وضع داكن
19-04-2024
Logo
الشمائل المحمدية إصدار 1995 - الدرس : 27 - عبادته صلى الله عليه وسلم
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، وبعد... 

فنحن في الدرس السابع والعشرين من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم، وقد وصلنا في شمائله إلى :

 

عباداته صلى الله عليه وسلَّم


 أيها الإخوة الكرام؛ يكفي أن نشعر بأهمية هذا الدرس أن الله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم: 

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ﴾

[ سورة الذاريات ]

 فعلَّة وجود الإنسان في الدنيا أن يعبد الله عزَّ وجل، ويقول الله عزَّ وجل مخاطباً النبيَّ صلى الله عليه وسلَّم:

﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) ﴾

[ سورة الحجر  ]

 التكذيب، والمعارضة، والاستخفاف، والإعراض، والكفر، مواقف الكفار تبعث الضيق في نفس النبي عليه الصلاة والسلام..

﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) ﴾

[ سورة الحجر  ]

 

واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.

 

واليقين هو الموت، أي اعبد الله عزَّ وجل طوال حياتك، ولذلك أُمر النبي صلى الله عليه وسلَّم بهذه الآية ؛ بالتسبيح، والتحميد، والسجود، والعبادة حتى الموت، فالتسبيح تقديس الله جلَّ جلاله وتنزيهه عن كل ما لا يليق به، والتحميد نسبة الكمالات كلها إلى الله عزَّ وجل، والسجود هي الصلاة، ذُكر جزءٌ منها وأريد الكل، أما.. ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)) فأنت مخلوقٌ في الدنيا من أجل العبادة.

 

مفهوم العبادة:


 والعبادة أيها الإخوة ؛ سلوك، طريقه وغايته الخضوع، والاستسلام، والحُب، والائتمار، والإخلاص، والوفاء، ولكن لن تكون إلا بمعرفة الله، وإن كانت أثمرت سعادةً أبديَّة، فالعبادة جانب معرفي، وجانب سلوكي، وجانب جمالي، فإن عرفت الله عبدته، وإن عبدته سعدت بقربه، ولذلك جاءت هذه الآية موجزة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)) ولن تكون العبادة أي الخضوع إلا بعد معرفة الله، ولن تكون السعادة إلا بعد طاعته، والقضية مترابطة ؛ تعرف الله، فتستقيم على أمره، وتسعد بقربه، الغاية هي السعادة، والسبب هي العبادة والطاعة، وسبب السبب هي المعرفة، تعرفه، فتستقيم على أمره، وتسعد بقربه.

 

كان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة .


(( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى ))

[ رواه أبو داود ]

فهل من الحاضرين ليس عنده مشكلات في الحياة ؟ مشكلات في بيته، وعمله، وصحته، وعلاقاته العامة، وهذه المشكلات هي دوافع إلى باب الله، فالنبي عليه الصلاة والسلام علَّمنا أنه إذا أصابه أمرٌ فزع منه بادر إلى الصلاة، إذا أحزنه أمرٌ فزع إلى الصلاة، وعلينا أن نقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام. 

وأجمل ما في الدين الدعاء، وأنت حينما تدعو الله عزَّ وجل، فإنّ الله جلَّ جلاله بشكلٍ واضحٍ صارخ يشعرك أنه سمع دعاءك، وأنه استجاب لك، ومن أجل هذا يقرِّبك. 

 والإنسان كيف يتقرَّب إلى الله عزَّ وجل ؟ إذا دعاه يشعره أنه سمع دعاءه، ويشعره الله أنه استجاب له، فكل مشكلةٍ يعقبها دعاءٌ، ويعقب الدعاء استجابةٌ، ويعقب الاستجابة معرفةٌ بالله وحبٌ له، إذاً كل محنةٍ وراءها مِنحة، وكل شِدةٍ وراءها شَدَّة، وطِّن نفسك أيها المؤمن أن كل مشكلة وراءها قفزة إلى الله، وكل مِحنة فيها منحة، وكل شِدة فيها شَدة، وإن وقعتَ في مشكلة فإنّ الله عزَّ وجل قال:

﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) ﴾

[ سورة الطلاق ]

 معناها الأمور أُحكمت ـ نزلت فلما استحكمت حلقاتها ـ لو أن هناك مخارج أرضيَّة لم تلجأ إلى الله عزَّ وجل، متى تقول: يا رب ليس لي إلا أنت ؟ حينما تُغلق عليك منافذ الأرض، والإنسان أحياناً يتكئ على أشخاص، أو على ماله. 

 أخ كريم قبل أن ينضج قال كلمة، قال: " الدراهم مراهم، كل شيء يُحل بالمال "، هذه كلمة كبيرة، فربنا عزَّ وجل ساق له شدَّة لا تحل بالمال، فبقي في هذه الشدة سبعين يوماً، ما قولك:" كل شيء يُحل بالمال " ؟ لا يا رب، فعلى الإنسان أنْ يدقق في كلامه، في كلام يحتاج إلى تأديب.

أيها الإخوة الكرام؛ أي مشكلة، وأنت مؤمن، فالتخطيط الإلهي أن يشدك إليه، ويقرِّبك إليه، وهذه المشكلة يعقبها دعاء، والدعاء من آثاره شعورُك أنّ الله سمع دعاءك، وأنه استجاب لك، تزداد معرفةً به وحباً له، وأحياناً الإنسان بلغ درجة من الإيمان رضي بها، لكن الله لا يرضى له هذه المرتبة الثابتة، إذن تنشأ مشكلة، فيحصل حجاب أحياناً، وهذا الحجاب يضيق به المؤمن ذرعاً، فيرفع وتيرة عبادته أو عمله فيقفز، وهذه القفزة تشده إلى الله عزَّ وجل.

ولكن يعنينا من هذا الدرس.. عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: (( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى)) أقول لكم بصراحة: قد تكون في مشكلة كبيرة جداً، فتترك التدبير لها، وتذهب تتوضَّأ، وتدخل إلى غرفة الضيوف، وتصلي ركعتين، وفي السجود تناجي الله عزَّ وجل، هذا حل لمشكلة، وهذا أعظم حل، وهو هذا حل واقعي، وأنت الآن وكَّلت خالق الكون ليحل لك مشكلتك ؛ وكَّلت الذي بيده كل شيء، وكَّلت السميع، القريب، المجيب، الرحيم، العليم، الحكيم، وكَّلت من ناصية خصومك بيده، ومن ناصية أعدائك بيده، ومن ناصية الأقوياء بيده، ومن ملكوت كل شيءٍ بيده، وكلته، لذلك إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، (( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى)) أو (( إذا أحزنه أمرٌ فزع إلى الصلاة)) فإذا كان سيد الخلق وحبيب الحق يلجأ إلى الصلاة إذا اشتد عليه أمر، فنحن من باب أولى.

وأقول لكم هذه الكلمة، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن تكون واضحةً عندكم: ما من مشكلةٍ يسوقها الله للمؤمن، ولو كشف الله له الغطاء يوم القيامة لذاب كالشمعة شكراً على هذا الذي ساقه إليه، وهناك آلاف القصص، فالشدَّة ظاهرة يعقبها توبة، ومن التفلُّت جاءت المصيبة، فأثمرت توبة نصوحًا، ومِن التسيُّب جاءت مشكلة فأثمرت إقبالاً على الله عزَّ وجل، ومن التقصير جاءت المشكلة فأثمرت سعياً حثيثاً في طلب مرضاة الله عزَّ وجل، فبشكل أو بآخر المؤمن يفهم على ربه، ومن فهم على ربه سر التصرُّفات قطع أربعة أخماس الطريق إلى الله عزَّ وجل.. (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)) أي دُم على عبادتك ما دمت حياً، من غير إخلالٍ بها ولا لحظةً واحدة، فأنت تعاملت مع خالق الكون، وطِّن نفسك على أن تثبت على ما أنت عليه ؛ فصلواتك، واستقامتك، وغض بصرك، وصدقك، وأمانتك، فأنت عاهدت الله سبحانه وتعالى، وعاهدت الذي خلقك.

 وبالمناسبة ؛ هناك فهم إبليسي لبعض الآيات..( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)) قال بعضهم: إذا جاءك اليقين انتهت العبادة، اليقين هنا هو الموت فقط، والدليل:

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(47) ﴾

[ سورة المدثر ]

 الموت، إذاً القرآن مثاني، وكل آيةٍ تنثني على أختها فتفسِّرها..( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)) أي الموت، والدليل:( حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(47)) قد يسأل أحدكم: لمَ اختار الله جلَّ جلاله للموت هذا الاسم اليقين ؟ الجواب: لأنه ما من شيءٍ أكثر يقيناً في وقوعه من الموت، وما نجا منه أحدٌ على الإطلاق، وهناك أمراض تصيب الشيخوخة، وحالات نادرة أنه لا يصاب الإنسان بهذا المرض، قال لي طبيب: فحصنا شرايين إنسان متقدِّم في السن، مهمل لغذائه، قال لي: الشرايين سبعة عشرَ عاماً، مرنة إلى أقصى درجة، وهناك حالات نادرة، فهذا الإنسان على تقدمه في السن، وعلى إهماله الغذاء، فشرايينه مرنة جداً، ويمكن لإنسان أنْ ينجو من مرض ؛ ولكن هل يمكن أن ينجو من الموت ؟ أبداً..

﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) ﴾

[ سورة الرحمن ]

 فسمى الله الموت يقيناً لأنه متيقنٌ وقوعه، وسمى الله الموت يقيناً لأن كل الأفكار التي سمعتها في الدنيا تراها عند الموت حقيقةً، تتيقَّن من كل ما قيل لك عن الدار الآخرة ـ يقين ـ الوقوع يقيني، والشهود يقيني. هذه الآية كقوله تعالى:

﴿ وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً (31) ﴾

[ سورة مريم ]

 أي طول حياتي ، ورد في الأثر: 

ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي أن سبِّح بحمد ربك وكن من الساجدين 

( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)) والآن العبادة أمر تكليفي، ومعنى تكليفي أي إن هذه الأوامر ذات كُلْفَة، ولذلك قال الله عزَّ وجل:

﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً (65) ﴾

[ سورة مريم ]

 صلاة الفجر تحتاج إلى صبر، وغض البصر يحتاج إلى صبر، والمحافظة على الصلوات الخمس يحتاج إلى صبر، وصيام رمضان في أيام الصيف يحتاج إلى صبر، وأن تأخذ حقَّك وأن تخشى الله عزَّ وجل من أن تأخذ فوق حقك يحتاج إلى صبر، المال يغري، والقوي أحياناً يشتط بقوته فيستعلي على من دونه، فالصبر أساس الاستقامة على أمر الله عزَّ وجل..( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً (65)) أي هل هناك جهة أخرى يمكن أن تكون وجهتك إليها ؟ الله عزَّ وجل هو أهلٌ أن تعبده، وبالتعبير الدارج الإنسان لا يليق له أن يكون لغير الله، أنت لله.

(( ابن آدم خلقتك لنفسي وخلقت كل شيء لك فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له  ))

[ من شرح الجامع الصغير عن ابن مسعود  ]

 ولذلك كانت عبادات النبي صلى الله عليه وسلَّم دائمةً، ومستمرةً، ومتواصلةً في الليل والنهار. 

أطرح عليكم هذا السؤال:

﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) ﴾

[ سورة المعارج  ]

 كيف ؟ هناك آيات كثيرة..

﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) ﴾

[ سورة المؤمنون  ]

 واضحة ؛ خمس صلوات، أما دائمون فقالوا: فيما بين الصلاتين، ودائمون بالدعاء، فأنت بالدعاء مع الله دائماً ؛ قبل أن تدخل البيت، وقبل أن تخرج منه، قبل أن تدخل المسجد، وبعد أن تخرج منه، قبل أن تدخل السوق، وقبل أن تُلقي درساً، وقبل أن تُعالج مريضاً، وقبل أن تقابل مسؤولاً، وقبل أن تقوم بعمل، وقبل السفر، وبعد السفر، وفي أثناء السفر، فالدعاء عبادة مستمرَّة، و: 

(( الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ  ))

[ أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك ]

 روى البخاري عَنْ عَلْقَمَةَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: 

(( هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتَصُّ مِنْ الْأَيَّامِ شَيْئًا قَالَتْ لَا كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطِيقُ  ))

 أي دائماً، فإنْ كان لك مجلس علم فحافظ عليه، وصلاة الفجر في المسجد فحافظ عليها، وغض البصر فحافظ عليه، وعدم المصافحة فحافظ عليها، ولا تعمل نوْبات نوْباتٍ، فهذه النوبات لا تصنع إيماناً، ولا الفورات ؛ فورة ويغيب، يحضر ويغيب، ويقبل ويدبر، ويفور ويسكن، ويتألَّق ويخمد، فهذا لا يتناسب مع سلوكٍ تعامل به الله عزَّ وجل ، (( كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً)) نظِّم أعمالك وفق نظامك الديني، ولا تجعل نظامك الديني وفق أعمالك، وإذا جعلت نظامك الديني وفق أعمالك فمعظم الأيام لستَ متفرِّغا، بل أنت فيها مشغول، وعندنا موسم، وعندنا أعمال كثيفة، فاجعل عملك الدنيوي وفق نظامك الديني، ولا تجعل نظامك الديني وفق عملك الدنيوي، لا تعكسها، فالأصل أنك في عبادة الله عزَّ وجل، ولذلك فزكاة الوقت أداء العبادات، وكيف أنك إذا أديت زكاة مالك حفظ الله لك بقية مالك، وأنت إذا أديت زكاة وقتك بأداء العبادات وطلب العلم، والله أيها الإخوة بارك الله لك في بقية وقتك، دقِّقوا في هذه الكلمة: بارك الله لك في بقية وقتك.

السلف الصالح بارك الله جلَّ جلاله لهم في أوقاتهم، تجد إنسانًا مثل الإمام النووي قد ترك كتبًا فيها من البركات والخيرات ما لا يعلمها إلا الله، فالأذكار، ورياض الصالحين، وقد مات قبل أن يتم خمسين عامًا، فمتى ألَّف هذه الكتب ؟ وهناك علماء أجلاَّء تركوا مؤلَّفات فأقول: يا رب متى ألَّفوها ؟ الآن يوجد تسهيلات لم تكن في زمنهم، وكلها بخط يدهم، أمليت على تلاميذهم، فكلمة توجد بركة للوقت، هذه والله أومن بها كإيماني بوجودي، فمن طلب العلم، وأدَّى العبادات، وعمل الصالحات، وأخلص لله بارك الله له في وقته، ومعنى بارك الله له في بوقته، أي إنه ينجز الأعمال الجليلة في الأوقات القليلة، والله عزَّ وجل بالمقابل قادر أنْ يتلف لك الوقت الثمين بأسبابٍ أتفه من التافهة.

 

المثابرة على مجالس العلم . 


 إخواننا الكرام؛ لا تضن بمجلس علم وتقول: لا يسمح لي الوقت، فأحياناً بالآلة التي عندك خطأ بسيط تتعطَّل أسبوعين، وأحياناً جهاز بسيط لا يوجد له قطع تبديل، والآلة وقفت، أحياناً ارتفاع حرارة طارئ، ويقول لك الطبيب: حلل، فتحلل، صوِّر، فصور تصويرا طبقيًا، أو مرنان، ويقول لك: أنت سليم، خسرت عشرة آلاف ليرة، وثلاثين ساعة، وأنت معافى، فلا تضن على الله عزَّ وجل بوقت العبادة، وبوقت الطاعة، وبطلب العلم، وبحضور مجالس العلم، فإذا أديت زكاة وقتك بارك الله لك فيه، فتنجز في الوقت القليل الشيء الكثير.

 وأحياناً إذا كانت عندك مركبة، ضربة تتم في ثانية، فتحتاج إصلاحًا يستغرق شهرًا، ساعة تجليس، وساعة قطع، وساعة بخ، وساعة معجون، اذهب وتعال، ذهبت منك ثلاثون ساعة، والحادث بثانية، فلا تضن بوقتك على ربك، فأنت لله، وهذه العبادة..

﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) ﴾

[ سورة الأنعام ]

 فأنت عندما تعطي ما لله تشعر براحة، فهذا وقت العبادة، وهذا وقت مجلس العلم، وهناك مَن إذا زاره شخص عادي يقول لك: زارني شخص، قل له: أنا عندي مجلس علم، تفضَّل معي، فأنت عندما يكون عملك ديمة ، (( كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً)) أنت عاهدت الله عزَّ وجل، لك هذا المجلس، ولك هذه الصلاة، ولك هذا الذكر، ولك هذا الفجر، وهذا الظُهر، وهذه الدعوة، وهذه الجلسة مع أهلك.

 أنا أتمنى على كل أخ كريم تكون له دعوة صغيرة، أليس حولك أحد ؟ أليس لك إخوة ؟ أو أصدقاء ؟ أو جيران ؟ أو أولاد ؟ أو أقارب ؟ أو أخوات بنات ؟ أو بنات أخوات ؟ لتكُن لك جلسة دينية، اجمعهم، وعلّمهم آية قرآنية، أو حديثًا شريفًا، أو شيئًا من السيرة، أو حكمًا فقهيا، ألِّف قلوبهم، وزرهم، وتفقَّدهم، فأنت تحتاج عملاً لله، عملاً للآخرة.

 إنّ الأعمال الخالصة لله تُسعِد صاحبها أيَّما مسعد، كأن تعمل عملاً لا تبتغي منه سمعةً، ولا مالاً، ولا كسباً، ولا رياءً، بل تبتغي به وجه الله عزَّ وجل، ولذلك الوقفة أين ؟.(( كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً)) يقول وهذه من سنته العملية ، ولم يدع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم نوافله، وتطوعاته طيلة عمره ، كما جاء عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: 

(( مَا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ ـ أي صلاة التطوع ـ جَالِسًا إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ  ))

[ رواه مسلم ]

 وفي رواية عَائِشَةَ قَالَتْ: 

(( كَانَ أَكْثَرُ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَكَانَ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا  ))

[ مسند أحمد ]

 إخواننا الكرام؛ قد يكون وجود أخٍ في المسجد معلومًا، فإذا غاب يومًا واحدًا فالكل يعلم ذلك، أين فلان ؟ وجوده معروف، فقد صار أحد أركان المسجد، فإذا غاب يومًا واحدًا فحتماً هو مريض، أو نزل به أمر قاهر، فيزوره الناس، قال لي واحد مرَّة: مرضت شهرين وما زارني أحد، فقلت له: الحق عليك، هو بالأساس حضوره متقطِّع، فلما غاب ظنوا حسب نظامه يأتي، ولا يأتي، فإذا كان وجودك معلومًا، فأنت أحد أركان المسجد، طبعاً ستُفتقد، أما إذا أنت بالأساس تأتي قليلاً وتغيب كثيراً، فإذا غبت لعلة أو مرضٍ ـ لا سمح الله ـ فأنت حسب طبيعتك المنقطعة، فلا أحد يزورك، وأنت تتألَّم، والحق على الذي داوم بهذه الطريقة.

 إخواننا الكرام؛ العبادة هي التقرُّب إلى الله تعالى بأقصى غايات الخضوع والتذلل له سبحانه، فبصراحة وبقدر ما تستطيع فتذلَّل لله، وهذه علاقة عكسيَّة، وبقدر ذُلِّك لله يعزُّك الله، وأعلم علم اليقين أنه لا أحد في تاريخ البشرية كان أكثر تواضعاً لله من رسول الله، وبحسب ما أعلم ما لا يوجد إنسان في تاريخ البشرية رفع الله ذكره، وأعلى شأنه كرسول الله، فكلَّما تنزل تصعد، وكلَّما ازددت تواضعاً لله رفعك الله، أما أمام الآخرين فكُن عزيزَ النفس، ولا تخضع لإنسان، وأمام الآخرين اعرف قدرك، قال له: متى أمَتَّ علينا ديننا ؟! ارفع رأسك يا أخي لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه.. 

(( ابتغوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير  ))

 فأنت عزيز إذا كنت مع الله، وإن لم يكن الإنسان مع الله فهو ذليل، 

(( وَإِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ  ))

[ من سنن أبي داود عن الحسن بن علي  ]

 والعبادة هي التقرب إلى الله جل جلاله بأقصى غايات الخضوع والتذلل، فيما شرعه لعباده؛ من الأقوال، والأعمال القلبية، والبدنية والحالية.

 

العبادة وفق منهج الله . 


 والآن أدق نقطة في الدرس أنه ينبغي لك أن تعبد الله وفق منهجه، أمّا انحرافات الجماعات الإسلامية أنها تريد أن تعبد الله وفق مزاجها، لأنها مبتدعة، فيجب أن تعبد الله، ويجب أن تعبده وفق أمره، وهذا ملخَّص درس اليوم، يجب أن تعبده، وينبغي أن تعبده وفق منهجه.

 ولعلي أوضِّح هذه الفكرة بهذا المثل: اشترى شخص مركبة فيها أعطال، وهي واقفة أمام البيت، ما ركبها ولا مرَّة، ضاق بها ذرعاً، وسئم منها، ورفضها، فتركها، ولأنه ما ذاق حلاوتها، بل ذاق تكاليفها وأعباءها، فإذا صلى الرجل وليس له وجهة فإنّه سيمَلُّ من الصلاة، ويصير حاله كحال المنافقين..

﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً (142) ﴾

[ سورة النساء ]

 فما استقام، وما طهَّر نفسه، وما أخلص، وما قدم هدية إلى الله عزَّ وجل ـ عمل صالح ـ إذا وقف ليصلي تألَّق، ما قدَّم شيئًا، وعنده مخالفات، وتسيُّب، و تقصير، وتحريش بين المؤمنين، وإطلاق بصر أحياناً، وتساهل، فهذه المعاصي حجاب. 

 وفي كلمة أقولها لإخواننا: أيعقل أن يكون المؤمن مقطوعاً عن الله لأسبابٍ تافهة ؟ المجرم مقطوع ولكن لأسباب وجيهة، فالسارق الزاني وشارب الخمر مقطوعون، لكن لأسباب وجيهة، كبيرة، أما أنت فقد خطف بصرك قليلاً فحجبت، إنها كلمة بلا فائدة، غيبة مثلا، فهل يعقل أنْ تحرم نفسك هذه الوجهة إلى الله بذنبٍ تافه ؟ لأن الذنوب كبيرها وصغيرها تقطع، وأوضح بمثل:  بيت فيه ثلاجة، ومروحة، ومكيِّف، ومكواة، ومسجلة، فيه خمسون آلة كهربائية، فإذا انفصل التيار الكهربائي الأساسي مترًا، أو نصف متر، أو ثلاثين سنتيمترًا، أو عشرين، أو عشرة، أو خمسة، أو سنتيمترًا، أو مليمترًا، فما دام مفصولا فكل الآلات واقفة، فمسافة الفصل سواء كانت كبيرة أم صغيرة فالآلات كلها واقفة، والإنسان إذا كانت له معصية كبيرة حُجِب عن الله بحجاب يتناسب مع المعصية، ولكنه حجاب مع الله لسبب تافه ؟! غير معقول.

 ولذلك أيها الإخوة؛ عَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ 

(( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ  ))

[ رواه مسلم ]

 فالشيطان ليس له أمل بعد مجيء هذه الرسالة أن تنحت أصنام وتعبد من دون الله، فلم تعد اللات والعُزى ولا يغوث ونسر موجودة، لكن هناك مخالفات ، (( وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ)) وفي الحديث (( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ)) لا تسمح للشيطان أنْ يقطعك عن الله لسبب صغير، بكلمة تقولها، أو بنظرةٍ تُلقيها، أو بخلافٍ بينك وبين أخيك.. 

(( إِيَّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ، إِنَّمَا يَعْنِي الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَقَوْلُهُ الْحَالِقَةُ يَقُولُ إِنَّهَا تَحْلِقُ الدِّينَ  ))

[ من سنن الترمذي عن أبي هريرة  ]

 ولذلك للعبادة لذةٌ، فهذه السيارة إذا ما سرتَ بها مللتَ منها ؛ تصليح، وتبديل عجلات، وتصليح محرك، ولكن ما ركبتها ولا مرَّة، فتمل منها، أما إذا استعملتها فلا بد من توافر كل الشروط فيها، فما دام ثمة شرطًا ناقصًا فهي واقفة، فإذا كانت واقفة مللتَ منها.

 فتصور العبادة كهذه المركبة، إذا لم تكن جاهزة جاهزية تامة، وانطلقت سائرةً، تملُّ منها، وتسأم منها، وتعافُها، وتتكاسل في تعاملك معها، أما إذا أقلَّتك إلى مكان جميل أنت وأهلك، فقد صار لها معنى.

فهذا المثل تمهيدي، للعبادة لذةٌ، وحلاوةٌ، ونعيمٌ، وطلاوةٌ، فمن طَعِمَ حلاوتها، وذاق لذَتها، تعلق بها وعشقها، فهل من الممكن أنْ يكون أسعد أيام حياتك وأنت في الصلاة ؟ نعم، ولكن قدِّم الثمن، وقد تكون أجمل ساعات حياتك قيام الليل، والإنسان يصلي، ويبكي، ويناجي ربه، ويشعر بأمن واللهِ لو وزِّع على وجه الأرض لكفاهم، خالق الكون معك ليس أمرًا سهلاً، الآن الناس يعيشون في قلق. 

 " دع القلق وابدأ الحياة " كتاب ألَّفه (ديل كارنجي ) أول طبعة بيع منه خمسة ملايين نسخة، من شدة قلق الناس..

﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) ﴾

[ سورة آل عمران ]

 والإنسان حينما يشرك يمتلئ قلبه خوفاً، أي إنسان يطبَّق عليه هذا القانون، اسألني عن قانون الخوف أقل لك: الشرك سبب الخوف، فإذا أطاع الإنسان الله عاش آمنًا، وتجد الناس يعيشون في خوف منقطع النظير ؛ من قلبه، من جلطة، من دسَّام، من تضيّق الشريان التاجي، من إخفاق كلوي، ومن التهاب كبد وبائي، تجدهم منهارين، مظهرهم فخم، ولكن من الداخل كل شيء منتهٍ، والمؤمن لأنه انشغل بشيء عظيم فالله يريحه من أمور صحته، ويطمئنه على أولاده، فيسافر، انظر الدعاء: 

(( اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ  ))

[ من سنن أبي داود عن ابن عمر ]

 دعاء بإخلاص، الله مكانك بأولادك، ومكانك ببيتك، أحياناً إبريق من الماء الساخن إذا حدثَ خطأ بالبيت، ووقع على فتاة صغيرة شوَّهها للأبد، فكلَّما ألقى الأب نظره على وجه ابنته كيف تشوَّهت يشعر بسكين طُعن بها، فإذا كنت مع الله، تولاّك بدعائك ، (( اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ)) الدعاء مُتعة، فيا إخواننا الصلاة، والصوم، وصلاة الليل، والذكر، والدعاء، والتلاوة في كل هذه العبادات لذةٌ، وحلاوةٌ، ونعيمٌ، وطلاوةٌ، فمن طعم حلاوتها، وذاق لذَّتها تعلَّق بها وعشقها، فهو لا ينفك عنها أبداً لأنها تصير راحته وريحانه. 

السيدة رابعة العدويَّة كانت تقول: " يا رب أغلقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيبٍ بحبيبه، وها أنا ذا واقفةٌ بين يديك " فهل من السهل عليك تناجي ربك ؟ يقبلك، ويتجلى عليك، وينصرك، ويطمئنك، ويعطيك، فهذا أمر كبير.

 ويقولون: إن أعظم ذائقٍ ذاق حلاوتها، وأكبر من نعم بها وشهد أسرارها وأنوارها، هو سيدنا محمدٌ صلى الله عليه. 

والله مرَّة ـ هذا العبد الفقير ـ صليت ركعتين في المدينة المنورة، خلف إمام أنا أثق أنه في إقبال على الله عزَّ وجل، والله صلى، وتمنيت أن يصلي حتى الظهر، إن الصلاة شيء جميل جداً، وهذه هي الصلاة التي أرادها الله، فإذا دعاك أحدهم لأكل، صحون وملاعق، ولكن لا يوجد أكل، وأنت جائع، وانتهت العزيمة، ودعاك مرة ثانية تقول: إنني مشغول، لأنك لم تأكل شيئًا، توضأت وصليت ولكن في عباداتك مخالفات، وهناك حجاب، وتشعر نفسك أنها ليست هذه هي الصلاة، أما عندما تهيئ نفسك للصلاة بطاعة، وعمل صالح، وهديَّة إلى الله، وخدمة للعباد، ونصحهم، والدعوة إلى الله، وبالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فيعطيك الثمن بالصلاة، والله عزَّ وجل قال:

﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) ﴾

[ سورة الأعراف  ]

 فأحياناً وإن كان الأمر من باب التشبيه إذْ تكون لك قضية وقد وكلت محاميًا من الطراز الأول، يقول لك: كل القضاة خاتم في يدي فاطمئن، فإذا وكَّلت محاميًا من الطراز الأول شعرت بطمأنينة، فكيف إذا كان الله وليك..

﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) ﴾

[ سورة البقرة  ]

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) ﴾

[ سورة محمد ]

 فتصور أبًا من أعلى مستوى ؛ من علم، وفهم، وقوة، وغنى، وتربية، وعنده ابن غالٍ عليه كثيراً، يتابعه في حركاته، وسكناته ؛ ومدرسته، وطعامه، وشرابه، وغذائه، وأطباء، ودروسه خاصة، وغرفة خاصة، فهذا ابن له أب يتولى شأنه، وإذا يقابله طفل متفلت في هذه الطرقات..

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) ﴾

[ سورة محمد ]

 وأنت أكبر شرفًا بأن الله وليَّك ، ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) .

﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) ﴾

[ سورة الأعراف ]

 فأنت على قدر صلاحك لك من ولاية الله نصيب، وهو يتولى الصالحين، وأصلح الصالحين رسول الله، فكان الله وليه.

ماذا أراد سراقة بن مالك ؟ أراد أن يقتل النبي ليأخذ مئتي ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، فساخت قدما فرسه في الرمال، واستغاث بالنبي، وكان أهل مكة يشعرون أن النبي يحميه ربُّه، وأنت كمؤمن يشعرك الله أنك بعينه..

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) ﴾

[ سورة الطور ]

 فحياتك وكرامتك وصحتك غالية، وأهلك وأولادك مقربون مكرمون، فأنت في طمأنينة، وهذه ليست من الأمر السهل ؛ أن يطمئنك خالق الكون ، ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ ولذلك أكمل ذوقٍ لحلاوة العبادات، وألذ راحةٍ ونعيمٍ بها، كما جاء في المسند وسنن أبي داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ انْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبِي إِلَى صِهْرٍ لَنَا مِنْ الْأَنْصَارِ نَعُودُهُ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَقَالَ لِبَعْضِ أَهْلِهِ يَا جَارِيَةُ ائْتُونِي بِوَضُوءٍ لَعَلِّي أُصَلِّي فَأَسْتَرِيحَ قَالَ فَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ عَلَيْهِ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: 

(( قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ  ))

 بصراحة في هذا الحديث الفرق بين المؤمن والمنافق، أوّلهم أرحنا بها، والثاني أرحنا منها، بين الباء وبين من، إما أن يكون لسان حالك أرحنا بها، وإما أرحنا منها، فالمؤمن أرحنا بها، والمقصِّر الذي فيه مخالفات، وفيه تقصير أرحنا منها. 

وكما في المسند وغيره عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

(( حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ  ))


أقوال بعض العارفين بالله :  

 

يقول إبراهيم بن الأدهم: 

والله لو يعلم الملوك ما نحن عليه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف . 

 وقال الشيخ أبو سليمان الداراني رضي الله عنه: 

أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم . 

 والآن تجد طريق منين فيه أكثر من عشر ملاهٍ، يكتبون: المغني الفلاني، والفنانة الفلانية، طبعاً مع خمور، ونساء كاسيات عاريات، هؤلاء الذين يرتادون الملاهي لماذا يرتادونها ؟ يبحثون عن لذَّتهم، يقول هذا الشيخ: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم ، لو يعلم أهل اللهو ـ رواد الملاهي ـ أنهم إذا اتصلوا بالله، سعدوا سعادةً لا توصف، لتركوا ملاهيهم وأقبلوا على ربهم، ولذلك الإنسان المؤمن لسان حاله يقول: هؤلاء مساكين ما عرفوا الله.

 قال بعض العلماء: 

مساكين أهل الدنيا جاؤوا إلى الدنيا وخرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها.

وأطيب شيء في الدنيا الاتصال بالله، مساكين أهل الدين. 

 يقول أحد العارفين بالله: 

ماذا يفعل أعدائي بي ؟ بستاني في صدري، إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، فماذا يفعل أعدائي بي ؟. 

لا شيء، أنت سعادتك داخلية، فأهل الدنيا سعادتهم بالمكيّف، إذا لم يملك تكييفًا يقول لك: لا يعاش من دون مكيِّف، سعادته بسيارته، بزوجته، وبيته، وأمواله، وطعامه وشرابه، له ترتيبات، يأكل وينام ؛ والمؤمن سعادته من الداخل، سعادته من شعوره أن الله يحبه، سعادته من شعوره أن الله راضٍ عنه، سعادته من شعوره أن المستقبل له.. 

﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) ﴾

[ سورة القصص ]

 سعادته من شعوره أن الحقيقة الكبرى في الكون معه.. 

 فإذا كان الله معك فمن عليك وإذا كان عليك فمن معك ؟!

 يقول عالِمٌ آخر: 

والله لولا قيام الليل لما أحببت البقاء في الدنيا . 

 وقال بعضهم: 

والله إذا كان أهل الجنة على ما نحن عليه هم في عيشٍ طيب . 

 حتى بعضهم قال حينما قال عليه الصلاة والسلام: 

(( أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ  ))

[ رواه الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف ]

 المقصود أنه الآن في الجنة، في الدنيا جنة، جنة القرب، وفي الآخرة جنة، لكن المؤمن لن يدخل جنة الآخرة إلا إذا ذاق حلاوة جنة الدنيا، هي جنة القرب. 

 يقول الله تعالى لملائكته الذين يطوفون في الطُرق يلتمسون أهل الذكر: 

(( فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا يَقُولُ عِبَادِي قَالُوا يَقُولُونَ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ قَالَ فَيَقُولُ هَلْ رَأَوْنِي قَالَ فَيَقُولُون لا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ قَالَ فَيَقُولُ وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي  ))

[ أخرجه البخاري عن أبي هريرة  ]

 نحن على الغيب ؛ إله عظيم، رحيم، غني، كريم، قال: كيف لو رأوني. 

 ورد في الأثر أن الإنسان يوم القيامة ينظر إلى الله عزَّ وجل فيغيب خمسين ألف عام من نشوة النظر، قال لهم: (( وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي)) قال فيما رواه الإمام مسلم عَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: 

(( إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَلَا يَتْفُلُونَ وَلَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَمْتَخِطُونَ قَالُوا فَمَا بَالُ الطَّعَامِ قَالَ جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ  ))

 كيف لو رأوني ؟ نحن في الدنيا نسبِّح ونحمد ونقدِّس، ولم نر ربنا، أما في الجنة فيرى المؤمنون ربهم كما نرى نحن في الدنيا القمر ليلة البدر.

 والعبادات تهذِّب النفس من الرعونات، والحماقات، والدعاوى، الأثرة، حتى تصفو نفس العابد وتدخل في دائرة العبوديَّة، وعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: 

(( كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي سَلْ فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُ هُوَ ذَاكَ قَالَ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ  ))

[ رواه مسلم ]

 الإنسان كلَّما اتصل بالله رقَّت مشاعره، وتهذَّبت حركاته وسكناته، فالحماقات، والرعونات، والأثرة، والكِبر، والدعاوى، والاستطالة على الآخرين، هذه من ضعف العبادة، فالكمال كله عند الله، وبقدر اتصالك بالله تأخذ من هذا الكمال، ومكارم الأخلاق مجموعةٌ عند الله، فإذا أحب الله عبداً منحه خُلقاً حسناً.

 نتابع هذا الموضوع في درسٍ قادمٍ إن شاء الله، في منهج دقيق جداً في الدرس القادم ـ منهج العبادة في الإسلام ـ فيه نقاط مهمة جداً، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن تكون واضحةً عندكم.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور