وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة ابراهيم - تفسير الآيات 13 – 21 معركة الحق والباطل أزلية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

 

المعركة بين أهل الإيمان وأهل الكفر أزليّةٌ أبديَّة :

 

أيها الإخوة المؤمنون ؛ وصلنا في الدرس الماضي من سورة إبراهيم عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام إلى قوله تعالى : ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ﴾ أي المعركة بين أهل الإيمان وأهل الكفر أزليّةٌ أبديَّة ، معركةٌ قديمة ، إنَّ هؤلاء الكفَّار وهم الأكثريَّة وأصحاب القوَّة خَيَّروا المؤمنين بما فيهم رسل الله الكرام الذين دَعَوْهُم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى ، خيَّروهم بين أن يعودوا في ملَّتهم أو أن يخرجوهم مِن أرضهم ..﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ﴾ ليس في الكون إلا الله، والله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)﴾

[  سورة الأعراف ]

وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان الله عليك فمن معك ؟ وإذا أردتَ أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله ، حسْبُكَ الله ونِعْمَ الوكيل ..

﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) ﴾

[ سورة غافر  ]

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)  ﴾

[  سورة الحج  ]

﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) ﴾

[ سورة الأنبياء ]

﴿ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)  ﴾

[ سورة الأنعام  ]

 

عباد الله الصالحون هم من يرثون الأرض وهذا من سنن الله الثابتة :


﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ﴾ .. كلمَة تعودوا هنا لا تعني كنا وسنعود ، بل هي بمعنى صار ، إمَّا أنْ تصبحوا على ديننا وَفق ملَّتنا ، أو نخرجَنَّكم مِن أرضنا ، ورأيٌّ آخر هو أن الكفَّار توهَّموا أن المؤمنين كانوا على ملَّتهم فآمنوا فعليهم أن يعودوا لما كانوا عليه ..

﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ(13)وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ .. طبعاً ربنا سبحانه وتعالى وَفْقَ سننه الثابتة ﴿ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾  الأرض يرثها عبادي الصالحون .. ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾  وللباطل جولةٌ ثمَّ يَضْمَحِل ، فلذلك بعد إهلاك الظالمين ﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ ..

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) ﴾

[  سورة النور  ]

هذا وعدُ الله الثابت . 

﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) ﴾

[ سورة القصص  ]

 

الجبَّار العنيد صفتان تلازمان الكافر :


﴿ وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ معنى استفتحوا أن هؤلاء الرسل الكرام طلبوا مِن الله الفتح ، أي طلبوا من الله النصر ، إني مظلومٌ فانتصر يا رب لدينك ..

﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)  ﴾

[ سورة القمر ]

الاستفتاح هنا طلب الفتح .. ﴿ وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ الجبَّار المتكبِّر عن طاعة الله عزَّ وجل ، والعنيد المصرُّ على خطئه وعناده وكفره ، الجبَّار العنيد صفتان تلازمان الكافر ؛ جبَّارٌ ، مستعلٍ ، عنيد  ، لا يتراجع عن خطئه . ﴿ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ .. معنى خاب أي أخفق في مسعاه ، رأى نتيجة عمله أمامه ، وصل إلى نهاية أعماله .. 

 

الماء الصديد هو شرب الكافر يوم القيامة :


﴿ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ(15)مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ﴾ ..الجروح أحياناً تَنِزُّ قيحاً ، هذا الماء لا يستطيع المرء أن يفكِّر في قُبْحِهِ ، أو قذارته ، أو كراهيَّته ، إن هذا الماء سوف يُسقى منه ..﴿ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ(16)يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ﴾ أيْ هذه حالةٌ صعبةٌ جداً أن تتوافر كل أسباب الموت ولا موت ، الموت مريحٌ أكثر من هذه الحالة ..﴿ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ﴾ .

 

الإنجازات الضخمة التي يتبجَّح بها الكفَّار لا شأن لها عند الله :

 

الآن الآية الكريمة : ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ مِن أمثال الله البليغة : أهل الكفر الذين كفروا بربِّهم الذي يُمدُّهم بالحياة ، يُمدُّهم بكل ما يحتاجونه ، ربهم الذي خلقهم ، والذي دعاهم إليه كفروا به بمعنى أعرضوا عنه ، بمعنى لم يأبهوا لشرعه ، لم يُقْبِلوا عليه ، لم يُعْنَوا بكلامه ، لم يسألوا عن منهجه ، لم يَعْنِهم خلقُه ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ﴾ .. أيْ ازْوَرُّوا عنه ، أعرضوا عنه ، جعلوا كلامه وراء ظهورهم ، ما بالوا بالإقبال عليه ، ما هالهم الانقطاع عنه ، ما رغبهم رضاه ، كل هذا جعلوه وراء ظهورهم .﴿ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُم ﴾ طبعاً الأعمال الساذجة ، أو الأعمال التي لا شأن لها ولا قيمة ، الأعمال التافهة هذه لا تُذْكَر لا عند الناس ولا عند الله ، ولكنَّ المقصود من هذه الآية أعمالهم الكبيرة ، هذه الإنجازات الضخمة التي يزعمون أنها ضخمة ﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ .. رياحٌ هوجاء تثير العواصف والأتربة ، حفنةٌ من رماد وُضِعَت في مهبِّ الرياح ، أين هي ؟ تلاشت ، وربنا عزَّ وجل في آياتٍ أخرى يقول  :

﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)  ﴾

[ سورة الفرقان ]

وفي آيةٍ أخرى  :

﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) ﴾

[  سورة النور ]

أيْ هذه الإنجازات الضخمة التي يتبجَّح بها الكفَّار لا شأن لها عند الله ، لا قيمة لها عند الله ، لا تُسْعِدُ أصحابها يوم القيامة ، يبحثون عنها فلا يجدونها . 

لو أن طالباً وقف أمام امتحانٍ شفهي ، وطُرِحَ عليه سؤالٌ دقيق ، فلم يملك الإجابة عنه ، وَقَعَ في حرجٍ شديد ، صار مصيره في النجاح مهدَّداً ، تذكَّر أنه البارحة تناول طعاماً طيِّباً ، وأمضى في إعداده الساعات الطِوال ، هذا العمل صنعه لهذا الطعام الطيِّب ، واستهلاكه وقته الثمين في إعداد هذا الطعام هل يستطيع هذا العمل الذي قام به البارحة أن ينجِّيه مِن هذا المأزق الحرج ؟ لا يستطيع ، هؤلاء الكفَّار لهم أعمالٌ ضخمة بمقياس الناس ، فالفراعنة الذين أشادوا الأهرامات أين هم ؟ ما قيمة هذا الإنجاز الضخم إن كان صاحب هذا الإنجاز يُعَذَّبُ على أعماله السيئة ؟

 هناك أعمالٌ إنشائيَّةٌ ضخمة قام بها بعض الناس ، سور الصين مضرب المثل ، آثار الأَنْباط ، آثار التدمريين ، المسارح التي أقامها الرومان أين هي ؟ وأين هم ؟.. ﴿ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ﴾ ، ﴿ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ نابليون احتلَّ أوروبا بأكملها ، ووصل إلى أعماق روسيا ثم تراجع وصار أسيراً في جزيرةٍ في البحر المتوسِّط ، أين هي هذه الأعمال ؟ الأعمال الإنشائيَّة ، الأعمالُ الفنيَّة ، الذيَن تركوا مسرحيّاتٍ كثيرة ، الذين تركوا قصصاً رائعة أين هم الآن ؟ هذا يبقى في الدنيا ويذهبون ليلاقوا نتيجة أعمالهم ، هذا الذي كان يملك أسطولاً من البواخر ، وكان يمتلك بعض الجزر في سواحل إفريقيا أين هو ؟ توفي . 

﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ هذه الدول الصناعيَّة التي تُتْحِفُ الناس بصناعات راقية إذا مات أصحاب هذه المعامل أين هم ؟ ما قيمة هذه الأعمال ؟ بقيتْ في الدنيا وانتهتْ .

 

كل عملٍ لا يعود بالنفع على الأمَّة هذا العمل لا قيمة له في الآخرة :


ربنا عزَّ وجل يقول : أنت في الدنيا في مهمَّةٍ خطيرة فإذا غابت عنك هذه المهمَّة فأنت في خسرانٍ كبير ..

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)﴾

[  سورة الكهف ]

