وضع داكن
19-04-2024
Logo
موضوعات في التربية - الدرس : 042 - إحياء علوم الدين2 - ذكر الموت 1 الإكثار من ذكر هازم اللذات.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة المؤمنون... مع الدرس الثاني من دروس إحياء علوم الدين، وقد عقد الإمام الغزالي، صاحب الإحياء، في الجزء السادس باباً يبدو لي أنه من أهم أبواب الكتاب، وهذا الباب، هو بحقٍّ ركيزة أساسية في الطريق إلى الله عز وجل، إنه ذكر الموت. فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول:

((أكثروا من ذكر هازم اللذات مفرق الجماعات ))

( من سنن الترمذي: عن " أبي هريرة " )

 يبدو أن الإنسان إن لم يؤمن بالدار الآخرة، إيماناً، يقيناً فسوف يتعلق بالدنيا، وسوف تأخذ عليه مجامع قلبه، وسوف تكون الدنيا حجاباً بينه وبين الله، فلئلا يغفل القلب عن ذكر الله، ولئلا تصبح الدنيا حجاباً بينك وبين الله عز وجل، فالنبي عليه الصلاة والسلام أمرنا أن نكثر من ذكر هازم اللذات.
 إذاً ما أخطأ مَن خصص في اليوم دقائق معدودات لذكر الموت، لأن ذكر الموت يذيب الهموم والأحزان، كما يذيب الحر الجليد، مَن أكثر ذكر الموت هانت عليه الدنيا، وهانت عليه مصائبها، وهان عنه الارتحال عنها، لذلك قال بعضهم: " إذا ضاقت عليكم الصدور فعليكم بزيارة القبور" لأن هذا الموت مصير كل حي، يقول عليه الصلاة والسلام من حديث أم حبيبة:

 

(( لو تعلم البهائم من الموت ما يعلم ابن آدم، ما أكلتم منها سميناً ))

 السيدة عائشة رضي الله عنها سألت النبي عليه الصلاة والسلام، قالت له: يا رسول الله هل يحشر مع الشهداء أحد ؟ قال:

 

(( نعم مَن يذكر الموت ))

 لأن الذي يذكر الموت مستعد له، وكيف يقول عليه الصلاة والسلام في حديث رواه ابن أبي الدنيا والطبراني كيف يقول:

 

(( تحفة المؤمن الموت ))

 التحفة الشيء النفيس، الشيء المحبوب، الشيء المرغوب فيه، كيف يكون الموت تحفة المؤمن ؟! قال بعضهم: لأن الدنيا بالنسبة للمؤمن سجنٌ، في قيود، في تكاليف، في شرع، أيستطيع المؤمن أن يطلق بصره ؟ لا يستطيع، أيستطيع أن يغفل عن صلاة الفجر ؟ لا يستطيع، أيستطيع أن يكذب ؟ لا يستطيع، أبإمكانه أن يأخذ ما ليس له ؟ الإيمان قيد الفك، الدنيا دار عمل، دار تكليف، الإنسان محاسب عن أدقِّ الانحرافات، إذاً هو في مراقبةٍ لنفسه، ومراقبة لربه، فإذا جاء الموت استراح من عناء الدنيا، وقد قال عليه الصلاة والسلام، وقد رأى جنازة:

 

 

((مستريح ومستراح منه، أما العبد المؤمن إذا مات استراح من عناء الدنيا ))

 

( من الدر المنثور: عن " أبي قتادة " )

 لكن واحد من أهل الذمة ممن كان معذباً في الحياة وشقياً، رأى عالماً جليلاً، وأظنه ابن المبارك، رآه في موكب جليل، وطلعةٍ بهية، وإخوان يحفون به، فسأله هذا الذمي:
ـ يقول نبيكم: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فأيةٌ جنة أنا فيها، وأي سجن أنت فيه ؟! رأى هو في منتهى الشقاء، وهذا العالم الجليل في منتهى السعادة والرخاء.
ـ فقال ابن المبارك: يا هذا، لو قست حالتك إلى ما أنت قادم عليه فأنت في جنة، ولو قست حالتي إلى ما وعدني الله به فأنا في سجن.
عندئذٍ يروى أن هذا الذمي أسلم، جواب بليغ، مهما رأيت من نعيم الدنيا، مهما رأيت من بحبوحتها، إذا قست ذلك لجنة الله التي وعد بها المؤمنين، فإن هذه الدنيا سجن، وخير وصفٍ وصفه النبي عليه الصلاة والسلام أن المؤمن حينما ينتقل من الدنيا إلى الآخرة، ينتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، كما ينتقل الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا، تماماً بتمام.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:

 

((الموت كفارة لكل مسلم ))

 

( من الجامع الصغير: عن " أنس " )

 فلعل سكرات الموت وإن للموت لسكرات، كما قال عليه الصلاة والسلام، لعل سكرات الموت تكفيرٌ للمؤمن عن خطاياه في الدنيا، وقد قال عليه الصلاة والسلام، وقد مر بقوم قد استعلى فيهم الضحك، أحياناً تجد أناس يضحكون ملء أفواههم، يضحكون حتى ينحنون نصفين، يضحكون حتى يستلقون على ظهورهم، يضحكون بصوتٍ يصم الآذان، مر عليه الصلاة والسلام بقوم قد ارتفع فيه ضحكهم، فقال عليه الصلاة والسلام:

 

 

(( شَوِّبوا مجلسكم، بذكر مكدر اللذات ))

 

( من تخريج أحاديث الإحياء، أخرجه ابن أبي الدنيا )

 أنا أتمنى بكل مجلس يكون فيه خبر، إشارة، تذكير، بأن لهذه الدنيا نهاية، بأن هذه الدنيا لابد من أن نغادرها ولا ندري متى، قصة أذكرها لكم دائماً، والآن مكانها المناسب، التقيت برجل في أحد الأيام وقد بثني أحزانه، متضايق من العمل الوظيفي، وسوف يقدِّم طلباً للإعارة إلى الجزائر ليعمل مدرساً هناك، وذكر لي بالتفصيل أنه لم يأتِ إلى الشام قبل خمسة سنوات، سيمضي أربعة عطل صيفية في أربعة دول تتوق نفسه أن يرى معالمها، ومقاصفها، ومتاحفها، وما فيها من جمالٍ طبيعي، وما فيها من مُتَعٍ حسِّية، فقال لي: أمضي الصيف الأول في بريطانيا، والصيف الثاني في فرنسا، والصيف الثالث في إيطاليا، والصيف الرابع في إسبانيا، وبعد أن أعود إلى الشام، أقدم استقالتي من العمل الوظيفي، وأفتتح محلاً تجارياً أبيع به التحف، شيء لطيف، ليس لها مواسم، وليس لها ( هالك ) أو بالتعبير التجاري ( ستوك ) وقد يكبر أبنائي، عندئذٍ وأجعل من هذا المحل مُنْتَداً فكرياً، وتابع حديثه في هذا الموضوع، وأذكر أنه تحدث عن عشرين سنة قادمة، والله، كنت عنده أمضي ساعة فراغٍ بين حصتي تدريس، وهو يعمل مديراً لثانوية، وذهبت الظهر إلى البيت، وقد بدت لي حاجة أن أكون في مركز المدينة مساءً، وفي طريق العودة إلى البيت ماشياً، والله الذي لا إله إلا هو، رأيت نعوته على الجدران، لا أقول في اليوم التالي، لا والله بل في اليوم نفسه، رأيت نعوته على الجدران.
 لهذا أكثروا ذكر هازم اللذات، لا أحد يدري متى الأجل، ممكن الإنسان يمكن حفر قبره، ونسج كفنه وهو لا يدري، أنا اسمع قصص كثيرة جداً، كان هذا الذي توفَّاه الله عز وجل يفكر في كل شيء إلا الموت، يعد لكل شيء عُدَّةً، لكل قضية موقفاً، لكل ثغرةٍ غطاءً، إلا الموت، جاءه بغتةً.
 أقول لكم دائماً أيها الإخوة، وهذا حديث دقيق، أن أحداً لا يستطيع إنكار الموت، لكن الفرق بين المؤمن وغير المؤمن هو أن المؤمن يستعد له، وغير المؤمن في غفلةٍ عنه، أما أن ينكره !! مَن يستطيع أن ينكر الموت ؟ فإذا كان رأيت مجلس تكلموا فيه عن التجارات، والاستيراد، والتصدير، وعلى فلان ربح مليون، وفلان ربح ثلاثة ملايين، وفلان معه حصر للشركة، وفلان عمل مضاربة، وفلان احتكر الصنف، وفلان استطاع أن يحقق ربح قياسي، وفلان اشترى بيت أربعمائة متر، وفلان عنده مزرعة ثمنها ثلاثين مليون، إذا وجدت الحديث من هذا القبيل كثر أنصحك أذكر لهم الموت، خوفهم، إن رأيت الحديث يأخذ هذا المنحى فذكرهم بالموت، إن رأيت الحديث يأخذ منحى الدنيا والاستغراق في ملذاتها فليكن حديثك عن الموت.
 وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

 

(( أكثروا من ذكر الموت فإنه يمحص الذنوب، ويزهِّد في الدنيا ))

 وقال صلى الله عليه وسلم:

 

 

(( كفى بالموت مفرقاً، وكفى بالدهر واعظاً ))

 

( من كنز العمال: عن " أبي الدراء " )

 مفرق، أحياناً تجد رجل توفيت زوجته، يشعر بوحشة، وملل، وسَأَم، أين هذه التي كانت إلى جانبه ليل نهار ؟ لقد افترقت عنه، فالذي تحبه لابد من أن تفارقه، أو لابد من أن يفارقك، دوام الحال من المحال.
 يقول عليه الصلاة والسلام:

 

(( اذكروا الموت، أما والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً "))

 

( من الدر المنثور: عن " أنس " )

 بالمناسبة أحياناً الإنسان يسمع خبر سيئ عن صحته، يعمل تحليل يطلع معه هذه المادة الخطيرة نسبتها عالية جداً في الدم، وأنها أخذت موضعاً عنيداً، فهذا الإنسان لا يضحك أبداً؛ إن كان في مجلس وألقيت فيه طرفٌ من أعلى مستوى، وكاد مَن في المجلس أن ينثنون نصفين ضحكاً، تراه واجماً لا يضحك، إذا كان خبر المرض أذهب عنه الضحك، فكيف بالموت ؟ فالموت بالتعبير الشائع ( مصيبة المصائب )، إذا أحد من الناس فقد بيت يتألم، فقد زوجة يتألم، فقد ربح يتألم، فقد منصب يتألم، تجده واجم، فكيف إذا فقد حياته، وانتهت حياته ؟! فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

 

(( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ))

 

( من الدر المنثور: عن " أنس " )

 النبي عليه الصلاة والسلام كان عنده رجل، وذهب، أصحابه أثنوا عليه ثناءً كثيراً، فقال عليه الصلاة والسلام:
ـ فكيف ذكر صاحبكم للموت ؟. لم ينتبهوا.
ـ قالوا: والله ما نسمع منه شيئاً عن ذكر الموت.
ـ فقال عليه الصلاة والسلام: إن صاحبكم ليس هنالك.
ما دام لا يذكر الموت إطلاقاً لا يستحق هذا المدح أبداً.
 سئل النبي عليه الصلاة والسلام: مَن أكيس الناس، من أعقلهم، من أزكاهم، ومن أكرم الناس يا رسول الله ؟ قال:

 

(( أكثرهم للموت ذكراً، وأشدهم استعداداً له، أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة ))

 

( من تخريج أحاديث الإحياء: عن " ابن عمر " )

 وتطبيقاً لهذه التوجيهات النبوية: إذا الإنسان تصور ماذا سيكتبون على شاهدة قبره ؟ هل يكتبون: هو الحي الباقي ؟ كل نفس ذائقة الموت ؟ هنا يرقد المغفور له ؟ إذا الإنسان رسم شاهده وكتب ( فلان الفلاني الذي توفاه الله عصر يوم ) ممكن، الإنسان يكتب شاهدة لنفسه، كان السلف الصالح يشتري قبر بحياته، وقد يضجع فيه، ويخاطب نفسه ويقول:

 

﴿رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾

 

( سورة المؤمنون )

 فيخاطب نفسه فيقول: قومي يا نفس لقد أرجعناك.
 وقد قلت لكم كلمة دقيقة أول الدرس قلت فيها: يعدُّ هذا الباب أحد ركائز الطريق إلى الله عز وجل، لأنك تحتاج لشيء يذوب لك الهموم والأحزان، والحزن، وحب الدنيا، والنظر إلى مَن هو فوقك، الموت يذهب عنك كل ذلك، فَضَحَ الموت الدنيا فلم يترك لذي لبٍ فرحاً، الموت كيف فضح الدنيا ؟ ما صدف أن شخص توفي وهو في بحبوحة كبيرة، وزرت بيته الواسع، الرخام في الأرض، والجبصين في السقف، والثريات، وورق الجدران، وصاحب هذا البيت يثوي في حفرةٍ صغيرةٍ لا تزيد عن طوله وعن عرضه !! لا رخام، ولا طلاء، ولا ثريات ولا شيء، ألا ترى أن هذا المنظر يثير أعمق ما في النفس ؟ لكن المؤمن كما قال بعض العلماء: ما غائب ينتظره المؤمن خيراً له من الموت..

 

﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)﴾

 

( سورة يس )

 تصور واحد بلغة الطلاب ( ينحت ) من أيلول لحزيران، لا ينام الليل ألغى كل علاقاته مع أصدقائه، ألغى كل الرحلات والنزهات، واللقاءات والسهرات، وقبع في غرفةٍ يقرأ ليلاً نهاراً، ليحقق الدرجة الأولى على القطر، هذا إذا قُرِعَ جرس الامتحان، وقد درس المواد دراسةً مُحْكَمَةَ، وحفظها عن ظهر قلب، وهو يحلم بهذه الدرجة العليا التي يرفع بها رأسه، ويفخر على أقرانه، تصور أن ساعة الامتحان مزعجةٌ له ؟ لا والله، إنها الفرج، النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، قال:

 

(( الموت تحفة المؤمن))

 

( من الجامع الصغير: عن " ابن عمر " )

 بل إنه قال:

 

(( للصائم فرحتان، فرحة يوم يفطر، وفرحة يوم يلقى الله عز وجل ))

 

(من الجامع لأحكام القرآن )

 أي إلى متى ؟ يا رب طال الشوق إليك، وا كربتاه يا أبت، قال لا كرب على أبيك بعد اليوم، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه " ز
 والله أعقل الناس، أسعد الناس، مَن نقل اهتماماته كلها إلى الدار الآخرة، لو واحد، من واقع حياتنا، رسم خطة بذهنه، عنده معمل باعه بثلاثين مليون، حوله، بطريقة أو بأخرى إلى بلد أجنبي، عنده مزرعة باعها، عنده فيلا بمصيف راقٍ باعها، باع أثاث بيته، باع بيته، باع سيارته، صار عنده مبلغ فلكي، ما بقي غير تأشيرة الخروج وبطاقة الطائرة، فحينما يمنح تأشيرة الخروج، ومعه بطاقة الطائرة، ويدخل المطار، ويعطى بطاقة الصعود إلى الطائرة، وتحرِّك الطائرة محركاتها وتُقْلِع، إلى أين هو ذاهب ؟ إلى ماله، الذي أرسله أمامه، أليس كذلك ؟ هذا حال المؤمن، كل أملاكه، كل طاقاته، كل خبراته، كل وقته، بذله في سبيل الله، وكأنه أرسله أمامه..

 

﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾

 

( سورة البقرة: من آية " 245 " )

 مَن قَدَّم ماله أمامه سرَّه اللحاق به، يا إبراهيم لم نكره الموت ؟ قال: لسببٍ بسيط، لأنكم عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة، واحد اشترى بيت لكي يشتريه بقي سنتين، لحتى تفنن بتنظيمه وتزيينه، وفرشه بالأثاث وورق الجدران، والشرفات، والواجهات، والمكيفات، وغرف الاستقبال، وغرف الجلوس، وغرف النوم، والحمامات، إلى آخره، ما إن انتهى من تنظيم هذا البيت حتى جاءته أزمة قلبية، زاره أحد أقربائه قال له بالحرف الواحد وباللغة الدارجة: ( خايف تموت وبنت الحرام تطقها زواجة بعد مني ) على زوجته، كل هذا التعب يأخذه واحد غيري، ما هذا الشقاء ؟ هكذا.
 فالإنسان العاقل وقته، ماله، طاقاته، ذكائه، لسانه، طلاقة لسانه، أولاده، كلها يقرضها لله عز وجل، إذاً أحب شيءٍ إليه أن يلحق بأمواله التي أرسلها أمامه، الآن اعكس الآية:
 شخص يملك معمل ثمنه ثلاثمائة مليون، وعنده بيت أربعمائة متر، وعنده أربع سيارات، إحداها لداخل البلد مصروفها قليل، واحدة أخرى للسفر، والثالثة للمعمل.. إلخ، وعنده على البحر فيلا، وعنده بالجبل فيلا، إلخ.. وجاءه أمر بمغادرة بلده إلى بلدٍ ناءٍ دون أن يأخذ معه شيء، ولا درهم، كيف حاله هذا ؟ نعطيكم حالتين، واحد أرسل ماله أمامه، فسَرَّه اللحاق به، وواحد أمر أن يغادر فوراً دون أن يأخذ معه شيئاً، ولا ثمن طعام، وألقي في مدينة نائيةٍ بعيدة لا يعرف أحد فيها، وترك كل أمواله في بلده، هذه أمثلة من واقعنا.
 فإخواننا الذين اغتربوا في بعض الدول العربية، دول النفط، في على الجواز كلمة مرعبة، أنا لا أبالغ إذا قرأها على الجواز قد يقع مغشياً عليه، هذه الكلمة اسمها: مغادرة بلا عودة. إذا واحد دافع ثمن الفيزة مائتين ألف، وعامل عقود، ومؤسس عمل، وكل آماله معقودة على بقائه بهذا البلد، فإذا ذهب إلى دائرة الجوازات فكتبوا على جوازه: مغادرة بلا عودة، يمكن يموت بالسكتة القلبية، وكلنا سوف نغادر بلا عودة، إذا واحد توفي، قبل الوفاة أهله يسألون عنه: أين فلان ؟ تأخر !! ليس له بالعادة ألا يأتي بعد التاسعة، إذا واحد حي يسألوا عنه دائماً عند صديقه، طولوا ما في بالعادة، لو واحد توفاه الله عز وجل، واندفن العصر، هل يخطر ببال إنسان من أهله يقول: الساعة الثانية عشر لماذا لم يأت فلان، أي فلان ؟ اندفن وخلص، هذه مغادرة بلا عودة.
 فيا إخوان هذه قضايا أساسية، هذا كلام واقعي، ما من كلام أشد واقعية من التفكر بالموت، يجوز إخواننا الشباب يعترضوا علي فيقولون: طول بالك يا أستاذ نحن ما زلنا صغار، طول بالك، لم نر شيء من الدنيا بعد، كم قصة في هذا البلد، واحد مات بالثانية والثلاثين ولم يتزوج بعد ؟ وشاب نزل من الباص اندهس عمره سبعة عشر سنة ؟ أنا أسمع كل أسبوع قصة الشاب والشابة، موضوع الموت تقول: أنا كبير، أنا صغير باكراً علي.
 واحد عاد مريض، ولكن هذه طرفة، عاد مريض معه مرض صعب، قال له: كم عمرك ؟ قال: له أربعين سنة. قال له: كفاك ذلك. فالإنسان ينتبه لهذه النقطة، أتمنى أنك ما تفهموا عكس ما أردت، ليس موضوع تشاؤم أبداً، إذا أنت فكرت بالموت، وعرفت في مصير، في مواجهة مع الله، في محاسبة، في وقوف بين يدي الله عز وجل، عندئذٍ تعمل، وتدرس، وتتاجر، ولكن وفق المنهج، وفق الشرع ، كلما أردت أن تفعل شيئاً تصورت أنك واقف بين يدي الله عز وجل والله يسألك: لماذا فعلت كذا يا عبدي ؟ يقول: يا رب فعلت كذا وكذا، لماذا ضربت هذا اليتيم ؟ يا رب ضربته لأنني أضرب ولدي من ذنبه، لو أن ولدي فعل هذا الذنب لضربته. إذاً معك حق، لماذا أعطيت ابنتك هذا البيت ؟ يا رب لأن ابنتي هي الوحيدة التي لا بيت عندها، وباقي بناتي أزواجهم أغنياء، فأردت أن استرها، صحيح، فهل تملك لكل موقف جواب ؟؟
 أيها الإخوة الأكارم... البطل الذي يعد لربه جواباً عن كل موقف، هيئ الجواب، عن أي سؤال: لماذا طلقت ؟ لماذا تساهلت ؟ لماذا أخذت؟ لماذا دفعت ؟ لماذا غضبت ؟ لماذا رضيت ؟
 قال: يا أخي احذر الموت في هذه الدار، قبل أن تصير إلى دار تتمنى فيها الموت فلا تجده، كيف ذلك ؟ وقالوا:

 

﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)﴾

 

( سورة الزخرف )

 تفكر في الموت، قبل أن تتمنى الموت فلا تجده، قال أحد العلماء: مَن عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا وهمومها. في رجل ميسور الحال، حاله وسط، له أخٌ توفي في سنٍ مبكرة، وترك له خمسة أولاد، فصار يبكي أنَّى له أن يعيلهم، أنَّى له أن ينفق عليهم ؟ بلغ أحد الشيوخ خبره، فاستدعاه، قال له:
ـ لماذا تبكِ يا ولدي ؟
ـ قال: أخي مات وترك أولاداً خمسة، وعلي أن أعيلهم.
ـ قال له: أخوك ما ترك لهم شيئاً.
ـ قال: نعم يا سيدي، ترك لهم شيئاً يكفيهم سنة واحدة.
ـ قال له: شيء جميل، أنت إذا مضت هذه السنة بعد هذه السنة ابدأ بالبكاء، الآن بكير على البكاء. مات بعد سبعة أشهر.
 أثناء ترميمنا لمسجد النابلسي في دار صغيرة فيها رجل، فاضطرب، قلت له مؤكداً بأيمانٍ مغلَّظة: لا يمكن أن تخرج من هذه الدار إلا إذا دارٍ أحسن منها، ريثما نبني لك بيتاً ملحقاً بالمسجد، وعد قطعي وعدته له، وهو يثور ويضوج، ويقول: أين سأذهب ؟ فو الذي نفس محمد بيده ما مضت أشهر إلا و توفاه الله عز وجل، قبل أن نحتاج إلى بيته بسنة، قبل أن نحتاج لهدم بيته، أثناء التوسعة، فالإنسان أحياناً يحملها ويكون الأجل أقرب من ذلك.
 في طرفة... أن دابة واقفة بأيام الصيف الحارة ولها ظل صغير، في إنسان جلس بهذا الظل، شمس حارة جداً حادة، فقام ليشرب، فجاء إنسان آخر وجلس مكانه، فلما عاد، قال له: هذا المكان مكاني، فرد عليه: لا مكاني أنا، لا مكاني، تلاسنوا، تشاددوا، تماسكوا، تضاربوا، وفجأةً تحوَّلت هذه الدابة عن موقعها، فكل هذه المعركة بلا طائل، بلا جدوى، بلا معنى، حالات كثير من هذا القيل: دعوى في القضاء ثمانية أعوام، ثم يكتب عليها تشطب الدعوى لموت المدعي عليه، ففي قصر العدل فيه آلاف الدعاوى التي مات أصحابها قبل أن يبت بها.
 لذلك، أنت وقت، أنت زمن، أخطر ما فيك هذا اليوم الذي تعيشه، ما مضى فات، فالحديث عن الوقت الماضي حديث ليس له طعم إطلاقاً، حديث فارغ، لأن عقارب الزمن لا تعود، قل: لو إلى ما شاء الله، لو لا تفعل شيئاً، والحديث عن المستقبل كصاحبنا الذي حدثني عن عشرين عام قادم وتوفي في اليوم نفسه، والحديث عن المستقبل لا جدوى منه، لأنه غيب، والغيب لا يعلمه إلا الله.
 والله دعينا مرة، أخ كريم دعانا إلى مكان، ووضع لي قائمة فقال لي: فلان إذا ممكن، وفلان، وفلان، وفلان، انتقى عشرة، أحد المدعوين قاضي من كبار القضاة، ويشغل منصباً رفيعاً جداً في المحكمة الدستورية العُليا، وهو أحد المدعوين، وهو كان من إخواننا كان، لا يغيب درس إطلاقاً، دعينا قبل أسبوع، الدعوة السبت في مزرعة، الخميس كان متوفي، والله دفناه الخميس، والسبت لبَّينا الدعوة ولكن ناقص هذا الأخ الذي أصبح تحت أطباق الثرى، هذه الدنيا.
 قال: قالت صفية رضي الله عنها، إن امرأةً اشتكت إلى عائشة قسوة قلبها فقالت: أكثري ذكر الموت يرق قلبك. الصراحة إذا الإنسان كان بجامع بالدرويشية، أو بالسِنانيَّة، ووجد في جنازة، ولو كان ما في معرفة سابقة، أحب يمشي وراءها لا يوجد مانع أبداً، هذا من تذكر الموت، وحينما يوضع النعش على القبر، وحينما يرفع الغطاء، وترى إنسان كان قبل ساعات يتحرك، ويأكل، ويتناول ألذ الطعام، وله غرفة نوم، وكل يوم له حمَّام من الدرجة الأولى، وله زوجة وأولاد، لسبب بسيطٍ وسريعٍ جداً أصبح جثة هامدة، فغُسِّل، ولفت بهذا القماش الأبيض، وربطت رجلاه، وحشي فمه بالقطن، وكُفِّن بكفنه، وحينما يُحْمَل هذا الإنسان، وتفتح فتحة القبر، فإذا عظام مَن دفن قبله قد جمعت على طرف القبر، وأدخل قال له: استناول، القى، تعرفون كلام الحفارين، استناوله ولقيه ووضعه، ووضعت الحجرة فوق الفتحة، وأهيل التراب، ووقف أولاده في مدخل المقبرة يقبلون التعازي، وذهب الناس إلى بيت الميت ليتناولوا طعام الغداء لأنهم تجشموا مشقة تشييع الجنازة، أين صاحب البيت الذي اشترى هذا البيت، وأحسن اختيار هذا البيت، وزيَّن هذا البيت، وفرش هذا البيت، أين أذواقه وأين أعماله ؟؟ أصبح تحت أطباق الثرى، هذا لنا جميعاً، كل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت..

 

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته  يوماً على آلة حدباء محمول
فإذا حملـت إلى القبـور جنازة  فاعلم بأنك بعدها محمول.
* * *

 قال عمر بن عبد العزيز لبعض العلماء:
ـ عظني.
ـ قال: يا أمير المؤمنين لست أول خليفةٍ تموت.
ـ قال زدني.
ـ قال: ليس من آبائك أحدٌ إلا ذاق الموت، وقد جاءت نوبتك.
 أنا أقول أحياناً بالخطبة: واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، يطلع من بيته لابس يمشي، فلان رحمة الله عليه، نعوة، المطبعة العصرية، فلان الشاب، فلان أنا سألت أحد إخواننا بدفن الموتى، قلت له: كم حادثة موت بالشام ؟ قال لي: حوالي خمسين، القصة منذ خمسة سنوات، في عشرين نعوة، وخمسين موتة، هذا رقم قديم يجوز الآن يكون ثمانين كل يوم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، فيظل الإنسان يقرأ نعوات الآخرين حتى يأتي يوم يقرؤون فيهم نعوته، ويظل يذهب إلى البيوت للتعزية، فلا في إنسان ما راح بعمره يمكن مائة مرة، أو مائتين مرة، أو خمسمائة مرة للتعزية، ولابد من أن يأتي يوم يكون هو صاحب الموت.
 يقول سيدنا عمر بن عبد العزيز: أكثر ذكر الموت فإن كنت واسع العيش ضيَّقه عليه، وإن كنت ضيق العيش وسَّعه عليك. له تأثير مزدوج، وتأثيران متعاكسان. فإن كنت واسع العيش، ضيَّقه، هذا البيت الوسع سيصبح متر ونصف، والله أعرف رجل، كان في عنده بيت في مدينة غير هذه المدينة، يمكن أول بيت في هذا البلد، ففي زمن ما كان البيت ثمنه ثلاثين أو أربعين ألف، وضع في هذه الفيلا رخام بالملايين، رخام أو نكس شفاف، وزمن ما كان البيت بسعر معقول جداً، كان ثمن هذه الفيلا ثمانية وثلاثين مليون، الآن ثمنها خمسمائة مليون، صاحبها كان طويل القامة، توفي في الثانية والأربعين من عمره، ووضع في قبرٍ كان أقصر من قامته، فاضطر حفَّار القبر أن يدفعه بصدره بقبضته هكذا، فصار رأسه منحنياً هكذا، هذا الذي كان يسكن في بناء يكاد لا يوصف بشدة البذخ فيه، كان هذا مصيره.
 فالتذكير بالموت، النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا صلى قيام الليل، رفعت السيدة عائشة رجليها، لأن غرفته الصغيرة لا تتسع لصلاته ونومها.
 قال: فإن كنت واسع العيش، ضيَّقه عليك، وإن كنت ضيق العيش، وسعه عليك، وإن كان دخلك قليل جداً، والبيت صغير، ولا تعرف كيف تتصرف بالحياة، فذكر نفسك وصبرها أن الحياة لن تطول، وإن كان ببحبوحة كبيرة، فذكرها أن في موت، وإن كان بضيق ليست طويلة، الإنسان أحياناً حينما يوقن بالموت، ويوقن بالدار الآخرة، تحل معظم مشكلاته.
 أيها الإخوة الأكارم... التفكُّر بالموت من لوازمه، أو من نتائجه قصر الأمل، أخطر شيء بحياة الإنسان ضعف اليقين وطول الأمل، وأقوى شيء بحياته قوة اليقين وقصر الأمل، في قصة مشهور: أن واحد جلس تحت قدرة عسل وقال: غداً أبيع العسلات، أشتري غنمة، تتوالد الغنم، يصير عندي قطيع غنم، أشتري بيت، أتزوج، يأتيني أولاد، إذا كان ابني خالف الأصول، أمسك بالعصا وأدبه، فكسر القدرة ونزل العسل فوقه، أحياناً يحدث هذا، يبني أحلام، طول الأمل أن تحلم بمستقبل مديد.
 والله ذات مرة كنت بدائرة حكومية، وأتابع معاملة، فلازم أنتظر، فجلست، وجالس بجواري اثنين بالحرف الواحد قال له: يا أخي فلان هلكنا، يكسي بيت، وله ستة أشهر محتار بنوع التمديد الخاص بالشوفاج يعمله ظاهر ولا مخفي، أناس نصحوه أن اعمله ظاهر، يشع الدفء أكثر، والتصليح أسهل ولكنه مبهدل، وأناس آخرين نصحوه يكون داخل البلاط، أجمل، ولكن في خطر أنه يكون التمديد فاسد يضطر يكسر البلاط، والبلاط غالي جداً، ستة أشهر ظل يحيرنا واحتار، بعد ذلك قرر يعمله داخلي، وبعد عشرين سنة إذا التمديد فسد، لا يكسر البلاط، ولكن يعمله خارجي، عامل بذهنه عشرين سنة قادمة، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

 

 

(( من عد غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت))

 هل تصدِّق، ما في إنسان يموت إلا بباله إنجاز أعمال لشهر، وعنده دفتر مذكرات ؛ موعد يوم كذا، ومتابعة المعاملة يوم كذا، ولقاء مع فلان يوم كذا، محاسبة فلان يوم كذا، واستحقاق السند يوم كذا، عامل أعمال طويلة، ويأتي الموت فجأة، فالنبي عليه الصلاة والسلام:

 

 

(( إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح ))

 

( من تخريج أحاديث الإحياء: عن "عبد الله بن عمر " )

 معنى ذلك أن الإنسان ينام تائب، ويفيق مسبح وذاكر.
وكان يقول اللهم صلي عليه:

 

(( إن أمسكت نفسي فارحمها، وإذا أرسلتها فاحفظها ))

 

( من الدر المنثور في التفسير بالمأثور )

 يا رب أنا سأنام الآن فإما أفيق أو لا أفيق، انظر إلى هذه النفسية، يا استيقظ أو لا أستيقظ، إن استيقظت يا رب احفظني من المعاصي، وإن قبضتني بالليل، وهذا يصير كثيراً، لي صديق نائم، وزوجته نائمة بجانبه، مَسَّت يدها يده، فوجدتها مثل الثلج، فأفاقت مذعورة، فإذا هو ميت، طبعاً لأنه برد، توقف الدم في عروقه، كانت حرارته عالية، مست يدها يده، فرأتها باردة، فأفاقت مذعورة، فإذا هو ميت، فالنبي الكريم يقول:

 

(( يا رب إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها مما تحفظ منه عبادك الصالحين ))

 

( من الدر المنثور في التفسير بالمأثور )

 سيدنا علي كرم الله وجهه يقول: " إن أشد ما أخاف عليك خصلتان، إتّباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى، فإنه يصد عن الحق ـ اتباع الهوى أكبر حاجز بينك وبين الحق، اتباع الهوى يصدك عن سبيل الله، يحملك على تكذيب أهل الحق، يحملك على تكذيب ما في كتاب الله عز وجل ـ وأما طول الأمل فإنه حب الدنيا رأس كل خطيئة ".
 يقول عليه الصلاة والسلام:

 

(( نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد، ويهلك آخر هذه الأمة بالبخل والأمل ))

 

( من الجامع لاحكام القرآن )

 ويقول عليه الصلاة والسلام:

 

(( أكلكم يحب أن يدخل الجنة ؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: قصروا من الأمل، وثبتوا آجالكم بين أبصاركم، واستحيوا من الله حق الحياء ))

 وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:

 

 

(( اللهم إني أعوذ بك من دنيا تمنع خير الآخرة، وأعوذ بك من حياةٍ تمنع خير الممات، وأعوذ بك من أملٍ يمنع خير العمل ))

 أيها الإخوة الأكارم... ليس هناك تناقض إطلاقاً بين التفكُّر بالموت، وبين العمل للدنيا، ولكن إذا تفكرت بالموت، وأيقنت بالرحيل، وعرفت أنك مسؤولٌ أمام الله عز وجل، وَقَّعْتَ أعمالك وفق منهج الله.
 ثمرة التفكر بالموت أنك تستقيم على أمر الله، ولا تتجاوز حدود الله عز وجل، ولكن الأشياء التي شرعها الله عز وجل يجب أن تفعلها لقول النبي عليه الصلاة والسلام:

 

 

(( ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ولا من ترك آخرته لدنياه، إلا أن يتزود منها معاً، فإن الأولى مطية للثانية ))

 أي حينما تفكر بالموت، تكون في أعلى درجات الواقعية، وتكون في أعلى درجات الإيجابية، وتكون في أعلى درجات الانفتاح على الدنيا، ولكن وفق المنهج الذي رسمه الله عز وجل، أما إذا غفل الإنسان عن لقاءه مع الله عز وجل فربما انحرف، وأكل مالاً حراماً، وجاءه الموت فجأةً، وليس مستعداً له، هذه هي الطَّامة الكبرى، هذا اهو الصعق الذي ورد في آيات كثيرة من القرآن الكريم:

 

 

﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)﴾

 

( سورة المعارج )

 والله رجل أعرفه حق المعرفة، جاءه مرضٌ في دمه خبيث، ما علم بالمرض إلا بعد حين، أخفى عنه أهله هذا المرض، وعمره ثمانيةٌ وثلاثون عاماً، لما علم أن مرضه عضال، وربما انتهى به مرضه إلى الموت، صارت تأتيه نوبات هسترية يقول: لا أريد أن أموت، كل ربع ساعة ينتحب ويقول: لا أريد أن أموت. فلما جاءه ملك الموت، صاح صيحة ما بقي إنسان في البناء على ارتفاع طوابقه إلا وسمع صيحته، وانقضى أجله، فنحن يجب أن نستعد لهذه الساعة ولو بدت لبعضنا طويلة، ولكن العمر يمضي سريعاً، الدنيا ساعة اجعلها طاعة.
 في شيء يقرب هذه المعلومات ؛ كل واحد منا له عمر، كيف مضى هذا العمر ؟ والله مضى كلمح البصر، فإذا مضت الأربعون عاماً كلمح البصر، فكيف سوف تمضي الأعوام المتبقية التي هي في أغلب الظن أقل مما مضى، فلإنسان يتفاءل ويعمل ولكن وفق منهج الله؛ يقف عند الحدود، وينتظر الموعود، ويضع كل آماله في الآخرة، ويقدِّم ماله أمامه حتى يسره اللحاق به.
 وإلى درسٍ آخر متعلق بهذا الموضوع، الإمام الغزالي في هذا الباب أجاد جداً، أجاد وأفاد، فالباب كبيراً جداً وإن شاء الله نأخذ أهم فصوله، لأن التفكُّر بالموت أحد أركان الطريق إلى الله عز وجل، ما الذي يناقض التفكر بالموت حب الدنيا، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وحب الدنيا حجاب يعمي ويصم.

تحميل النص

إخفاء الصور