- أحاديث رمضان
- /
- ٠13رمضان 1427هـ - صلاح الأمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
الإخلاص بشكل عملي:
أيها الإخوة الكرام: مع درس جديد من دروس صلاح الأمة في علو الهمة ، والحديث عن الإخلاص ثانية، ولكن بشكل عملي، فالله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾
1 – أثر القصة في الجانب العملي:
إنّ قلب سيد الخلق، وحبيب الحق يزداد ثبوتاً على الإيمان بسماع قصة نبي، لماذا القصة لها تأثير شديد ؟.
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾
لأن القصة حقيقة مع البرهان عليها، الحقيقة نظرية مجردة مع البرهان عليها ، لذلك أحد أشد الأساليب التربوية تأثيراً القصة، وأحد أشد الوسائل الهدامة في المجتمع تأثيراً القصة، فإما أن ترقى بالإنسان، وإما أن تسمو به، وإما أن تجعله في أسفل السافلين.
2 – أقوال العلماء في أهمية قصص الصالحين وآثارها:
لذلك يقول الإمام أبو حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ: " الحكايات عن العلماء، وعن محاسنهم أحب إلي من كثير من الفقه، لأنها آداب القوم وأخلاقهم ".
أيها الإخوة، قضية أن يأتي إنسان معاصر لك يتحمل الضغوط نفسها، والإغراءات نفسها، والصوارف نفسها، والعقبات نفسها، والظروف الصعبة نفسها، ثم ينتصر على نفسه، هذه القصة أبلغ من أي موضوع نظري، لذلك الدعاة إلى الله، والمعلمون، والمرشدون يعتمدون القصة الواقعية، لأنها تؤكد الحقائق، والإنسان بالقصة يزداد إيماناً.
قال بعض العلماء وهو مالك بن دينار: " الحكايات تحف الجنة، وهي خير وسيلة لإشعال العزائم، وإثارة الروح والوثابة، وقدح المواهب، وإبكاء الهمم، وتقويم الأخلاق، والتسامي إلى معالي الأمور، والترفع عن سفاسفها، هي قراءة سير النبغاء الصلحاء، والتملي من اجتلاء مناقب الصالحين والربانيين، والاقتراب من العلماء النبهاء العاملين المجددين ، فذلك خير مهماز لرفع الهمم، وشد العزائم، وسمو المقاصد، وإنارة القلوب، واحتلال ذرى المجد الرفيع، واغتنام الباقيات الصالحات، وإخلاص النيات ".
لذلك يمكن ـ أيها الأب ـ أن تقدم لأولادك قصة تسمو بهم، ويمكن أيها المعلم أن تتحدث لطلابك بقصة تسمو بهم.
مرة جاءني اتصال من بلاد بعيدة جداً، وقال لي المتصل: أنا تبت بسبب شريط من دروسك، أقسم بالله أنه سمعه خمسين مرة، وكان له عمل من أقذر الأعمال، وعلى أثر هذا الشريط الذي فيه قصة تاب إلى الله توبة نصوحا، فلما سافرت إلى تلك البلاد التقيت به ، وقد عدل سلوكه 180 درجة.
أحياناً قصة مؤثرة جداً أبلغ من مُحاضر، والله عز وجل قال:
﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ ﴾
القصة فيها إنسان له ظروف، أمامه عقبات، لأن رسول الله بشر، وتجري عليه كل خصائص البشر، وانتصر على نفسه، كان سيد البشر.
نماذج عملية للإخلاص:
النموذج الأول: كتمان الإنفاق:
أيها الإخوة، بعض النماذج التي يمكن أن تنفعنا، النبي عليه الصلاة والسلام علمنا كيف الإخلاص، في كتمان الإنفاق قال:
(( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجل ـ من هذه السبعة ـ تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ))
إخفاء الصدقة دليل الإخلاص، لأن الذي أنفقت من أجله يعلم، دون أن تُعلم أحداً.
1 – النموذج الثاني: داب العلماء والصالحين في إخفاء الإنفاق:
ـ كان بعض العلماء يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به، ويقول: إن صدقة السر تطفئ غضب الرب، من أجل أن تتأكد من إخلاصك، يمكن أن تصلي ركعتين قبل صلاة الفجر دون أن تذكرها لأحد، لو أنك ذكرتها الأمر اختلف، دون أن تذكرها لأحد.
ـ وكان بعض العلماء يُبَخّل، يعني يُتهم بالبخل، فلما مات وجدوا أنه يُعيل مئة أهل بيت، كلّ دخْله موزع على مئة أسرة دون أن يعلم أحد.
ـ وبعض الأشخاص الصالحين حينما مات وجدوا بظهره آثاراً مما كان يحمل بالليل من الأغذية إلى المساكين.
أيها الإخوة، السلف الصالح كانوا حريصين حرصاً لا حدود له على إخلاص نياتهم إلى الله عز وجل.
ـ كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فَقَدوا ما كانوا يؤتون به في الليل، أناس كثيرون تأتيهم النفقات في الليل، يطرق الباب، ويوضع المال، هم لا يعلمون، فلما مات أحد الصالحين انقطعت هذه الأموال فعلموا أنها منه.
ـ ابن المبارك رحمه الله، مرة التقى بشاب، ثم زار البلدة مرة ثانية، فعلم أنه عليه دَين، فأرسل مَن دفع عنه الدين، وسار عائداً إلى بلدته، تبعه الشاب، قال: لا أعلم عنك شيئاً، مَن أنت ؟ لم يذكر له أنه هو الذي فكّ دينه.
قد نجد أشخاصا أرجو أن يكونوا قِلّة، إذا عملَ عملا صالحا لا يبقي إنسانًا ما يحكي له، البارحة عملنا هكذا، فلان لحم كتفه من خيرنا، فلان لو ما أعطيناه ما صار رجلا، هذا المنّ في الصدقة.
ملحوظة مهمة: إن تبدو الصدقات فنعما هي:
هناك ملحوظة:
مرة كنت في حفل تبرع للأيتام، كان إعلان عن المبلغ، هذا الإعلان مقبول شرعاً، وأحيانا فيه حاجة، والإعلان كبير جداً، في سنة من السنوات اقتُرِح أن يعطى الأغنياء أوراقا يكتبون المبالغ، المبلغ هبط للعشر، أحيانا فلان دفع مئة، الثاني شريكه، وأنا مئة، أما إن أعطيته ورقة يكتب خمسة آلاف.
﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ﴾
إنّ الصدقة إذا توجهت إلى جهة خيرية فالأولى أن تعلن.
﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾
أما إذا توجهت إلى إنسان فالأولى أن تكتم، الحكمة تقتضي أن تعلن في موقف، وأن تكتم في موقف، حتى حينما يقرأ إنسان القرآن من شدة إخلاصه هو يقرأ القرآن دخل شخص فغطى المصحف بثوبه، وهناك شخص يتمنى أن يراه الناس يقرأ القرآن.
التورع بالصبر أولى من أظهار الأعمال :
دخل أحدهم مسجدا يريد الذهاب إلى الحج، ومعه مبلغ من الليرات الذهبية ، يتوسم في مصلين إنسانا صالحا أن يجعله عنده أمانة، فنظر إلى واحد رأى في صلاته خشوعا، يغمض عينيه، ويعصر جبينه، فتوسم فيه خيراً، فبعد أن انتهى من صلاته قال له: أنا معي مبلغ من المال، أعجبتني والله صلاتك، سأضعه عندك أمانه، إلى أن أعود من الحج، قال له: أيضاً صائم سيدي، قال له: والله ما أعجبني صيامك.
دون أن يشعر الإنسان يحب إن كان في عبادة أن يُرى، إن كان في إنفاق أن يُرى، إن كان في صلاة أن يُرى، لا مانع، لكن الأكمل إذا كانت العبادة خالصة لله عز وجل الأولى أن تكتمها، وأفضل أنواع الزهد إخفاء الزهد.
ويروى عن الإمام أحمد بن حنبل أنه يقول تلميذه أبو بكر: " كنت مع أبي عبد الله نحواً من أربعة أشهر، وكان لا يدع قيام الليل، وقراءات النهار، فما علمت بختمة ختمها "، فقد كانت عبادته قيام الليل، تلاوة القرآن دون أن يعلم به أحد، الأولى أن تحرص على إخلاصك، هذه عبادة لله فاجعلها بينك وبين الله.
يقول الإمام أحمد: " أشتهي ما لا يكون "، أي أشتهي مكاناً لا يكون فيه أحد من الناس حتى أبتعد عن ما يسمى بالرياء.
تنبيه بليغ: ترك العمل خوف الرياء شرك :
لكن هناك ملاحظة مهمة جداً، وهي أنك إذا تركت العمل الصالح خوفاً من النفاق وقعت في الشرك، العمل الصالح لا يترك، لا مؤاثرة في الخير، والخير كله في المؤاثرة، كيف ؟
أنا أتيح لي عمل صالح، هناك يأتي الشيطان، ويقول: أنت إذا فعلته أمام الناس أردت بها العمل أن تعلو عندهم، لا، هذا كلام شيطاني، لو أخذ به كل واحد منا لألغيت الأعمال الصالحة، إذا أتيح لك عمل صالح فلا تتردد أبداً، افعله ولو كنت في ملأ من الناس، لعلك تشجعهم.
مرة إنسان فقير جداً عنده ثمانية أولاد، ودخله أربعة آلاف، ولا يكفيه الدخلُ يومين، هو مستخدم في مدرسة، ورث أرضا، قيمتها أربعة ملايين، فهناك محسن كبير في أحد أحياء دمشق أراد أن تكون هذه الأرض مسجداً، فسعرها مناسب، ووجهتها مناسبة، فلما جاء المحسن ليطلع على الأرض ميدانياً، والتقى بصاحب الأرض كتب له سندا بنصف مبلغ الأرض، قال له: متى الثاني ؟ القسم الثاني ؟ قال له: عند التنازل، قال له: أي تنازل ؟! قال له: تذهب إلى الأوقاف كي تتنازل عن الأرض، لأنها سوف تكون مسجداً، قال له: مسجد ؟! أمسك بهذا السند، ومزقه، وقال: والله استحي من الله أن أبيع أرضاً تغدو مسجداً، وأنا أولى منك أن أقدمها لله عز وجل، يقول هذا المحسن الكبير: والله ما صغرت في حياتي أمام إنسان كما صغرت أمام هذا الفقير الذي لا يملك من حطام الدنيا إلا هذه الأرض، أحياناً العمل الصالح دون أن تقصد إذا ظهر يكون له تأثير كبير جداً.
أخ يعمل في دائرة قريبة من جامع الطاووسية، طلب من رئيسه بالدائرة إجازة ستة أيام، رئيسه عصبي المزاج، قال له: لا أوافق، قال له: هذه استهلكتها، أنا أصلي كل يوم ربع ساعة، جمعتها فكانت كلها ستة أيام، حتى أبرّئ ذمتي، يقسم بالله هذا الأخ يقول: أنا أموت ولا أصدق أن يدخل هذا الإنسان المسجد، رآه في الأسبوع القادم في هذا المسجد، ما هذه الأمانة ؟
استقيموا يستقم بكم:
لذلك النبي قال:
(( استقيموا يستقم بكم ))
أحياناً استقامتك دعوة، أمانتك دعوة، عفتك دعوة، صدقك دعوة، المؤمن شاء أم أبى داعية، لأنه ملتزم، وقاف عند كتاب الله، ببعض الدوائر يكون الموظف نزيها جداً، نزاهة تربِك مَن حوله، نزاهته حجة على من حوله.
مرة حدثني مدير سجن قال لي: يأتي قاض، وليس عنده مركبة، يأتي بالمركبات العامة إلى مكان بعيد عن دمشق، ليلتقي بالمساجين كي يفهم منهم ملابسات القضية، حتى يكون حكمه دقيقا، قال لي: والله حينما يأتي نكبره إكباراً لا حدود له، ليس مكلفا بالمجيء، خوفاً من أن يقع في خطأ في الحكم يأتي.
أحياناً دون أن تشعر استقامتك، صدقك، أمانتك، نزاهتك، عفتك دعوة.
لا أكتمكم، الآن الصين في أعلى درجات رواجها التجاري، لو جاء إنسان من بلادنا ليأخذ وكالة ماذا يفعلون معه ؟ هذا أحدث ما سمعت، في فندقه يرسلون له فتاة، فإن فتح الباب لا يعطونه الوكالة، وإن رفضها يأخذ الوكالة، عنده مبادئ، عنده قيم، يخاف هؤلاء الذين لا يعرفون الله، وجودوا أن الإنسان الملتزم بدين مستحيل أن يقع في خيانة، إذاً:
(( استقيموا يستقم بكم ))
أنا لا أريد أن نلغي العمل والعياذ بالله لخوفنا، هذا فهم ما أريده إطلاقاً، لكن يمكن للعمل إن ظهر دون أن تشعر، ودون أن تريد، ودون أن تحرص عليه يمكن لهذا العمل إذا ظهر أن يكون قدوة للآخرين، وأنا أؤكد لكم أن معظم الذين يؤمنون بوقت متأخر بسبب إنسان لفت نظرهم.
كنا مرة في الحج فرأينا إنسانا شكله شكل أوربي، سمعت عن قصته أنه كان عنده طالب سوري، وعنده فتاة جميلة جداً، اشتهى أن يضبط هذا المستأجر الطالب السوري ينظر إلى ابنته، أبداً، فكان غض بصره سبب إسلام صاحب البيت، أقول لكم:
(( استقيموا يستقم بكم ))
كلما زادت استقامتك زادت دعوتكم دون أن تشعر، لذلك نحن الآن نسمي الدعوة الصامتة، أنت دون أن تتكلم بأي كلمة، دون أن نطق ببنت شفا استقامتك، أمانتك، عفتك إتقان عملك وسام شرف لك، وهذا قد يدعو الناس إلى سلوك منهجك في الحياة.
لا مانع من ظهور العمل الصالح من غير قصد:
أحياناً يقول الحسن البصري: " كان الرجل يجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها ، فإذا خشي أن تسبقه قام.
هناك أشخاص يتمنى بعضهم أن يبكي أمام الناس بكاء خشوع، أحواله عالية جداً، السلف الصالح كان يحاول ألاّ يظهر بكاءه أمام الناس من شدة ورعه.
مرة رجل بكى، وعلا صوته فقال الحسن: " إن الشيطان ليبكي هذا الرجل "، أخذه الحال، وهو آكل للمال الحرام.
هناك حالات إظهار الورع، وإظهار التقوى والصلاح، نحن إذا ظهر عملنا فلا مانع، لكن أن يكون مقصوداً فهناك خلل في الإيمان، فلا تقصد أن يظهر هذا العمل، فإذا ظهر فلعل الله سبحانه وتعالى شاء له أن يظهر ليكون عبرة، ويكون موعظة.
بعض حالات السلف الصالح في عباداتهم، في صلاتهم، في صيامهم، في بكائهم في خشوعهم، في تلاوة قرآنهم، يحاولون ألا يظهروا هذا أمام الناس حفاظاً على إخلاصهم.