بالأخسرين أعمالاً ، هذا نوبل اخترع البارود ، وبعد أن اخترع البارود شعر أنه اخترع شيئاً مؤذياً للبشريَّة ، فكم من قتيلٍ في أطراف الأرض ؟! كم من قتيلٍ بريء ؟! كم من طفلٍ ؟! كم من امرأةٍ ماتت وقضت نحبها بسبب هذا المخترَع الذي اخترعه نوبل ؟! هل يسمَّى هذا إنجازاً ضخماً ؟ ﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ قرأت مقالةً قبل أسبوعين لكاتبٍ أرسل هذه المقالة وتوفِّي ، آخر مقالة يرسلها إلى إحدى المجلات ، المقالة مطوَّلة عن أناسٍ يمشون على النار ، إذاً ما قيمة هذا العمل ؟ إذا تمرَّن الإنسان على المشي فوق النار ، ماذا فعل ؟ ماذا قدَّم للإنسانيَّة ؟ كلامٌ دقيقٌ جداً أُحِبُّ أن أقوله : إن الأعمال التافهة لا قيمة لها لا عند الله ولا عند الناس ، ولكنَّ الأعمال التي تبدو بمقياس الدنيا عظيمة إن لم تَعُد بالخير على البشريَّة لا قيمة لها يوم القيامة ، أيْ كل عملٍ لا يؤدي إلى نفع الناس ، إلى هدايتهم ، إلى تأمين حاجاتهم ، إلى إسعادهم ، إلى إقرار العدالة بينهم ، إلى نشر الفضيلة فيما بينهم ، كل عملٍ لا يعود بالنفع على الأمَّة هذا العمل لا قيمة له في الآخرة.. ﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ فالأعمال التافهة لا قيمة لها ، والأعمال الكُبرى إن لم تَعُد بالنفع على الأمَّة لا قيمة لها يوم القيامة . 

 

أعمال الكافر من أجل السمعة والشهرة والمال :


إذا كان هناك بعض الأعمال التي تعود بالنفع على بعض الأفراد إنَّ أثمانها الباهظة جعلتها سلعةً تجاريَّة يفعلها صاحبها بُغْيَةَ الربح الوفير ، والذي لا يعرف الله سبحانه وتعالى يعمل أعمالاً قد تبدو إنسانيَّة ولكنَّه يبتغي منها السمعة ، والشهرة ، والسيط الحسن ، وأن يكون نجمُهُ متألِّقاً في سماء المعرفة ، لذلك الأعمال إن لم تكن خالصةً لوجه الله سبحانه وتعالى ، وإن لم تعد بالنفع على الأمَّة.. ﴿ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ كل إنسان له عمل يفحص عملَه ، أولاً يفحص نواياه من عمله ، ماذا ينوي من هذا العمل ؟ ينوي مالاً ؟ ينوي ربحاً ؟ ينوي ثناءً ؟ ينوي مديحاً ؟ يبغي رفعةً ؟ يبغي مجداً ؟ أم يبغي أن يرضَى الله عنه ؟ إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي ..

وما مقصودُهم جنَّـــــــــات عدنٍ        ولا الحور الحسان ولا الخياما

 سوى نظرِ الحبيب فذا مـُــناهم        وهذا مطلـــــب القـــــــومِ الكراما

***

 هذه الآية واللهِ وقفتُ عندها طويلاً ، أعمال ضخمة بذلوا من أجلها عشرات السنوات ، دُفِعَت من أجلها مئات مئات ألوف اليرات ، وفي النهاية  : ﴿ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ .

هذا الذي نجح في الزراعة ، أو نجح في الصناعة ، أو نجح في التجارة ، وحقَّق أرباحاً طائلة ، عاش في بحبوحة وفي رفاهٍ عجيب ، يأتي يوم القيامة يقول الله له : ماذا فعلت مِن أجلي ؟ ماذا فعلت من أجل هذه الحياة الأبديَّة ؟ بماذا خدمت العباد ؟ ماذا قدَّمت لهم ؟ يقول : يا رب ، فعلت هذا العمل ، هذا تقاضيتَ عليه أجراً باهظاً ، أرهق الناس ، ماذا فعلت من أجلي ؟ هل رحمتهم ؟ هل أنصفتهم ؟ هل أكرمتهم ؟ هل كان قلبك رقيقاً لمآسيهم أم أنك عشت وحدك ؟ هذا كلُّه يوم القيامة ، فالنتيجة خطيرة جداً ، الإنسان لا ينظر لمظهر العمل ، أندم الناس يوم القيامة عالمٌ دخل الناس بعلمه الجنَّة ودخل هو بعلمه النار . يرونه يوم القيامة ألستَ فلاناً ؟ يقول : نعم ، ما الذي جاء بك إلى هنا في جهنَّم ؟ يقول :

عن أسامة بن زيد   :

(( قِيلَ لِأُسَامَةَ : لو أتَيْتَ فُلَانًا فَكَلَّمْتَهُ ، قالَ : إنَّكُمْ لَتُرَوْنَ أنِّي لا أُكَلِّمُهُ إلَّا أُسْمِعُكُمْ ، إنِّي أُكَلِّمُهُ في السِّرِّ دُونَ أنْ أفْتَحَ بَابًا لا أكُونُ أوَّلَ مَن فَتَحَهُ ، ولَا أقُولُ لِرَجُلٍ أنْ كانَ عَلَيَّ أمِيرًا : إنَّه خَيْرُ النَّاسِ ، بَعْدَ شَيءٍ سَمِعْتُهُ مِن رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، قالوا : وما سَمِعْتَهُ يقولُ ؟ قالَ : سَمِعْتُهُ يقولُ : يُجَاءُ بالرَّجُلِ يَومَ القِيَامَةِ فيُلْقَى في النَّارِ ، فَتَنْدَلِقُ أقْتَابُهُ في النَّارِ ، فَيَدُورُ كما يَدُورُ الحِمَارُ برَحَاهُ ، فَيَجْتَمِعُ أهْلُ النَّارِ عليه فيَقولونَ : أيْ فُلَانُ ، ما شَأْنُكَ ؟ أليسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بالمَعروفِ وتَنْهَانَا عَنِ المُنْكَرِ ؟! قالَ : كُنْتُ آمُرُكُمْ بالمَعروفِ ولَا آتِيهِ ، وأَنْهَاكُمْ عَنِ المُنْكَرِ وآتِيهِ. ))

[ صحيح البخاري ]

 

قضيَّة العمل من أخطر قضايا الإنسان :


قضيَّة العمل قضيَّة من أخطر قضايا الإنسان ، لا يوجد واحد منَّا إلا وله عمل ، إذا كان طالحاً فهو طالح ، سيئ ، سيُحَاسَب عليه ، أما المشكلة إذا كان صالحاً ، حتى العمل الصالح يحتاج إلى إخلاصٍ لله عزَّ وجل .

(( مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ ، وَيُجَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ ، وَيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ جَهَنَّمَ . ))

[ شعيب الأرناؤوط المصدر : تخريج المسند لشعيب إسناده ضعيف جداً  ]

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ ، فَأُتِيَ بِهِ ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ ، فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ ، قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ : جَرِيءٌ ، فَقَدْ ، قِيلَ : ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ ، وَعَلَّمَهُ ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ ، فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ ، وَعَلَّمْتُهُ ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ ، قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ : عَالِمٌ ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ : هُوَ قَارِئٌ ، فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ ، قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ : هُوَ جَوَادٌ ، فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ . ))

[ صحيح مسلم ]

 الحديث الآن عن الأعمال الصالحة ، الأعمال السيئة مفروغ منها ، هذه سيحاسب عَلَيِهْا الإنسان ، الأعمال التي تبدو للناس طيّبة ما النوايا التي وراءها ؟ ما الباعث الذي وراءها ؟ فلذلك ربنا عزَّ وجل يقول : ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ﴾ .. هذا إذا كانت الأعمال صالحة ، فإن كانت طالحة :

(( عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا ، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ . ))

[ صحيح البخاري ]

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) ﴾

[  سورة الزلزلة  ]


  قيمة العمل تَنْبُعُ من شيئين :


أيها الإخوة الأكارم ؛ العملُ مَطِيَّتُك إلى الله عزَّ وجل ، والقبر صندوق العمل ، وقيمة العمل تَنْبُعُ من شيئين : أن يكون ذا نفعٍ عام ، وأن تكون نواياه خالصة لوجه الله عزَّ وجل ، هناك انحرافٌ حتى في الأعمال الصالحة ، قد يتعلَّم الإنسان العلم ليقال عنه عالم ، قد يخدم الإنسان الناس لينتزع ثناءهم واستحسانهم وتشجيعهم ، هنا النوايا مشوبة ، فلذلك الأعمال التافهة تافهةٌ ، والأعمال الجليلة لابدَّ لها من شرطين ؛ أن تعود بالنفع على الناس ، وأن يكون الذي فعلها إنما فعلها تقرُّباً إلى الله عزَّ وجل ، فدعاء العارفين بالله : " إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي " .

 

العمل للدنيا ينتهي بالموت :


﴿ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ﴾ أي هذا العمل لأنه لم يكن عملاً قيِّماً ،لأنه لم يُعُد بالنفع على الناس ، لأنه تافه ، لأنه كان للدنيا ، لأنه انتهى بالموت ، أو لأن نوايا صاحبه كانت ليست خالصة لله عزَّ وجل ، يأتي يوم القيامة يبحث عن هذا العمل لا يجده ، وإذا وجده فلا يقدر به على أن يُقْبِل على الله سبحانه وتعالى ، لا يجده وإذا وجده نيَّته السيئة أَحْبَطَتْهُ ، أذهبت مفعوله ، بطّلت عمله ، أذهبت قيمته ، فتَّته ، أزالته عن مكانته .. ﴿ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ﴾ ولكنَّ هذا العمل كلَّفك الجهد الكبير ، والمال الوفير ، وتأتي يوم القيامة ولا تجده ، وإذا وجدته وجدت نواياه السيئة قد أحبطته ، وأبطلت قيمته ، وجعلته مع الأعمال السيئة.

 

كل شيء خلقه الله عز وجل خلقه بالحق :


﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ﴾ .. كلمة ألم ترَ تعني أنَّ هذه الآية تحت بصر الناس كُلِّهم ، في متناولهم ، ﴿ أَلَمْ تَرَ﴾ ، قد أقول لواحدٍ من الناس : ألم تر أن الشمس ساطعة ؟ هل يقال هذا القول في الليل ؟ هل يصحُّ هذا القول في الليل ؟ أو هل يصحُّ هذا القول للأعمى ؟ ما دام هذا الإنسان الذي أمامي له عينان ، وما دامت الشمس ساطعةً في كبد السماء ، عندئذٍ إذا قلت له : ألم تر الشمس ساطعةً ، فمعنى قولي : ألم ترَ الشمس ساطعةً معنى أنّ الشمس ساطعةٌ ، ويستطيع أن يراها ، فربنا سبحانه وتعالى يقول : ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ﴾ .. أي الأرض حَجْمُها بالحق ، حجمُها حدَّد جاذبيَّة الأشياء إليها ، نحن في القمر ينقص وزننا ستَّة أمثال ، وإذا كنَّا في كوكبٍ آخر يصبح وزن الإنسان خمسة آلاف كيلو تقريباً ، أما حجم الأرض فهو حجمٌ مناسب ، حجم اليابسة إلى البحر حجمٌ مناسب ، تركيب الهواء مناسب ، طبقة الأوزون التي تمنع الأشعَّة القاتلة مناسب أيضاً ، نحن على الأرض حواسُّنا لها عتبة ، هذه العتبة مناسبة ..

﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)  ﴾

[ سورة القمر ]

أي كل شيءٍ بلغ من الحكمة غايتها ، ومن دقَّة الموضع غايته ، وليس في الإمكان أبدع مما كان ، طعامنا ، شرابنا ، النبات الذي من حولنا ، نظام الأسرة ، نظام البذور ، أيُّ نظامٍ تراه عيناك إنه على أبدع ما يكون ، هذا معنى بالحق ، أحياناً تُحَرِّك العدسة إلى أن تصبح الصورة واضحةٌ جداً هذا الموضع الدقيق بالحق ، لو غيّرت مكان العدسة لأصبحت الصورة ضبابية ، لو قرَّبتها أو بَعَّدَّتها ، في هذا المكان الدقيق الدقيق نقول : هذا المكان بالحق ، أي يعطي الصورة واضحةً تماماً ، فكل شيءٍ خلقه الله عزَّ وجل من صغير المخلوقات إلى كبيرها ، من جليلها إلى حقيرها أخذ وضعه الكامل ، فبالحق تعني كل شيء ، أي كل شيءٍ لو غيّرت صفاته الفيزيائيَّة أو الكيميائيّة لو أن الحديد لا يصدأ ليس بالحق ، صدأ الحديد بالحق ، عدم صدأ الذهب بالحق ، لينُ الرصاص بالحق ، كون الهواء على نسبٍ ثابتة بالحق ، قُدْرَة العين على الرؤية بالحق ، عين الصقر تزداد قدرة رؤيتها ثمانية أضعافٍ بالحق ، أي شيءٍ خلقه الله بالحق ، معنى بالحق أي بالوضع الأكمل ، بالحكمة البالغة ، بالدرجة المناسبة ، بتقدير العزيز العليم ، معنى بالحق أي ليس في الإمكان أبدع مما كان .. ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ لَوْ أنَّ هذا الماء إذا بَرَد كغيره من عناصر الأرض يتجمَّد ، وإذا تجمَّد انكمش أي قلَّ حجمه ، زادت كثافته ، لَوْ أن هذه الظاهرة المطردة على كل عناصر الأرض كانت بالماء لما كنَّا في هذا المكان ، لما كان على وجه الأرض إنسان ، الماء لو جَمَد وقلَّ حجمه ، وازدادت كثافته ، وغاص في أعماق البحار ، معنى هذا أن البحار تنقلب إلى بحارٍ متجمِّدةٍ من سطحها إلى أعماقها ، وإذا تجمَّدت انعدم التبخُّر ، وإذا انعدم التبخُّر انعدمت الأمطار فمات النبات ، مات الحيوان ، مات الإنسان ، فهذا الماء من درجة ثلاثين أربعين إذا بردَّته ينكمش إلى درجة زائد أربع ، عند هذه الدرجة يحصل تطوُّر عجيب في الماء ، تنعكس خواصُّه فإذا جَمَّدَّته يزداد حجمه ، فإذا ازداد حجمه قلَّت كثافته ، إذا قلَّت كثافته طفا على سطح الماء ، فالبحار المتجمِّدة الشماليَّة التجمُّد سطحي فقط ، أما أعماق البحار فَمياهٌ دافئة تجوب بها الأسماك من كل حدبٍ وصوب ، تجمُّد الماء بالحق .

هذه العين أودع الله فيها مادةً مضادَّةٌ للتجمُّد ، لو ذهبت إلى فنلندا أو ، إلى ألاسكا ، أو إلى القطب الشمالي ، وكانت البرودة تزيد عن سبعين درجة تحت الصفر ماذا يحصل ؟ تحس ببردٍ شديد ، لا شكَّ أنك ترتدي معطفاً سميكاً ، وقفَّازاتٍ صوفيَّة ، وغطاءً للرأس ، وواقية للأنف ، بقي العينان ، هل تستطيع أن تغطيهما بشيء صوفي ؟ كيف تمشي في الطريق ؟ لابدَّ من أن تبقى العينان معرَّضتين للهواء مباشرةً ، فإن لم تكن فيهما هذه المادَّة المُضادَّة للتجمُّد معنى ذلك أن كل إنسانٍ هبطت الحرارة في بلده ، أو في بيته ، أو في بيئَتِهِ عن الصفر تجمَّد ماء العين وفقد البصر ، فهذه المادَّة التي أودعها الله في العين والتي تمنع التجمُّد بالحق .

رؤية الإنسان محدودة ، لو أنَّك ترى كل شيء كالميكروسكوب لما أمكنك أن تشرب كأس الماء ، ترى الكائنات ، والبكتريا ، والديدان ، والعصيَّات تعاف نفسك شرب الماء ، فدرجة النظر بالحق .

لو أن هذه الأذن تسمع أكثر مما تسمع لما أمكنك أن تنام الليل ، لسمعت صوتَ اصطدام الهواء بجسمك ، لو أن الأمواج الصوتيَّة لا تتخامد لما أمكن الحياة على وجه الأرض ، أصوات المعامل كلّها من شتَّى بقاع الأرض في أذنك ، أصوات الأمواج الصاخبة في شتَّى بحار الأرض في أذنك ، الضجيج ، لكن هذه الأصوات من نعمة الله بعد ثلاثين ، أربعين ، خمسين متراً تتخامد فينعدم الصوت ، بالحق إذاً ، تخامد هذه الموجات بالحق .

هذه الآية واللهِ الذي لا إله إلا هو لو ألَّفنا عليها آلاف الكتب لما كَفَتْ ، كل شيء تراه عينك بالحق ، أيُّ شيءٍ تقع عينك عليه بالحق ، هذه البعوضة التي إذا وقفت على يدك قتلتها ، هل تعرف هذه البعوضة التي قتلتها ماذا فيها ؟ فيها جهاز رادار ، إذا كنت نائماً على وسادة ، وكان الظلام دامساً ، وكانت في أعلى الغرفة تطير إلى جبينك مباشرةً من دون أن تخطئ الهدف ، والظلام دامس ، فيها جهاز تحليل دم ، تحلِّل هل هذا الدم يناسبها ، ينام أخوان على فراشٍ واحد ، يقوم أحدهما وقد لدغه البعوض طوال الليل ، يقوم الآخر لا شيء ، ما تفسير ذلك ؟ تملك هذه البعوضة جهاز لتحليل الدم فإذا وقعت على الجلد خَدَّرت الموضع ، جهاز تخدير ، من أجل ألا تقتلها قبل أن تأخذ الدم ، والدم له لزوجة لا تعينها على امتصاصه ، تفرز مادَّةً لتمييع الدم ، جهاز رادار ، وجهاز تحليل ، وجهاز تخدير ، وجهاز تمييع ، وجناحا البعوضة يَرِفَّان في الثانية الواحدة أربعة آلاف رَفَّة ، عندئذٍ يصبح صوتها طنيناً تسمعه في أذنك ، ولهذه البعوضة ثلاثةُ قلوب: قلبٌ مركزي ، وقلبٌ لكل جناح ، وإذا وقفت البعوضة على سطحٍ أملس فلها محاجم تعتمد على تفريغ الهواء ، وإذا وقفت على سطح خشن لها مخالب تعينها على الوقوف على مكان خشن ..

