وضع داكن
24-04-2024
Logo
الشمائل المحمدية إصدار 1995 - الدرس : 12 - اختياره أن يكون نبيا عبداً من أن يكون نبياً ملكاً - حلمه وعطفه - غضبه
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

اختياره أن يكون نبياً عبداً على أن يكون نبياً ملكاً .

 أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس الثاني عشر من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد وقفنا في الدرس الماضي ، عند أمره بالتواضع صلى الله عليه وسلم ، وها نحن ننتقل إلى عنوانٍ جديد من شمائله صلى الله عليه وسلم ، ألا وهو اختياره أن يكون نبياً عبداً على أن يكون نبياً ملكاً .
 فمن أعظم ما يدل على تواضعه صلى الله عليه وسلم ، أنه لما خيره الله جلَّ جلاله أن يكون نبياً ملكاً ، أو نبياً عبداً ، اختار أن يكون نبياً عبداً ، أما التحليل ، تحليل هذا الاختيار ، أو التعليق على هذا الاختيار ، فدقيقٌ جداً .

الحقيقة أن تكون عبداً أقرب إلى العبودية من أن تكون ملكاً.

 أيهما أقرب إلى العبودية ، أن تكون قوياً أم أن تكون ضعيفاً ؟ أن تكون ملكاً أم أن تكون عبداً ؟
 الحقيقة أن تكون عبداً أقرب إلى العبودية من أن تكون ملكاً ، الإسلام عزيز ، والمؤمن عزيز النفس ، إلا أن القوة والغنى فيها مزلةٌ للأقدام ، فما كل إنسان إذا أعطي منصباً رفيعاً بحيث يتملك رقاب الآخرين، يبقى محافظاً على عبوديته لله عز وجل ، فالقوة أحياناً مزلةٌ للقدم ، والغنى أحياناً مزلةٌ للقدم ، فإذا اختار النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون نبياً عبداً على أن يكون نبياً ملكاً ، فذلك لأن العبودية أقرب إلى الطاعة منها إلى المُلك .
 فأنت حينما تتملك رقاب الآخرين ربما تنجرف إلى أن تظلمهم ، ربما تنجرف إلى أن تستعلي عليهم ، ربما تنجرف إلى أن تأخذ ما في أيديهم ، ربما تنجرف إلى أن تتكبَّر ، هذه كلها مزالق قدم ، فلذلك الأضمن ألا تتمنى أن تكون قوياً فتزل قدمك مع القوة ، هذا الذي دفع النبي عليه الصلاة والسلام لاختياره العبودية على المُلك .
 بالمناسبة فالنبي عليه الصلاة والسلام مشرّع ، فحينما اختار أن يكون نبياً عبداً ، جعل نفسه قدوةً لنا ، أنا لا أقول لك ارفض منصباً بإمكانك أن تخدم به المسلمون ، لا هذا واجب ، و سيدنا يوسف قال :

﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)﴾

[ سورة يوسف ]

 لكن وأنت تختار أن تكون قوياً ، وأنت تختار أن تكون غنياً ، لا تنسَ أن في الغنى مزلة للقدم ، وفي القوة كذلك مزلةٌ للقدم .
 هذا الشيء ينقلنا إلى شيءٌ آخر ، الإنسان أحياناً يرقى عند الله بقدر عمله الصالح ، ويرقى عند الله بقدر الحظ الذي آتاه الله إيَّاه ، كلما علا حظك في الدنيا اتسعت دائرة أعمالك الصالحة ، أو ازدادت الأعمال الصالحة المُتاحة إليك ، و النبي عليه الصلاة والسلام حينما خيّره جبريل الأمين بأمرٍ من الله عز وجل ، أن يكون نبياً ملكاً أو أن يكون نبياً عبداً ، اختار أن يكون نبياُ عبداً ، وهذا لشدة تواضعه صلى الله عليه وسلم .
 أما تفصيل هذا التخيير :

(( عن أبو هريرة رضي الله عنه قال جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء فإذا ملك ينزل فقال له جبريل هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة فلما نزل قال يا محمد أرسلني إليك ربك أملكا أجعلك أم عبدا رسولا قال له جبريل تواضع لربك يا محمد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بل عبدا رسول ))

[أخرجه أبو يعلى والبزار في مسنده وابن حبان في صحيحه]

 هكذا ورد في الترغيب .
 أي أنك إذا خًيِّرت بين أن تكون قوياً ، أو أن تكون ضعيفاً ، فإن كانت هذه القوة للمسلمين فاختر أن تكون قوياً ، ولا تنسَ أن في القوة مزلة قدم ، و إذا خيرت أن تكون غنياً أو فقيراً ، فإذا تأكدت أن غناك يعود على المسلمين ، اختر الغنى لكن لا تنسَ أن في الغنى مزلةً للقدم ، هذا هو القصد من هذا الاختيار الشريف للنبي صلى الله عليه وسلم .

الفرق بين مقام العبودية ومقام الملك .

