- أحاديث رمضان
- /
- ٠13رمضان 1427هـ - صلاح الأمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً ورازقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، مع درس جديد من دروس صلاح الأمة في علو الهمة .
الرعاية :
الموضوع اليوم لعله جديد على أسماعكم، وهو الرعاية.
1 – الأصل المستنبَط منه موضوع الرعاية :
من أين أُخذ هذا الموضوع ؟ من قوله تعالى.
﴿ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾
2 – مفهوم الرعاية : وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا
المؤمن مكلف أن يرعى أعماله، وأن يرعى أحواله، وأن يرعى قربه من الله عز وجل، عبر عنه الفارق عمر رضي الله عنه : << تعاهد قلبك >>
إنه يعني المتابعة، والمدارسة، والتحليل، والتوكل، والتقييم، وفحص النية، والتأكد من السريرة الطيبة، فلو ترك الإنسانُ نفسه من دون رعاية قد يمضي طويلاً في النفاق، قد يمضي طويلاً في العجب، في الكبر، في الاستعلاء، في التوهم، وأمراضُ النفس كبيرة جداً ومتنوعة جداً، وخطيرة جداً، ويمكن أن تتسلل إلى النفس دون أن تشعر، وأنت في المسجد، وأنت في حقل ديني، وأنت مع إخوانك المؤمنين هناك دنيا، هناك تنافس، هناك حسد هناك غيرة، هناك عدم إنصاف، هناك تقصي شيطاني دون أن تشعر.
لذلك المؤمن يرعى قلبه، يرعى أحواله، يرعى عمله، يرعى واقعه المادي.
أيها الإخوة، قال ابن القيم رحمه الله تعالى : " الرعاية هي مراعاة العلم، وحفظه بالعمل ".
3 – رعاية العلم وتطبيقه :
رعاية العلم تطبيقُه، أحياناً تنفصل المعلومات عن السلوك، لو كُلفت بإلقاء درس عن التواضع بأعلى بدرجة من الدقة والتعليقات الصحيحة، والتحليل، والأمثلة، لكن الذي يلقي هذا الدرس متكبر دون أن يشعر، مراعاة العلم وحفظه بالعمل، ومراعاة العمل بالإحسان والإخلاص، أن يكون العمل ينطوي على إحسان لا على إساءة، إنسان أحياناً يأمر بالمعروف بغلظة بالغة، بقسوة بالغة، وحفظ العمل من المفسدات، المَنّ يلغي الصدقة الاستعلاء يلغي الاستقامة، أن ترى عملك شيء كبير، يوقعك في الشرك والعياذ بالله.
4 – مراعاة الحال بالموافقة :
" ومراعاة الحال بالموافقة، وحفظه بقطع التفريق "، فصار عندنا رعاية العلم، وحفظه بالعمل، ورعاية العمل بالإحسان والإخلاص، وحفظه من المفسدات، من الكبر، من المَنّ من العجب.
(( لو لم تكونوا تذنبون لخشيت عليكم مما هو أكبر من ذلك العجب العجب ))
ومراعاة الحال بالموافقة، وحفظه بقطع التفريق، ما يكون حالك مدعاة إلى شق صفوف الأمة، أنا لي صلة بالله، تحتقر الناس، يعني الرعاية صيانة وحفظ.
مراتب العلم والعمل :
قالوا : مراتب العلم والعمل ثلاثة، رواية وهي مجرد النقل وحمل المروي.
سئل الإمام الغزالي رحمه الله تعالى عن إنسان حفظ كتاب الأم للشافعي، فابتسم وقال : " زادت نسخة ".
فأول نوع من العلم نقل المحض، وحمل المروي، يعني حفظه، والدراية فهمه، وتعقل معناه، الدراية أرقى من الرواية، العلم يراعى رواية ودراية، فهمه وتعقل معناه، وأما الرعاية فهي العمل بموجب ما علمه، إذاً : هناك تنقلٌ، وتفهمٌ، وتطبيق، هذه رعاية العلم، وهذا المقام مأخوذ من قوله تعالى :
﴿ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾
وهناك آيات تعطي المعنى من دون لفظ :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾
﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ﴾
معنى ذلك أن الرعاية أن تجتهد في فحص السير، تصحيح المسار، ضبط النوايا ضبط السلوك، إيقاع العمل وفق منهج الله، تحتاج إلى بالتعبير المعاصر متابعة.
البلاد المتخلفة فيها قوانين كثيرة، لكنها لا تتابع، إذاً : لا تحقق، إذاً : لا نقطف ثمارها إطلاقاً، في البلاد الأخرى بالمقياس المادي هناك متابعة، المتابعة تعني أنه لا يمكن أن يمنعوا شيئًا إلا ويراقب مراقبة متقنة، والناس إذا علموا أن هذا الذي أصدر القرار يتابعهم يطبقّونه.
إنّ النقلة همّهم الرواية، والعلماء همتهم الدراية، والعارفون بالله همتهم الرعاية، بين أن تنقل، وبين أن تدري، وبين أن تعمل.
وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَة
وكنت أقول دائماً أيها الإخوة : إن هذا الدين العظيم لا يمكن أن تقطف ثماره إلا بالتطبيق، ما دمت في مستوى الحفظ، أو في مستوى الفهم، ولم ترقَ إلى مستوى التطبيق لن تقطف من ثمار الدين شيئاً، الله عز وجل ذم، من ذم بهذه الآية ؟
﴿ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ﴾
فإن كان في قلوبهم قسوة وظلمة معنى ذلك أنهم لم يتبعوا السيد المسيح أبداً، العالم الغربي بقسوته، ووحشيته، وبطشه، وتدميره، وقتله، وسفك الدماء ليس في قلبه رحمة إطلاقاً، إذاً هو ليس من أتباع السيد المسيح، لقوله تعالى :
﴿ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ﴾
الآن :
﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾
الإسلام دين الفطرة، دين الواقع، دين التوازن، دين الوسطية، يسمح لك أن تعمل، وأن تتصل بالله، يسمح لك أن تكسب رزقك، وأن تعبد ربك، يقيم موازنة بين المادة والروح، بين الدنيا والآخرة، بين الحاجات والقيم، الرهبانية بخلاف الفطرة، قال عليه الصلاة والسلام:
(( أشدكم لله خشية أنا ـ هكذا قال ـ أنام وأقوم، أصوم وأفطر، أتزوج النساء آكل اللحم، هذه سنتي فمن رغب عنها فليس من أمتي ))
الآن هناك ملمح في الآية، الله عز وجل ذم من لم يرعَ قربة مبتدعة، فكيف بالذي لم يرعَ فريضة محكمة، الرهبانية قربة، لكن مبتدعة ما كتبها الله على الناس، والدليل أنها مبتدعة، والدليل أنها ليست واقعية، والدليل أنها تتناقض مع الفطرة :
﴿ فما رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ﴾
فكيف بمن لم يرعَ قربة شرعها الله، إذا ذم الله أهل الكتاب على قربة ابتدعوها، ولم يرعوها حق رعايتها، فكيف إذا قصرت في أمر إلهي شرعي.
الرعاية رعاية الأعمال، ورعاية الأحوال، ورعاية الأوقات :
يقول بعض العلماء : الرعاية رعاية الأعمال، ورعاية الأحوال، ورعاية الأوقات.
1 – رعاية الأعمال :
فالعمل لا يقبل إلا إذا كان خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، ووافق السنة، فأحياناً هناك انزلاق خطير، أن هذا الأمر عمل خيري، هذه الحفلة الغنائية ريعها للعمل خيري، للأيتام، وفيها غناء، وما عند الله لا ينال بمعصية الله، وأعظم مبدأ في الإسلام أن الغاية لا تبرر الواسطة، الغاية النبيلة وسيلتها نبيلة، مع أن الناس توسعوا في هذا، إلى درجة أنهم خرجوا عن منهج الله، الغايات مهما تكن نبيلة، ومقدسة فلا تبرر وسائل غير مشروعة، رعاية الأعمال أن تحقرها، كيف ؟
تمكن إنسان أنْ يهدي إنساناً، فلم يعد يُكلَّم، أنا داعية كبير، لولا فضل الله عليك ما تكلمت كلمة، فآفة العمل أن تراه أمامك، وأن تعجب به، وأن تحدث الناس به، هذه من آفات العمل، لذلك كلما عتمت على أعمالك ارتقيت عند ربك، والقاعدة الذهبية : إن أكرمك الله بعمل صالح ذُب لله محبة أنه أجراه على يديك.
(( الخير بيدي والشر بيدي، فطوبى لمن أجريت على يديه الخير، والويل لمن أجريت على يديه الشر ))
والقيام بها بنشاط، من دون أن تنظر إليها، فأيّ عمل صالح تعمله يجب أن تنساه، أن تذكر أن الله أكرمك به، أما كلما التقيت مع إنسان، قدمت له حاجة تقول له : إن شاء الله أنت مرتاح بها ؟ أعجبتك ؟ أي والله، تفضلت عليّ، بعد جمعة : إن شاء الله ما فيها مشكلة ؟ لا والله، يجزيك الله الخير، كل مرة فيها تذكير، حتى يخرج هذا الشخص من جلده.
فلذلك العمل الصالح يجب أن تنساه، وإذا فعل واحد معك عمل صالح يجب ألا تنساه حتى الموت، هذا المؤمن، المؤمن كريم، المؤمن يعرف الأعمال الصالحة.
2 – رعاية الأحوال :
السلامة من طرفي التفريط بالنقص والإفراط بالزيادة :
الآن عندنا شرط ثالث للأعمال، قال : التوفير أي السلامة من طرفي التفريط بالنقص، والإفراط بالزيادة، مخالفة العمل إما تفريطاً أو إفراطاً، بالمبالغات.
لو فرضنا الأب مريضًا، وبحاجة ماسة إلى طبيب، وعندك مجلس علم، الله أولى، لا، أبوك أولى هنا، هذا ليس فرضًا، عندك إنسان مريض، يجب أن تقطع أعمالك حتى الصالحة، لأنه هذه أولويات، فأحياناً هناك نقص وأحياناً زيادة ومبالغة.
يجب أن يصغر في نفسك
أيضاً أيها الإخوة، يجب أن يصغر العمل في نفسك، لا أن تراه كبيراً، والنبي الكريم قال للأنصار :
(( يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا ـ ما قال فهديتكم قال : ـ فهداكم الله بي ))
أنا وسيلة، أن تستصغرها، وأن تستقلها، ماذا قدمت أنت أمام نعمة الإيجاد ؟ أمام نعمة الإيجاد، أمام نعمة الإمداد، أمام نعمة الهدى والرشاد ؟
والله أيها الإخوة، نحن محاطون بنعم لا يعلمها إلا الله، وأقلّ نعمة لو تغيرت لأصبحت حياة الإنسان جحيماً لا يطاق، لذلك :
(( إنك ما ذكرتني شكرتني، وإذا ما نسيتني كفرتني ))
قيل : علامة إرضاء الله عنك إعراضك عن نفسك، أحياناً تضخم ذاتُ الإنسان، أينما جلس الحديث عن نفسه، وعن منجزاته، وعن أعماله العظيمة، وعن نسبه، وعن حسبه وعن نزهاته، هذا إنسان مريض، بقدر ما تضع نفسك في التعتيم تكون أقرب إلى الله ، وبقدر ما تسلط الأضواء على نفسك، وعلى إنجازاتك تكون مريضاً.
هناك شيء اسمه في علم النفس الحاجة إلى استجداء المديح، لو قدمت طعامًا لإنسان تقول له : إن شاء الله أعجبك ؟ أي، والله طيب، أنا عندي زوجة درجة أولى في الطبخ، ما شاء الله ! ما عنده إمكان أن يسكت إلا يستجدي المديح، لذلك يجب أن تستصغر العمل في عينك، أنت لا شيء.
هناك رجل محسن قدم لجمعية خيرية بيت، بمبلغ كبير يكون مقر مشروع تأهيل الفقيرات، فأقيم له حفل تكريمي، وكل الذين القوا كلمات أثنوا على هذا المحسن الكبير إلا أخ كريم قال له : أيها المحسن كان من الممكن أن تقف في صف طويل لتأخذ معونة شهرية زهيدة، ومعك هويتك، وبصمة، وإيصال، وتوقيع، لكن الله كرمك بأن جعلك تعطي لا أن تأخذ.
كل أعمالك لا تساوي شيئا أمام نعم الله عليك :
وكل إنسان يعطي يتذكر ممكن أن يأخذ، ممكن يفتقر، علامة قبول العمل أن تستصغره، النبي قال :
(( جهد مقل ))
يا رب، سيد الخلق وحبيب الحق، الذي أعظم إنسان وكل الخلائق هدايتهم بصحيفته، ومع ذلك يا رب :
(( جهد مقل ))
ليس موضوع كلام، تشعر أن عملك أمام فضل الله لا شيء، جهادك وصلواتك، وحجك، وزكاتك، وانضباطك، وطلب العلم، أمام ما أعد الله لك من نعيم أبدي لا شيء، لذلك الجنة بعملك الصالح، وانضباطك، لا تدفع ثمنها، تدفع ثمن سبب دخولها ، أنت ثمن مفتاح البيت، البيت ثمنه مئة مليون، وعشر ليرات ثمن المفتاح، عملك الصالح في الدنيا كله يساوي عشر ليرات أمام الجنة، لذلك الجنة برحمة الله وفضله، أما اقتسام مراتبها فبالأعمال.
أيها الإخوة، رعاية الأحوال أن تشعر بهذه السكينة التي أودعها الله في قلبك فأنت مطمئن.
هناك قلق شديد، وعندك خلل، وخوف شديد، وخلل، واستعلاء، ويجب أن تشعر أنك متواضع، وأنك راضٍ عن الله، وأن الله يحبك، وأنك واثق من عطائه، هذه مشاعر مقدسة تأتي للمؤمن المخلص.
3 – رعاية الأوقات :
إخواننا الكرام، الشيء الأخير في هذا اللقاء الطيب رعاية الأوقات، أنت وقت أنت زمن، فالبطولة لأنك وقت، ولأن هذا الوقت سينقضي، وما مضى فات، والمؤمل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها، إذاً : لا بد من أن ترعى الوقت، إن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار، وإن لله عملاً في النهار لا يقبله في الليل، في وقت للذكر، وقت للصلاة وقت للتلاوة، وقت للأهل، وقت للأولاد، وقت للعمل، وقت للراحة، فالأبطال دائماً أوقاتهم منظمة.