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)  ﴾

[  سورة البقرة  ]

ذكرها الله عزَّ وجل في القرآن :

﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) ﴾

[ سورة لقمان ]

﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)﴾

[ سورة الملك ]

يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ كلمة بالحق ، والله الذي لا إله إلا هو تنقضي السنوات ولا ينقضي الحديث عنها ، بالحق ، لو أن هذا الظُفْر له أعصاب حس ، إلى أين أنت ذاهبٌ يا أخانا ؟ والله إلى المستشفى لأجري تخديراً موضعيَّاً حتى أقلِّم أظافري ، لا يوجد غير هذا الحل ، إلى أين أنت ذاهبٌ ؟ إلى المستشفى ، لماذا  ؟ لأجري تخديراً حتى أقصَّ شعري ، لو أن للشعر أعصاب حس ، أو للأظفار أعصاب حس هذا الخلق ليس بالحق .

لو أن شعر الأنف في الفم ليس هذا بالحق ، لو أن العين هنا على الجبين ، لما نجا من العمى إلا واحد بالألف ، لكنَّها في حصنٍ حصين ، العين في المحجر ، والدماغ وهو أخطر عضوٍ في الإنسان في الجمجمة ، وبين الدماغ والعظم سائل لامتصاص الصدمات ، والجمجمة لها مفاصل ثابتة على شكل خط مُنْكَسِر ، هذه المفاصل الثابتة إذا وقع الطفل على الأرض هذه المسافات البينيَّة الدقيقة تمتص الصدمة ، بالحق ، والقلب وسط القفص الصدري ، بالحق ، والنخاع الشوكي وسط العمود الفقري ، والرحم وسط الحوض ، وأخطر معملٍ في الإنسان معمل الكريات الحمراء داخل نِقْيِ العظام ، بالحق ، هذه الآية تمضي السنوات ولا ينتهي شرحها ، بالحق .


  التفكر من أجل معرفة الله :


فكِّر ، العلم حرف والتكرار ألف ، ليكن لك جولاتٌ في هذا الكون ، هذا البطيخ الذي نأكله كيف نقطفه ؟ هل نُكَلِّف صاحب الحقل أن يمسك هذه البطيخة ويغزُّها ويضربها ليعرف ما إذا كانت ناضجة أو لا ؟ خيطٌ من النبات بعد مكان اتصالها بأمِّها على شكل حلزون إذا نضجت تراه يابساً ، فإن كانت فجَّةً تراه طريَّاً ، بالحق ، الله قال  :

﴿ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)  ﴾

[ سورة النحل  ]

لو أن موسم الفواكه في الصيف ، نضج الكرزُ ، والمشمش ، والتفَّاح ، والأجاص ، والدرَّاق ، والتوت في يومٍ واحد ، ماذا نفعل ؟ كيف نجني هذه الفاكهة ؟ كيف نوَضٍّبها ؟ كيف نسوِّقها ؟ كيف نبيعها ؟ كيف نستهلكها ؟ مستحيل ، كل أسبوعين أو ثلاثة موسم ، أول شيء الكرز ، بعد ذلك المشمش ، بعده الدرَّاق ، الأجاص ، التفَّاح ، أي خلال أربعة أشهر ، ثم العنب ، وقبلها الزيتون ، توزُّع هذه المحاصيل وهذه الفواكه على فتراتٍ مديدة كل ذلك بالحق ، الفاكهة الواحدة لو أنها تنضج في يومٍ واحد ، هل نأكل في اليوم مئة كيلو مشمش ؟ نأكل هذه الفاكهة خلال شهر تقريباً ، كل يوم نأكل كيليين ، معقول ، هذه الفواكه تنضج بالتسلسُل .

قال لي بعض الأشخاص : ضمنت حقلاً للبطيخ ، قال : والله قطفت منه تسعين قطفة كل يوم قطفة ، أي كل يوم أملأ شاحنة ، مَن جعل هذا المحصول ينضج على التدريج  ؟ بالحق .

 لو أن القمح ينضج بالتدريج كان بالباطل ، تمسك كل سنبلة فتنظر إذا كانت نضجت ، فتصبح عملية انتحار ، لكنَّ المحاصيل تنضج في يومٍ واحد ، وتحصدها في يومٍ واحد ، بالحق ، هذه السنبلة ساقها يعدُّ غذاءً أساسياً للحيوان ، مهما اشتريت للحيوان علفاً يبقى التِبْنُ سيِّد العلف بالنسبة للحيوان ، مَن جعل هذا النبات ثماره للإنسان وساقه للحيوان ؟ بالحق .

هذا الشجر ، الحور الطويل ،  الذي نستخدمه كجسور ، قال : جذره ليفي ، له كمية جذور قليلة جداً لأن هذا الشجر يُزْرَع كي يُقْلَع ، ليُسْتَفَاد من خشبه ، أما أشجار الزيتون ، الأشجار المثمرة التي تُعَمِّر مديداً هذه تبقى جذورها ضاربةً في أعماق الأرض ، بالحق .

أيها الإخوة الأكارم ؛ فكِّروا ، هذا الفكر الذي وهبه الله لنا ، وهذا الكون المعجز الذي أكرمنا الله به من أجل أن نعرف الله من خلاله ، لا من أجل أن نأكل كما تَأكل الأنعام ..

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)  ﴾

[ سورة محمد ]


  الآية التالية تثبت قدرة الله على بعث الإنسان بعد الموت :


﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ أيها الإنسان ألم ترَ بعدُ ..  ﴿ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ(19)وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ .. هذه الآية بعضهم قال : إنها تثبت قدرة الله على بعث الإنسان بعد الموت .  وبعضهم قال : إنها تهديدٌ لهذا الإنسان الضال كي يعود إلى رشده . 

 

الآية التالية تمثِّل مشهداً رهيباً من مشاهد يوم القيامة ساقه الله قبل أن يقع رحمةً بنا :


﴿ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ﴾ .. الحقيقة هذه الآيات تمثِّل مشهداً رهيباً خطيراً واقعاً من مشاهد يوم القيامة ساقه الله قبل أن يقع رحمةً بنا ، أي عمل من الأعمال يقوم بها إنسان تعرض عليه فيلماً يصوِّر له مصير هذا العمل .. حينما كنَّا في التدريس أخذوا الطلاب إلى إحدى الثانويَّات ، وأطلعوهم على أفلامٍ علميَّةٍ عن آثار التدخين ، َرأى الطُلاب إنساناً وقد فُتِحَت رئتاه ، وبدا الورم السرطانيُّ في رئتيه بسبب التدخين.. هذا الذي يدخِّن نريه نتائج التدخين ، هذا من باب التمثيل ، والله سبحانه وتعالى هناك مواقفَ يقع بها الناس اليوم قبل أن يأتي هذا المشهد ربنا عزَّ وجل صوَّره لنا قبل أن يقع لكي نستخلص العبرة مسبقاً ونحتاط لأنفسنا ..﴿ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ ..الخلق كلُّهم ؛ صغيرهم ، كبيرهم ، قويهم ، ضعيفهم ، صحيحهم ، مريضهم ، من كان ذا شأنٍ منهم ، من كان ضعيف الشأن ..﴿ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا ﴾ يقول الضعفاء : نحن قلَّدناكم ، قلَّدناكم في معتقدكم ، قلدناكم في مذهبكم ، قلدناكم في أفكاركم ، قلدناكم في قيَمِكُم ، قلدناكم في نماذج حياتكم ، قلدناكم في عاداتكم ، قلدناكم في تقاليدكم ، قلدناكم في احتفالاتكم ، قلدناكم في كل شيء .. ﴿ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ بحثوا النار مثواهم ، هؤلاء الذين تبعوهم أين هم ؟ تعالوا إنَّا اتبعناكم في الدنيا ، قلدناكم ، كنَّا ضعفاء ، أين أنتم ؟ خلِّصونا من هذه الورطة ..﴿ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ﴾ كنَّا ضاليّن مثلكم ، لو كنَّا مهتدين لهديناكم ، كنَّا ضالين فكان الضلال على يدنا .. ﴿لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ﴾ الحقيقة هذه الآية دقيقة جداً ، لكن هؤلاء الضعفاء من جعلهم ضعفاء ؟ إذا كان الله قد جعلهم ضعفاء ، وجعل معهم أقوياء ، فالأقوياء استعبدوا الضعفاء ، فقلَّدوهم ، أو حملوهم على تنفيذ رغباتهم ، فهؤلاء الضعفاء لماذا يُحَاسَبون ؟ وكيف يحاسبهم ؟ هذا السؤال لن أجيب عنه اليوم ، أجيب عنه في الدرس القادم ..﴿ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ﴾ الأصح أن أقول لكم ما معنى الضعيف ؟ من هو الضعيف ؟ الذي لا قوَّة له ؟ الذي لا شأن له ؟ الذي لا مكانة له ؟ إذا عرفتم معنى الضعيف تُحَلُّ المشكلة ، لغز هذه الآية يُحَل إذا عرَّفتم أو عرفتم معنى الضعف ، هل هو من صنع الله عزَّ وجل أم من صنع الإنسان ؟ من هو القوي ومن هو الضعيف ؟ والضعف بماذا ؟ وما أسباب الضعف هل هو كسبيٌّ أم فطريٌّ ؟ ﴿ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ﴾ استعْلَوْا ..﴿ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ﴾ .. وجاء الشيطان ، جاء الشيطان ليلقي على الناس الضالين الذين أضلَّهم موعظةً في التوحيد ، بعد أن وَسْوَسَ لهم في الدنيا إذا هو الآن يُلقي عليهم المواعظ ..﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ..

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور