وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 5 - سورة المؤمنون - تفسير الآيات 27 – 61 إن في ذلك لآيات
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

 

الله سبحانه وتعالى يُمهل ولا يهمل :


 أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الخامس من سورة المؤمنون .

﴿ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾ قد يصيب أحد الأعضاء مواتٌ ، وهذا الموات لابدَّ من بتر العضو ، فمهما كان الرجاء شديداً ، ومهما كان التوسُّل حميماً ، ومهما كان الاستعطاف بليغاً لابدَّ من بتر العضو ، ليس هذا من قبيل القسوة ولكن من قبيل الحكمة ، وانظر إلى وليِّ طفلٍ يرجو الطبيب ألا يبتر الساقين معاً ، يقول له : لابُدَّ من بترهما ، فإذا تأخرت فلابدَّ من أن تُبترا من مكانٍ أعلى .. ﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾   المؤمن مذنبٌ توَّاب ، ما دام الإنسان سريع التوبة فهو في بحبوحة ، فإذا أصرَّ على ذنبه ، واستحكمت به شهوته ، وأصرَّ على المعصية وصل مع الله عزَّ وجل إلى هذه الآية ..﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾ ربنا سبحانه وتعالى يُمهل ولا يُهمل ، يُرخي الحبل ، يعطي فسحة ، يعطي فرصة ، أما أن يظن هذا العبد أن يترك سدى. 

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) ﴾

[ سورة القيامة  ]

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ﴾   فهذا من باب المستحيل ، لذلك الآية التي تقول : ﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾ .. هذه الآية تَدُلُّ على أن العلاج أحياناً يكون حتمياً ، وعندئذٍ لا ينفع التوسُّل ، ولا الرجاء ، ولا الدعاء ، ولا الاستعطاف ، لأن هذا الذي حصل لابدَّ من أن يحصل ، ولو لم يحصل لكان نقصاً في حكمة الله سبحانه وتعالى . 

 

ورودُ القصة للعبرة لا لمجرد الحدَثِ :


طبعاً ليست العبرة أن نقرأ هذه القصة ، ولكن العبرة أن نستخلص منها دروساً تفيدنا في تعاملنا مع الله سبحانه وتعالى ، ربنا سبحانه وتعالى عفوٌ غفور :  

﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)  ﴾

[  سورة الحجر  ]

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾

[ سورة الزمر ]

العبرة أن نستنبط درساً بليغاً من خلال هذه القصة ، أما إذا أصرَّ الإنسان على المعصية ، وركب رأسه ، واستحكمت به شهوته ، ولم يبالِ بأوامر الله ، ولا بوعده ، ولا بوعيده ، عندئذٍ تنطبق عليه هذه الآية : ﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾ .

 

الله تعالى لحرصه ورحمته ما من أمة إلا وقد خلا فيها نذير :


وبعد قصة نوحٍ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام يقول الله سبحانه وتعالى : ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ﴾ .. أي جاءت من بعده أمةٌ أخرى .. ﴿فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً﴾ ربنا سبحانه وتعالى لحرصه ورحمته ما من أمة إلا وقد خلا فيها نذير .. 

﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)  ﴾

[  سورة فاطر  ]

أي لابدَّ من الرسول ، لابدَّ من النبي ، لابدَّ من العالِم ، لابدَّ من الداعية ، لابدَّ ممن يحذِّر ، لابدَّ ممن ينذر .. ﴿فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ﴾ ومعنى منهم أي من أنفسهم ، أولاً من جنس البشر كي يألفوه ، في نفسه ما في نفوسهم ، أودع الله فيه الشهوات التي أودعها فيهم ، ورغَّبَهُ فيما رغَّبهم فيه ، أي من بُنيتهم ، من طبيعتهم ، من طريقتهم ، من قومهم ، من قبيلتهم ، من شيعتهم .

 

الدعوة إلى التوحيد :


﴿فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ .. هذا هو الدين ، يُضْغَطُ الدين كله في هذه الكلمات : ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ لا إله إلا الله كلمة التوحيد ، أي لا مسيّر لهذا الكون إلا الله ، إذاً لا معبود بحقٍ إلا الله . 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) ﴾

[  سورة البقرة ]

فكانت دعوة هذا الرسول الذي أُرسل إلى هؤلاء الذين جاؤوا بعد سيدنا نوح .. ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ أي مادام الله لا إله إلا هو ، ومادام الأمر كله له ، ومادام المصير إليه ، ومادامت الحياة مؤقتة ، ومادام الإنسان سينقلب إلى الله عزَّ وجل ، فكيف يتَّقي العذاب ؟ كيف يتقي المسؤولية ؟ كيف يتقي الشقاء الأبدي ؟ 

 

اقتران الترف بالكفر :


﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ ، بيَّنت لكم في الدرس الماضي أن الترف ورد في القرآن الكريم في ثمانية مواضع حصراً ، وأن المترفين دائماً همُ الكفار ، وقَرَنَ ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآية ، وفي سبع آيات أخرى قرَن الترف بالكفر ، وهذا دليل .. ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ لذلك أن تأكل وتشرب بشكلٍ معقول ، هذا شيءٌ مقبول ، أما أن يكون الهدف هو الترف والإسراف ، والتبذير ، والاستعلاء ، والتفاخر ، والعلو في الأرض ، فهذا كله من صفات الكافرين ، هم كفروا بالله ، وكفروا باليوم الآخر ، ومن لوازم الإيمان بالله أن تؤمن باليوم الآخر ، ومن لوازم الكفر بالله أن تُنكر اليوم الآخر ، وهذا هو الدليل : ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ .. والنبي عليه الصلاة والسلام يبين أحياناً أن من الغنى ما يُطغي :

(( بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا ؟ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا ؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ؟ أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا ؟ أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ؟ أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ ؟ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ ؟ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ .. ))

[  السلسلة الضعيفة : خلاصة حكم المحدث : ضعيف  ]

 

الرسل بشر تجري عليهم خصائص البشر :


﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾ .. طبعاً يؤكِّد ربنا سبحانه وتعالى أن هذا الرسول بشر ، من خصائص البشر أنه يأكل الطعام ، إذاً الإنسان مفتقرٌ إلى الطعام ، إذاً وجود الإنسان متوقفٌ على الطعام ، إذاً ليس الإنسان ذا وجودٍ ذاتي ، وجوده مفتقرٌ إلى شيءٍ آخر ، لكن الله سبحانه وتعالى أحدٌ صمد ، ومعنى صمد أي ذاتي الوجود ، لا يفتقر وجوده إلى شيءٍ آخر ، أنت مفتقرٌ إلى تنفُّس الهواء ، مفتقرٌ إلى شرب الماء ، مفتقرٌ إلى تناول الطعام ، ومن حِكَم الصيام أن الإنسان يعرف حجمه ، ويعرف عبوديته لله عزَّ وجل ، فكل إمكاناته ، وكل ذكائه ، وكل حيويَّته ، وكل نشاطه ، وكل طاقاته إنما تَذْبُلُ في أول أيام الصيام ، ويرى أنه يتوقَّف نشاطه على كأس ماء أو على لقمةٍ من طعام ، فلذلك من علامات الإنسان أنه يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق ، مفتقرٌ إلى الطعام ، ومفتقرٌ إلى كسب الطعام ، الطعام يحتاج إلى عمل ، أنت مفتقرٌ مرتين ؛ مرةً إلى أن تأكل ، ومرةً إلى أن تعمل من أجل أن تشتري هذا الطعام ، وهل بعد هذه العبودية من عبودية ؟ وهل بعد هذا الافتقار من افتقار ؟ لذلك عندما وصف ربنا عزَّ وجل سيدنا عيسى ونفى عنه أن يكون إلهاً قال: 

﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)﴾

[ سورة الفرقان  ]

ما دام الإنسان يأكل الطعام فهو عبدٌ لله ، ويمشي في الأسواق فهو عبدٌ أيضاً لرزقه ، أي هو عبدٌ مرتين ، مفتقرٌ إلى الطعام ومفتقرٌ إلى كسب ثمن الطعام ، فحينما رأى هؤلاء الكفار أن هذا النبي الكريم يدعوهم إلى الله عزَّ وجل ، رأوه يأكل كما يأكلون ، ورأوه يشرب كما يشربون ، فظنّوا أن تناوله للطعام وشربه للماء مما يقلل من شأنه ، قال : لا .. 

عن أنس بن مالك  :

(( كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ يَتِيمَةٌ -وَهي أُمُّ أَنَسٍ- فَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ اليَتِيمَةَ ، فَقالَ : آنْتِ هِيهْ ؟ لقَدْ كَبِرْتِ ، لا كَبِرَ سِنُّكِ . فَرَجَعَتِ اليَتِيمَةُ إلى أُمِّ سُلَيْمٍ تَبْكِي ، فَقالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ : ما لَكِ يا بُنَيَّةُ؟ قالتِ الجَارِيَةُ : دَعَا عَلَيَّ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَنْ لا يَكْبَرَ سِنِّي ، فَالآنَ لا يَكْبَرُ سِنِّي أَبَدًا - أَوْ قالَتْ : قَرْنِي- فَخَرَجَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مُسْتَعْجِلَةً تَلُوثُ خِمَارَهَا ، حتَّى لَقِيَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ، فَقالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ : ما لَكِ يا أُمَّ سُلَيْمٍ ؟ فَقالَتْ : يا نَبِيَّ اللهِ ، أَدَعَوْتَ علَى يَتِيمَتي ؟! قالَ : وَما ذَاكِ يا أُمَّ سُلَيْمٍ ؟ قالَتْ : زَعَمَتْ أنَّكَ دَعَوْتَ أَنْ لا يَكْبَرَ سِنُّهَا ، وَلَا يَكْبَرَ قَرْنُهَا ، قالَ : فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قالَ : يا أُمَّ سُلَيْمٍ ، أَمَا تَعْلَمِينَ أنَّ شَرْطِي علَى رَبِّي ، أَنِّي اشْتَرَطْتُ علَى رَبِّي فَقُلتُ : إنَّما أَنَا بَشَرٌ ، أَرْضَى كما يَرْضَى البَشَرُ ، وَأَغْضَبُ كما يَغْضَبُ البَشَرُ ، فأيُّما أَحَدٍ دَعَوْتُ عليه مِن أُمَّتِي بدَعْوَةٍ ليسَ لَهَا بأَهْلٍ؛ أَنْ يَجْعَلَهَا له طَهُورًا وَزَكَاةً ، وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بهَا منه يَومَ القِيَامَةِ . ))

[ صحيح مسلم ]

سيدنا سعد قال : << ثلاثةٌ أنا فيهن رجل ، وفيما سوى ذلك فأنا واحد من الناس قال : ما صلَّيت صلاةً فشغلت نفسي بغيرها حتى أقضيها ، وما سرت في جنازة فحدَّثت نفسي بغير ما تقول حتى أنصرف منها ، ولا سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حقٌ من الله تعالى وفيما سوى ذلك فأنا واحد من الناس >> .

 

طاعة الرسول طاعةٌ لله :


﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ ﴾ .. الحقيقة أنَّك إذا أطعت النبي عليه الصلاة والسلام فإن هذه الطاعة هي عين طاعة الله ، طاعة رسول الله هي عين طاعة الله ، لذلك قال الله عزَّ وجل :

﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)﴾

[ سورة التوبة ]

إرضاء رسول الله هو عين إرضاء الله ، وإرضاء الله هو عين إرضاء رسول الله ، ولا فرقَ بينهما لأن هذا باب الله. 

سيدنا الصديق رضي الله عنه ألقى خطبة الولاية فقال : << لقد ولِّيتُ عليكم ولست بخيركم إن أحسنتُ فأعينوني ، وإن أسأتُ فقوِّموني ، الصدق أمانة والكذب خيانة ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم >> فالطاعة إذاً إنما هي طاعةٌ لله عزَّ وجل .. ﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ ﴾ .. والدعاة إلى الله لا يُطاعون ، بل يُطاع الله في كلامهم ، إذا جاءك بأمر من الله عزَّ وجل ، قال لك : يا أخي هذه آية ، وقد أجمع العلماء على هذا المعنى لتفسيرها ، فعليك أن تأخذ بها ، فأنت من تطيع إذاً ؟ تطيع الله عزَّ وجل ، هذا مُبلّغ ، لا يقبل من إنسان أن تطيعه إلا إذا نقل لك آيةً كريمة ، أو حديثاً شريفاً صحيحاً ، لأن أَصْلَيّ التشريع القرآن والسنة .

 

استهزاء الكفار بالبعث :


﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ﴾ .. كأنهم يستهزئون بهذا الوعد العظيم من أن الله سبحانه وتعالى جعل الدنيا دار عمل ، وجعل الآخرة دار جزاء ، جعل الدنيا دار تكليف ، وجعل الآخرة دار تشريف ، كأنهم يستهزئون ..﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ﴾ هل يستقيم الفكر أو هل تستقيم العقيدة على أن الدنيا هي كل شيء ؟ إن الدنيا قصيرة فيها الغني ، وفيها الفقير ، فما ذنب الفقير ؟ فيها القوي ، وفيها الضعيف ، فما ذنب الضعيف ؟ ولد ضعيفاً ، فيها الصحيح ، وفيها المريض ، فيها الوسيم ، وفيها الدميم ، فيها الحظوظ متفاوتة ، والأمد قصير ، فلولا الإيمان باليوم الآخر لما كان لهذه الحياة من معنى ، تُصبح الدنيا سخيفة المعنى ، أما أن يكون هناك حياةٌ أبدية يتحدد فيها مصير الإنسان بحسب طاعته لله في الدنيا عندئذٍ تستقيم الأمور ، وتأتي العقيدة متوافقةً مع العقل والمنطق ، ﴿هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ﴾ .. هيهات اسم فعل بمعنى بَعُدَ هذا ، أي هذا الذي توعدون لن يقع ، ما أبعد من أن يقع ، ما أبعده من المنطق ، هكذا يدّعون ..﴿هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ﴾ وهيهات الثانية توكيد للأولى .


  عقيدة الكفار أن الدنيا هي كل شيء :


﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ .. وهذه عقيدة الكُفَّار ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ أي لا يوجد غير هذه الدنيا ، معك قرش تسوى قرشاً ، معك أكثر بقدر ما معك ، الدنيا هي كل شـيء ، والمال هو كل شيء ، ولا شيء إلا الدنيا ، هكذا الكافر ، سواءٌ عليه أَصَرَّح بهذا أم لم يُصَرِّح ، من هنا ينطلق ، ينطلق من أن الدنيا هي كل شيء ، ولا شيء في الآخرة ، لذلك يَصُبُّ كل جهده على الدنيا وهو بهذا يغامر ويقامر ، لأن شيئاً إذا حدث ضيَّع عليه كل أهدافه ، وكل طموحاته ، وكل ما يتمنَّاه ، لذلك قالوا : " الدنيا تغرُّ وتضرُّ وتمر ، وإن أسعد الناس بها أرغبهم عنها ، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها " ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ ، يا أيها الإخوة الأكارم .. . إذا اعتقدَ أحدُنا أن الدنيا هي كل شيء ، لو لم يقل هذا بلسانه ، إذا انطلق من تصوُّرات مُفادها أن الدنيا هي كل شيء ، ولا شيء في الآخرة ، وأنَّ الحياة الدنيا تنتهي بالموت ، والموت نهاية كل حيّ ، فهذه العقيدةٌ فاسدةٌ ، وهي عقيدةٌ تدعو إلى الهلاك ؛ الدنيا دار تكليف ، وأما التشريف في الآخرة ، إذا اعتقدت أن هناك حياةً أبديةً لا تنقضي ، وأن مكانك في هذه الحياة الأبدية متوقفٌ على طريقة طاعتك لله عزَّ وجل عندئذٍ تُصْبِحُ إنساناً آخر : ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ .

 

رميُ الكفار أنبياءَ الله بالكذبِ :


أما هذا النبي الكريم الذي يدعوهم إلى الصراط المستقيم .. ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً﴾ هذا كذَّاب .. ﴿وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ فالكفَّار دائماً يكذِّبون الحق ، ويبغونها عوجاً ، يصدون عن سبيل الله ، ويبغونها عوجاً .. ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39)﴾ يا رب ، لقد كذَّبوني فانصرني أنت ، أي بيِّن لهم الحق ، بيّن لهم كذِب دعواهم ، فقال الله عزَّ وجل : ﴿قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ﴾ الحقيقة البطولة هو الذي يضحك في الآخر .

 

استهزاء الكفار بأهل الدين ولكن البطولة من يضحك آخراً :


الكُفَّار يَهزؤون من أهل الدين ..﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) ﴾ .. إذاً هناك من الكفار من يستهزِئ بالمؤمنين ، ولكن البطولة من يضحك آخر الشوط ، فربنا عزَّ وجل وصف المؤمنين فقال : 

﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)  ﴾

[ سورة المطففين    ]

 أحياناً يكون الطالب مجتهداً ، رفض أن يذهب إلى نزهة حفاظاً على مستوى اجتهاده ، رفاقه الكُسالى يهزؤون منه ، يقولون : قابضها ، حينما ينجح بتفوق ، وحينما يرسب هؤلاء ، ويبكون الدمع دماً ، عندئذٍ هذا المتفوِّق يضحك من زملائه الكُسالى ، فالبطولة من يضحك آخر ، لا من يضحك أولاً ، ﴿قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ﴾ .. وربنا قال عزَّ وجل في آيات كثيرة : 

﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾

[  سورة القصص  ]

﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾

[  سورة الزخرف  ]

﴿ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)﴾

[  سورة آل عمران  ]

﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)﴾

[ سورة غافر ]

 

ليست العبرة بالأسماء ولكن العبرة بالحقائق :


﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ .. هذه القصة من خصائصها أن الله سبحانه وتعالى لم يُسَمِّ هؤلاء القوم ، و لم يُسَمِّ من هو هذا النبي الكريم الذي بعثه الله إليهم ، وقد استنبط بعض العلماء من أن قوم عاد الذين جاؤوا بعد قوم نوح ، على كل ليست العبرة بالأسماء ، ولكن العبرة بالحقائق ، وعدم التسمية فيه إشارةٌ إلى أن الاسم ليس مهماً في هذا الموضوع ، المهم هذه القصة ، المهم أن تستنبط منها عبرةً تعتبر منها .

 

لكلّ أمةٍ أجل :


﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ أي لكل أمةٍ أجل ولكلٍ منا أجل ، لذلك يُروى أن الإمام مالك إمام دار الهجرة رأى في المنام ملك الموت ، فقال : " يا مَلَك الموت كم بقي لي من حياتي ؟ فما كان من ملك الموت إلا أن أشار له بهذا أي خمسة ، فلما استيقظ هذا الإمام الجليل احتار ، أهي خمسة أعوام يا رب ؟ أم هي خمسة أشهر ؟ أم هي خمسة أسابيع ؟ أم هي خمسة أيام ؟ أم هي خمس ساعات ؟ توجَّه إمام دار الهجرة إلى العلّامة ابن سيرين وكان من المُخْتَصِّين بتأويل الأحلام فقال : يا إمام رأيت البارحة كذا وكذا فما تفسير هذه الرؤيا ؟ فقال : إن ملك الموت يقول لك : إن هذا السؤال من خمسة أشياء لا يعلمها إلا الله .﴿ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ﴾ .

 

عباد الله تأخذهم الصيحة فجأة ويصبحوا أحاديث :


﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ﴾ أي متتابعة ، واحداً بعد واحد .. ﴿كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ يا الله هذه من أبلغ الصور ، ربنا سبحانه وتعالى هو القاهر ، هو القاهر فوق عباده ، فالعباد إذا كفروا ، وجحدوا ، وفسقوا ، وفجروا ، وتحدوا ، واستطالوا ، قال ربنا سبحانه وتعالى : ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾ .. هناك آيات أخرى : 

﴿ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)﴾

[ سورة يس  ]

صيحة واحدة ، ومعنى واحدة ، أي أنت إذا شاهدت حشرةً لا تزيد على نملة .. حشرة صغيرة ، كم ضربة تحتاج منك حتى تميتها ؟ هل تقول : لقد قاتلتها ؟ لا .. لا .. تقول : لقد قتلتها ، إن هي إلا دوسةٌ واحدة ، ربنا عزَّ وجل يقول : ﴿صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ فهؤلاء الذين تكبَّروا ، وعلوا ، وتمادوا ، واستعلوا ..﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ فربنا عزَّ وجل عبَّر عن قهره لهؤلاء الفُجَّار الكفار بصورةٍ رائعة قال : ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ .. يكون الإنسان أحياناً له شأن ، له مكانة ، صاحب متجر كبير ، ماليته كبيرة ، يقولون : يتكلم بمئتين ، الله أعلم بمئتي ماذا ، بثلاثمئة ، بخمسمئة ، بسبعمئة ، سـيارته ، بيته ، نزهته ، مصيفه ، مقر إقامته ، مكتبه ، فجأةً يتوقَّف قلبه ، يصير نعيًا على الجدران ، أين هو ؟ تحت التراب ..﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ طبعاً كل إنسان الآن موجود ، له كيانه ، له شخصيته ، له مهابته ، له تصرفاته ، له أملاكه ، له أمره ، له نهيه ، لكن في ثانية واحدة يصبح حديثاً ، حتى لو بقي في فمه سن من الذهب يأخذونه يقولون : الحي أولى ، ساعته تُؤخذ ، مفاتيحه ، قلمه ، قداحته ، خزانته ، له درج خلص لا يفتحه لأحد ، سيارته على الباب .. ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ صار أحاديث ، فربنا عزَّ وجل عبَّر عن قهره للعباد العتاة الظالمين بقوله : ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ لكن أيضاً المؤمن بعد أن يموت يُصبح حديثاً ، حديثاً عطراً ، يتحَدَّث الناس عن ورعه ، وعن حبه للناس ، وعن استقامته ، وعن فعله للخيرات ، وعن عواطفه الجيَّاشة ، وعن رقَّة قلبه ، يصبح حديثاً عطراً ، ألا تتعطر كل مجالسنا بذكر أصحاب رسول الله ؟ لقد ماتوا ، وصاروا أحاديث ، لكن بين أن يكونوا أحاديث تشمَئِزُّ منها القلوب ، أحد الصالحين كان يدعو فيقول : " يا رب لا تجعلني عبرةً لأحدٍ من الناس في خلقك " .. لا تجعلني قصة يتعظ الناس بهذه القصة .. " يا ربِّ لا تجعلني عبرة لأحد من الناس في خلقك ، يا رب لا تجعلني أتزيَّن للناس بشيءٍ يشينني عندك ، أعوذ بك أن يكون أحدٌ أسعد بما علمتني مني ، يا ربِّ أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحداً سواك" هذا الإخلاص ، من ذاق طعم الإخلاص ذاب شوقاً لله وحباً له .

 

القدوة يحاسب مرتين ؛ يُكافأ مرتين ويعاقب مرتين :


﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ .. السلطان المبين الآيات المعجزات التي أَيَّد الله بها سيدنا موسى وأخاه هارون ، ليؤكِّد لفرعون أنه رسولٌ من رب العالمين ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ لم يذكر قوم فرعون ، الملأ الأشخاص المقربون منه ، لماذا ؟ هؤلاء المقربون متبُوعون دائماً ، وكل إنسان له مكانة في المجتمع له اسمٌ إذا أخطأ فعليه إثمان ، وإذا أحسن فله أجران ، هذا حساب القُدوة ، الأب مثلاً إذا أخطأ فإنه يحاسب مرتين على خطئه ، وعلى خطأ ابنه الذي اقتدى به ، فإذا أحسن فله أجران ، على إحسانه ، وعلى إحسان ابنه الذي اقتدى به ، والمعلم كذلك ، وكل إنسان له مكانة اجتماعية يحاسب مرتين .. 

﴿  يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)﴾

[ سورة الأحزاب ]

كل إنسان له مكانة على مجموعة أشخاص : " إن أحسن فله أجران ، وإن أساء فعليه وزران ، وزره ووزر من عمل بعمله "

سيدنا عمر كان إذا أراد إنفاذ أمرٍ جمع أهله وخاصته وقال : " إني قد أمرت الناس بكذا ونهيتهم عن كذا ، والناس كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا ، وَيْمُ الله لا أُوتين بواحدٍ وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني" ، فصارت القرابة من عمر مصيبة ، القدوة يحاسب مرتين ، يُكافأ مرتين ، يعاقب مرتين : عن جرير بن عبد الله  :

(( مَنْ سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حسَنةً فلهُ أجرُها ، وأجرُ مَنْ عمِلَ بِها من بعدِهِ  ، من غيرِ أنْ يُنقَصَ من أُجورِهمْ شيءٌ  ، ومَنْ سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سيِّئةً فعليهِ وِزرُها  ، ووِزرُ مَنْ عمِلَ بِها من بعدِهِ  ، من غيرِ أنْ يُنقَصَ من أوْزارِهمْ شيءٌ . ))

[ صحيح الجامع  : حكم المحدث : صحيح ]

﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)  ﴾

[ سورة النساء ]

 

تحريم الجنة على فرعون وملئه لأنهم قوم مستكبرون :


﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ ﴾ لماذا يقول عليه الصلاة والسلام : عن عبد الله بن مسعود  :

(( لا يدخلُ الجنَّةَ من كانَ في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من خردلٍ من كبرٍ ، ولا يدخلُ النَّارَ من كانَ في قلبِه مثقالُ حبَّةٍ من  إيمانٍ . ))  

[ ابن العربي : عارضة الأحوذي : حكم المحدث : صحيح ]

لماذا ؟ أيعقل أن يحرم الإنسان الجنة لأن في قلبه مثقال حبةٍ من كبر ؟! نعم ، لأن مثقال حبةٍ من كبر يتناقض مع العبودية لله ، فمن كان في قلبه كبر فهو ليس عبداً لله ، لذلك هؤلاء : ﴿فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ ﴾ ، أي عالون في الأرض ، لذلك قال فرعون : 

﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) ﴾

[ سورة القصص  ]

كلام فيه بعض التحفظ . ثم قال : 

﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) ﴾

[  سورة النازعات ]

فربنا عزّ وجل قال : 

﴿ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)  ﴾

[ سورة النازعات ]

لماذا ربنا عزّ وجل بدأ بالآخرة ؟ لمَ لمْ يقل : فأخذه الله نكال الأولى والآخرة ؟ قال : ﴿ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى﴾ ؟ لأن قوله الثاني أشد إثماً  ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى﴾  أما قبل هذا قال : ﴿ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾  كلمة فيها تحفُّظ بعض الشيء ، فربنا عزّ وجل قال : ﴿ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى﴾ بدأ بالأهم ، وثَنَّى بالأقل أهمية : ﴿فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾ سيدنا موسى وهارون .. ﴿وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ﴾ معقول ؟ نحن نملك الأمر ، بيدنا زمام الأمر ، هؤلاء القوم الذين هم قوم موسى وهارون لنا عابدون ، أيعقل أن نؤمن لهما ؟ لبشرين مثلهما ؟ ﴿فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ﴾ كما تعلمون كيف تبع فرعون سيدنا موسى :

﴿  قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) ﴾  

[  سورة الشعراء  ]

ثم تبعهم فرعون في اليم فأغرقه الله عزّ وجل .

 

عودة عيسى عليه السلام إلى الأرض وعودته من أشراط الساعة :


﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) ﴾ .. يؤكِّد العلماء على أن سيدنا عيسى لابُدَّ له من عودةٍ في آخر الزمان ، وأن عودته من أشراط الساعة لقول الله عزّ وجل : ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ﴾ ..

﴿  لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)﴾

[  سورة البينة  ]

أي الرسول ، فهذه الآية وآياتٌ أخرى كثيرة تؤكِّد أن سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام له عودةٌ : 

﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)﴾

[ سورة النساء  ]

 

ولادة عيسى عليه السلام آية من آيات الله :


﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ .. طبعاً الإنسان يولَد من أبٍ وأم ، هذا هو الوضع الطبيعي ، عندنا أربع حالات تُعد إعجازاً ، فأن يأتي الإنسان من دون أبٍ ولا أم ، كما خلق سيدنا آدم ، لا أم ولا أب ، أو أن يأتي من دون أم كما جاءت سيدتنا حواء ، أو أن يخلق من دون أب كما جاء سيدنا عيسى ، أو أن يكون أبٌ وأم وهما عقيمان ، فربنا عز وجل هذه الآية تشير إلى أن السبب وحده غير كافٍ لإحداث النتيجة ، في علم التوحيد السبب حالةٌ ترافق النتيجة ، وليست هي أصلاً في حدوثها ، لأن الذي يخلق النتيجة هو الله سبحانه وتعالى ، هو الله الخالق ، فلذلك أحياناً تُعَطَّل الأسباب ، وأحياناً تلغى ، إذا كان هناك أبٌ وأم لا ينجبان فالأسباب مُعَطَّلة ، وإذا جاء إنسان من دون أبٍ وأم فالسبب مُلغى ، إما أن تعطل ، وإما أن تُلغى ، فربنا عزّ وجل قال : ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ ربوة مكان مرتفع ، ذات قرار مرتفعة وفي الأعلى منبسطة ، وهناك نبع ماءٍ عذب ﴿ ذَاتِ  قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ ، والمفسِّرون في تعيين هذه الربوة على مذاهب شتَّى ، بعضهم قالوا : في دمشق .. وبعضهم قالوا : على جبل الجودي ، ذلك الجبل الذي هبطت عليه سفينة نوحٍ بعد الطوفان .

 

الله طيب لا يقبل إلا طيباً :


﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ ، ﴿كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً﴾ لذلك يقول العبد : عن أبي هريرة  :

(( أَيُّها النَّاسُ ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا ، وإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بما أمَرَ به المُرْسَلِينَ ، فقالَ : {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون : 51] ، وقالَ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة : 172] ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ ، يا رَبِّ ، يا رَبِّ ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ ، وغُذِيَ بالحَرامِ ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ ؟! ))

[ صحيح مسلم ]

يا سعد ، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ..

 

إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المُرسلين :


شيءٌ آخر ؛ عندنا قاعدة ، أن الله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فإذا كان هناك خطابٌ إلى هؤلاء الرُسل الكرام في أن يأكلوا من الطيبات وليعملوا صالحاً ، هذا الخطاب موجَّهٌ أيضاً بالتبعية إلى كل المؤمنين : ((إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المُرسلين))   تماماً بتمام .  حينما نأمر ممرضاً أن يُعَقِّم إبرة لابدّ من أن يعقمها كما يعقمها أعلى طبيب ، لأن الشروط واحدة : ((إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين))  .

 

كل الشرائع والكُتب السماوية مفادها واحد وفحواها واحدة : 


﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ .. هنا الأمة بمعنى المِلَّة ، كلمة أمة في القرآن الكريم لها معانٍ عديدة ، أما معنى هذه الكلمة في هذه الآية أي المِلة والمَذْهَب : ﴿وَإِنَّ هَذِهِ﴾ هذه الشريعة : ﴿أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي كل الشرائع ، وكل الكُتب السماوية مفادها واحد ، وفحواها واحدة .. 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) ﴾

[  سورة الأنبياء  ]

﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)  ﴾

[ سورة الأنبياء  ]

الشرع واحد ، والإله واحد ، وهذا التعامل رائع جداً ؛ أن تعلم أن لك رباً واحداً بيده كل شيء ، عندئذِ ينتهي الشرْك ، ينتهي النفاق ، ينتهي الخوف ، ينتهي التملق ، ينتهي الكذب ، ينتهي الخوف ، ينتهي الوجل ، ينتهي القَلَق ، هذه أمراض وبيلة ، أمراض مدَمِّرة ، القلق مرض أسبابه الشرك ، النفاق مرض أسبابه الشرك ، الكذب مرض أسبابه الشرك ، الوجل مرض أسبابه الشرك . 

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) ﴾

[ سورة الشعراء ]

﴿  فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)  ﴾

[  سورة هود  ]

 

تفرّقُ الناس أحزاباً شتى يُضعف الأمة :


﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ .. كيف أن هذه الشرائع كانت واحدة ، أصولها واحدة ، مبادئها واحدة ، جاء أقوام الأنبياء فتفرَّقوا ، واختلفوا ، وناصبوا بعضهم العِداء ، واتهموا بعضهم بعضاً ، فأصبحوا فرقاً ، وأحزاباً ، ومِللاً ، ونِحلاً متباغضين ، متباعدين ، متنافسين ، متبارزين ، من هنا تضعف الأمة ، ربنا سبحانه وتعالى يقول : 

﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)﴾

[  سورة آل عمران ]

أي إذا كان المؤمنون جميعاً متفقين على أصول الإسلام ، واختلفوا في الفروع ، هذا الخلاف لا يقدِّم ولا يؤَخِّر ، يجب أن تتفق مع أخيك في الأصول ، ولو اختلف معك في الفروع ، وهذه الفروع اختلافها رحمةٌ واسعة ، واتفاقها حجةٌ قاطعة .

بعض الأئمة يرى أن الزكاة يجب أن تدفع نقداً ، وبعضهم يرى أن الزكاة يجب أن تدفع عيناً ، فالإمام الذي عاش في الريف ، ورأى حاجة الريفيّ إلى القمح أجاز أن تدفع الزكاة عيناً ، أما الذي عاش في المدينة ، ورأى قيمة المال المتداول ، رأى أن تدفع نقداً ، فهذا ليس خلاف ، هذا خلاف غنى ، خلاف تنوّع ، خلاف وسْعَة ، خلاف يُسر ، خلاف رحمة : " اختلاف أمتي رحمة "  الخلاف غير الاختلاف : " واتفاق الأئمة رحمة ، حجةٌ قاطعة " فسبحان الله ! الأصول واحدة ، أما عندما تمتدُّ الأيام والشهور يصبح هذا الدين فرقاً ، وأحزاباً ، ومللاً ، ونِحلاً ، وكل حزبٍ لما لديهم فرحون .. 

كلٌ يدعي وصلاً بليلى               وليلى لا تقرُّ لهم بذاكا

* * * 

﴿ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ(54)﴾ .. ذرهم غارقين في شهواتهم ، ذرهم غارقين في جهلهم ، ذرهم غارقين في ضلالهم ، ذرهم غارقين في عصبياتهم ، ذرهم غارقين في أفقهم الضيق .. ﴿ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) ﴾ .

 

الخير في معرفة رب الأرض والسماوات :


﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ(56)﴾ .. أي أكبر خطأ أن يتوهَّم الإنسان أن الله سبحانه وتعالى إذا أمدَّهُ بالمال فهو عنده مقرَّب ، لا .. هذا المال ليس من الخيرات ، يكون خيراً إذا أنفقته في طاعة الله ، إذا زوَّجك الله امرأةً تروق لك هل هي خير ؟ لا .. إذا حملتها على طاعة الله فهي خير ، إذا كنت عالياً في الأرض هل هو خير ؟ لا .. إذا استخدمت هذا العلو في نصرة الضعيف فهذا هو الخير ..﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ (56) ﴾ هذه ليست هي الخيرات ، ليس الخير أن تكون غنياً ، ولا أن تكون قوياً ، ولا أن تكون ذكياً ، ولا أن تكون جميلاً ، ولا أن تكون غارقاً في الملذَّات ، الخير أن تعرف ربَّ الأرضِ والسماوات .

 

رأس الحكمة مخافة الله :


الآن ما هو الخير ؟ ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ﴾ .. لشدة خشيتهم ربهم خائفون من الله .. و " رأس الحكمة مـخافة الله " .. والذي لا يخاف إنسانٌ في تفكيره نقص ، في تفكيره ضعف ، الطفل الصغير الرضيع إن وضعته في الحقول ، ومرَّ إلى جانبه ثعبانٌ كبير ، طوله بضعة أمتار ، هذا الطفل الرضيع لا يخاف منه أبداً ، ربما وضع يده عليه يداعبه ، لأنه لا إدراك له ، أما الكبير إذا رآه ينتفض منه خوفاً ، وترتعد فرائصه ، يتناسب الخوف مع الإدراك ، قد يدخل إنسان إلى بناءٍ يرى فيه شقاً في جسرٍ أساسي ، وأن هذا الشق له معان خطيرة جداً ، لابدّ من أن يقع هذا البناء لأن الأساسات تتحرَّك ، وهذا الخط في الجسر الأساسي مؤشرٌ على تحركها ، قد يأتي إنسان يعمل في طلاء الجدران يقول لك : هذا الشق أنا أُلغيه بالمعجون ، أما المهندس فيقول لك : هذا البناء خطر ، الخوف يتناسب مع العلم ، كلما ازداد علمك ازداد خوفك ، قد يأتي إنسان جاهل يأكل الفاكهة من دون غسيل ، يقول لك : سمِّ بالله ، يقول لك الطبيب : لا ، هذه كلها جراثيم وفيروسات لابدّ من غسيلها ، الخوف يتناسب مع العلم ، فالذي لا يخاف هو الجاهل. 

﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)﴾  

[  سورة فاطر  ]

" رأس الحكمة مخافة الله " .. والأنبياء العظام ، وأصحاب النبي الكرام كانوا أشد خوفاً من ألا تقبل حسناتهم من خوفنا من أن نعاقب على سيِّئاتنا ، ما قولكم ؟ كلما ارتفعت مرتبتك زاد خوفك . 

هذه الآية فيها مفارقة رائعة جداً : ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ (56) ﴾ هذا استدراج وليس مسارعة في الخيرات .. 


  صفات المؤمنين المفلحين :


﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ﴾ .. هؤلاء يخافون الله لأنهم عرفوه ، ومتى عرفوه خافوه ، فإن لم يخافوه فهذا دليلٌ قطعيُّ على أنهم لم يعرفوه .. ﴿ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) ﴾ .. آيات الله الكونية الدالة على عظمته ، وآيات القرآن الدالة على تشريعه : ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) ﴾ .. هذه الصفة الثالثة ، لا يشركون شركًا خفيًا ، ولا شركًا ظاهرًا ، لا يقولُ : إن هناك مع الله إلهاً ، ولا يعتقدُ بغير الله ، لا يرجو غير الله ، ولا يخافُ من غير الله .. ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ .. ينفق المال وهو خائف ، يعاون وهو خائف ، يفعل الخير وهو خائف ، لماذا هم وجلون ؟ ﴿أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾   يخافون ألا يكونوا بهذا العمل مخلصين ، يخافون أن تكون في نيَّتهم بعض الشوائب ، يخافون من قلة الإخلاص ، يخافون من زيغ العمل ، وهم يعملون الصالحات يخافون .. ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ هناك رجعةٌ إلى الله عزَّ وجل :

﴿  إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)﴾

[ سورة الغاشية  ]

 يخافون هذا الموقف الفظيع ، والموقف العظيم ..﴿أُولَئِكَ﴾ من هم ؟ ﴿ إنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) ﴾ .. ما هو الخير إذاً ؟ أن تكون ذا مالٍ وبنين ؟ أن تكون عالياً في الأرض ؟ لا والله ؛ أن تكون مشفقاً من عذاب الله ، وأن تكون مؤمناً بآيات الله ، وأن تكون غير مشرك ، وأن تؤتي وأنت تؤتي وأنت خائف من ألا يقبل عملك عندئذٍ تكون مسارعاً في الخيرات .. ﴿ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(62)﴾ هذه الآية تحتاج إلى تفصيلٍ في الدرس القادم .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور