وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة المؤمنون - تفسير الآيات 12 – 22 خلقنا الإنسان من سلالة من طين
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

 

من أراد أن يرث الفردوس فعليه التعرف إلى الله عن طريق الكون والتفكر بآياته :


 أيها الإخوة الأكارم ؛ مع الدرس الثالث من سورة المؤمنون .

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)﴾ وتأتي الآيات بعد هذه الآية متلاحقةً تبيِّن بعض ما في الكون من دلائل ، ومن عِبَر. 

السؤال الآن : ما العلاقة بين هذه الآيات الكونية وبين قوله تعالى : ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)﴾ أي أيها الإنسان إذا أردت أن تكون مؤمناً متحلياً بصفات المؤمنين ، وارثاً لفردوس رب العالمين ، فتعرَّف إلى الله من هذا الطريق طريق الكون ، كأن الله سبحانه وتعالى بيَّن الهدف ، ورسم الطريق ، الهدف أن تكون مؤمناً خاشعاً في صلاتك ، معرضاً عن اللغو ، فاعلاً للزكاة ، حافظاً لفرجك ، راعٍ لأمانتك ، إذا كنت كذلك ورثت جنة الفردوس ، أما الطريق فانظر إلى آيات الله . 

﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)  ﴾

[ سورة الذاريات  ]

﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)  ﴾

[ سورة يونس ]

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)  ﴾

[ سورة عبس ]

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)  ﴾

[ سورة الطارق  ]

﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) ﴾

[  سورة المرسلات  ]

الله سبحانه وتعالى يبيِّن لنا أن طريق الإيمان بالله عزَّ وجل أن تتأمل في هذه الأكوان ، وأن تقف عند كل آية مستجلياً وجه العظمة فيها ، فكلما ارتقت معرفتك خشع قلبك : 

﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)﴾

[ سورة فاطر ]

وهذه (إنما ) أداة قصر ، بمعنى أن العلماء وحدهم ، وليس أحد سواهم يخشون الله عزَّ وجل ، فإذا أردت أن تكون في صلاتك خاشعاً فتأمَّل في ملكوت السماوات والأرض ، الإنسان أحياناً يمرُّ على آيات الله مروراً سطحياً ، ربنا عزَّ وجل وصف الكفار فقال : 

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) ﴾  

[ سورة محمد  ]

الإنسان يشرب كأساً من الماء ، هل أعمل فكره في هذا الماء ؟ ما مصدر هذا الماء ؟ كيف كان مِلحاً أجاجاً فصار عذباً فراتاً ؟ هل عرف أن الشمس ، والقمر ، والسماء ، والأرض ، والبحار ، والهواء ، والسحب ، والغيوم ، وطبقات الأرض كلها ساهمت في هذا الكأس من الماء ؟ قد يأكل طعاماً ، قد يأكل فاكهةً ، قد ينظر إلى ابنه الصغير ، قد ينظر إلى جبل شامخ ، قد يمتِّع عينيه ببحر صاخب ، قد يرى جبلاً أخضر ، قد يرى وادياً جميلاً ، قد يشمُّ رائحةً عطرة ، قد يرى زهرةً فوَّاحة ، هذا الذي يمرُّ على آيات الله مرور المتمتع ، مرور المستغل ، مرور التاجر ، من دون أن يقف عند خالق هذه الآية ، وعند عظمته ، وعند أمره ، هذا إنسان شأنه كشأن البهائم ، لذلك نعى ربنا عزَّ وجل على هؤلاء الذين يمرُّون على الآيات في السماوات والأرض وهم عنها غافلون ، فربنا عزَّ وجل أيقظنا بهذه الآيات ، أي أنت أيها الإنسان لا تُفلح إلا إذا كنت مؤمناً خاشعاً في صلاتك ، معرضاً عن اللغو ، فاعلاً للزكاة ، حافظاً لفرجك ، راعٍ لأمانتك ، حافظاً لصلواتك ، من أجل أن تكون مؤمناً هل فكَّرت في هذه الآيات ؟ 

 

خَلْقُ الإنسانِ آية من آيات الله الدالة على عظمته :


﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴾ .. الإنسان أيْ مطلق الإنسان ، وبعض العلماء يقولون : إنه الإنسان الأوَّل سيدنا آدم ، لأن الله سبحانه وتعالى خلقه من طين ، والسلالة هي الخليط ، ﴿سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ أي أخلاطٍ من أنواع الطين جمَّعها الله سبحانه وتعالى ، ونفخ فيها من روحه فكانت سيدنا آدم ، هذا تفسير . 

التفسير آخر ، السلالة بمعنى السلسلة ، أي من طين ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ، أي يوجد مراحل مرّ بها خلق الإنسان ، فإما أن تكون السلالة الأخلاط ، وإما أن تكون السلالة السلاسل ، على كل الإنسان الأول خُلِقَ من طين ، ولكن مشيئة الله سبحانه وتعالى شاءت أن تجعل تكاثر ذُرِيَّته عن طريق التوالد ، وعن طريق النطفة ، وعن طريق البويضة ، وعن طريق الرحم ، وعن طريق الجنين ، كما تعلمون من تفصيلاتٍ مررت عليها في درسٍ سابق ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴾ لهذا في آياتٍ أخرى يقول الله سبحانه وتعالى : 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾

[  سورة البقرة ]

أي لا يستحقُّ العبادة إلا الخالق ، غير الخالق لا يستحق العبادة . 

﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)  ﴾

[  سورة الإسراء ]

الخالق وحده هو الذي يستحق أن تعبده ، والعبادة أن تطيعه طاعةً طوعيِّة مبنية على معرفةٍ يقينية ، منتهية بسعادة أبدية ..﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴾ ، بعض الشعراء قال : 

نسي الطين ساعةً أنه طينٌ           حقيــر فصـال تيهاً وعَرْبَد

وكسا الخَزَّ جسمه فتباهـــــى           وحوى المال كيسه فتمرَّد

* * *

أي الإنسان أحياناً يعلو ، وينسى أنه من طينٍ من صلصال ، ينسى أنه من ماءٍ مهين ، خرج من عورةٍ ، ودخل إلى عورةٍ ، ثم خرج من عورة ، وسمي الماء مهيناً لأن الإنسان يستحيي به .

 

نظام التوالد أساسه النطفة :


﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)﴾   ربنا عزَّ وجل لم يقل : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم خلقناه نطفةً ، أي ثم جعلناه ، شاءت مشيئتنا أن يكون توالده وتكاثره في ذريته عن طريق التوالد ، وعن طريق النطفة ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ﴾ .. أي جعلنا نظام التوالد ، نظام التكاثر على أساس النطفة ، وهذه النطَفْ المعلومات حولها كثيرة جداً ، فهذه النطف تُصَنَّع في الخصيتين ، والخصيتان تحتاجان إلى حرارةٍ دون حـرارة الجسم لذا هما خارج الجسم ، والذي خصيتاه داخل جسمه هذا لا ينجب ، لأن حرارة الجسم لا تساعد على تخليق النطَفْ ، وقال لي بعض الأطباء : إن النطَفْ يجري تخليقها وتصنيعها في ثماني عشرة مرحلة ، وقد تستغرق أياماً كثيرةً تزيد عن العشرين يوماً حتى تصبح جاهزة ، وفي اللقاء الواحد يُفْرِزُ الإنسان أكثر من ثلاثمئة مليون حوين منوي ، وهذه الحوينات تنتقل من عُنِق الرحم إلى القنوات إلى أن تلتقي بالبويضة ، والشيء الذي حيَّر الأطباء أن هذا الحوين الضعيف الذي خلقه الله من رأسٍ مدبب ، وعنقٍ مُحَلزن ، وذيلٍ مُتَعَرِّج ، الذيل من أجل أن يتحرك ، والرأس المدبب من أن أجل أن يخترق ، ولكن كيف يخترق البويضة ؟

اكتشف العلماء مؤخراً أنَّ في رأس كلِّ حوين منوي مادةً نبيلةً ، هذه المادة النبيلة تشبه خلط العين المائي ، هذه المادة النبيلة تذيب جدار البويضة ، فإذا ارتطم هذا الحيوان .. الحوين المنوي .. بجدار البويضة ذاب جدارها فإذا دخل إليها أُغْلِقَ الباب وانتهى الأمر ، فحوين منوي واحد من ثلاثمئة مليون حوين يلَقِّح البويضة ، أما كيف تختار البويضة أقوى هذه الحوينات فهذا لا يعلمه إلا الله ، تختار البويضة أقوى هذه الحوينات من بين ثلاثمئة مليون حوين .

 

الرحم قرار مكين :


على كل ..﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴾ .. الرحم قرار مكين ، معنى قرار مكين أنَّك إذا أخذت خطاً متوسطاً للمرأة طولاً وخطاً متوسطاً عرضاً يتعامدان عند الرحم ، فالرحم يشكِّل الوسط الهندسي تماماً للمرأة .

شيءٌ آخر هو أن الرحم في بدايات الحمل يكون هناك خطر على الحمل ، لذلك جعله الله في قرار مكين ، أي مهما كان الحادث أليماً فإن الرحم في مراحله الأولى وقد علقت عليه النطفة لا يمس بأذى ، انظر إلى حكمة الله عزَّ وجل كيف أن الله سبحانه وتعالى جعل الدماغ محفوظاً في الجمجمة ، والجمجمة عُلْبَةٌ عظميِّة فيها مفاصل ثابتة ، هذه المفاصل تمتصُّ الصدمات ، لو نظرت إلى جمجمة ترى أن هناك خطوطاً منكسرة تفصل بين أجزائها ، هذه الخطوط هي المفاصل الثابتة ، لكن فيها بعض الفراغات البينية ، فإذا ارتطم الطفل بالأرض ،وسمعت دويَّ رأسه إلى مكانٍ بعيد فاطمئن ، إنه في سلامة ، لأن هذه الفراغات البينية تراصَّت فامتصَّت الصدمة ، إذاً الدماغ شيء خطير جداً في الجمجمة ، ولا يقل عنه خطراً النخاع الشوكي في سلسلة ، والعين مهمة جداً في محجر ، والقلب هو المضخة الأساسية في القفص الصدري ، ومعامل الدم ، وهي أخطر ما عند الإنسان داخل العِظام ، والجنين داخل عظم الحوض ، ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴾ أولاً : معنى قرار مكين ، أي أن الرحم محاطٌ بجدرانٍ عظميةٍ من كل الجهات في مراحله الأولى ، أي عظام الحوض في المرأة تحيط بالرحم من كل جانب ، فهو في قرارٍ مكين .

الشيء الآخر ؛ إن النطفة تعلق على جدار الرحم بعد أن تلقِّح البويضة بشكلٍ مكين ، فالبويضة الملقحة مستقرةٌ على جدار الرحم بشكلٍ مكين ، والرحم في مكانٍ مكين ، ومحاطٍ بِجُدُرٍ من العظام ، وهناك أربطةٌ تربط الرحم من كل الجهات بحيث لا يتأثَّر بحركة الأم ، هذا معنى قوله تعالى : ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ﴾ .

 

مراحل تطور الجنين :

 

1 ـ تحوّل النطفة إلى علقة : 

﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ﴾ .. هذه النطفة ينشأ لها في الجدار الخارجي استطالات تُعِينُ على أن تلتصق بجدار الرحم ، وجدار الرحم يغذِّي هذه الاستطالات ، ويرحِّب بها كي تعلق هذه البويضة الملقَّحة ، فعندئذٍ تسمى علقة ، لا لأنها قطعة دم جامدة ، بل لأنها تعلق على جدار الرحم بمجموعة وسائل بعضها من الرحم ، وبعضها من العلقة نفسها. 

2 ـ  تحوّل العلقة إلى مضغة :  

﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ﴾ .. عندئذٍ تكبر هذه العلقة ، ويتوضَّح بعض معالم الجنين ، أي يبدو رأسه وجذعه فقط ، يبدو في رأسه عينان ، يبدو في جذعه القلب ، هذه المضغة قطعةٌ من اللحم فيها ملامح أولية لتخليق هذا الجنين ، على كل ذكرت هذا مفصلاً في دروسٍ سابقة ، واليوم أذكره موجزاً كي يُتاح لنا التفصيل في آيات أخرى . 

3 ـ نشأة العظام : 

﴿ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً﴾ .. ثم تنشأ العظام ، وبعدها تُكسى هذه العظام باللحم ، تنشأ العضلات ، على كل نقطة الحوين المنوي مع البويضة لا تُرى بالعين المجردة ، لا تُرى إلا تحت المجهر ، وفي بعض الكتب صور لهذه الحوينات والبويضات ، على كل الشيء الذي لا تراه بعينك بعد تسعة أشهر ترى طفلاً كامل الخلق ، فيه رأسٌ ، وجذعٌ ، وأطراف ، فيه أعصابٌ وشرايين ، فيه عضلاتٌ وعظام ، فيه سمعٌ وبصر ، فيه فمٌ ، وأنف ، فيه شعر ، فيه جِلد ، فيه مريء ، ورغامى ، ولسان المزمار ، ومعدة ، وأمعاء ، وكبد ، وبنكرياس ، وطحال ، وصفراء ، وكظر ، وكليتان ، وحـالب ، ومثانة ، وجهاز إفراز ، أي شيء يأخذ بالألباب ، بعدئذٍ هذا الطفل يبتسم ، بعدئذٍ يضحك ، بعدئذٍ يأكل ، يبحث عن الطعام ، يلتقم ثدي أمه ، الطريق سالك ، ثم يستجيب للضوء ، يستجيب للصوت ، بعدئذٍ يتكلَّم ، يحاول أن يمشي ، بعدئذٍ إذا جاءت أمُّه يُقْبِلُ عليها ، وما زال الإنسان يرقى في مدارج المعرفة إلى أن يصبح إنساناً سوياً ، من طوَّره من حالٍ إلى حال ؟ الله سبحانه وتعالى .  

4 ـ نشأة الجنين خَلقاً متميزاً كاملاً : 

﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ .. هذه الآية دقيقة جداً ، ربما كان أي جنين لأي حيوان مشابهاً لجنين الإنسان ، ممكن،

أي حيوان يتكاثر عن طريق الولادة ؛ له نطفة ، وله بويضة ، وهناك تلقيح ، وتصبح هذه البويضة المُلَقَّحة علقة ، فمضغة ، فعظام ، فعضلات ، ولكن هذا الإنسان .. ﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ هذا الإنسان مُكَرَّم ، كرَّمه الله سبحانه وتعالى ، أعطاه عقلاً ، أعطاه نطقاً ، أعطاه شهوةً ، أعطاه أمانةً ، أعطاه كوناً ، أعطاه اختياراً ، الإنسان خَلْق آخر ، لا مجال أن تقيم موازنة بين جنين حيوان ، وبين جنين إنسان ، هذا الإنسان قد يُصبح عبقرياً ، قد يصبح في مستقبل أيامه مصلحاً اجتماعياً ، عالماً جليلاً ، مخترعاً ، قائداً مُحَنَّكاً ، ضابطاً كبيراً ، قد يكون صانعاً ماهراً ، قد يكون طبيباً حاذقاً ، هذا إنسان آخر ، هذا مكرم ، ربنا عز وجل :

﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)  ﴾

[  سورة الرحمن  ]

 هذا الإنسان خلق لمهمة عالية جداً .. خلقت السماوات والأرض من أجلك ، وخلقتك من أجلي ، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عمَّا افترضته عليك .

 

معاني قوله تعالى : ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ :


﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ .. هذا مخلوق آخر ، هذا حُمِّل الأمانة ، هذا مكلَّف لمعرفة الله عزَّ وجل ، هذا مكلف أن يزكِّي نفسه ، هذا الإنسان مخيَّر ، هذا الإنسان خُلِقَ ليكون أول المخلوقات ، هذا الكون كله مسخرٌ من أجله ، هذا خلق آخر ﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ أي إذا كان جنين الدابة يكبر ويكبر ، وبعد ذلك تحدث الولادة لكن يخرج بعد ذلك حماراً ، أما هنا فيوجد مخلوق ، إنسان مكرَّم مُبَجَّل ، إنسان يتكلم ، يفكِّر ، فهناك فرقٌ نوعي بين الإنسان وبين الحيوان ، فرقٌ نوعي ، أي حياة الحيوان لمْ ترتقِ ، حياة القرود ارتقت ، منذ ملايين السنين ، القرود أنشؤوا مساكن فخمة ؟ عملوا تدفئة مركزية ؟ عملوا تكييفاً مثلاً ؟ ركبوا طائرة ؟ اخترعوا سيارة ؟ اخترعوا أجهزة نقل ؟ أجهزة إعلام ؟ تعلموا ، درسوا ؟ دَرَّسوا ؟ ألَّفوا ؟ الحيوان هو الحيوان لا يتغير ، أما الإنسان فيرقى ، فالذي يقول : إن الإنسان مَرَّ بمرحلة القرود هذا إنسان يُحَقِّرُ بني جنسه ، الإنسان إنسان والحيوان حيوان ﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ هذا معنى من معاني هذه الآية . 

المعنى الثاني ؛ هناك صفات أُخرى ، تجد الطفل الصغير إذا أراد أن يلعب يمتطي عصاه ، وكأنه فارسُها ، الطفلة الصغيرة إذا أرادت أن تلعب تأخذ وسادةً ، فتجعلها ابنتها ، وتربت عليها ، وتسكتها ، معنى ذلك يوجد فروق نوعية بين الذكور والإناث ، هذه تُعنى بهندامها ، بشكلها ، هذه مطواعة ، هذا الطفل الصغير يحاول إثبات شخصيته بوسائل عديدة ، فكأن هناك فرقاً نوعياً بين الذكور والإناث ، قد لا ترى فرقاً ظاهراً في بُنية الطفل أو الطفلة ، ولكن في البُنى النفسية والنواحي الاجتماعية يوجد فرقٌ شاسعٌ بينهما ، هذا معنى آخر .

المعنى الثالث ؛ حتى لو توقَّعت أن يكونطبعاً هناك بعض المعلومات حول آلية كون الجنين ذكرًا أو أنثى ، أي بالعُرَى الملوَّنة ، بالمورثات ، يوجد ثلاثة وعشرون زوجًا ، الزوج الأخير إما على شكل : (X )إكس ، أو على شكل واي (y) ، فإذا كان على شكل (y )فهو ذكر ، أو على شكل (X ) فهو أنثى ، فهناك بعض الحالات التي ترى تحت المجهر ، وعن طريق أجهزة بالغة التعقيد .. ﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ حدثني أخ فقال : طبيب من أكبر أطباء الأمراض النسائية في بلاد متقدمة مادياً - يجب أن نقول : متقدمة مادياً ، أما من حيث الأخلاق والنواحي الأخرى فهي متخلفة جداً - فهذا الطبيب أراد أن يجري تجربة فشقَّ بطن زوجته ، وعرف نـوع الجنين ، وحين الولادة كان الجنين خلقاً آخر ، شقّ بطن زوجته ، وفتح الرحم ، وعرف نوع الجنين ، ثم أعاد كل شيء إلى نصابه ، وعند الولادة كان الجنين خلقاً آخر ﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ فإما أن الإنسان له مكانة عند الرحمن فهو خلقٌ آخر من بنية أُخرى ، وإما أن هناك صفات نفسية اجتماعية ، هذه لا تُرى بالعين ، يوجد خلق آخر ، وإما أنه لو توصَّلت إلى معرفة نوع الجنين ، ربما كانت الولادة خلقاً آخر .

 

الله سبحانه وتعالى خلقه قمة في الإتقان :


﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ .. بعضهم يقف عند هذه الآية وقفة ، كم خالق يوجد في الأرض حتى يقول الله عزَّ وجل : ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ القضية بسيطة جداً ، الخلق بمعناه الدقيق ليس أن تصنع شيئاً من لا شيء ، بل أن تصنع شيئاً من شيء ، والدليل : 

﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)  ﴾

[ سورة المائدة ]

ربنا خاطب سيدنا عيسى : ﴿ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ﴾ إذاً الخَلْق بمعناه اللغوي أن تأخذ نسبًا معينة من بعض المواد تصنع منها شيئاً ، هذا الخلق بهذا المعنى الدقيق الإنسان أيضاً يساهم فيه ، يقول لك : الإبداع مثلاً ، فأي آلة صنعها الإنسان لو وازنتها مع خلق الله عزَّ وجل ، هل يوجد إنسان موديل سبعة وثمانين ، موديل ستين ، موديل سبعة وخمسين ؟ لم أسمع بهذه أبداً ، هل طرأ عليه تعديلات ، أو تحسينات ، هذا ديلوكس مثلاً ، هذا درجة أولى ، ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ ما من مخلوقٍ إلا حينما خُلِقْ كان قمةً في الإتقان . 

﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)﴾

[  سورة النمل  ]

أحياناً مركبة تكون أحدث مركبة ، أحدث موديل ، توقف فجأةً لسبب تافه جداً .. بسبب قشة وقفت .. هل يوجد إنسان وقف وجمد بأرضه وصار به عطل ؟ يظل الإنسان ماشياً ، حتى ولو كان جائعاً لا ينقطع الإنسان ، إذا كانت الساعة بالمركبة لم تنتبه لها يحترق المحرك ، ما انتبهت لساعة الحرارة ، أدير حديثاً ممتعاً مع صديقي ، صار هناك خطأ بالمحرك ، ارتفعت الحرارة فاحترق المحرق ، إذا كان هناك ساعةٌ صوتية تبلغك ، وكان السائق ضعيف السمع يحرق المحرق ، أما الجوع يا ترى ما هذا الجوع ؟ ساعة مرئية أم ساعة صوتية ؟ ما هذا الجوع ؟ جهاز دقيق جداً ، يقول لك : أنا جائع سأموت من جوعي ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ .. أي لا يوجد مجال كي نعمل موازنة ، لكن لو أردت أن تجري موازنة ، مَن منا اشترى سيارة ، ثم وجد سيارة أخرى ذات قياس صغير قد ولدتها مثلاً ؟ باع الصغيرة ، وأبقى  الكبيرة ، أو أعطى الثانية لابنه ، لكن الإنسان عنده حصان ، عنده بقرة ، كله يتوالد ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ المجال واسع جداً ، لو أردت أن تعمل موازنة بين خلق الله عزَّ وجل الكامل وبين بعض المصنوعات البشرية تجد مسافات كبيرة جداً . 

وبعضهم يقول : سمي الإنسان خالقاً من باب المُشاكلة .

وبعضهم يقول : الخلق بمعنى صنع شيءٍ من شيء ، أما ربنا عزَّ وجل خالق وبارئ ، الخالق البارئ المصور .


  الحياة تمضي ولا يستطيع الإنسان الموازنة بين خلق الله وبين ما يصنعه هو :


على كل الآية لا تزيد عن أن تلفت النظر إلى صنع الإنسان ، صنع الإنسان يتكامل ، لأن الإنسان بالأساس ضعيف خبرته تأتي من التجربة ، والدليل : إذا اطلعت على صورة سيارة عام 1912 مثلاً ، انظر ، وأجْرِ موازنة ، تجد فيها حركة واحدة أول فقط ، الإضاءة فوانيس ، يفتح الفانوس يشعل عود الثقاب يملأ الزيت ، ثم يشعل الضوء ، هكذا كانت السيارة سابقاً ، لها صوت يملأ الدنيا ضجيجاً ، سرعتها قليلة جداً ، حَدَّثني رجل أن القطار الأول صنع ببريطانيا عينوا له موظَّفاً يمشي أمامه لينبِّه الناس لكيلا يدهسهم ، يا أخوان ابتعدوا ، وراءنا يوجد قطار ، ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ .. اسأل من يرعى الغنم ، ربما تجاوز عدد أغنامه مئتي رأس ، وقد توالدت ، فكيف تعرف السخلة أمها ؟ والله شيء صعب ، كل سخلة تتجه نحو أمها أو بالعكس : ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ الغنم اجتماعي بطبعه ، أما الكلاب فدائماً متفرقة ، هل يمكنك أن ترعى قطيع كلاب مع بعضهم وتسوقها معاً ؟ لا تقدر أن ترعاها ، كل واحد في جهة ، لكن الغنم مذلل ، لو كان الغنم بأخلاق الضباع ، أو أخلاق الذئاب ، الإنسان يقفز من أفعى ، يقفز من عقرب ، أما الجمل فوزنه ثمانمئة كيلو ، تجد طفلاً يقوده ، من الذي جعله مذللاً ؟ ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ هذه الآية تمضي كل حياتك ، كل الحياة تمضي ، ولا تمضي الموازنة بين خلق الله ، وبين صنع الإنسان : ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ ومعنى تبارك الخير الكثير ، روث الغنمة أحسن أنواع السماد .. أغلى أنواع السماد روث الغنم والبقر .. بل إن من يفلح فداناً ببقرة ، روثها كافٍ ليكون سماداً لهذا الفدان ، فالصوف نستفيد منه ، والجلد نستفيد منه ، والأمعاء نستفيد منها ، والعضلات لحم ، والدهن مواد دسمة ، والعظام لها فوائد ، والحليب سبحان الله ! ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾  الإنسان يخلق هدفاً ، يصنع شيئاً له هدف واحد ، أما ربنا عزَّ وجل فكل شيء ينتجه الحيوان فيه خير ، الآن مشكلة التلوث في العالم هي أكبر مشكلة ، هذه المعامل لها فضلات كيميائية ، لها دخان ، لكن خلق الله عزَّ وجل فضلاته مفيدة ، روث البقر ، روث الدجاج ، كله مواد مهمة جداً في حياتنا ، فالناتج لا يوجد شيء يلوث البيئة ، شيء يزعج الحياة . 

عندنا سؤال دقيق : هذا الخلق العظيم خلق مذهل ، وبعد ذلك يموت الإنسان ؟!! مثل إنسان عمَّر بناء خلال عشرين سنة ؛ وضع الأساسات ، وحفر ، وبعد هذا طلع بأول طابق والثاني ، وكسا ، وبَلَّط ، ودهن ، وعمل مدخلاً فخماً ، وبعدما انتهت سكنها خمس سنوات ، وبعد هذا أحضر آلات وهدمها ، تقول : إن هذا الإنسان يوجد بعقله شيء ، لماذا هدمها ؟ فالموت هدم للإنسان ، فالإنسان خُلِقْ بأبدع صورة لماذا الموت ؟ 

 

الموت مصير كلّ مخلوق :


حتى الإنسان لا يتساءل لماذا الموت ؟ قال تعالى : ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)﴾ .. هذا موت مؤقَّت ، وبعد هذا هناك حياة أبدية ، فالإنسان خُلق لكي يحيا حياةً أبدية ، أما الحياة من دون آخرة صعب تفسيرها ، الحياة الدنيا وحدها من دون موت ، من دون آخرة فيها خلل ، لأن الخلق عظيم والعمر قصير ، الآن ترى الإنسان حتى يتمكَّن أن يكسب بالثلاثينات ، بالخامسة والثلاثين ، والأعمار بين الخمسين والستين ، أي بقدر ما يعيش حياة معقولة بقدر ما يُعِدُّ لها ، فلا يوجد تناسب ، فربنا عزَّ وجل قال : ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ﴾ هذه مشيئة الله : " كل مخلوقٍ يموت ولا يبقى إلا ذو العزَّة والجبروت " .

الليل مهما طـال فلابدَّ من طـلوع الفجر       والعمر مهما طـال  فلابدّ من نزول القبر

* * *

 الأنبياء يموتون ، والأغنياء يموتون ، والفقراء يموتون ، والذين يعتنون بصحتهم العناية الفائقة يموتون ، والذين لا يعتنون يموتون ، والذين يغامرون يموتون ، والذين لا يغامرون يموتون ، الموت حق ، فلما كشف سيدنا الصديق رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن وافاه الأجل قال : " طبت حياً وميتاً يا رسول الله ، أما الميتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها " لا يوجد غيرها ، فإذا المؤمن اجتهد في الحياة الدنيا حتى استحق مرضاة الله عزَّ وجل يوجد له ميتة واحدة فقط ، وبعدها في جنَّات الفردوس إلى أبدِ الآبدين .

 

البعثُ والحساب :


﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) ﴾ .. لولا البعثُ بعد الموت لما كان للحياة من معنى ، لأن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق وابتلاهم ، فوزَّع الحظوظ في الدنيا توزيع ابتلاء ، وسيوزِّع الحظوظ في الآخرة توزيع جزاء ، لذلك من لوازم الإيمان بالله أن تؤمن بأسمائه كلِّها ، ومن أسمائه الحق ، وهذا الاسم لا يتحقق إلا يوم القيامة ، لأنه ليجزي كل نفسٍ بما كسبت .

 

الله تعالى ما كان غافلاً عن السماوات خلقها فأبدعها وجعلها محكمةً :


﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ﴾ .. بينت لكم في درسٍ سابق كيف أن السماوات التي فوق الأرض سبع سماوات ، إما سبع بالعد الصحيح ، وإما سبع ، والعرب تذكر سبعة ، وأضعاف السبعة للكثرة ، أي سبع سماوات أي سماوات كثيرة ، سبعون أي التكثير بالمئات ، والسبعة للعشرات ، على كل هناك مجموعة طبقات فوق الأرض ، من طبقة الهواء الأولى ، إلى طبقة المواد الكبريتية ، إلى طبقة الأوزون ، إلى طبقة التأيُّن ، طبقات ذكرتها في درسٍ سابق أو في خطبةٍ سابقة ، وكيف أن الطبقة الأولى يزيد سمكها عن ثمانية عشر كيلو مترًا ، فيها الرياح ، والسحب ، والأمطار ، والثلوج ، والبَرَد .

والطبقة الثانية فيها مواد كبريتية تلقِّح الأمطار ، وعن طريقها يصبح الغيم مطراً ، وبعدها توجد طبقة الأوزون ، بعدها توجد طبقة كل جسم من السماء إذا وقع على الأرض يتشهَّب في هذه الطبقة ، بعدها توجد طبقة السحب القطبية ، إلى ما هنالك من معلوماتٍ دقيقة يختصُّ بها بعض علماء الفلك ، على كل ربنا عزَّ وجل جعل السماء فوقنا طبقاتٍ ، وكل طبقةٍ لها وظيفة ، وهذه الوظائف جمعت في قوله تعالى :

﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)﴾

[ سورة الأنبياء ]

أي حافظاً للأرض من كل جسمٍ خارجي عنها ، ومن كل أشعةٍ قاتلة ، فالأشعة القاتلة تمتصُّها طبقة الأوزون ، والأجسام الكوكبية في السماء إذا وقعت على الأرض فإن الطبقة التي تزيد حرارتها عن ألف وخمسمئة درجة كفيلةٌ أن تجعلها متشهِّبة ، وأن تجعلها رماداً لا يُرى ولو تحت عدسة الميكروسكوب : ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ﴾ أي الله سبحانه وتعالى في السماء إلهٌ وفي الأرض إلهٌ ، إذا كان قد خلق السماوات فهو إلهٌ في الأرض ، إذا كان هو الذي خلق المجرَّات ، والسحب ، والنجوم ، والشموس ، والأقمار ، هو نفسه في الأرض إله : 

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)  ﴾

[  سورة الزخرف  ]

كل هذه السماوات العُلا : ﴿ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ﴾ .. بعضهم يقول : إن الملائكة تعبر هذه السماوات السبعة لترفع إلى الله سبحانه وتعالى أعمال الإنسان : ﴿ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ﴾ .

وبعضهم يقول : إن الله سبحانه وتعالى ما كان غافلاً عن السماوات ، خلقها فأبدعها وجعلها محكمةً ، وربنا سبحانه وتعالى يقول : 

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)﴾

[  سورة فاطر  ]

 

تيسير اللهِ تعالى لخَلْقه الانتفاع بالماء :


﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴾ .. قال العلماء : بقدر ، أي بنسب ثابتة ؛ تركيب الماء أي الهدرجين ، والأوكسجين ، ذرتان لذرة ، هذا التركيب مُعْجِز ، هذا التركيب مؤلَّف من عنصر مشتعل وعنصر يساعد على الاشتعال ، وبه تُطفِئ النار ، لذلك تعديل طفيف في بنية الماء تصبح المياه كُلُّها لهيباً ، لذلك : 

﴿ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)  ﴾

[  سورة الطور  ]

من بعض تفسيراتها أن البحار تصبح نيراناً يوم القيامة ، فهذا الماء عبارة عن ذرتين من الهيدروجين ، وذرة من الأوكسجين ، عنصر مشتعل ، وعنصر يعين على الاشتعال ، ويوجد معه مواد أخرى ، مواد منحلة من الصخور تناسب طبيعة الإنسان ، والماء المُقَطَّر لا ينفع الإنسان وحده ما لم يخلط بمياه الآبار ، لذلك وحدات التقطير التي على سواحل البحار يُضاف إلى مائها ماء بعض الآبار كي يكون صالحاً للشرب . 

بِقَدَر أي نسب المواد ، بالعشرة آلاف ذرة من الفلور بالماء من أجل وقاية الأسنان ، يوجد فلور ، يوجد كالسيوم ، يوجد مغنزيوم ، هناك مجموعة معادن في الماء ، فهذا الماء بقدر أي بنسب مقدَّرة . 

والمعنى الثاني ؛ بحجم مناسب ، فالماء له حدّ مفيد جداً ، يوجد حدّ آخر يصبح الماء مدمِّراً : ﴿ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾  يقول علماء الجيولوجيا : إن في عصور مطيرة بقيت حبال من السماء تهطل عشرة آلاف سنة بشكلٍ مستمر حتى تشكَّلت البحار ، قال ربنا عزَّ وجل :

﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)﴾

[ سورة الحجر ]

يهطل في هذا البلد مئتا ميليمتر ، وفي هذا مئة وخمسون ، وفي هذا خمسون ، هذا خط المطر خارج الجفاف ، هذه المنطقة ألف ميليمتر ، هذه ألف وخمسمئة ، هنا جبال خضراء ، هنا ساحل ، كل منطقة لها كمية أمطار مناسبة : ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ﴾ بُنْيَةُ الماء ، وعناصره ، وبعض المعادن المنحلة فيه بقدر ، وحجمه بقدر ، ووقته بقدر ، لو نزل الماء في غير أوانه لكان مؤذياً ، ولم نستفد منه ، وكان نزوله عبثاً ، فأصبح معنى كلمة بقدر لها ثلاثة معانٍ : بنسبه ، وكميته ، ووقته : ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ﴾ .. أي من الذي جعل في الأرض طبقةً كتيمة ، وبعدها طبقةً نفوذة ، وبعدها طبقةً كتيمة ، وبعدها تربة الأرض ؟ من الذي جعل هذا ؟ لو لم تكن تلك الطبقة الكتيمة في الأسفل لغار الماء : 

﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30) ﴾

[  سورة الملك  ]

الله سبحانه وتعالى . 

لو اطلع رجلٌ على ما يدرسه الإخوة الجيولوجيون لوجد أن بنية الأرض شيءٌ يأخذ بالألباب ، جزيرة فيها نبع ماء كأرواد مثلاً ، هذا الشيء يقتضي أن يكون هناك تمديدات تحت سطح البحر إلى جبال طرطوس ، لا يمكن إلا أن تكون هكذا بحسب مبدأ الأواني المستطرقة ، نبع في جزيرة منبسطة تحتاج إلى خزَّان في مكان مرتفع في الطرف الثاني من اليابسة ، ولابدّ من تمديدات تحت سطح البحر ، هكذا ، في بعض البلاد توجد أربعة آلاف جزيرة ، أو خمسة آلاف ، أو عشرون ألف جزيرة ، كل جزيرة لها نبعها الذي يكفي أهلها . 

هناك شيء آخر ؛ بعض الجبال فيها حيوانات مثل الوعول تعيش في رؤوس الجبال ، ربنا عزّ وجل جعل لها ينابيع ، هناك ينابيع في قمم الجبال ، وليس هناك من تفسيرٍ لهذه الينابيع إلا أن تكون خزَّاناتها في جبالٍ أخرى أكثر ارتفاعاً ، لا يمكن ، إذا وُجِدَ نبع في قمة جبل معنى هذا أن خزانه في جبل آخر أعلى منه ، أبداً ، هذه كلها آيات دالَّة على عظمة الله عزّ وجل : ﴿ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ﴾ نبع الفيجة ربنا عزَّ وجل جعله لهذا البلد الطيب ، لا يوجد بلد في العالم فيه ماء كهذا الماء ، على مدار السنة ستة عشر مترًا مكعبًا في الثانية الواحدة ، ترتفع إلى عشرين ، وتنزل إلى خمسة في أيام الجفاف ، على كل يوجد عطاء مستمر ، أين هذا المستودع ؟ أين هذا الخزان ؟ ربنا عزَّ وجل قال :

﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)﴾

[ سورة الحجر  ]

من الذي خزنه ؟ أنت عليك أن تفتح الصنبور ، وتملأ كأس الماء ، لكن هل تعلم من الذي خزَّنه لك طوال العام ؟ كيف كان بخاراً ، فصار سحاباً ، فساقه الله إلى بلادنا ، فجعله مطراً أو ثلجاً ، ثم غار في أعماق الأرض ، فتجمَّع في هذا الحوض ؟ الحوض بالمعلومات الأولية مساحته إلى حمص ، ومن نصف لبنان إلى سيف البادية ، هذه المعلومات الأولية ، وهناك معلومات أوسع بكثير ، من جعل هذا الخزان من الماء ؟ 

 

قدرة الله لا يمكن لأحد أن يحيط بها :


﴿ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴾ .. فإذا كان للإنسان نبع ماء ، أو عنده محرك يخرج الماء ، هذا من فضل الله عزَّ وجل ، لذلك ممنوع أن يحفر آبارًا ارتوازية إلا الخبراء ، فلو ثقبوا أرض مجمعٍ للماء يغور الماء كله في طبقات عميقة في الأرض ، وينتهي الماء كُلِّياً ، ربنا عزَّ وجل مصمم هذا الحوض المائي تحته طبقةٌ كتيمة ، ثم طبقة مجوَّفة ، بعده طبقة كتيمة ، وبعدها طبقة نفوذة ، وبعدها التربة ، هذا تصميم إلهي ، أي غلط بهذا الينبوع يغور الماء : ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ لولا هذا الماء لما كانت الجنَّات ، ترى أرض صحراوية في داخلها مزرعة كلها أشجار ، وكلها أثمار ، وكلها أزهار ، السبب هناك محرك ماء ، هذا الماء هو الذي جعل من هذه الأرض القاحلة جنةً على وجه الأرض ، كذلك الماء من السماء ، لا يوجد مكان فيه خَضَار إلا وأساسه فيه ماء ، إما أنه يوجد نبع ، أو يوجد نهر ، أو هناك أمطار .

 

نعم الله جميعها خلقت خصيصاً للإنسان :


﴿ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ﴾ .. هذه لكم أي خصيصاً لكم ، أي من أجلكم ، أي إكراماً لكم ، أي هذا الشيء خُلق لكم خصيصاً ، فالإنسان عندما يأكل فواكه ، أو ثمار ، أو خضراوات ، أو محاصيل ، عندما يشرب كأساً من الماء هذا مخلوق لنا خصيصاً ، لهذا النبي الكريم كان أحمدَ الخلق ، إذا أكل قال :

(( كان إذا وضع يدَه في الطعامِ قال:  بسمِ اللهِ ويأمرُ الآكلَ بالتسميةِ ، ويقولُ : إذا   أكل أحدُكم فليذكرِ اسمَ اللهِ تعالى فإن نسيَ أن يذكرَ اسمَ اللهِ في أولِه فليقلْ:  بسمِ اللهِ في أولِه وآخرِه . ))

[ ابن القيم  : زاد المعاد  : حكم المحدث : صحيح ]

وإذا انتهى قال : الحمد لله رب العالمين .

 

النبات أنواع منوعة وكله يسقى بماء واحد :


﴿ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ﴾ .. كل هذه الفواكه تُسْقَى بماءٍ واحد .. 

﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)  ﴾

[ سورة الرعد ]

هذا خوخ دُب ، هذا أبو ريحة ، هناك فرق كبير جداً بينهما ، ﴿ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ﴾ هذا كرز ، هنا فجل فرضاً ، هنا فستق حلبي ، وهنا فستق عبيد ، هنا خس ، أي كل شيء بسعر ، وكل شيء بطعم ، وكل شيء بلون ، وكل شيء له وظيفة ، فهناك أنواع منوَّعة من النبات تسقى بماءٍ واحد .

﴿ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ﴾ هذا النخل .. ستة آلاف عام تعيش النخلة .. هناك نخلٌ من قبل ميلاد سيدنا المسيح ، من عهد الفراعنة ، زارني شخص قال لي : هذا التمر من المدينة ، وهناك تمرات كانت على عهد النبي عليه الصلاة والسلام ، فقلت له : يوجد تمر من قبل ستة آلاف سنة ، النخيل يُعَمِّر ستة آلاف عام ، والزيتون يعمر ، هناك زيتون من عهد سيدنا عمر . 


الزيتون آية دالة على عظمة الله تعالى :


﴿ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ﴾ كل أنواع الفواكه ﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ﴾ .. هذه الزيتون ﴿ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ ﴾ أي أرقى المواد الدسمة هو الزيت البلدي ﴿ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ﴾ .. الصبغ هو الإدام ، إما أن تأكل الزيتون ، فهو إدامٌ من أعلى درجة لك مع الخبز ، وإما أن تعصر الزيتون فتستخدمه زيتاً ، وهو مادةٌ دسمة من أرقى أنواع المواد الدسمة ، فربنا عزَّ وجل جعل من الزيتون آيةً دالةً على عظمته ، نباب الدراق هو ماء سكري ، أما الزيتون فيوجد فيه زيت ، مواد دسمة ، الزيت دهن نباتي ﴿ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ﴾ الصبغ كما قال بعض العلماء : هو الإدام المائع ، قال عليه الصلاة والسلام : عن جابر :

(( نِعمَ الإدامُ الخلُّ . ))

[ الزرقاني :  مختصر المقاصد  :  حكم المحدث : صحيح ]

فالإدام المائع يقال له : صبغ ..﴿ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ﴾ إما الزيت نفسه تغمس فيه الخبز أو أن تأكل الزيتون ، على كل غذاء من الدرجة الأولى ، حينما كنا طلاباً في المرحلة الثانوية علَّمونا أن في قطرنا - والحمد لله - ثلاثة عشر مليون شجرة زيتون ، هذا الرقم في الستينات ، أما الآن فأعتقد أكثر بكثير ، سورية تُعَد الدولة الثالثة في العالم في إنتاج زيت الزيتون ، فهذه الآية دالة على عظمة الله عزَّ وجل : ﴿ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ﴾ كأن الله سبحانه وتعالى أشار إلى أن هذه الشجرة قد وجُدت في طور سيناء أي في الجبل الذي كلَّم الله به موسى في فلسطين ، وسيناء صفةٌ محببةٌ في الجبل أن يكون مكسواً بالأشجار .

 

في الأنعام عبرة لنا :


﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا﴾ .. هذا الحليب ، تأكل بوظة في الصيف من الحليب ، تأكل محلاية في الشتاء من الحليب ، تأكل الجبن صباحاً من الحليب ، تأكل لبناً من الحليب ، تأكل لبناً مصفى من الحليب ، سمن بلدي من الحليب ، قشطة من الحليب ، شمندوراً من الحليب ، زبدة من الحليب ، كل شيء من الحليب ، ربنا عزَّ وجل قال ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا﴾ .. هذه الغدة الثديية يدور فيها أربعمئة لتر دم من أجل تصنيع لتر واحد من الحليب ، وحتى هذه الساعة لا يعلم العلماء ماذا يجري في خلية البقرة ، فالخلايا الثديية في البقرة كالقُبة يجري حول شرياناتٌ دقيقةٌ جداً فيها دماء ، فهذه الخلية تأخذ من الدم حاجتها ، وتصنِّعها ، وتلقي بقطرةٍ من الحليب في جوف هذه القُبة ، هذه الخلية أعلم من علماء الأرض كلها ، يمر الدم من فوق ، تأخذ من الدم حاجتها ؛ البروتين ، والسكر ، والفيتامينات ، والمواد المعدنية ، تأخذه من الدم وتصنعه حليباً سائغاً : ﴿ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصًا سَائغاً للِشَّارِبِينَ ﴾ تقطر قطرة من داخل القبة تتجمع في ثدي البقرة ، لذلك قال ربنا عزَّ وجل : ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا﴾ هذه الغنمة نفسها ، والبقرة نفسها : ﴿مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ ﴾ آخر أيامها تذبح فتباع لحماً ، وجلدها يصير أحذية ، وأشياء كثيرة من أحشائها نستفيد منها ، والغنمة كذلك ، والماعز ، والإبل : ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ هذه : ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ .

 

القرآن مُعْجِز يُغَطِّي كل الأزمان والأمكنة :


﴿ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ .. تمتطيها في البر ، وتركب السفن في البحر ، ربنا عزَّ وجل حمل الإنسان في البر وحمله في البحر ، حتى لا يقول أحد : يا أخي نحن الآن يوجد عندنا طائرات نفَّاثة حديثة جداً ، قال له : 

﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)  ﴾

[ سورة النحل  ]

القرآن مُعْجِز يُغَطِّي كل الأزمان والأمكنة : ﴿ وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾ والآية التي بعدها تحدثنا عن سيدنا نوح ، وهذه إن شاء الله نأخذها في الدرس القادم .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور