وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 6 - سورة يس - تفسير الآيات 66-77 ، السمع و البصر و الفؤاد من آيات الله الدالة على عظمته
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

الله عز وجل خلق للإنسان هذه العين ليرى بها آياته الدالة على عظمته:


 أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس السادس من سورة يس، ومع الآية السادسة والستين وهي قوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)﴾ هذه الآية أيها الأخوة معناها الظاهري واضح، لو أن الله سبحانه وتعالى طمس على أعين الناس أي ألغى بصرهم، ألغى أعينهم، ألغى هذه القدرة على الرؤية لتاهوا وضلوا ولاستبقوا وتزاحموا وتعثروا، هذا معناها الظاهر، لكن ما معناها الدقيق العميق؟ ما معناها السياقي؟ أي أيها الإنسان إذا توهمت أن الله خلق مؤمناً، وخلق كافراً، وأنه أراد من الكافر أن يكفر، وأنه خلقه كافراً، ولا جريرة له بذلك، إذا توهمت أن الله أجبر الإنسان على الكفر، إذا توهمت ذلك فلماذا أعطاه عيناً يرى بها الآيات؟ لماذا أعطاه سمعاً يسمع به الحق؟ لماذا أعطاه عقلاً يكشف به الحقائق؟ أليست هذه العين المبصرة دليلاً على أن الله خلق العين لترى بها آياته الدالة على عظمته؟ أليست هذه العين نافذة تطل بها على العالم الخارجي؟ 

 

الله عز وجل لو شاء للإنسان الضلال لطمس على عينه:


لو أن الله عز وجل ما أراد لك الهدى، لو أنه أجبرك على الضلال، لو أنه أراد لك الضلال، لماذا هذه الحواس الخمس؟ لماذا هذا الكون الذي يطفح بالآيات الدالة على عظمة الله عز وجل؟ ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ﴾ لو نشاء لهم الضلالة، لو نشاء لهم العمى، لطمسنا على أعينهم، هذه العين التي زوّدنا الله بها، والله أيها الأخوة لو أمضينا كل حياتنا في كشف دقائقها ما استطعنا. 

الطبقة القرنية الشفافة التي تتغذى عن طريق الحلول وحدها، كل غذاء الجسم البشري عن طريق الأوعية الشعرية إلا قرنية العين فالخلية الأولى تأخذ حظها وحظ جارتها من أجل أن تكون الرؤية واضحة، جلية، نقية، من جعل هذه القرنية شفافة شفافية مطلقة؟ ومن جعل تحتها القزحية تأتمر بأمر لا علم لك به تضيق وتكبر بحسب قوة الضوء؟ أنت بآلة التصوير تتحكم بفتحة الآلة، فإذا أخطأت بفتحتها احترقت الصورة، والآلات الحديثة جداً تزيد الضوء عن طريق توسيع الفتحة وتقلل منه عن طريق تضييقها بشكل أوتوماتيكي. 

هذه العين بقرنيتها وقزحيتها وجسمها البلوري، هذه العدسة المرنة التي يزداد احددابها بحسب بعد المنظور، من قاس المسافة؟ ومن أبلغ هذا الجسم البلوري؟ ومن ضغط هذه العضلات الهدبية؟ من أمرها أن تضغط بالميكرونات حتى يقع الخيال على الشبكية؟ 

 

العين وحدها كافية كي يذوب الإنسان تعظيماً لله عز وجل:


هذه العين التي يحار بها العلماء، ولا تزال بعض أسرارها مجهولة، ترى الألوان كلها بأدق الألوان، ثمانمئة ألف درجة من اللون الواحد تفرق العين بينها. لو درّجنا لوناً واحداً ثمانمئة ألف درجة العين السليمة بإمكانها أن تميز بين درجتين، تارة بالألوان، وتارة بالبعد الثالث، وتارة بالأحجام، إنك ترى الشيء بحجمه الحقيقي، لو أتيت بآلة تصوير وصورت منظراً طبيعياً وسحبت الصورة لوجدتها لا تزيد على سنتمترات 10×8 سم، أما هذه العين فترى الجبل جبلاً بحجمه الحقيقي، فالأشياء تراها بأحجامها، وألوانها الدقيقة، وبأبعادها الثلاث، وتراها من دون تحميض، نظرنا إلى منظر والله غداً لنرى المنظر، اليوم لقطنا الصور، غداً، مباشرة ترى الشيء بأدق تفاصيله، هذه العين وضعها الله في محجر وقاية لها، جعل لها هذا الجفن لتنظيفها، جعل هذا الدمع القلوي الذي يذيب المواد الصلبة، جعل هذه الأشفار، وهذه الأهداب، جعل هذا الجفن، جعل هذه العضلات العلوية والسفلية والأنسية والوحشية، جعل هذا العصب البصري، تسعمئة ألف عصب تمر في حبل لا يزيد قطره عن مليمتر، تسعمئة ألف عصب، وهذه الشبكية بطبقاتها العشرة، وهذه الشبكية بـ130 مليون عصية ومخروط من أجل التقاط أدق تفاصيل الصورة، وأدق الألوان، يد من؟ من فعل هذا؟ من شقّ هذه العين؟ من شقّ هذا السمع؟ 

﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)﴾

[ سورة الطور ]

والله يا أخوان؛ العين وحدها كافية كي يذوب الإنسان تعظيماً لله عز وجل.

 

من أساء الظن بالله عز وجل لم يعرف الله تعالى:


﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ﴾ الإنسان يرى الضوء، يرى الشمس، يرى السماء، يرى النجوم، يرى الأزهار، يرى الأطيار، يرى الأسماك، يستمتع بالألوان، ما قيمة فرش البيت؟  وما قيمة التزيين في البيت، وما قيمة هذه الألوان الهادئة في البيت لولا هذه العين؟ ما قيمة جمال ابنك الذي بين يديك لولا هذه العين؟ كل ما في الكون من جمال تنعدم قيمته لولا هذه العين، لقد شقّ الله هذه العين من أجل أن ترى الآيات، من أجل أن تسبح الله عز وجل، من أجل أن تنقل لك هذه العين صور المحيط الخارجي فيخشع قلبك وتستقيم سيرتك،﴿وَلَوْ نَشَاءُ﴾   لو لم نشأ لهم الهداية، لو لم نشأ لهم السعادة، لو لم نشأ لهم القرب، لو لم نُعِدهم لحياة أبدية فيها سعادة لا تنقضي: ﴿لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ﴾ أي لما الأب- ولله المثل الأعلى- يقدم لابنه أعلى مصروف للدراسة وأرقى جامعة، وأعلى قسط، وغرفة خاصة، يعفيه من كل الخدمات، يقدم له كل المراجع، يهيئ له كل المدرسين المتفوقين، يبذل نفقات باهظة، ما مراد الأب من كل هذا؟ أن يبقيه جاهلاً؟ هل يقول ابن لأبيه: أنت تريدني أن أرسب؟ كل هذه الخدمات، كل هذه العنايات، كل هذا الإنفاق، كل هذا الترتيب، كل هذا التدبير، وأنا أريدك أن ترسب؟ هذا افتراء على الله عز وجل، فهذا الذي يظن أن الله عز وجل خلق الكافر كافراً، وأراده أن يكون كافراً، وسوف يعذبه إلى الأبد لا لأنه كفر ولكن لأن مشيئة الله هكذا، هذا الذي يسيء الظن بالله عز وجل لا يعرف الله عز وجل. 

 

من أراد أن يعبد الله فعليه بقراءة القرآن ومن أراد أن يعرفه فعليه بالكون:


لذلك لو أردنا لهم الضلال، لو أردنا أن نشقيهم، لو أجبرناهم على الانحراف، لو أجبرناهم على الكفر، لما خلقنا لهم كل هذا الكون، ولا كل هذه الحواس، ولا كل هذا الإدراك: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ﴾ الله عز وجل أعطانا سمعاً، أعطانا بصراً، أعطانا منهجاً، أعطانا دلائل، إذا أردت أن تعرف الله فذلك الكون، ورد: "حسبكم الكون معجزة" ، وإذا أردت أن تعبده فذاك القرآن منهج قويم، صراط مستقيم، حبل الله المتين، نور من السماء للأرض، هذا القرآن.

إن أردت أن تعرفه فذلك الكون، وإن أردت أن تعبده فهذا هو المنهج، وإن أردت أن تتقرب إليه أعطاك حركة، قوة، أعطاك قدرات، أعطاك خبرات، أعطاك مهنة، أعطاك حرفة، أعطاك مالاً، أعطاك طاقة عضلية، وطاقة فكرية، وطاقة نفسية، أعطاك ملكات، أعطاك مهارات، لذلك لو أننا أجبرناهم على الضلال، لو أردنا منهم أن يكونوا كذلك، ولو نشاء كما يدّعون لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط، تنازعوا، تدافعوا، ضلوا، فسدوا: ﴿فَأَنَّى يُبْصِرُونَ﴾ .

 

الله عز وجل خلق الإنسان في أحسن تقويم:


﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ (67)﴾ لو أن الله جعل الإنسان كتلة من لحم وعظم، لا أرجل، لا يوجد عضلات، لا يوجد جهاز عظمي مثل المتحول الزحاري، مثل الرخويات، لو أن الإنسان كان من النوع الرخوي، عضلة ملقاة على الأرض. من أعطاك هذا الجهاز العظمي؟ من ربط الجهاز العظمي بهذه العضلات؟ بالمئات العضلات، بعضها مخطط، بعضها أملس، بعضها إرادي، بعضها لا إرادي، شيء يحير العقول، وبعض العضلات وأنت في أتمّ الراحة هي في أشدّ الانقباض، ولولا هذه العضلة لكانت حياة الإنسان جحيماً لا يطاق، بهذه العضلة تُحْفظ لك كرامتك، بهذه العضلة التي في أشدّ حالات انقباضها أنت مرتاح، لولا هذه العضلة لاحتاج الإنسان إلى فوط يحفظ بها ما يخرج منه من نجاسات، لولا هذه العضلة لذهب ماء الوجه، لولا هذه العضلة لأصبح الإنسان مهاناً، هذه العضلة التي هي في أشدّ حالات الانقباض تضمن لك كرامتك، ورفعتك، وشـأنك، ونظافتك، ومهارتك، عضلات قابضة، عضلات باسطة، عضلات مخططة، عضلات ملساء، عضلة إرادية، عضلة لاإرادية، وأنت لا تدري.

 

إكرام الله عز وجل الإنسان بأن خلقه بأحسن صورة:


لو أن الله عز وجل جعل عضلة القلب بيدك ليس بإمكانك أن تنام، إذا نام الإنسان توقف قلبه، لو جعل حركة الرئتين منوطة بك، خيار صعب، النوم معناه الموت، واليقظة من أجل تحريك الرئتين معناها الجهد الذي لا يُحتمل، ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)﴾ أعطاك جهازاً عظمياً متيناً، ميناء الأسنان لا أدري بالضبط يأتي قبل الألماس أم بعده من حيث القساوة، عظم عنق الفخذ، الفخذ له عظم، والعظم ينتهي بمشاشة، فقط من أجل جمال القِوام، لو أن عظم الفخذ ينتهي بالحرقف بلا عنق لصار منظر الإنسان دميماً، جعله بحيث يكون العظم له عنق وبعده المشاشة، عظم عنق الفخذ هذا يتحمل ضغط 250 كيلو غرام لكل رجل، صاروا 500 كيلو غرام، أي نصف طن يتحمل جسمك ضغطاً: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)﴾ أنت جعلك تتحرك، جعلك تمشي، أعطاك أرجلاً، أعطاك قدماً، الكعب في القدم هذا النتوء القليل، هذا يتفق مع أدق نظريات الميكانيك، النتوء، الأصابع في القدم، الأخمص في القدم، عضلات القدم، الركبة، هناك مستشفيات في العالم متخصصة بمفصل الركبة، لأنه ليس مفصلاً، عظمتان متقاربتان وأربطة في غاية الإحكام وعظمة صغيرة يسميها العوام: صابونة الرِّجل، عظمتان متقاربتان وأربطة بمنتهى الإحكام هذه الركبة، خلق الإنسان في أحسن تقويم. 

 

لو أراد الله عز وجل للإنسان الضلال لما أتقن صنعه:


لو نشاء له الضلال، لو نشاء أن نُشقيه لما أتقنا صنعه، لما أتقنا عضلاته وعظامه، لما أتقنا أجهزته، جهاز القلب والدوران، تجد الإنسان يقول: دفعت ثمن صمام 130 ألف ليرة، صمام صغير، ينام له صوت، لا ينام الليل، الصمام الصناعي له صوت، لا تعرف قيمة صمام القلب الطبيعي حتى تركب صماماً صناعياً، طبعاً سوف يفتح القلب والعملية خطيرة جداً والصمام ثمنه 130 ألف وله صوت بالليل، أثناء النهار باعتبار يوجد ضجيج لا تشعر بصوته لكن بالليل عند السكون تشعر بصوته. إذاً القلب والرئتان، الأوعية والأعصاب، الأوردة والشرايين، المعدة والأمعاء، الكبد والطحال، البنكرياس، والكليتان، جهاز تنقية، وجهاز هضم، وجهاز دوران، وجهاز عضلي، وجهاز عظمي، وجهاز عصبي، وأعصاب حس، وأعصاب حركة. 

 

الدقة والإبداع في خلق الإنسان من أجل أن يعرف الله عز وجل:


اليوم في الخطبة ذكرت قشرة الدماغ وزنها مئة غرام، سمكها 2 ميليمتر، فيها ألياف عصبية طولها ألف كيلو متر، فيها أربعة عشر مليار خلية هذه القشرة. 

هذه القشرة فيها كل شيء؛ مركز السمع، مركز البصر، مركز الحركة، مركز الإحساس، مركز التوازن، فيها مركز الإدراك، مركز المحاكمة، مركز التذكر، مركز التدبير، شيء لا ينتهي، فيها من خمسين إلى مئة مركز لم تعرف بعد وظائفها الدقيقة، أما الدماغ 140 مليار خلية لم تعرف وظيفتها بعد.

أيها الأخوة؛ الدماغ عاجز عن إدراك ذاته، لماذا هذه الدقة وهذا الإبداع وهذه العناية؟ من أجل ألا تعرف الله؟ من أجل أن تُخْلق للتعذيب؟ من أجل أن تشقى؟ لا والله، كل هذا من أجل أن تسعد، من أجل أن تعرف الله عز وجل. 

 

تكريم الله الإنسان بأن جعله فرداً لا مثيل له:


﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ﴾ كتلة لحم ملقاة في طرف الغرفة، يوجد حيوانات هكذا، يوجد حيوانات وحيدة خلية، يوجد فيروسات، يوجد هلاميات، يوجد رخويات، يوجد حيوان ليس له حواس، أنت أعقد حاسة حواسك، حاسة السمع، الله عز وجل أعطاك نبرة تختص بها، أبداً. 

الإنسان له هويات وليس هوية واحدة، كان يظن من قبل أن له هوية واحدة وهي بصمته، لا، الآن قزحية العين هوية، أحدث بحث قاله لي أحد الإخوان أنه لا يوجد إنسان بالخمسة آلاف مليون إنسان يشبهه آخر في قزحية العين، فالآن يوجد أجهزة تضع عينيك على الجهاز فيعرف هويتك، لا يوجد تزوير هنا إطلاقاً، العين هوية، رائحة الجلد هوية، بلازما الدم هوية، وحدة النسيج في جسمك هوية، نبرة الصوت هوية، بصمة اليد هوية، من أسماء الله أنه فرد، وقد منحك هذا الاسم، كرَّمك فجعلك فرداً لا مثيل لك، إذاً كل هذه الدقة هي من أجل أن يشقيك في الدنيا والآخرة؟ أهكذا تظن به؟ ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ﴾ ..

 

العقل الذي وهبنا الله إياه لا نعرف قيمته إلا حينما نراه في بعض الناس ضعيفاً:


أساساً أنا أعرف أشخاصاً كثيرين تقدمت بهم السن، ضعفت ذاكرتهم، رجل رحمه الله كان من إخواننا الكرام في آخر حياته خرج من معمله وبحث عن بيته ساعة ونصف، نسي بيته، بيته الذي اشتراه، والذي سكن فيه خمساً وثلاثين سنة، عاد إلى بيت ابنه قال له: يا بني أين بيتي؟ أعرف رجلاً آخر كان صيدلياً جاء ابنه من أمريكا قال له: من أنت؟ قال: أنا ابنك ماهر، قال له: لا أعرفك. 

أعرف رجلاً بلغ أعلى الدرجات في حياته الدنيا، مرة اضطرت أن تخبر زوجته قسم الشرطة أن فلاناً خرج ولم يعد، بحثوا عنه وجدوه بالقنوات وهو بيته بالمهاجرين، خرج لم يعد يعرف كيف يرجع، أنت أحياناً تضع شمعة بالسقيفة على الرف، بعد ستة أشهر تنطفئ الكهرباء تقول: يا بني اطلع على السقيفة يوجد شمعة على الرف بالسقيفة، معنى هذا كل شيء تفعله أخذ محلاً بالذاكرة، الذي عنده قطع تبديل أو الصيدلي، يُسْأل: هل عندك الدواء الفلاني؟يجيب نعمً لدي قطعة واحدة، أحضرها يا بني هي بالرف الثالث على اليمين وراء هذه العلبة، معنى هذا بذاكرتك مسجلة. ما هذه الذاكرة؟ مشكلتك كبيرة إن ضعفت، إن ضعفت ضعفاً بسيطاً بدأ الإنسان ينسى. 

أحياناً يضيع مفاتيحه يبحث عنهم ساعة وتكون بجيبه وينسى، ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)﴾ هذا الإدراك، هذا العقل الذي جعله الله مناط التكليف، أداة التعريف، هذا لا تعرف قيمته إلا حينما تراه في بعض الناس ضعيفاً. 

 

أرذل العمر ليس لمن أمضى حياته في طاعة الله:


﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ﴾ الإنسان يولد لا يعلم شيئاً، تنمو ملكاته شيئاً فشيئاً، تنمو قدراته شيئاً فشيئاً، تنمو مفاهيمه، تنمو مدركاته إلى أن يكتمل في الأربعين، وبعدئذ يميل خطه البياني في النزول إلى أن يرد إلى أرذل العمر، لكن أيها الأخوة أرذل العمر ليس للمؤمنين أطمئنكم، أرذل العمر، ضعف الملكات، ضعف الذاكرة، الحشرية، إعادة القصة مئات المرات، الظل الثقيل، التدخل فيما لا يعنيه، أرذل العمر هذا ليس لمن أمضى حياته في طاعة الله، أرذل العمر ليس لمن كانت له بداية محرقة، من كانت له بداية محرقة كانت له نهاية مشرقة، يا بني حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر. 

 

من يحفظ الله في صغره يحفظه الله في كبره:


والله أعرف أناساً صالحين والله في التسعين، في السادسة والتسعين، في المئة والست سنوات بأعلى درجات يقظتهم وإدراكهم، أعرف رجلاً والله كنت أزوره كل عيد، والد صديق من أصدقائي، كل عيد أزوره يحدثني عن بعض قصصه، وتمنيت أن يعيد القصة، لم يعد القصة مرتين أبداً، قال: عملنا فحصاً يا أستاذ فلان، الحمد لله كله تام، عمره 96 سنة، عمل فحصاً كاملاً لدمه وبوله....كامل مكمل، قال: لكن والله بحياتي ما أكلت قرشاً حراماً ولا أعرف الحرام، لم يأكل قرشاً حراماً ولا يعرف الحرام من النوع الثاني بحياته، يا بني حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر، أي إذا حدثناكم عن أرذل العمر هذا لمن أمضى شبابه في معصية الله، لمن لم يطلب العلم في شبابه، لمن شاب على ما شبّ عليه، لمن أَلِفَ المعاصي، لكن المؤمن أنا أرجح طبعاً لا أتأله على الله لكن أرجح أن المؤمن له خريف مشرق، له شيخوخة منيرة، له مكانة مرموقة، هذا لأن الله عز وجل قال:

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[ سورة الجاثية  ]

أي أنتم هل تعتقدون بذلك؟ ﴿سَوَاءً مَحْيَاهُمْ﴾ في الحياة ﴿سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾ .

 

وهب الله عز وجل الإنسان سمعاً وبصراً وفؤاداً من أجل أن يطيعه ويعبده:


﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)﴾ إذاً أعطاك السمع والبصر، أعطاك الحركة، يُفهم من هذه الآيات أن الإنسان عنده قوتان كبيرتان: قوى إدراك متمثلة بالحواس والعقل، وقوى حركة. فأنت في الدنيا بحاجة إلى علم وعمل، أنت بحاجة إلى علم وإلى عمل، والدين كله علم وعمل، وفحوى دعوة الأنبياء جميعاً:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾

[ سورة الأنبياء ]

 يجب أن تؤمن أنه لا إله إلا الله، ويجب أن تعبده، نهاية العلم التوحيد ونهاية العمل التقوى، فأنت بين شيئين؛ علم وعمل، إيمان واستقامة، إدراك وحركة، فمن أجل الإدراك أعطاك الله السمع والبصر والفؤاد، الفؤاد إذا جاء مع السمع والبصر فهو العقل:

﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)﴾

[ سورة الإسراء ]

فقواك الإدراكية متمثلة بالسمع والبصر والأحاسيس كلها والإدراك أي هو العقل. والقوى الحركية، أعطاك جسماً يتحرك، عضلات، توازناً، مثلاً لو أن الإنسان لا يوجد عنده قنوات نصف دائرية فوق الأذن حتى يقف على قدمين، لابد له من قاعدة استناد كبيرة جداً، كما ترى بعض التماثيل في بعض المحلات التجارية للملبوسات الجاهزة لها قاعدة استناد 70 سنتمتر من أجل أن يقف الإنسان، لولا قنوات التوازن في الأذن، ثلاث قنوات فيهم سائل وفيهم أهداب لاحتاج إلى أرجل كل رجل قاعدتها 20-30 سنتمتر، إذا الإنسان استخدم حذاء، ودخل في أرض فيها طين، يقول لك: كل حذاء فيه أكثر من خمسة كيلو غرام من الطين، المشي فيه مشقة كبيرة جداً، لو كان الشخص رجله وزنها خمسة كيلو غرام؛ شيء لا يحتمل، إذاً الله عز وجل لطيف جعل لك قدمين لطيفتين، والدليل هل نستطيع أن نوقف ميتاً على الواقف؟ مادام تعطلت قنواته الدائرية فهو لا يستطيع الوقوف، الميت دائماً ملقى على الأرض، أما الوقوف فيحتاج إلى توازن، إذاً هذا من تكريم الله للإنسان. 

 

الله عز وجل أعطى الإنسان قوى إدراكية وحركية ومهارات من أجل أن يؤمن به:


﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْق أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)﴾ إذاً هذه الآيات الثلاثة: الله أعطاك قوى إدراكية؛ أعطاك حواساً وعقلاً، أعطاك قوى حركية تتحرك، أعطاك مهارات، أعطاك خبرات، أعطاك قدرات، أعطاك مفاهيم، أعطاك حرفة تزاولها، ترتزق منها، هذا كله أعطاك الله إياه من أجل أن تؤمن به، وأن تعمل صالحاً يسعدك في الآخرة، من أجل أن تؤمن، الإيمان يحتاج إلى قوى إدراكية، والعمل الصالح يحتاج إلى جهاز حركي، تتحرك، تأتي إلى الدرس، تذهب لبيتك، تشتغل، تحضر معك طعاماً لأهلك، تقوم بعمل نافع.

 

للإنسان نوازع شهوانية متمثلة بالشعر ونوازع رحمانية متمثلة بالحق:


﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ﴾ يا أخوان بالمناسبة كلمة الشعر هنا ليست مقصودة لذاتها، دائماً الإنسان له نوازع شهوانية، ونوازع رحمانية، النوازع الرحمانية متمثلة بالحق، بالقرآن، بالسنة، والنوازع الشهوانية متمثلة بالشعر، كلام مزين، مزخرف، ممتع، لكن ليس فيه حقائق، فيه أباطيل، فيه دجل، فيه تزوير، مثلاً هناك شاعر يقول:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبــي               وأسمعت كلماتي من به صمــــــم

أنام ملء جفوني عن شواردهــا                ويسـهر الخلق جراها ويختصـــم

الخيل والليل والبيداء تعرفنــــي               والسيف والرمح والقرطاس والقلم

[ المتنبي ]

* * *

القصيدة طويلة جداً كلها فخر. كان مرة بين البصرة وحلب في رحلة فخرج عليه عدو فولّى هارباً، قال له غلامه: ألم تقل: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي؟ ألم تقل الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم؟ قال: قتلتني قتلك الله، فعاد فقاتل حتى قُتل، كلام فارغ، الشعر ليس المقصود بذاته، الشعر أي كلام فارغ، أي كلام مزخرف، مزين، مشقق، مدعم بالشواهد، والطرائف، والنكت، لكن ليس فيه حقائق، فكلام الناس، محاضراتهم، ندواتهم، أحاديثهم، مناقشاتهم، مجلاتهم، كتبهم، كلها تتحدث عن شهواتهم، وعن أباطيلهم، وعن نزواتهم، وعن فراغهم، وعن انحرافهم، فهذا كله جُمِع في كلمة الشعر، قال تعالى:

﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)﴾

[ سورة الشعراء ]

 

أعذب الشعر أكذبه:


مرة شاعر هجَّاء لم يبق أحد إلا وهجاه حتى أمه هجاها، ما بقي إلا أن يهجو نفسه قال: 

لي وجه قبّح الله خلقـه                 فقُبِح من وجه وقُبِّح حامله

[ الحطيئة ]

* * *

هذا هجّاء، ساعة غزل، ساعة هجاء، ساعة فخر، الفخر كلام فارغ، العرب كان  بالجاهلية شخص مرة مدّ رجله وقال: من كان أشرف مني فليضربها، بقيت حرب بين القبائل عشر سنوات، أحرقت الأخضر واليابس، هكذا كنا في الجاهلية، جاهلية، عصبيات، انحيازات، فخر باطل، إنسان تافه ينفخ نفسه، توفيت أم المعتصم مرة، بعض الشعراء قال فيها:

ولو أن النساء كمن فقــدنا              لفُضِّلت النساء على الرجـال

[ المتنبي ]

* * *

وأخفت أهل الشرك حتى إنه           لتخافك النطف التي لم تخلـق

[ أبو نواس ]

* * *

مبالغة كبيرة:

إن في بُرْديَّ جسمــــاً ناحلاً             لــــــو تـــــــوكأت عليه لانهـدم

[ بشار بن برد ]

* * *

قال أحد الشعراء: أعذب الشعر أكذبه.

 

الحيّ هو الذي يستنبط من حقائق الكون حقائق يؤمن بها:


لذلك هنا قال: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ﴾ أي كلام فارغ، كلام فيه مبالغات، كلام فيه تصوير للشهوات، والانحرافات، ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)﴾ الحقيقة ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)﴾   من هو الحيّ؟ الحيّ هو الذي يفكر، ويعقل، ويدرك، الحيّ هو الذي يستفيد من تجارب الآخرين، الحيّ هو الذي يستنبط من حقائق الكون حقائق يؤمن بها، ﴿وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)﴾ أما إذا لم تؤمن فقوانين الله عز وجل تنطبق عليك.

 

النبوة لا يليق بها الشعر فالشعر فيه كذب ونفاق ومبالغة:


﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ ما معنى ﴿وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ ؟ أي مرة دخل سيدنا عمر رضي الله عنه على سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام فرآه نائماً على حصير، وقد أثر فيه الحصير على خده الشريف، قال: رسول الله ينام على الحصير وكسرى ملك الفرس ينام على الحرير؟ قال: يا عمر إنما هي نبوة وليست ملكاً، هذه قضية متعلقة هذه النبوة هكذا، النبوة قدوة، النبوة تواضع، النبوة تقشف، النبوة حب للآخرين، فالنبوة لا يليق بها الشعر، مادام الشعر فيه كذب، فيه نفاق، فيه مبالغة، فيه هجاء، فيه غزل مكشوف، فيه غزل غير عفيف، فهذا الذي يتغزل، يصف أعضاء المرأة، هذا الذي يُثير الشهوات في الناس، هذا الذي يتحدث عن عواطفهم الخسيسة، عن حبهم، عن مشكلاتهم دون أن يرقى بها، هذا شاعر لكن لا يعبر عن حقيقة، لذلك قال: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ مقامه فوق هذا، مقام النبوة مقام الحق، مقام الإدلاء بالحق، لا مقام الباطل، لا مقام التزوير، لا مقام الكذب،﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْر﴾ من عند الله عز وجل، تذكير، الفطرة تؤمن، إذا غفلت يأتي القرآن فيذكرها: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْر وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ(70)﴾ ..

 

الحيّ من استجاب لله عز وجل ومن لم يستجب أقيمت عليه الحجة ودفع ثمن عمله:


إذا أنت ذكَّرت الإنسان واستجاب فهو حيّ، الطبيب يضع أحياناً يده على النبض يقول لك: يوجد نبض، فإن لم يجد نبضاً، عمل تخطيطاً وجد حركة منكسرة معنى هذا يوجد حركة، أما التخطيط كان خطاً مستقيماً، وكان النبض صفراً، والتنفس صفراً، والقزحية لم تتأثر بالضوء الشديد عندها يقول: عظّم الله أجركم، فمن هو الحي إذاً؟ هو الذي إذا دُعِي يستجيب، إذا استمع يستجيب: ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)﴾ أما الذي لا يستجيب أقيمت عليه الحجة، وحقّ عليه القول، ودفع ثمن عمله. 

 

تذليل الأنعام للإنسان بقدرة الله عز وجل:


الآن يقولون: شدة القرب حجاب؛ ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا﴾ أنت ألم تلبس في وقت ما كنزة من الصوف؟ ألا يوجد في بيتك سجادة من الصوف؟ ألا يوجد عندك جلد تضعه بالشتاء بغرفة الجلوس؟ ألم تشرب كأساً من الحليب؟ ألم تأكل قطعة جبنة؟ قشدة؟ زبدة؟ ألم تشرب لبناً؟ ألم تأكل لحماً؟ هذا اللبن واللحم والجبن والقشدة والزبدة والحليب، السمن، الجلد، ألم تلبس حذاء؟ يقول لك: هذا ثمنه حوالي ألف ومئتين، اشتريته من مضايا مثلاً، فهذا الحذاء مم صنع؟ من الجلد، هذا الصوف؟ هذه الكنزة الموهير الغالية من أين أحضرتها؟ قال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)﴾ هذه الأنعام، هذا الخروف صوفه يقدم لك شيئاً عظيماً، وجلده يقدم لك خدمات جلى، والحليب، كل حياتنا مبنية على الألبان؛ الجبن والحليب واللبن والسمن والزبدة غذاء أساسي جداً، هذا من الأنعام، واللحم مادة أساسية في الحياة، من صمم هذه الغنمة؟ لو أن الله عز وجل أودع طباع الضبع في الغنمة، يقول لك: فلان مثل الغنمة، ماذا يعني مثل الغنمة؟ أي بالقيادة سهلة، تسحبها بقليل من الحشيش على الذبح، لا تتكلم ولا كلمة، الله ذللها، من جعلها لك مذللة؟ الله جلّ جلاله.

 

الأغنام من آيات الله الكبرى الدالة على عظمته:


لذلك: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ هذه آية بين أيديهم، آية بين أيديهم يرونها صباحاً ومساء، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)﴾ من يستطيع أن يجمع مئة غنمة مع بعضهم؟ تجدهم متكاتفين، متداخلين ببعضهم، لو كانوا مثل الكلاب مبعثرين فرعي الغنم صار عملية شاقة، لو أن الله جعل بطباع الغنمة التبعثر، أيستطيع أحد أن يجمع مئتي كلب مع بعضهم ويقودهم معاً؟ تجد كل واحد بجهة، أما الغنم فمجموع كله معاً، بقطيع واحد، تجد بحركة، بصوت، يتجه نحو اليمين أو نحو الشمال، طَبْعٌ لطيف، طواعية، انسياق للراعي، هذه آية من آيات الله، موضوع الغنم بالذات هذه من آيات الله الكبرى، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾   ألا يرون هذا رأي العين، يجب على الإنسان ألا يكون غافلاً إذا أكل، إن شرب كأس حليب، إن أكل قطعة جبنة، يجب ألا ينسى الإنسان أن كل هذا من صنع ربنا، يقول لك: هذا من عند فلان، صناعته نظيفة تماماً، قبل فلان الله عز وجل الذي صمم هذه الغنمة، وصمم حليبها، وصمم جلدها، وصمم لحمها، وصمم صوفها، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)﴾ ..

 

الإنسان مصمم على الإيمان فإن لم يؤمن وأشرك وقع بمصيبة كبيرة:


أحياناً الإنسان يركب هذه الدابة، تحمله إلى بلد لا يبلغه إلا بشقّ الأنفس، أحد إخواننا كان في بلد غربي، قرأ بحثاً علمياً عن أن استعمال الفرس يقي الإنسان من أمراض القلب والكبد والكليتين، أحياناً المركبة التي صممها الإنسان هذه تسبب أمراض القلب والكبد والكليتين، حيث أن الإنسان مصمم على بذل الجهد، فإذا كفّ عن بذل الجهد تفاقمت مشكلاته، ضَعُف قلبه، ضعف كبده، ضعفت كليتاه، الطبيب يقول لك: امشِ، طبيب الكليتين يقول لك: امشِ، طبيب القلب يقول لك: امش، اعمل رياضة، تمشى صباحاً، الإنسان مصمم على بذل الجهد فإذا كفّ عن بذل الجهد، كل حركاته أصبحت بالمصعد والسيارة من الباب للباب، مكتبه مريح، حتى حركات السيارة كلها أوتوماتيكية، كبس أزرار، الغسيل كبسة زر، لم يعد هناك شيئاً صعباً، فالإنسان وقع بمصيبة جسمه، لأن الإنسان مصمم على بذل الجهد، فإن لم يبذل الجهد تعب قلبه وضعف، ومصمم على الإيمان فإذا لم يؤمن وأشرك يخاف، فنحن بين مشكلتين: بين كسل عضلي وبين شدة نفسية، وهذه وراء أكثر أمراض الإنسان المستعصية، أمراضه أكثرها المستعصية هي شدة نفسية مضافاً إليها الكسل العضلي، وأجدادنا حياتهم كان فيها بذل جهد وكان هناك راحة نفسية، الراحة النفسية مع بذل الجهد تساهم في وقاية الإنسان، والشدة النفسية مع الكسل العضلي يجعلان الإنسان في مرض مستمر.

 

كل شيء في الكون مصمم للإنسان تصميماً كاملاً:


﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)﴾ منافع ومشارب أي أنواع الأشربة الحليب واللبن وما إلى ذلك، ﴿أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾ حتى ما يخرج من بطنها، يقول لك: ثمن الطن ثمانية آلاف ليرة، عشرة آلاف ثمن الطن، أرقى أنواع السماد أي حتى ما يخرج من بطنها وأنت تستقذره هو من أرقى أنواع السماد، لم يبق فيها شيء، حتى الأمعاء تصدّر بأسعار باهظة، لا يوجد شيء بالغنم إلا يستفاد منه، سبحان الله! هذه هدية الله لنا، مصممة تصميماً كاملاً.

 

اتخاذ الأصنام آلهة من دون الله:


ومع كل ذلك: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)﴾ اتخذ إلهاً من دون الله، اتخذ شخصاً، اتخذ صنماً، قال: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)﴾ كان العرب في الجاهلية إن صنعوا صنماً يحرسوه، يعتنوا فيه، إذا شخص ناله بأذى يضربونه. فهذا الصنم من الحجر يحتاج إلى من يحرسه، وإلى من يرعاه، وإلى من يدافع عنه، فإذا كنت أنت ترعاه كيف تعبده من دون الله ما هذا المنطق؟ ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)﴾ .

 

كلّ إنسان سره كعلانيته عند الله عز وجل:


﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)﴾ الإنسان مكشوف يا أخوان، مكشوف عند الله عز وجل، أي سريرته كعلانيته، سره كظاهره، ما يخفيه كما لو أنه أعلنه، فالمؤمن حينما يرى رقابة الله عليه يستقيم على أمر الله، ويشعر حينما ينحرف قليلاً يأتيه العذاب من قِبل الله عز وجل. 

 

خلق الإنسان من آيات الله الدالة على عظمته:


﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ إذا قال الإنسان: أنا ما كنت وقتها، لم أكن في وعيي، نقول لك: انظر إلى ابنك، ألم تعلم أن هذا الابن جاء من نطفة من ماء مهين؟ ألم تعلم أن هذا الماء المهين يزيد عن ثلاثمئة مليون حوين وأن الإنسان مخلوق من حوين واحد؟ حوين واحد مخلوق منه، إذاً: ﴿أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة﴾ والحوين الواحد له رأس مدبب، له عنق، وله شريط لتحريكه وهذا الرأس المدبب له مادة نبيلة شفافة مغطاة بغشاء إذا اصطدمت بالبويضة تمزق الغشاء، وجاءت هذه المادة النبيلة فأذابت جدار البويضة حتى يدخل إليها، وأن هذا الحوين عليه خمسة آلاف مليون معلومة مبرمجة، بأوقات متفاوتة، ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ فإذا كبر ودرس فلسفة أو درس الطب، صار يتفلسف على الناس، أخي أنا لا أرى إلا الأشياء المادية، هذه ما وراء الطبيعة، هذه ( ميتافيزيقا )، نحن يجب أن نكون واقعيين، لا نريد غيبيات، لا نريد خيالاً، لا نريد أن نتعلق بما بعد الموت، نريد الحياة فقط، الآن تتكلم بهذا الكلام.

 

على الإنسان ألا يكثر من الجدال:


مرة كنت بالمطار رأيت طفلاً يظهر أهله من كثرة ما وضعوا له فوطاً خوفاً من البلل صار كرة بوسطه، قلت: هذا لو كبر وصار بمنصب رفيع، ونسي كيف كان صغيراً بهذا الوضع المضحك، ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)﴾ الإنسان تجده كان يحتاج لمن ينظفه، من يرعاه، من يطعمه، كان ضعيفاً، كان لا يتكلم، الحرف يتكلم كلاماً مضحكاً لو كبر وسمع كلامه، بعد أن كبر وتعلم وصار شخصية فذة، يريد أن يناقش الإله: أثبت وجودك، وأنا لا أؤمن إلا بالواقع، هؤلاء الماديون الجدليون، ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78)﴾ .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور