- أحاديث رمضان
- /
- ٠13رمضان 1427هـ - صلاح الأمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
تفسير دقيق لليلة القدر:
ليلة القدر ليلةُ التعرُّف إلى الله:
أيها الإخوة ، تفسيرات كثيرة لهذه الليلة ، لكن التفسير الذي ينبع من كتاب الله هو أن ليلة القدر هي ليلة نتعرف إلى الله ، وقد يكون التعرف عليه تراكمياً ، فكلما لفت نظرك آية كونية ، أو آية تكوينية ، أو آية قرآنية ، ازددت معرفة بالله ، هذه المعرفة التراكمية قد تكون ذروتها ليلة القدر ، أي ليلة عرفت الله حق المعرفة ، وقدّرته حق القدر ، ولا تنسوا أن في القرآن الكريم آيات كثيرة تبين هذا:
﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾
﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾
﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)﴾
معرفة الأمر ومعرفة الاّمر:
فليلة القدر ليلة ازدادت معرفتك بالله فيها ، ويجب أن نفرق تفريقاً واضحاً بين أن تعرف الله ، وبين أن تعرف أمره ، لذلك أكثر المعاهد الشرعية والكليات تتحدث عن أمر الله علم العقيدة ، علم الأصول ، علم التفسير ، علم الحديث ، مصطلح الحديث ، شرح الحديث الفقه ، الفقه المقارن ، تاريخ التشريع ، لكن معرفة الله عز وجل ركن من أكبر أركان هذا الدين ، أن تعرفه ، إنك إن عرفته أطعته ، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تعرفه ، ثم لا تحبه ، ثم مستحيل وألف ألف مستحيل أن تحبه ، ثم لا تطيعه.
بين العابد والفقيه:
فلذلك يتفاوت المؤمنون لا في معرفة الأحكام الشرعية هذه بين أيدي الناس جميعاً ومتداولة ، ومن السهل جداً أن تقتني كتاباً ، أو أن تتتلمذ على يد فقيه فتتعرف على الأحكام الشرعية ، هي أمر ونهي وأحكام شرعية ، لكن عظمة هذا الدين أن تعرفه ، لذلك عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( فَقِيهٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ))
إخواننا الكرام ، القصص التي تنتهي إلي كثيرة جداً ، أناس لزموا المساجد سنوات طويلة ، ثم سقطوا فجأة ، سقطوا لأقل ضغط ، أو لأقل إغراء ، إغراء أسقطهم ، وضغط أسقطهم إذاً مقاومة العابد هشة.
(( ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ))
للتقريب: حتى يكتب إلى جانب اسم الإنسان لفظ ( د ) فقط ، د. فلان ، كم يحتاج من دراسية ؟ من أجل أن تقول: أنا دكتور ، أو أن يخاطبك الناس بهذا اللقب ، أما من أجل أن تعرف الله.
إخوانا الكرام ، معرفة الله بحر لا ينتهي ، هناك من يقول: الله خلق السماوات والأرض ، الله رب العالمين ، لكن لو وقفت عند أسماءه الحسنى اسماً اسْماً ، تعرفت إلى قدرته ، وإلى علمه ، وإلى رحمته ، وإلى لطفه ، وإلى حنانه ، وإلى عدله ، وإلى جبروته وإلى بطشه ، لذلك إن أردت أن تعرف الله عز وجل لا بد من أن تقف عند أسماءه الحسنى وصفته الفضلى.
أنا ألح في هذه الليلة على أن نركز على معرفة الله ، إنك إن عرفته كما قال سيدنا رسول الله:
(( والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ))
إلى أن تكون مستعداً أن تضحي بالغالي والرخيص ، والنفس والنفيس تقرباً إلى الله ، إلى أن تسعد حقيقة بقربك من الله.
والله مرة قال لي أخ ذهب إلى بيت الله الحرام حاجاً ، فلما عاد ، زرته مهنئاً قال لي كلمة لا أنساها ، وهذا من عشرين عاما ، قال لي: " والله ليس في الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني ".
إخواننا الكرام ، إن لم تقل هذه الكلمة عقب اتصالك بالله ، عقب منجاتك له ، عقب انطوائك تحت شرعه ، عقب محبتك لأوليائه ، إن لم تتصل اتصالا حقيقيا ، نحن أحياناً نؤدي العبادات أداء شكليا ، لكن إن لم تناجه ، إن لم تستغفره ، إن لم تدعه ، إن لم تتب إليه ، إن لم تعتذر من خطأ سابق فلست سعيدًا ، لأن لذة القرب ما بعدها من لذة.
لذلك قال بعض العلماء: " في الدنيا جنة ، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة " ، بل إنه يقول: " ماذا يفعل أعدائي بي ؟ بستاني في صدري ، إن أبعدوني فإبعادي سياحة ، وإن حبسوني فحبسي خلوة ، وإن قتلوني فقتلي شهادة ، فماذا يفعل أعدائي بي ؟ ".
القرأءة التعبدية التدبرية للقرأن:
إخواننا الكرام ، هناك في الناس كآبة عامة ، وضياع ، وإحباط ، وتعلق بالمادة ، وكراهية للانضباط ، ويؤدون الصلوات ، ويؤدون بعض العبادات ، العبرة أن تركز في هذه الليلة وما بعدها على معرفة الله ، نحن نقرأ القرآن ، لكن لو قرأت قراءتين قراءة تعبدية كما تسمى ختمة ، وقراءة تدبرية ، لو قرأت في اليوم نصف صفحة مع التدبر ، والبحث والدرس ، والتأمل ، والعزم على تطبيق هذه الآيات ، لكانت هذه الصفحة خبير من مئة صفحة تقرأها قراءة سريعة غير متأنية وغير مدققة.
إخواننا الكرام ، كلمة واضحة جداً:
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
هذا القرآن نزل في ليلة القدر على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ، لكن أنت ألا تحب أن تأتي السكينة من الله ؟ ألا تحب أن يمتلئ قلبك سعادة ؟ أن يمتلئ قلبك حبوراً ؟ أن يمتلئ قلبك طمأنينة ؟ أن يمتلئ قلبك راحة ؟ أنت كمؤمن يمكن أن يلقي الله في قلبك نوراً ، أن يهبك الحكمة ، أن يهبك الراحة ، أن يهبك السعادة ، أن يهبك التوازن ، أن يهبك نعمة الأمن ، هذه من ثمار ليلة القدر ، أنت قدرت الله حق قدره ، أنت فكرت في خلق السماوات والأرض والدليل:
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾
معنى تدبر الاّيات:
كأن الله أرشدنا إلى أن طريق معرفته هو التفكر في خلق السماوات والأرض ، وأقول دائماً هذه العبارات: ما معنى التدبر أيها الإخوة ؟ قرأت آية فيها أمر:
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾
ما معنى تدبر هذه الآية ؟ أن تأتمر ، أن تسأل نفسك أين أنت من هذه الآية ؟ قرأت آية فيها نهي:
﴿ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾
تدبر هذه الآية أن تسأل نفسك: أين أنا منها ؟
قرأت آية في وصف أهل الجنة ، ما تدبر هذه الآية ؟ أن تسعى إلى الجنة بصدقة ، بعمل صالح ، بتوبة ، بطلب علم ، بتعليم علم.
قرأت آية فيها وصف لأهل النار ما موقفك من هذه الآية ؟ أن أبتعد عن أسباب النار.
(( أَلَا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ، ثَلَاثًا ، أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ ))
أنا أمهد لك: قرأت قصة قوم سابقين عصوا وعتوا فأهلكهم الله عز وجل ، ما موقفك من هذه الآية ؟ أن أتعظ ، الآن قرأت آية كونية ، ما موقفك ؟ لما قال الله عز وجل عن الماء ؟
﴿ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)﴾
البيت الذي مساحته مئة متر مربع ، لو كلفنا أن نخزن الماء عاما لاحتجنا إلى مساحة كمساحة بيتنا بالضبط ، لكن الله عز وجل جعله مخزناً في الجبال ، وجعل فتحات ، هذه الفتحة يندفع منها الماء طوال العام ، من خزنه في بطون الجبال ؟ من وضع في الجبال صخور كلسية ؟ وصخور معدنية ، ومغنيزيوم ، وبوتاسيوم ، ويود ، مياه معدنية ، المياه المقطرة لا تصلح للشرب إطلاقاً ، المياه المحلاة لا تصلح للشرب أبداً ، لما قال لك:
﴿ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾
هذا رأس موضوع تتابعه.
إذاً: أيها الإخوة ، مما يزيد معرفتنا بالله في أسمائه الحسنى وصفاته الفضلى والأمور ميسرة ، ( قرص مدمج ) فيه مئة اسم ، كل اسم مشروح عشرين أو خمس وعشرين صفحة ، يعني 2500 صفحة مع الصوت ، قرص واحد ، وثمنه أقل من ربع شطيرة ، شيء لا يذكر ، فالأمور ميسرة ، لو تتبعت أسماء الله الحسنى ، وصفاته الفضلى ، لو تفكرت في خلق السماوات والأرض تعرف من هو الإله العظيم ، لأن التفكر في خلق السماوات والأرض يضعك وجهاً لوجه أمام عظمة الله.
أيها الإخوة ، ليلة القدر كما قال الله عز وجل:
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ
وقد يسأل سائل:
﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)﴾
ألف شهر ، يعني ثمانين سنة تعبد الله فيها من دون علم ، ليلة واحدة قدرت فيها ربك حق قدره خير من كل هذه السنوات الطويلة والمديدة مع العبادات الأكيدة.
رمضان موعد انطلاقة إيمانية معرفية جديدة:
أيها الإخوة ، أحياناً تكون المناسبة منطلقا ، أنت انطلق منذ الآن وإلى العام القادم إن شاء الله ، وأحياكم الله لأمثاله ، انطلق منذ الآن في التركيز على معرفة الله ، لأنك كلما عرفته ازددت له طاعة ، وله حباً ، وله انقياداً ، وله خضوعاً ، ثمرة هذا الشهر أن تكون لك علاقة مع الله متميزة ، لذلك يوم العيد كما قال عز وجل:
﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾
معنى ذلك أنت في رمضان جاءك الهدى من خلال سماع كتاب الله بأكمله ، الآن القراءة وحدها دعوة ، آيات قليلة جداً متشابهة تحتاج إلى تفسير ، لكن معظم الآيات واضحة جلية ، بل إذا أردت أن تكلم الله فادعه ، أما إذا أردت أن يكلمك الله عز وجل فاقرأ القرآن ، إنك إن قرأت القرآن فإن الله يكلمك ، إن قرأت القرآن كأن الله يحادثك.
إذاً: العبرة في هذه الليلة أن تكون علاقة متميزة مع الله ، والله عز وجل في بعض الآثار القدسية:
(( يا موسى ، أتحب أن أكون جليسك ؟ قال: كيف ذلك يا رب ؟ قال: أما علمت أنني جليس من ذكرني ؟ وحيث ما التمسني عبدي وجدني ، أنا جليس من ذكرني ))
من الممكن أن يكون ألم وشقاء ، والله موجود ؟ بيده كل شيء ، فإذا تعرفت إليه جعلت همك هماًَ واحداً ، فكفاك الله الهموم كلها.
لا أريد أن أدخل في التفاصيل ، هناك معلومات غير صحيحة عن هذه الليلة مفترات وموضوعة ، العبرة أن تكون ذروة معرفتك بالله في هذه الليلة ، حتى إذا قلت يوم العيد: الله أكبر ، الله أكبر ، معنى ذلك أنك كبرت الله على ما هداك.
أهمية العبادات التعاملية:
من باب التفاصيل ، ولا أدخل لا بمهن ، ولا بحرف ، لكن لو أمامك إنسان عبد لله ، منحك الثقة المطلقة ، لأنك عالم ، بعته حاجة تضره ، تضره ضررا كبيرا في صحته ، لكن ربحك منها عال ، اسمحوا لي بهذا التعريف: لما تضر إنسانا تضر عبدا من عباد الله ، من أجل أن تحقق ربحا معينا فكأنك لا تعرف الله أبداً ، الدين عظمته أنك منضبط بالحق ، منضبط بالاستقامة ، منضبط بالصدق والأمانة.
والله البارحة سمعت من أخ كريم قصصا تجري في حقل معين فيها غش عجيب للناس ، لكن غش مبني على تلف صحتهم ، من أجل أن تربح تتلف صحة الآخرين ، فهذا الذي لو دخل المسجد لا تنخدعوا بهذا الإنسان ، لو دخل مسجدا ، لو صلى ، ما دام من أجل عشرة آلاف ليرة تزيد في دخلك ، وتضر إنسانا في صحته فأنت لا تعرف الله أبداً.
القضية ليست قضية دخول مساجد ، ولا أداء صلوات ، قضية استقامة ، المؤمن لا يكذب ، المؤمن لا يغش ، هذه الاستقامة ترفع شأن المسلمين ، لماذا يسيء الناس أحياناً الظن بمن يعمل في الحقل الديني ؟ حتى قال لي أحدُهم: دلني على شيخ صاحب دين ، طبعاً ، هناك أخطاء كبيرة ، كونك مؤمنا يعني مستقيما ، كونك مؤمنا لا يمكن أن تكذب ، كونك مؤمنا لا يمكن أن تغش ، كونك مؤمنا لا يمكن أن تخدع ، لا يمكن أن تتكبر ، لا يمكن أن تحتال ، هذه مسلَّمات ، هذه ثمرة معرفة الله ، لأن الله معك ، لا تجعل الله أقلَّ الناظرين إليك ، قلبك منظر الله عز وجل.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ))
نصيحة في شكل رجاء وأمنية:
أرجو أن تكون هذه الليلة مناسبة لبدء ـ بالتعبير المشهور ـ مشوار طويل في معرفة الله ، في معرفته حق المعرفة ، وفي طاعته حق الطاعة ، وفي المجاهدة في سبيله حق المجاهدة ، وفي أن تتقيه حق التقوى ، هذا الذي يمكن أن يكون من ثمار هذه الليلة المباركة.
القرآن يقربك من الله ، والدعاء ، والتهليل: لا إله إلا الله ، والتسبيح: سبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ، هذه أدعية ، وتلك أذكار ، وابتهالات ، واستغفار ، هذا كله يقرب إلى الله ، ولعل أعلى هذه الأذكار أن تقرأ القرآن كل يوم ، إن قرأت القرآن كل يوم فهو شفاء للصدور.
والحمد لله رب العالمين