 شيءٌ آخر ... قال كتاب السيرة : مقام الملك يقتضي اتخاذ الجنود ، ويقتضي اتخاذ الحُجَّاب والخيول ، ويقتضي اتخاذ الخدم ، والحشم ، والقصور ، ويقتضي الانتقام ممن يتعرض له بسوء ؛ أما مقام العبودية ، فإنه يقتضي أن يخدم الإنسان نفسه ، وأن يكون في معونة أهله كما كان عليه الصلاة والسلام متواضعاً ، ويقتضي العفو عما آذاه في نفسه ، أما إذا انتهكت حُرُمات الله عز وجل فالله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نغضب له . لهذا كان عليه الصلاة والسلام يقول :

(( إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد ))

[ أخرجه البزار في مسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ]

 أي في القعود ، وفي هيئة التناول ، والرضا بما حضر ، فالعبد يجلس جلسة مؤدَّبة ، ويتناول الطعام بطريقةٍ مؤدبة ، ولا يعترض على الطعام ، هذا شأن العبد ، فكان عليه الصلاة والسلام يقول :

(( آكل كما يأكل العبد))

  أي في هيئته ، و أتناول الطعام في هيئته ، والرضا بالميسور .
 وكان يقول عليه الصلاة والسلام يقول :

(( وأجلس كما يجلس العبد ))

[ أخرجه أبو يعلى عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ]

 لا كما تجلس الملوك ، والحقيقة هذا يقودنا إلى أن المؤمن في جلسته متواضع ، إذا جلس ليقود مركبةً ، الجلسة متواضعة ، إذا مشى ، المشية متواضعة ، إذا تناول الطعام ، التناول متواضع ، التواضع يبدو عليه في كل تصرُّفاته .

(( عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة لو شئت لسارت معي جبال الذهب ، جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك : إن شئت نبياً عبداً وإن شئت نبياً ملكاً ؟ قال : فنظرت إلى جبريل قال : فأشار إلي : أن ضع نفسك ، قال : فقلت : نبياً عبداً . قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئاً يقول : آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد ))

[ أخرجه أبو يعلى عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ]

 ثم يقول عليه الصلاة والسلام :

(( فو الذي نفسي بيده لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء))

 و هذا شيء آخر ، فهذه التي زهد بها لا قيمة لها ، هذه الدنيا للبَرِّ والفاجر ، لكن الآخرة للمؤمن وحده ، إن هذه الدنيا يأكل منها البر والفاجر ، والآخرة وعدٌ صادق يحكم فيها ملكٌ عادل .

تواضعه.

 وفي سنن أبي داود وابن ماجة عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ قَالَ :

((كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْعَةٌ - أي إناءٌ كبير يوضع فيه الثريد ليأكل الجماعة معه - يُقَالُ لَهَا الْغَرَّاءُ يَحْمِلُهَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ فَلَمَّا أَضْحَوْا - أي دخلوا في وقت الضحى بعد طلوع الشمس - وَسَجَدُوا الضُّحَى - أي صلوا الضحى - أُتِيَ بِتِلْكَ الْقَصْعَةِ يَعْنِي وَقَدْ ثُرِدَ فِيهَا فَالْتَفُّوا عَلَيْهَا فَلَمَّا كَثَرُوا جَثَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي جلس على ركبتيه - فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ : مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُوا مِنْ حَوَالَيْهَا وَدَعُوا ذِرْوَتَهَا يُبَارَكْ فِيهَا))

 أي أن النبي عليه الصلاة والسلام ، بتواضعه علا شأنه .
 و بعدُ فاسمحوا لي أن أقول لكم هذه الكلمة : هناك علاقات دائماً ، علاقات مضطربة ، وعلاقات متعاكسة ، في هذا الموضوع كلما تواضعت لله رفعك الله عز وجل ، وكلما تكبرت وضعك الله عز وجل ، أنا لا أعتقد أن على وجه الأرض - وأنا أعني ما أقول ـ إنساناً واحداً رفع الله شأنه وأعزه ، كالنبي عليه الصلاة والسلام ، وأنت يجب أن تقتدي به ، إذا تواضعت رفعك الله عز وجل ، أن تجلس مع إنسان دونك هذا لا ينتقص من قدرك ، بل يرفع قدرك ، أن تُصغي إلى إنسان ضعيف ، أن تلبِّي دعوة إنسان فقير ، أن تجلس مع إنسان مسكين ، أن تصافح إنساناً من الدَهْمَاء من سوقة المجتمع ، أن تصافحه بحرارة ، وأن تجلس معه ، وأن تصغي إليه ، وأن تعينه ، وان تزور بيته الصغير ، هذا لا يقدح في مكانتك ، بل هذا يعلي قدرك .
 لذلك إخواننا الكرام ؛ هذا الموضوع علاقته متعاكسة ، كلما تواضعت لله ، رفعك الله عز وجل ، وهؤلاء الجبابرة ، الذين تكبروا ، واستعلوا ، هؤلاء قصمهم الله عز وجل ، وأذل كبرياءهم ، ومرَّغَهُم في الوحل ، أقول لكم : ما من مخلوقٍ على وجه الإطلاق أعزَّه الله كالنبي عليه الصلاة والسلام ، يكفي أن تذهب إلى الروضة الشريفة ، وأن تقف لترى الألوف المؤلَّفة ، بل مئات الألوف ، بل بعض الملايين ، يمرُّون أمام قبره الشريف وهم يبكون ، ما هذا العز ؟ قال تعالى :

﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)﴾

[ سورة الشرح ]

  وأية صفةٍ للنبي عليه الصلاة والسلام لك منها نصيب ، أطع الله عز وجل ، مرِّغْ وجهك في أعتاب الله ، تواضع لله ، تواضع للفقراء والمساكين ، أصغ إلى ذوي الحاجة ، أصغِ إلى الضعفاء ، اجلس معهم ، لبِّ دعوتهم ، وانظر كيف أن الله يرفعك ، يرفعك إلى أعلى عليين ، ومن يكرم الله فما له من مهين ، فهل تعتقدون أن إنساناً أعزه الله كالنبي ؟ انظروا كيف كان :

((أجلس كما يجلس العبد ، وآكل كما يأكل العبد ، وأشرب كما يشرب العبد))

((ويا محمد أتحب أن تكون نبياً ملكاً ؟ بل نبياً عبداً ، قال : بل نبياً عبداً ، أجوع فأذكره ، وأشبع فأشكره))

 وصدقوني ما من صفةٍ أيضاً على وجه الإطلاق ، تُنَفّر الناس من صاحبها ، كالكبر ، لأن الكبرياء من أسماء الله عز وجل ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :

((الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ))

[ سنن أبي داود ]

 والكبرياء ، هذه الصفة تتناقض مع العبودية لله عز وجل .

وصف الله عزَّ وجل لنبيه في القرآن .

 والآن إلى آيات القرآن الكريم .. خالقنا جلَّ جلاله ، لما أراد الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بماذا وصفه ؟ استمعوا ..

الآية الأولى :

﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19)﴾

[ سورة الجن ]

 فهو عبد الله ..

الآية الثانية :

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1)﴾

[ سورة الكهف ]

الآية الثالثة :

﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)﴾

[ سورة الأنفال ]

الآية الرابعة :

﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)﴾

[ سورة البقرة ]

الآية الخامسة :

﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)﴾

[ سورة الإسراء ]

 معنى ذلك بخمس آيات وُصف الله النبي بأنه عبد ، إذاً كلمة عبد ، هي أرقى صفة يوصف بها الإنسان ، أي أنك عبد فشأنك أن تخضع لله ، العبد عبدٌ والرب رب ، لكن الكفار حينما غفلوا عن ربهم ، وحينما نسوا خالقهم ، وحينما كفروا بآخرتهم ، ابتدعوا في أوروبا مُصطلحاً يُكتب في بعض الكتب ـ الإنسان إله يتحكم في مصيره ـ الله عز وجل قال :

﴿ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)﴾

[ سورة الواقعة ]

 الملوك يموتون ، أليس عندهم أطباء ؟ عندهم أطباء من كل المستويات ، ومع ذلك يموتون حينما قال الشاعر :

لا تأمن الموت في طرفٍ ولا نفس  وإن تمنَّعت بالحجاب و الحرس
فمــــا تزال ســــــــــــــهام الموت نافــــذةً  في جنب مُدَّرعٍ منها و متَّـرس
أراك لســـت بوقَّافٍ و لا حذرٍ كالحا  طب الخابط الأعواد في الغلـس
ترجو النجاة ولم تسلك مســــــــــالكهـا  إن السفينة لا تجري على اليبس
* * *

 ويكفيه شرفاً صلى الله عليه وسلم أنه وصل إلى مقامٍ لا ينبغي إلا لواحدٍ من خلقه ، فأنا حينما أقول سيدُ الخلق ، وحبيب الحق فهذا القول حق ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

((إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ))

[ أخرجه مسلم ]

 ألا نقول في الصلاة : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة، آت سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم الفضيلة والوسيلة .
 وإليكم بعض الأدلة ، فأحياناً يموت عالم فيقال : مشي في جنازته مليون إنسان ، هذا العالم أصله دولاتي ، لو بقي دولاتيًا ، كم يمشي في جنازته ؟ لو لم يطلب العلم ، لو لم يدع إلى الله عز وجل ، لو لم يجنِّد طاقاته في سبيل الله ، لكان إنساناً أقل من عادي ، فأنا أقول لكم هذا الكلام لا حباً بالمكانة ، لكن ليس من المعقول أن تخطب ود الله ، وأن تلتزم أمره ، وأن تقبل عليه ، وإن تشتاق إليه ، وأن تخدم عباده ، دون أن يرفع شأنك ربك ، فالمؤمن له مكانة ، فهو ممنوع من أن ينال ..

﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)﴾

[ سورة النساء ]

* * * * *

 وننتقل إلى موضوعٍ آخر من شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ألا وهو :

حلمه وعطفه

 قال تعالى :

﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)﴾

[ سورة المائدة ]

 قال تعالى :

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾

[ سورة آل عمران ]

 كان عليه الصلاة والسلام عظيم الحلم ، فكاد الحليم أن يكون نبياً ، فالإنسان الحليم ، إخواننا ، مالك زمام نفسه ، يتخذ قراره بهدوء ، ويتصرف بهدوء ، وغالباً ما يصيب في قراره ، أما الإنسان إذا غضب اختل توازنه ، واضطربت رؤيته ، واصبح كالوحش ، لهذا هناك أحاديث كثيرة جداً يقول فيها عليه الصلاة والسلام :

(( لا تغضب كاد الحليم أن يكون نبياً))

[ الجامع الصغير ]

 والحلم سيد الأخلاق ، كان عظيم الحلم ، لا يقابل السيِّئة بالسيئة ، بل يعفو ويغفر ، وما انتقم لنفسه قط ، إلا أن تنتهك حرمةٌ لله فينتقم لله تعالى، وهذا الدرس ليس للإعلام ، أقول دائماً : العلم في الإسلام وسيلة ، وليس هدفاً ، نقل المعلومات ، والاستماع إلى الحقائق ، والاكتفاء بها ، والتزيُّن بها ، وتحليلها ، وتنميقها ، وعرضها ، هذا لا يقدِّم ، ولا يؤخر ، الذي يقدم ويؤخر ، أن تنقلب هذه الحقائق إلى سلوك .
 كل إنسان له عمل ، هناك من هو دونه ، له بيت هناك من هو دونه فلا بيت له ، له جيران الخ ، فأنت بحلمك ، وعفوك ، وكريم خصالك تملك القلوب ، والحقيقة أن الأقوياء يملكون الرقاب ، لكن الأنبياء يملكون القلوب ، فمثلاً بالجامعة للطلاب دوام ، فلو غاب طالب ثلاث مرات في بعض المواد يحرم من الامتحان ، تجد القاعة مليئة ، هذا الانضباط خوفاً من الرسوب ، لكن إذا رأيت مسجداً ممتلئاً فهذا الامتلاء طوعي ، فالبطولة لا في أن تملك الرقاب ، بل في أن تملك القلوب ، من شأن الأقوياء أن يملكوا الرقاب ، ومن شأن الأنبياء أن يملكوا القلوب ، بطولتك لا في ملك الرقاب ، بل في ملك القلوب ، بطولتك ، ليس للذي يقال في حضرتك خوفاً منك أو طمعاً بما عندك ، بل بطولتك بالذي يقال في غيبتك من دون أن يخافك الناس أو يرجوا ما عندك .
 وهذا يقودنا إلى فكرة دقيقةٍ جداً وهي : أن الله جل ثناؤه لحكمة بالغةٍ أرادها جعل معظم أنبيائه في مطلع الدعوة ضُعفاء ، حيث لو أن إنساناً تهجَّم عليهم ، أو تطاول عليهم ، أو انتقص من قيمتهم ، أو طعن في رسالتهم ، أو كذَّبهم ، أو سخر منهم ، أو اتهمهم بالجنون ، ساحر ، كاهن، مجنون ، فهذا الذي اتهمهم ، وتطاول عليهم ، ونال منهم ، يذهب إلى بيته ، وينام نوماً هانئاً .
 فإذا كان شخص ضعيف بالطريق ، تكلمت معه كلمةً جافيةً قاسية ، هل تقلق ليلاً ؟ لا ، فمن هذا الشخص ؟ إنه لا شأن له ، أما إذا كان الشخص قوياً ، وتورطت معه بكلمةٍ ينبغي ألا تقولها ، أنا أرجح أنك لن تنام الليل .
 فالنبي عليه الصلاة والسلام كان ضعيفاً ، لماذا كان ضعيفاً ؟ ليكون الإيمان به ثميناً ، لا خوفاً ولا طمعاً ، والتعليق على الموضوع الأول ، لو أن الله جعله ملكاً ، أحياناً ملك يعطي إشارة ، تجد الناس جميعاً هابوا سطوته ، ونفذوا أمره ، فهل هذا التنفيذ عبادة ؟ لا ، بل خوف لا قيمة له أبداً . إذاً !!!...

الحكمة الأولى :

 لما جاءه جبريل قال له : يا رسول الله أتحب أن تكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً ، فاختار عليه الصلاة و السلام نبياً عبداً ، لأن العبودية طاعة و قرب من الله .

الحكمة الثانية :

 أنه لو كان نبياً ملكاً ، وجاء بهذه الدعوة ، وأعلنها للناس ، ودعاهم إلى قبولها ، لرأيت الملايين الطائلة تقبل عليها ، أليس كذلك ؟ لأنه ملك قوي ، شيء مخيف ، لكن جعله الله ضعيفاً ، حتى يكون الذي آمن به قد آمن به لا عن خوفٍ ولا عن طمع ، فما عنده شيء مخيفٌ أو مغْرٍ ، لذلك قالوا : ساحر ، قالوا : مجنون ، قالوا : كاهن ، ومع ذلك ناموا مطمئنين ، فلحكمةٍ بالغة ، جعل الله النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفاً ، لذلك فالناس الذي آمنوا به ، كان إيمانهم به ثميناً ، لا خوفاً ولا طمعاً .
 روى الشيخان وأبو داود عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ :

((مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا))

 وقالوا : لقد اتسع حلمه لجميع خلق الله تعالى ، حتى لأعدائه الذين آذوه ، في غزوة أحد ، كسرت رباعيَّته ، وجرحت شفته السُفلى ، وشُجَّ في جبهته ، حتى سال منه الدم ، ولقد شق ذلك على أصحابه فقالوا :

((يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً))

[ أخرجه البخاري عن أبي هريرة ]

((اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون))

 كسرت رباعيته ، وجرحت شفته ، وشج جبينه ، فلما قيل له : ادع عليهم قال :

((اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون))

قصة إسلام اليهودي زيد بن سعنة.

 هذه قصة تحمل عبرة ، أحياناً يروي شخص فقرة منها ، وهذه الفقرة مستنكرة ، توقع في حرج ، لكن لو قرأت القصة بأكملها تراها مستساغة ، ورد عن زيد بن سعنة أنه قال : لم يبق من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه محمدٍ صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه ، إلا اثنتين لم أخبرهما فيه هما : أنه يسبق حلمه جهله ، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً ، قال زيد بن سعنة: فكنت أتلطَّف له أي بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن أخالطه ، فأعرف حلمه وجهله ، فابتعت منه تمراً ـ اشتريت منه تمراً ـ إلى أجلٍ ، فأعطيته الثمن ، فأعطاه . وفي روايةٍ : " أعطاه زيدٌ قبل إسلامه ثمانين مثقالاً ـ أي أن هذا زيد اشترى من رسول الله صلى الله عليه وسلم تمراً ، أعطاه الثمن ولم يقبض البضاعة ، طبعاً إلى أجل هكذا الشرط ـ فلما كان قبل مجيء الأجل بيومين أو ثلاثة أتيت محمداً صلى الله عليه وسلم ، فأخذت بمجامع قميصه ، ورداؤه على عنقه ، ونظرت إليه بوجهٍ غليظٍ ثم قلت : ألا تقضين يا محمد حقي ، فو الله إنكم يا بني عبد المطلب مطلٌ " .
 كان سيدنا عمر موجود ، وهذا يهودي ، قال له : " أي عدو الله تقول هذا لرسول الله ، فو الله لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك " ، ماذا كان يحاذر سيدنا عمر ؟ كان هناك اتفاق مع اليهود ، فلو ضربه لانتهِك هذا الاتفاق ، كان عليه الصلاة والسلام ينظر إلى عمر بتؤدةٍ وسكونٍ وتبسم ، ثم قال عليه الصلاة والسلام :

(( أنا وهو - أي أنا وزيد - كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر ، أن تأمرني بحسن الأداء ، وأن تأمره بحسن المقاضاة ))

 ثم قال :

(( اذهب يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعاً ، مكان ما رعته - أي خوفته - أي مقابل فزعه ))

 ففعل ذلك عمر .
 قال زيد : فقلت : يا عمر كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله حين نظرت إليه ، إلا اثنتين لم أخبرهما هما : أنه يسبق حلمه جهله ، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً - يبدو أن هذه الصفات وردت في التوراة - فقد اختبرته بهما ، فاشهد يا عمر أني قد رضيت بالله رباً ، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً .
 أحياناً يذكر القارئ فقط الفقرة التي في منتصف الحديث ، وهذه فيها إشكال كبير كثير ، هذا الذي قرأ في التوراة صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حينما التقى به عرفها كلها إلا هاتين الصفتين ، فأراد أن يتأكد، أيسبق حلمه جهله ، ولا يزيده شدة الجهل إلا حلماً ؟ فتلطَّف إليه حتى أقام علاقةً تجاريةً معه ، دفع له ثمن التمر ، ثم جاء يطلب الأداء قبل الأجل ، ثم جذبه من ردائه وأغلظ له القول ، بأن قال : فو الله إنكم يا بني عبد المطلب مطلٌ ، سيدنا عمر أراد أن يفتك به ، قال له :

(( دعه يا عمر ، أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك ، أن تأمرني بحسن الأداء ، وأن تأمره بحسن المقاضاة))

  هذا اليهودي حينما رأى هذا الحلم الشديد سكنت نفسه ، وأعلن إسلامه ، وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
 في روايةٍ أخرى قال زيد : " وما حملني على ما رأيتني صنعت يا عمر إلا أني كنت رأيت صفاته في التوراة كلها إلا الحلم ، فاختبرت حلمه اليوم ، فوجدته على ما وصف في التوراة ، وإني أشهدك أن هذا التمر وشطر مالي إلى فقراء المسلمين " .
 وأسلم زيدٌ وأسلم أهل بيته كلهم إلا شيخاً كبيراً غلبت عليه الشِقْوَة ، فهو أراد أن يسلم هو وأهل بيته جميعاً ، قرأ في التوراة ، فرأى كل الصفات التي في التوراة ، رآها بعينه في النبي إلا صفة الحلم فاختبره بها ، بدأ متطلفاً ، عقد معه صفقةً ، أعطاه الثمن مقدماً ، وعده النبي بتسليم البضاعة بعد حين ، جاء قبل أن يحل الحين ، وأمسكه كما قلت قبل قليل ، والنبي عليه الصلاة والسلام قال:

((يا عمر مرني بحسن الأداء ، وأمره بحسن المقاضاة ، كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر))

 روى أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :

((كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ مَعَنَا فِي الْمَجْلِسِ يُحَدِّثُنَا فَإِذَا قَامَ قُمْنَا قِيَامًا حَتَّى نَرَاهُ قَدْ دَخَلَ بَعْضَ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ فَحَدَّثَنَا يَوْمًا فَقُمْنَا حِينَ قَامَ فَنَظَرْنَا إِلَى أَعْرَابِيٍّ قَدْ أَدْرَكَهُ فَجَبَذَهُ - وفي روايةٍ جذبه ، فبالطبع نحن عندنا قاعدة باللغة الفعل الثلاثي يمكن أن تتغير تراكيب حروفه فتقول : جذب وجبذ ، أنعم النظر ، وأمعن النظر ، عبر ، وعرب ، وهكذا ، ويبقى ذات المعنى ، وله ذات الدلالة - بِرِدَائِهِ فَحَمَّرَ رَقَبَتَهُ - أي صار فيها حمرةٌ من أثر الجبذة - قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَكَانَ رِدَاءً خَشِنًا فَالْتَفَتَ فَقَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ احْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرَيَّ هَذَيْنِ فَإِنَّكَ لَا تَحْمِلُ لِي مِنْ مَالِكَ وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لَا أَحْمِلُ لَكَ حَتَّى تُقِيدَنِي مِنْ جَبْذَتِكَ الَّتِي جَبَذْتَنِي فَكُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ وَاللَّهِ لَا أُقِيدُكَهَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ ثُمَّ دَعَا رَجُلًا فَقَالَ لَهُ احْمِلْ لَهُ عَلَى بَعِيرَيْهِ هَذَيْنِ عَلَى بَعِيرٍ شَعِيرًا وَعَلَى الْآخَرِ تَمْرًا ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ انْصَرِفُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى))

 وفي رواية البيهقي : " فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال :

(( المال مال الله وأنا عبده ، وأستغفر الله لا أحملك حتى تُقيِدَني ، من جذبتك التي جذبتني بها))

 ـ أريد أن آخذ حقي منك ـ فقال الأعرابي : والله لا أُقِيدكها ـ أي لا أعطيك أن تأخذ مني حقك ـ فقال عليه الصلاة والسلام : لمَ ؟ فقال الأعرابي : لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة " . فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم دعا النبي الكريم رجلاً وهو عمر ـ كما في الرواية ـ فقال :

((احمل له على بعيريه هذين على بعيرٍ تمراً وعلى بعيرٍ شعيراً))

 هذه لو فعلها الأعرابي مع أي إنسان آخر قوي قطعت رقبته وانتهى الأمر ، وهذه بالطبع تفاصيل القصة .
 وكان صلى الله عليه وسلم إذا أوذي في نفسه عفا وصفح ، ولكن إذا انتهكت حرمةٌ من حرم الله عز وجل غضب ، لما شُجَّ وجهه الشريف يوم أحد عفا وقال :

((اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون))

  أما لما شغله اليهود عن الصلاة يوم الخندق ، لم يعف عنهم بل قال :

((مَلأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا))

[ أخرجه البخاري عن علي ]

 ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام يغضب كذلك قال :

((إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ))

[ أخرجه مسلم عن أم سليم ]

 ولكن ما الذي كان يغضبه ؟ وأنا أقول لكم : قل لي أيها الأخ الكريم ما الذي يغضبك أقل لك من أنت ؟ فمثلاً إذا دخلت إلى البيت ولم يكن الطعام جاهزاً هل تغضب ؟ قد تغضب .
 إذا نظرت إلى ابنتك وهي في ريعان الصبا قد خرجت إلى الشرفة دون أن تضع شيئاً على رأسها ، ونظرت إليها هكذا وابتسمت ، ولم تغضب ؟ هنا المشكلة ، إذا انتهكت أوامر الله عز وجل لا تغضب ؟! و إذا فعلت المعصية لا تغضب ؟! أما إذا تأخر الطعام تغضب !!
 أقول لكم أيها الإخوة : قل لي ما الذي يغضبك أقل لك من أنت ؟

غضبه :

 الآن نحن مع غضب النبي عليه الصلاة والسلام ، كان عليه الصلاة والسلام يغضب لله تعالى ويرضى لرضاه ، لم يكن تغضبه الدنيا ولا ما كان لها ، ولم يكن يغضب لنفسه ، بل كان يغضب لربه تعالى .
 أحياناً الإنسان إذا كانت عنده آلة ، وآخر خربها له ، أو عنده أثاث فخم ، وأفسده له إنسان ، تقوم الدنيا ولا تقعد ، تنطلق من لسانه كلمات لا يعلمها إلا الله ، يتجاوز حده ، لأنه أفسد له حاجة ، أما إذا رأى معصيةً ، أو رأى كبيرةً ، أو رأى حرمةً تنتهك فلا يبالي .
 وقد جاء في حديث هند بن أبي هالة الذي رواه الترمذي وغيره يصف النبي صلى الله عليه وسلم :

(( لا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها ، فإذا تُعُرِّضَ للحق لم يعرفه أحد ، ولن يُقَم لغضبه شيء حتى ينتصر له ، ولا يغضب لنفسه ، ولا ينتصر لها ))

 أي أنه لا يغضب إلا لله ، أما لنفسه فلا يغضب .
 مرةً غضب حينما رأى في البيت قِرَاماً فيه الصور كما في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :

((دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ وَقَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ))

 فقد كان حديث عهد بالأصنام ، هؤلاء الذين كانوا يصنعون الأصنام ويصورونها ، هؤلاء يعيشون في مجتمع الشرك ، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يغضب أشد الغضب من هؤلاء الذين يصورون هذه التصاوير ، طبعاً خوفاً من أن تعبد من دون الله .
 مِن هذا غضبه صلى الله عليه وسلم ، مِن العمل الذي ينفِّر المؤمن، و قد ورد في الصحيحين وغيرهما عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ :

((وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا ـ أي يطيل الصلاة بنا ـ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ))

 كان عليه الصلاة والسلام يصلي مع أصحابه صلاة الفجر، والسنة أن تقرأ في صلاة الفجر السور الطويلة ، الواقعة مثلاً ، الحجرات ، من السنة أن تقرأها بأكملها في كل ركعة ، وكان كما يروي كُتَّاب السيرة في أعلى درجات نشوته ، وانغماسه في القرب من ربه ، بدأ الصلاة ، وقرأ الفاتحة ، فسمع طفلاً يبكي ، فقرأ أقصر سورةٍ وسلَّم ، فعجب أصحابه من هذا ، ليس هذا من عادته ، كان إذا صلى الفجر قرأ طوال السور ، فقد أراد أن يرحم أم هذا الغلام الصغير الذي كان يبكي ويناديها ببكائه ، فالنبي الكريم قال :

((إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ))

 عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ ، وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي فَتَرَكَ نَاضِحَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ النِّسَاءِ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذًا نَالَ مِنْهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَكَا إِلَيْهِ مُعَاذًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ أَوْ أَفَاتِنٌ ثَلَاثَ مِرَارٍ فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ))

[ سنن النسائي عن جابر ]

 كان عليه الصلاة والسلام كما قال أصحابه يتخولنا بالموعظة ، مخافة السآمة علينا وكان يقول :

((روحوا القلوب ساعةً بعد الساعة))

[ الجامع الصغير ]

 وأنت أيضاً إذا تكلمت مع أولادك ، مع أهلك ، مع أصدقائك ، فكن كما تكون على الطعام تماماً ، اجلس إليهم وحدِّثهم ، حدِّثهم وهم يتمنون أن تحدثهم ، واسكت وهم يتمنَّون أن تتابع ، هذا هو المقياس ، أجل ، حدثهم وهم يتمنون أن تحدثهم ، وكُفَّ عن الحديث وهم يتمنون أن تتابع الحديث ، هذا هو المقياس ، أحياناً يكون الإنسان مضطرباً مشوشاً ، ويأتي إنسان يعظه ، فليس هذا وقت الموعظة ، أحياناً يكون في ظرف عصيب ، في مرض مثلاً، في مشكلة ، المفروض أنك تختار الوقت المناسب ، أن يكون في صفاء ذهن ، و أن يكون في راحة نفسية ، فإذا حدثته فهو لا يسمع إليك و ربما تشاغل عنك ، لا تحدث الناس إلا إذا كانوا مستعدين لهذا الحديث ، فإذا حدَّثتهم فكفَّ في الوقت المناسب ، قبل أن يبدو السأم على وجوههم .
 ومن ذلك غضبه صلى الله عليه وسلم لما رأى النُخامة في المسجد كما في الصحيحين ، ذلك لأن المساجد ينبغي أن يحرص المسلم على نظافتها وكرامتها ، ولا يجوز إلقاء الوسخ فيها ، و قد تقدَّم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنظافة المسجد .
 فأنت لو حملت قشةً من المسجد ، ووضعتها في جيبك لك أجر ، فأحياناً الإنسان يكون عنده حساسية بالغة ، يسجد ، فيشم رائحة غير مستحبة من الأرض ، معنى ذلك أنَّ واحداً يرتدي جرابات غير نظيفة ، فإذا كان إنسان إيمانه ضعيف و يقف على شعرة ، تجده يقول : " لا أصلي في المسجد" ، المفروض أن يكون المسجد نظيفاً جداً ، مريحاً جداً ، فهذا الذي يأتي والتدفئة في المسجد ، والمراوح في المسجد ، والصوت الواضح في المسجد ، والماء الساخن للوضوء في المسجد ، والماء البارد للشرب في المسجد ، فكل هذا مما يرغب الناس في المسجد فيقبل الناس على مساجدهم.
 و معلوم أننا في عصر فيه الاعتناء بالأثاث والنظافة والترتيب شيء هام ، والمفروض أن يكون بيت الله عز وجل في مقدمة كل مكانٍ فيه أناقةٌ وترتيبٌ ونظافة ، و أحياناً المسجد النظيف المرتب يستقطب الناس ، مرة جاء شخص من بلد عربي ـ والله لا أقولها افتخاراً ـ فأراد أن يقضي حاجةً ، فدخل إلى دورات المياه فقال لي : ما رأيت في حياتي على الإطلاق دروات مياه نظيفة كما هي عندكم في المسجد ، كأنها دورات مياه بيت. والفضل لإخواننا الكرام الذين يعتنون بها ، شيء جميل جداً ، ترى الميضأة نظيفة ، والرخام يلمع ، ونظافة ما بعدها نظافة ، هذا مما يجلب الناس إلى المسجد ، لذلك كنا قبل سنواتٍ طويلة نرى دورات المياه غير مريحة إطلاقاً، و السجاد غير نظيف ، فذاك الوقت ولَّى ، هذا بيت الله ، و العناية به تستقطب وجود الناس جميعاً .
 أنا عندما كنت صغيراً أذكر أنه إذا كانت عند واحد ثريا مكسورة يقول : خذوها على الجامع ، سجادة نصفها تالف ونصفها سليم إلى حد ما، خذوها إلى المسجد ، هذه الأحوال انتهت، نريد سجاداً جديداً ، نريد ثريات جميلة ، نريد نظافة، نريد أجهزة تنظيف ، هذا الشيء ضروري الآن لكي يجلب الناس لمساجدهم .
 ومن ذلك غضبه صلى الله عليه وسلم من شدة الإثقال ، والإحراج ، وشدة الإلحاح ، ففي صحيح البخاري وغيره عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

((احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَيْرَةً - أي قبع في غرفته - مُخَصَّفَةً أَوْ حَصِيرًا فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيهَا فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً فَحَضَرُوا وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَحَصَبُوا الْبَابَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُغْضَبًا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ))

 النبي أراد أن يصلي نافلة ، لو صلاها في المسجد لأصبحت سنة مؤكدة ، فأثقل على أمته من بعده ، فدخل إلى غرفته ليصلي هذه الصلاة ، تبعه الرجال وصلوا معه هذه الصلاة ، فغضب ، و لم يفهموا عليه ، هو إذا فعل شيئاً أصبح فرضاً ، أو أصبح سنةً ثابتة ، فلما دخل إلى غرفةً ليصلي تبعه الرجال وصلوا معه ، صلوا بصلاته وكأنه إمامهم ، واقتدوا به، فغضب عليه الصلاة والسلام ، فخرج إليهم مغضباً ، وقال لهم :

((مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ))

 كانت الأشياء التي ترهق أمته يفعلها حيناً ولا يفعلها حيناً آخر ، لم لا يفعلها لئلا يلزم بها الناس من بعده .
 لكن النقطة الدقيقة أنه صلى الله عليه وسلم كان يغضب ، إلا أن شدة غضبه مهما بلغت لم تكن لتخرجه عن الحق ـ هذه نقطة مهمة جداً ـ لذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول :

((عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ))

[ أخرجه أحمد عن ابن عباس ]

 الحقيقة هي أن الإنسان معرض لأن يغضب لكن لا بد من كوابح ، والأبلغ أن تتغاضب لا أن تغضب ، ما الفرق بين التغاضب والغضب ؟ التغاضب أنت تملك زمام نفسك ، أما إذا غضبت عندئذٍ لا تملك زمام نفسك، كان عليه الصلاة والسلام إذا غضب ملك زمام نفسه ، والإنسان القوي الإرادة يكون كما قال عليه الصلاة والسلام :

(( لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ))

[ أخرجه البخاري عن أبي هريرة ]

 الحقيقة بطولتك أن تملك نفسك ، حتى إن الدين كله في إجماله سيطرةٌ على الذات ، و لقد قال بعضهم : حضارة الإنسان سيطرةٌ على الذات ، وربما كانت حضارة غير المسلمين ، سيطرةٌ على الطبيعة . فقد غاصوا في البحار ، وصعدوا إلى الأجواء ، ولكن المسلم كما قال أحد زعماء إنكلترا : ملكنا العلم ولم نملك أنفسنا . فالإنسان أمام نفسه ضعيف يتهاوى ، ولكنَّهُ قد يملك القوة التي يفعل بها ما يشاء .
 هناك شيء دقيق جداً فقد روى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ :

(( كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا فَأَمْسَكْتُ عَنْ الْكِتَابِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ))

 الحق في الغضب والحق في الرضا وفي روايةٍ :

(( فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ))

 إذاً فالنبي كان يغضب ، ولكن كان يغضب لله ، و إذا غضب لله فلا يخرجه غضبه عن الحق ، لكنّ الناس أحياناً إذا غضبوا خرجوا عن الحق، وإذا أحبوا خرجوا عن الحق ، و قد تجد إنساناً يحب شخصاً لا يصلي يقول لك : قلبه أبيض ، تقي ، نقي ، لكن تنقصه فقط الصلاة ، هذا موقف فيه انحراف .
و إليكم هذه الطرفة خطب شخص بنت الملك ، قال : أنا وأمي وأبي موافقون بقي عقبة صغيرة جداً أن توافق هي وأمها وأبوها . أما هو فموافق هو وأمه وأبوه ، فأحياناً الإنسان رضاه عن شخصٍ يخرجه عن الحق ، وغضبه على شخصٍ يخرجه عن الحق ، فالبطولة أن تبقى مع الحق في الرضا والغضب.
والحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم جامع لكل المعاني التي سبقت :

((أمرني ربي بتسع ؛ خشية الله في السر والعلانية ، كلمة العدل في الغضب والرضا ، القصد في الفقر والغنى ، وأن أصل من قطعني ، وأن أعفو عمن ظلمني ، وأن أعطي من حرمني ، وأن يكون صمتي فكراً ونطقي ذكراً ، ونظري عبرةً))

 وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى ننتقل إلى عظيم كرمه صلى الله عليه وسلم .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور