- السيرة / ٠1السيرة النبوية / ٠3الشمائل المحمدية
- /
- ٠1الشمائل المحمدية 1995م
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس الخامس من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن نمضي في الحديث عن شمائله، أذكر أنّنا قد عالجنا في الدرس الماضي موضوع رجاحة عقله، ووعدتكم أنْ أتابع الموضوع، وقبل أن نمضي في الحديث عن رجاحة عقل النبي صلى الله عليه وسلم أريد أن أضع بين أيديكم هذه الحقيقة لأنها محور الدرس.
كيف أن السُبحة عبارة عن مجموعة حبَّات، فيها خيطٌ ينظمها جميعاً، وقد لا يرى الخيط، لكنه موجود، فالإنسان حينما يوفَّق في فهم نص أو فهم موضوع، ويضع يده على المحور الذي ينظم حبات العقد كلها، فمن رجاحة عقل النبي أنه كان يحسن انتقاء معاونيه، والإنسان فرد، لكن مَن الذين يتصلون بالمجتمع ؟ المعاونون، يرسل منهم رسولاً إلى ملك، ويُعيِّن قائدًا على جيش، فهؤلاء الذين كان يختارهم النبي عليه الصلاة والسلام، كان يختارهم بعناية فائقة، وكان يختارهم من بين نخبةٍ عالية المستوى من أصحابه.
لذلك فالإنسان إذا أساء اختيار معاونيه هَلَك، وإذا أحسن اختيار معاونيه نجح، فمحور الدرس كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يختار قواد الجيوش، وكيف كان يختار رسله إلى الملوك، وكيف كان يختار في المهمات الخاصة نخبةً عاليةً من أصحابه الكرام.
فالإنسان كما تعلمون - أيها الإخوة - قويٌ بإخوانه، وضعيفٌ بإخوانه، فلو كان الذين حولـه ضعافًا، متكاسلين، ضعافَ التفكير، ضعاف العزائم، لهم أهدافٌ لا تتناسب مع عظمة هذه الدعوة، فالدعوة تَسْقُط.
فالنبي عليه الصلاة والسلام ينتقي لخوض المعارك العنيفة أكفأ الرجال من الأبطال، بحسب الاستعداد والمناسبة، ثم يتبين للصحابة الكرام، دقة نظره صلى الله عليه وسلم في تعيين ذلك الرجل الذي انتقاه، ففي يوم خيبر حدَّثَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ:
((لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا فَقَالَ أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقِيلَ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ قَالَ فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ))
فلموقعة خيبر اختار سيدنا عليًّا، وكان غائبًا، وفي رواية البيهقي والطبراني عن عليٍ كرم الله وجهه قال: " فما رمدت ولا صُدِعَت منذ أن مسحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
وفي روايةٍ أخرى، وكان علي رضي الله عنه يلبس القباء المحشوَّة الثخينة في شدة الحر فلا يبالي، ويلبس الثوب الخفيف في شدة البرد فلا يبالي، فسئل عن ذلك، فأجاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له يوم خيبر، إذاً اختار لهذه المعركة البطلَ المناسب.
مرةً بحث عن إنسان لمهمة، فعرض عليه أصحابه اسم رجل من صحابته، فقال بلطف وأدب: " ليس هناك " أي ليس في مستوى هذه المهمة، فكان يعرف أقدار الرجال، ويعرف قُدرات الرجال، ويعرف طاقات الرجال، ويعرف خصائص الرجال، ويعرف الميزات التي يتمتَّع بها الرجال، وكان ينتقي لكل مهمةٍ أعلى رجل من أصحابه، تتوافق خصائصه مع هذه المهمة.
قالوا: يوم أحد اشتدت المعركة، فقال عليه الصلاة والسلام:
((من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ "، فقام إليه رجال منهم الزبير بن العوام، فطلبه ثلاث مرات، كل ذلك يُعرض عنه النبي، حتى قام إليه أبو دُجانة، فقال: " وما حقه يا رسول الله ؟ قال: أن تضرب به وجه العدو حتى ينحني " ـ السيف ـ وكان رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام يختال ويتبختر في مِشيته قال: " إنها لمشيةٌ يبغضها الله إلا في هذا الموطن فهو يحبها الله عزَّ وجل))
لذلك قالوا: " التكبر على المتكبر صدقة " إن الله يبغض هذه المشية ؛ مشية التكبُّر إلا في هذا الموطن، فالإنسان أمام الكفار ليس له حق أنْ يتواضع، ولا أنْ يتطامن، ولا يتدروش، بل يجب أن يتعالى، لأنّ المتكبر على المتكبر صدقة، والحكمة أن تريهم قوةً، أن تريهم ثقةً بالنفس، أن تريهم شرفاً، ولكنْ يجب مع المؤمن أنْ تتواضع، فإنَّ الله عزَّ وجل وصف المؤمنين فقال:
﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ﴾
بين المؤمنين ليس ثمَّة تكلُّف، ولكن مع الكفار ينبغي أن تظهر بمظهر القوة، ومظهر الشرف، ومظهر الاستعلاء، فكان أبو دجانة إذا مشى يتبختر في مشيته، فقال عليه الصلاة والسلام موضحاً:
((إنها لمشيةٌ يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن يحبها))
إخواننا الكرام في نقطة دقيقة ؛ نستفيد منها جميعاً في كل موضوعات السيرة، إنْ فعل النبيُّ شيئًا وهو المشرِّع، فمعنى(مُشَرِّع)أنَّ هذا الشيء يقاس عليه ألفُ شيء، يعني مثلاً: لما رأى صحابيين ومعه زوجته صفية، ماذا فعل النبي ؟ قال:
((عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ))
فهذه حادثة واحدة، لكنك من الممكن أن تقيس عليها مليون حادثة، لأن النبي مشرع، وهذه فعلها تشريعاً، فلو كنت تحاسب إنسانًا فبيِّن له، وأنت في المحل التجاري فدخلت امرأة، وقلت لها: أهلاً وسهلاً، نحن مشتاقون لكِ، وكانت أختك، قل لمَن يتواجد: هذه أختي، بيِّن له أنّ هذه المرأةَ أختك، دخلتَ إلى محلك ليلاً ؛ ساعة الثانيةَ عشرة، فقل للحارس: أنا داخل لآخذ سندًا، عندي غداً صباحاً باكراً سفر، بيِّن له، لكي لا يقول: لماذا جاء الساعة الثانية عشر ليلاً إلى المحل ؟ قد يقول في نفسه: لعل خلافًا وقع مع شريكه، فجاء ليختلس ويسرق.
فما دام النبي مشرِّعًا، ففِعلُه يُقاس عليه، ولو كان غير مشرع فهي مجرَّد حادثة وقعت، وربَّما لا تقع مرة ثانية، لكنه ما دام مشرعًا فالحادثة التي وقعت معه قد تقيس عليها آلاف الحوادث، إذاً لما قال: " هذه زوجتي صفية "، فأنت يجب ألاّ تسمح لتصرف من تصرفاتك يثير الشبهات، يقول سيدنا علي: " لا تضع نفسك موقع التهمة ثم تلوم الناس إذا اتهموك "، فالذي يضع نفسه موضع التهمة يجب أن يتحمل لوم الناس له، والتشهير به، لأنه هو المذنب.
كأن تكون في محل تجاري، ولا أحد معك، وخطر في بالك أن تصرف مئة ليرة من الدرج، وضعتَ المئة ليرة، وأخذتها صرفًا، فدخل صاحب المحل، فوجدك تأخذ من الدرج، ولكن لم يرَك وأنت تضع المئة ليرة، هذه قضية فيها شبهة، ليس لك حق أن تفتح الدرج إطلاق، ولو كنت أنقى من ماء الثلج، "لا تضع نفسك موضع التهمة ثم تلوم الناس إذا اتهموك"، هذه قاعدة، فلما قال النبي: "هذه زوجتي صفية"، فقد علمنا أن نقيس عليها آلاف الحوادث، فدائماً وضِّحْ للآخرين.
أنت مسافر، وكَّلتَ أخا زوجتك أنْ يزور بيتَك في أثناء غيابك، ليتفقد أخته، ولك جيران في الطابق نفسه، بلِّغهُم أنك مسافر، فإذا رأوا رجلاً دخل بيتك في غيابك، فهل سيقولون: هذا أخوها أم يتهمونها بشخص آخر ؟ وبعد عدة سفرات ترى نفسك مفضوحًا، بيِّن ووضِّحْ، فهذه القصة يجب أن تقيس عليها ألف قصة، لأنّ النبي مشرِّع.
ومن تشريعه:
((إن الله يبغض هذه المشية إلا في هذا الموطن))
معنى ذلك أنك إذا كنت مدعوًّا فكُن أنيقًا، إذا كانت ثيابك موضِعَ انتقاد وأنت مسلم، فقد استخذيت، يجب أن تظهر بمظهر الأناقة، ويجب أن تأتي في الموعد تماماً، ويجب أن تتكلم بثقة، ويجب ألاّ تظهر ضعفك أمام كافر، دائماً أظهر قوتك، وكما تعلمون سابقا أنّ الإنسان إذا اشتكى إلى مؤمن فكأنما اشتكى إلى الله، أما إذا اشتكى إلى كافر فكأنما اشتكى على الله، فلا تبثَّ همَّك لغير المؤمن، فأخذ أبو دجانة عصابةٍ له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: " أخرج عصابة الموت "، فخرج وهو يقول شعرًا فاسمعوه:
أنا الذي عاهدني خليلي.. .. ونحن بالسفح لدى النخيل
ألاّ أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
***
الكيول: أي في مؤخِّرة الصفوف.
فجعل لا يلقى أحداً من المشركين إلا قتله، قال الزبير: وكان في المشركين رجلٌ لا يدع لنا جريحاً إلا أجهز عليه، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا فاختلفا ضربتين، أي تبادلا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بترسه فعضَّت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته حمل بالسيف على رأس هند بنت عتبة، ثم عدل عنها، وقال: أكرمت سيف رسول الله عن أن أضرب به امرأة، وصل إلى هند بنت عتبة، وكاد يقتلها بضربة سيف، وتذكر أن هذا السيف سيف رسول الله، فأكرمه عن أن يضرب به امرأة.
فالنبي الكريم انتقى لمعركة خيبر سيدنا عليًّا، وفي أُحُد حينما اشتد الأمر على المسلمين اختار أبا دجانة ليضرب بسيفه.
وبعدُ ؛ فالنبي الكريم من رجاحة عقله أنه إذا أرسل رسلاً إلى الملوك، يختارهم من أعلى المستويات، فالعلاء بن الحضرمي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى، ومعه كتابٌ يدعوه إلى الإسلام، فلما قدم عليه قال له - اسمعوا كلام الصحابي الجليل العلاء بن الحضرمي لما التقى بالمنذر بن ساوى، أحد الملوك ومعه كتاب مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له الرسول: " يا منذر إنك عظيم العقل فلا تصغرن في الآخرة.. "، فالإنسان يكون له في الدنيا شأن، وهذا واللهِ جميل، لكن بطولته أن يستمر هذا الشأن إلى الآخرة ـ قال له: " إنك عظيم العقل فلا تصغرن في الآخرة " ـ أي إذا كان عقلك لم تسلطه على أمور الآخرة، وعلى أمور الكليات في الحياة، ففي الدنيا أنتَ صاحب عقل راجح، ولكنّك في الآخرة صاحب عقل غير راجح ـ "إنك عظيم العقل فلا تصغرن في الآخرة، إن هذه المجوسية شر دين، فكان هذا المنذر بن ساوى مجوسيًا، ليس فيها تكريمٌ للعرب، ولا عُلِمَ عند أهل الكتاب أنهم ينكحون ما يستحيا من نكاحه، ويأكلون ما يتكرم عن أكله، ويعبدون في الدنيا ناراً تأكلهم يوم القيامة "، سأعيد مرة ثانية ما قال هذا الرسول الذكي العلاء ابن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى قال له:
" يا منذر إنك عظيم العقل، فلا تصغرن في الآخرة ـ أي يجب أن يهديك عقلك إلى الإسلام، فلو لم يهدك إلى الإسلام لصغُر عقلك في الآخرة ـ إن هذه المجوسية شر دين، ليس فيها تكريمٌ للعرب، ولا عُلِمَ عند أهل الكتاب أنهم ينكحون ما يستحيا من نكاحه، ويأكلون ما يتكرم عن أكله، ويعبدون في الدنيا ناراً تأكلهم يوم القيامة، ولست بعديم العقل ولا الرأي، فانظر هل ينبغي لمن لا يكذب في الدنيا ألاّ تصدقه ؟! ولمن لا يخون ألاّ تأمنه ؟! ولمن لا يخلف ألاّ تثق به ؟! فإن كان هذا هكذا، فهذا هو النبي الأمي الذي والله لا يستطيع ذو عقلٍ أن يقول: ليت ما أمر به ما نهى عنه، وما نهى عنه أمر به، أو ليته زاد في عفوه، أو نقص في عقابه، إذ كل ذلك منه على أمية أهل العقل وفكر أهل النظر ـ تصرفاته حكيمة، عفوه في مكانه، عقابه في مكانه، صلته في مكانها، عطاؤه في مكانه، أمره في مكانه، نهيه في مكانه ـ والله لا يستطيع ذو عقلٍ أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، وما نهى عنه أمر به، أو ليته زاد في عفوه، أو نقص من عقابه، إذ كل ذلك منه على أمية أهل العقل وفكر أهل النظر".
فقال له المنذر: " قد نظرت في هذا الذي بين يدي، دين المجوسية فوجدته للدنيا دون الآخرة ".
واللهِ الذي لا إله إلا هو لقد وقفتُ عند هذه الكلمة ملياً، معناها كل مبدأ أرضي له نفع دنيوي، تَجَمُّع، البوذية تَجَمُّع، فإذا انضم الإنسان إلى تجمع أرضي ليس له علاقة بالسماء ففيه نفع، وبالطبع الفرد ضعيف وهو وحيد ـ يقول لك: هذا فلان ماسوني، فإذا انضم لمجموع له ميزات، له عطاءات، له حماية، له دعم، فليس الحق أن تنضم إلى تجَمُّع، بل الحق أن تنضم إلى دين، لأن الدين يسعدك في الدنيا والآخرة، أما الانضمام إلى أي تجمُّع، والتجمع مصلحي، هدفه تحقيق مصالح جماعة، فكل مجموعة أشخاص يشكِّلون جماعة، فإذا انضم الإنسانُ لهم كانت له ميزات، بدءاً من النادي وانتهاءً بالأحزاب الكبيرة، فكلٌّ منها تجمع أرضي أساسه المصلحة.
لذلك يقول الملك: " قد نظرت في هذا الذي بين يدي، دين المجوسية فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرت في دينكم فرأيته للآخرة والدنيا ـ المجوسية للدنيا دون الآخرة ـ فما يمنعني من قبول دينٍ فيه أمنية الحياة وراحة الموت ـ والله كلام طيب ـ ولقد عجبت أمسِ ممن يقبله ـ أي دخل في الإسلام ـ وعجبت اليوم ممن يرده ".
طبعاً العرض كان رائعًا: إنك عظيم العقل، فلا تصغرن في الآخرة، هذه المجوسية شر دين، ينكحون مما يستحيا منه، يأكلون مما يتكرم عن أكله، يعبدون في الدنيا ناراً تأكلهم يوم القيامة، ولست بعديم العقل ولا الرأي، فانظر هل ينبغي لمن لا يكذب في الدنيا ألاَّ تصدقه، ولمن لا يخون ألاّ تأمنه، ولمن لا يخلف ألاّ تثق به، فإن كان هذا كذلك فهو النبي الأمي الذي واللهِ لا يستطيع ذو عقلٍ أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، وما نهى عنه أمر به.. إلخ
يقول له المنذر: " قد نظرت في هذا الذي بين يدي من دين المجوسية فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرت في دينكم فرأيته للآخرة والدنيا، فما يمنعني من قبول دينٍ فيه أمنية الحياة وراحة الموت، ولقد عجبت أمسِ ممن يقبله - أيْ يدخل فيه -، وعجبت اليوم ممن يرده، وإن من إعظام ما جاء به أن يعظَّم رسوله وسأنظر ". أي فيما أصنع من الذهاب إلى هذا الرسول أو مكاتبته، لا في أنه يسلم أو لا يسلم، فإن قوله: عجبت اليوم ممن يرده اعترافٌ بأنّه دين حقٍ، كما في شرح هذا النص.
هذا رسولٌ قد أرسله النبي إلى ملك، وعرض هذا العرض، وكان هذا جواب الملك.
وعندنا رسول آخر اسمه المهاجر بن أبي أمية المخزومي، شقيق أم سلمة أم المؤمنين، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحارث ابن عبد فُلالٍ أحد ملوك حِمْيَر، فلما قدم عليه المهاجر قال له: " يا حارث إنك كنت أول من عرض عليه المصطفى نفسه، فخطئت عنه، وأنت أعظم الملوك قدراً، وإذا نظرت في غَلَبَةِ الملوك فانظر في غالب الملوك ـ الذي يغلبهم ويقهرهم، اتقِ غالب الملوك، ولا تنظر إلى غلبة الملوك ـ وإذا سرك يومك فخف غَدَك، وقد كان قبلك ملوكٌ ذهبت آثارها وبقيت أخبارها، عاشوا طويلاً وأملوا بعيداً وتزودوا قليلاً، فمنهم من أدركه الموت، ومنهم من أكلته النِقَمُ، وأنا أدعوك إلى الرب الذي إن أردت الهدى لم يمنعك، وإن أرادك لم يمنعه منك أحد، وأدعوك إلى النبي الأمي الذي ليس شيءٌ أحسن مما يأمر به، ولا أقبح مما ينهى عنه، واعلم أن لك ربًّا يميت الحي، ويحي الميت ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ".
هؤلاء الرسل الذين بعث بهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى الملوك كانوا في مستوى المهمة، إذاً أحد أكبر مهام القائد أن يختار للمهمات الصعبة أكفأ من حوله، أجل أن يختار أكفأ من حوله، وأقدر من حوله على أن يقوم بالمهمة خيرَ قيام، وهكذا فعل النبي في الحرب، وفي السلم، في الدعوة الداخلية وفي الدعوة الخارجية.
يقول عليه الصلاة والسلام:
((رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس))
فالذي عنده قدرة أن يتودد إلى الناس، يتقرب منهم، يلين الكلام معهم، يعفو عنهم، يغفر خطيئتهم، يسامحهم، يدلهم على الله عزَّ وجل، يتقرب منهم، هذا أعظم عمل يأمرك العقل به، فكان عليه الصلاة والسلام يداري السُفهاء والحمقى، ليكُفَّ من غائلتهم وشرهم، وليستميلهم ويجلب قلوبهم نحو السداد والرشاد، ففي الصحيح عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
((اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ أَوْ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ الَّذِي قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْكَلَامَ قَالَ أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ))
وفي رواية:
((فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا - أأضربه، أأسبُّه - إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ))
أي إذا داريتَ إنسانًا تكون عاقلاً، لكنه هو شر الناس،
((إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ))
عندنا حكم فقهي، إذا كان الإنسان من عادته السُكر، ثم صحا، وقتل، وضرب، وآذى، وفَتَن الناس، فإذا رأيته سكران فدعه سكران، لأن الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها، شر الناس من اتقاه الناس مخافة شره، وخيرُ الناس المؤمن الودود، أما هذا الذي يُتقَّى مخافة شره، فهو إنسان شرير، بل هو شرُّ الناس، شيء جميل، لما رآه النبي الكريم قال: بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة، فلما دخل تَطَلَّقَ وجهه، وألان له الكلام وانبسط له، السيدة عائشة عجبت ما هذا ؟ فكأنَّ النبيّ ذو وجهين، قالت له: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت: كذا وكذا، ثم انطلقت في وجهه، وانبسطت إليه فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة متى عهدتِني فحاشاً، إن شرَّ الناس منزلةً عند الله يوم القيامة مَن تركه الناس اتقاء شره، وفي روايةٍ: "اتقاء فحشه"، إذا كان كلامُ الشخصِ بذيئًا، ويتكلم في العورات، ثمَّ داريتَه فأنت حكيم، أما لو استفززته فإنه يتكلم بالفحشاء على الفور.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يقابل هذا الأحمق بغلظةٍ وفحشٍ، بل ألان له القول، وسلك معه مسلك المداراة.
إخواننا الكرام، يقول العلماء: هذا الحديث أصلٌ في المداراة، وفرَّق العلماء بين المداراة المطلوبة وبين المداهنة المذمومة، المداراة بذل الدنيا لصلاح أمر الدنيا والآخرة، وأما المداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا. فنحن مِن الممكن أن نداريَ، ولكن لا يمكن أن نداهن، قال تعالى:
﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)﴾
فأنتَ مثلاً لم تصلِّ لكي لا يعرف الناس أنك تصلي، خير إن شاء الله ؟ هذه اسمها مداهنة، قد ضيعت دينك من أجل مكسب دنيوي، جلست في مطعم ووُضِع الخمرُ على المائدة، وأنت لم تعترض من أجل الحفاظ على مكسب دنيوي، فالإنسان حينما يضيِّع دينه من أجل الدنيا هذه هي المداهنة، أما حينما يبذل دنياه من أجل دينه فما اسمها ؟ هذه مداراة، من الممكن أن تنفق على إنسان مبلغًا، وأن تقدم له هدية، فتستميل قلبه، وتليِّن قلبه، وتقنعه لحضور درس مثلاً، تقنعه أن يسمع منك، أكرمته، أطعمته، قدَّمت له هدية هذه مداراة، فرأس العقل بعد الإيمان مداراة الناس، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((بعثت بمداراة الناس))
لو قال: بعثت لمداراة الناس، لصار الهدف المداراة، أما بعثت بمداراة الناس، الباء للاستعانة، أي إنك تستعين على هدايتهم بمداراتهم، فنحن مطلوب منا أن نداري الناس، ونعينهم، نصغي لهم، نقدِّم لهم هدية، نخدمهم لكي نستميل قلوبهم، لكي يصغوا لنا، هذا مطلوب ؛ أما أنْ نضحي بديننا، نضحي بصلواتنا، نضحي باستقامتنا إرضاءً لهم، فهذه مداهنة.
الإمام القَسْطَلاَّني يقول: " المداراة مستحسنة، وليست مباحة "، أيْ مستحبة، وقال عليه الصلاة والسلام عن عائشة:
((إن الله أمرني بمداراة الناس، كما أمرني بإقامة الفرائض))
أي إن كنتَ مسلمًا متمسكًا بدينك فلا تكن فظًّا، ولا تكن قطعة معدنية حادة الأطراف، كن ليِّنًا، فمِن يومين سألني أخ سؤالاً: هل مِن السنة أن يُحلق شعرُ المولود ؟ فاختلف مع زوجته، هي تشبثت ألاَّ يحلق شعره، فتدخل الأب، وكبر الأمر، وكاد الأمر يفضي إلى فراق، تساهل قليلاً، فالقضية ثانوية، تساهل فيها، جاء العمُّ، وقصَّ بضع شعرات، وقال له: لقد حلقنا الشعر، لكنه يريد بالموسى، فالإنسان يكون ليِّنًا، ولا سيما بالأمور الثانوية، فنحن عندنا أساسيات، في الأساسيات لا تلِن، أما في الثانويات فكن متساهلاً، إذا كان من ورائها مشكلة كبيرة.
فالمداهنة كما قلت قبل قليل: بذل الدين لصلاح الدنيا، وهي مذمومة، وقد نزّه اللهُ تعالى نبيَّه عنها، فقال:
﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)﴾
فكان النبي عليه الصلاة والسلام يداري، ولا يداهن.
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: كان عليه الصلاة والسلام يقبل بوجهه على شر القوم يتألَّفهم بذلك"، إذا كان الإنسان شريرًا، فظًّا غليظًا، جبارًا، وهو جارك في البناية، فقل له: السلام عليكم. لعله يلين قلبه، فلا تضع له العقدة، لأنه هو أقوى منك بهذا الأسلوب، واستمِلْ قلبه بابتسامة، وبسلام حار، فكان عليه الصلاة والسلام يقبل بوجهه على شر لقوم يتألفهم بذلك.
