكل سورة فيها عشر صفات للمؤمنين " .
الإمام يجب أن يكون قدوة لمن حوله ومثلاً أعلى يُحتذى:
قال تعالى:
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ (124) ﴾
أو بأوامر، أو بامتحانات، أُلقي في النار فهذا ابتلاء، وأُمر أن يضع زوجته وابنه في وادٍ غير ذي زرع فهذا امتحان ثانٍ، أُمر أن يذبح ابنه هذا امتحان ثالث:
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ (124) ﴾
بعد أن أتمَّهن:
﴿ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً (124) ﴾
معنى الإمام أنه أمام، إذا كان في الأمام صار إماماً، وإذا كان أمام من حوله في الورع، والاستقامة، والإخلاص، والتقوى، والحب صار إماماً، فالإمام يجب أن يكون أمام كل من حوله، وأن يكون قدوةً لهم، ومثلاً أعلى يحتذى .
محبة الله عزَّ وجل دليلها اتباع الرسول الكريم:
أخواننا الكرام ما دام الموضوع طُرِق:
﴿ قَالَ يَ