ومن أعظم الأدلة على كمال عقله الشريف صلى الله عليه وسلم سعةُ علومه، فقد أفاض اللهُ عليه العلوم العظمى، والمعارف الكبرى، وأراه الآيات، وأيَّده بالبينات، وصَدَّقه بالمعجزات، وجمع له جميع أنواع الوحي الإلهي، وذلك لا يقوم به، ولا يقدر على تحمُّله إلا من خصَّه الله تعالى بأعظم قلبٍ، وأوسع عقلٍ.
أي إنه صلى الله عليه وسلمه سيد العلماء، تجد إنسانًا يأخذ ثلاثين حديثًا يشرحها، ويستنبط منها بعض الأحكام، ويحضِّر رسالة دكتوراه، ثم صار اسمه: الدكتور فلان، فماذا فعل ؟ فَهِمَ ثلاثين حديثًا، وتعمق فيها.
يا أيها الأميُّ حسبُك رتبةً في العلم أن دانتْ لك العلماءُ
* * *
في العلم هو سيِّد العلماء، والله عزَّ وجل يقول:
﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)﴾
فإذا افتخر الإنسان بمعلميه، فالنبي يفتخر أن الذي علمه هو الله عزَّ وجل، وهذه نقطة دقيقة متعلقة بأميته صلى الله عليه وسلم، فأمِّيتُه في حقه كمال، فهو أمِّيٌّ، أي لا يقرأ ولا يكتب، فالأمِّيةُ في حقه كمال، وفي حقنا نقص، في حقه كمال لأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعل كلامه من الوحي خالصاً دون امتزاج بالثقافات الأرضية، فلو كان مثقفًا ثقافة عالية، وجاءه الوحي وتكلم، لكان كلما قال حديثًا يُسأل: هذا من عندك أم من الوحي ؟ هذا من ثقافتك أم من الوحي ؟ قال الله عز وجل:
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾
حتى الحديث الشريف فإنّه وحي، لكنه غير متلو، علماء الأصول فرَّقوا بين الوحي المتلو وبين الوحي غير المتلو، فالمتلو هو القرآن، وغير المتلو هو الحديث الشريف.
أيها الإخوة الكرام ؛ في نهاية هذا الدرس أذكر لكم هذه الحقائق: اعلَمْ أنّ موضع التكاليف الشرعية هو العقل، فإذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب، هذا تعرفونه جميعاً، لكن لهذه المقولة استدلال خطير، التكاليف الشرعية منوطة بالعقل، فإذا أخذ الله العقل أسقط التكاليف، فما معنى ذلك ؟ معنى ذلك أن التكاليف معقولة، ولو لم تكن معقولة لما أنيطت بالعقل، فقد أناطها الله بالعقل، فمن فَقَدَ عقله فقَدْ أُعْفِيَ من التكاليف، إذاً التكاليف معقولة، لذلك قامت حرب بين العقل والكنيسة في العصور الحديثة، ونحن بريئون من هذه المعركة، ديننا متطابق مع العقل تطابقًا تامًّا، أما في بعض الديانات المنحرفة فهناك مفارقة حادّة بين العقل وبين هذه الديانة، فالمثقف رفض هذا الدين لأنه مناقض للعقل، فالمستغربون من شبابنا يرفضون الدين ويعتزون بالعلم، افتراضًا منهم أن الدين مناقض للعلم، وهذا الشيء غير واقع في الإسلام إطلاقاً.
الشيء الثاني ؛ لو كانت الأوامر والنواهي والقضايا في الإسلام غير معقولة لكان التكليف بها تكليفاً بما لا يطاق، ولو أنّ الإسلام كلفنا بأشياء غير معقولة لأصبح التكليف لا يطاق، فمثلاً في الديانة البوذية إذا مات الرجل يُحرَق ولا يدفن، وتحرق معه امرأته، وامرأته لا علّة بها، ولكن ما دام زوجها قد مات فيجب أن تموت معه حرقا، هذا تكليف غير معقول.
والبقرة ممنوع ذبحها، وأكبر قطيع بقر في العالم موجود في الهند، فتدخل البقر إلى بعض محلات الفاكهة وتأكل أغلى الفاكهة، وصاحب المحل مسرور من أعماقه، لأن الإله دخل، وأكل عنده، وبعض الهنود يضعون روث البقر في غرف الضيوف، ويتعطَّرون ببول البقر، فإذا كانت التكاليف غير معقولة فهي منبوذة طبعاً، فلو أن الله عزَّ وجل كلفنا بأشياء غير معقولة لكان هذا التكليف لا يطاق، لكن لا شيء كلفنا الله به إلا وهو معقول.
لو أن النبي عليه الصلاة والسلام جاء بأشياء غير معقولة، والكفار كانوا ينتظرون منه غلطة واحدة، ولَمَا سكتوا، وتكلموا، ورفعوا أصواتهم، ونقدوا النبي، وفنّدوا أقواله، وشهّروا به، فلو أن الدعوة الإسلامية فيها خلل صغير، ولو كان الذي جاء به النبي الكريم مناقضًا للعقول، لكان الكفار في زمنه أولَ من ردّوا عليه ذلك، ولكانوا في غاية الحرص على رد ما جاء به النبي، إن جميع العقلاء والحكماء في زمنه شهدوا بأحقية ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
وسيدنا جعفر رضي الله عنه لما دخل على النجاشي وقال له:
((إنا كنا قوماً أهل جاهلية ؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله فينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنعبده ونوحده ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان))
قال النجاشي بعد ذلك: " مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه النبيّ الذي نجده في الإنجيل، وأنه الرسول الذي بشر به عيسى، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيت هذا النبي حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه ".
وفي رواية للطبراني::لآتيته حتى أقبِّل نعليه".
أكثم بن صيفي بعث رجلين من قومه لمقابلةِ النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك حين بلغه مخرج النبي عليه الصلاة والسلام، فأتيا النبي فقالا له: " نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك من أنت ؟ وما أنت ؟ وبم جئت ؟ " أكثم بن صيفي من وجهاء الجاهلية، لما بلغته بعثةُ النبي أرسل وفدًا من رجلين، وسألاه هذه الأسئلة الثلاثة: من أنت ؟ وما أنت ؟ وبم جئت ؟ فقال عليه الصلاة والسلام:
(( أما من أنا ؟ فأنا محمد بن عبد الله، وأما ما أنا ؟ فأنا عبد الله ورسوله، جئتكم بقوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)﴾))
فقالا: " ردد علينا هذا القول ". فردده عليهم حتى حفظاه، فأتينا أكثم فقالا له: " أبى أن يرفع نسبه، فسألناه عن نسبه فوجدناه زاكي النسب، وسطاً في مُضَر، وقد رمى إلينا بكلمات قد حفظناها "، فلما سمعهن أكثم قال: " إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها فكونوا في هذا الأمر رؤوساً ولا تكونوا فيه أذناباً ".
الملخص: أن جميع ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام هو المعقول المحكم، لذا استسلم له أهل الأفكار والعقول، ولا يمكن أن يكون في ما جاء به النبي تناقضاتٍ عقلية، أو مُحالاتٍ فكرية أصلاً، وقد أتى بعظائم الحكمة التي تعجز عنها العقول البشرية، كما تعجز استيعاب جميع أسرارها لضعف عقولنا، كما تضعف الأبصار عن التحديق في قرص الشمس والإحاطة بنورها.
أيها الإخوة الأكارم ؛ هذان الدرسان عن أرجحية عقل النبي، وأروع شيء في الإسلام على الإطلاق أن ديننا دين معقول، دين يتطابق مع العقل مئةً في المئة، والمنقول يتفق مع المعقول، وفي هذا راحةٌ نفسية لا تعدلها راحة، والإنسان كلما نما عقله كلما ازدادت طاعته لله.
((أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً))
ولا تنسوا قول رسول الله لسيدنا خالد حينما أسلم قال له:
(( يا خالد أرى لك عقلاً))
أي لماذا تأخرت ؟ كان المنتظر منك أن تؤمن قبل غيرك لأنك أعقل من غيرك، فعلامة عقلك سرعة إيمانك، وطاعتك لله عزَّ وجل.