الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الأحاديث المتعلقة بسورة يس:
أيها الأخوة الكرام: مع الدرس الأول من سورة يس.
بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)﴾ ..
أيها الأخوة الكرام؛ قبل أن نشرع في تفسير هذه السورة الكريمة أورد لكم طائفة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعلقة بهذه السورة: قيل،: "اقْرَؤوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ"، ومعنى موتاكم أي الذين شارفوا على الموت، و: "ما من ميت يُقرأ عليه سورة يس إلا هون الله عليه"، هذا حديث آخر.
الأحاديث المتعلقة بفضل سورة يس على الأحياء قبل الأموات:
أما الأحاديث المتعلقة بالأحياء قبل الأموات فقد ورد: "مَنْ قَرَأَ يس فِي لَيْلَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ غُفِرَ لَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ" ، و: "إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا وَإِنَّ قَلْبَ الْقُرْآنِ يس" ..هذا حديث آخر، و: "إن في القرآن لسورة تشفع لقارئها ويغفر لمستمعها وهي سورة يس" ، و: "مَنْ قَرَأَ يس حِينَ يُصْبِحُ أُعْطِيَ يُسْرَ يَوْمِهِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَرَأَهَا فِي صَدْرِ لَيْلِهِ أُعْطِيَ يُسْرَ لَيْلَتِهِ حَتَّى يُصْبِحَ" ، إن قرأتها صباحاً فطول النهار أنت في يسر، وإن قرأتها ليلاً فطول الليل أنت في يسر، إذاً لابد من أن نحفظها، لابد من أن نقرأها صباحاً أو مساءً أو مرة في اليوم، وفي حديث آخر هذا الحديث مقطوع بمعنى أن صحابياً ذكره: "بلغني أنه من قرأ سورة يس ليلاً لم يزل في فرح حتى يصبح، ومن قرأها حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي" . هذه بعض الأحاديث الشريفة التي وردت في حق هذه السورة الكريمة.
تفسير كلمة يس:
﴿يس (1)﴾ النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام علي كرم الله وجهه يقول: إن الله تعالى أسماني في القرآن الكريم- أي سماني- محمداً وأحمداً وطه ويس والمزمل والمدثر وعبد الله:
﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)﴾
[ سورة الجن ]
فالنبي عليه الصلاة والسلام يذكر أن يس اسماً له، وقد جاء في بعض التفاسير أن الله عز وجل خاطبه بهذا الاسم.
وقد فسره بعض المفسرين با سليماً من العيوب، أي النبي معصوم عن كل خطأ، فهو سليم في قلبه، سليم في قوله، سليم في أفعاله.
طبعاً إضافة إلى قول بعض المفسرين أن هذه الحروف التي تفتتح بها بعض السور هي من نوع الإعجاز، أي من مثل هذه الحروف نُظِم القرآن.
وبعضهم قال: الله أعلم بمراده.
وقال بعضهم: يس اسم من أسماء الله عز وجل. وأغلب المفسرين على أن يس هي اسم للنبي عليه الصلاة والسلام، وقد وُجِّه هذا التوجيه يا سليماً من العيوب، يدل على ذلك: ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ﴾ فالكاف للخطاب: ﴿يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)﴾ ..
حكيم كلمة لها عدة معان منها:
1 ـ محكم في نظمه و معانيه:
﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)﴾ ربنا سبحانه وتعالى يقسم بالقرآن الكريم، هذا القرآن بهذا القسم وصف بأنه حكيم.
معنى حكيم أي مُحْكم في نظمه، مُحْكم في معانيه، محكم في بنائه، مُحْكم في مضمونه، مُحْكم في شكله، مُحْكم في فحواه، محكم لأنه من عند الحكيم:
﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)﴾
[ سورة هود ]
أي يوجد ترابط، يوجد نظم مُعْجز، يوجد معان متسلسلة، يوجد دقة متناهية، يوجد حكمة بالغة، هذا المعنى الأول: ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)﴾ أنه مُحْكم في نظمه، ومُحْكم في معانيه، ليس في نظمه خلل، وليس في معانيه خطل، ليس في نظمه ضعف، أو ركاكة، أو تناقض، أو تنافر، وليس في معانيه خطأ أو انحراف.
2 ـ كتاب ينطق بالحكمة:
المعنى الثاني للحكيم: أي ذو حكمة، أي كتاب ينطق بالحكمة، وما الحكمة؟ من باب التمثيل والتقريب: لو أن إنساناً عنده آلة يعاني من بعض المشكلات، ثم قرأ بعد حين تعليمات صانع هذه الآلة، فقال: ليتني قرأت هذا الكتاب، لو أنني قرأت هذا الكتاب لعرفت كيف أستعمله، لتلافيت كل متاعبي فيها، إذاً الحكمة هي حقيقة، لو أخذت بها لسعدت في الدنيا والآخرة، الإنسان أحياناً يكتشف الحقائق من خلال التجارب، وقد يدفع الثمن باهظاً، معظم الناس يقعون في شرّ أعمالهم، لكن بعد فوات الأوان قبيل الوفاة في خريف العمر، يقول: آه! ليتني أعرف الحقيقة في مقتبل حياتي.
العاقل من يستقي الحقائق من الخبير ليسعد في الدنيا والآخرة:
الإنسان كائن إما أن يستقي الحقائق من خبير فيهتدي بها ويتلافى الشقاء في الدنيا والآخرة، وإما أن يكتشفها بنفسه، اكتشاف الحقائق من خلال التجارب عملية فيها مغامرة وفيها مخاطرة، مثلاً لو أن قنبلة على الأرض، سألت نفسك: هل هذه قنبلة أم لا؟ قلت: سأختبرها بنفسي، لو أنك اقتربت منها لتختبرها فانفجرت لم يبق في الحياة وقت تستفيد من هذه الخبرة، دفعت الثمن باهظاً جداً لمعرفتها، أما لو جئت بخبير والخبير يعرفها ما إذا كانت موقوتة أو غير موقوتة، نُزِع فتيلها أم لم يُنزع، قنبلة حقيقية أو خلبية، فحينما تأخذ كلام الخبير تنجو، أما حينما تكتشف الحقيقة بنفسك ربما كان الثمن باهظاً جداً، فلذلك القرآن الكريم تعليمات الصانع: ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)﴾ أي والقرآن المفعم بالحكم، الحكم حقائق، لو أن الإنسان أخذ بها لسعد في الدنيا والآخرة، الإنسان في مقتبل حياته قد يظن المال كل شيء، وفي كهولته يظن المال شيئاً من الأشياء، لكن قبيل الموت يرى أن المال ليس بشيء، وأن طاعة الله هي كل شيء.
من عرف الحقائق آثر طاعة الله على كل شيء:
لو عرف أن طاعة الله هي كل شيء في مقتبل حياته لسعد في الدنيا والآخرة، المشكلة مشكلة وقت يا أخوان، عند الموت لابد من كشف الحقائق:
﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾
[ سورة ق ]
المشكلة أن تعرف الحقائق في وقت مناسب، أن تعرفها في مقتبل الحياة، قبل أن تتزوج، وقبل أن تختار مهنتك، وقبل أن تختار طريقك، لأنك إذا عرفت الحقائق آثرت طاعة الله على كل شيء.
لا يمكن للإنسان أن يسعد في حياته إلا بالاتصال بالله عز وجل:
﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)﴾ المعنى الأول: إنه محكم في نظمه، محكم في معانيه.
المعنى الثاني: القرآن الحكيم أي ذو حِكَم، مثلاً الله عز وجل قال:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾
[ سورة طه ]
هذه حقيقة، إذا ظننت لثانية واحدة أنه يمكن أن تسعد وأنت مُعْرِض عن الله عز وجل فهذا وهم كبير، وهذا خطأ فادح، أما إذا أيقنت وأنت في مقتبل الحياة أنه لا سعادة إلا بالاتصال بالله عز وجل، وأنه لا سعادة إلا بالإقبال عليه، ولا سعادة إلا بطاعته، هذه حقيقة أساسية، فإما أن تكتشف هذه الحقيقة في خريف العمر بعد فوات الأوان، وإما أن تقرأ قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ ..
لكل إنسان عند الله عز وجل معاملة خاصة تتعلق بإيمانه واستقامته:
إذاً معنى: ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)﴾ أي ذو حكم، فيه حقائق، مثلاً قد تتوهم أن الحياة بالذكاء، والشطارة، وكثرة الأموال، واغتنام الفرص، واقتناص المناسبات، ويفوتك أن التوفيق بالحياة أساسه الاستقامة، يقول الله عز وجل:
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾
[ سورة الجاثية ]
هذه الآية إذا قرأتها في مقتبل حياتك، وأيقنت بمضمونها، وعلمت أن الله لن يعامل المؤمن المستقيم كالمسيء الغافل الكافر، وأن لكل إنسان معاملة خاصة تتعلق بإيمانه واستقامته.
في القرآن الكريم حقائق تتعلق بسعادة الإنسان وصحته وكل ما يهمه:
﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)﴾ أي هذا القرآن ذو حكم، فيه حقائق تتعلق بسعادتك، تتعلق بصحتك:
﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)﴾
[ سورة الأعراف ]
في أي شيء، هذه حقيقة متعلقة بالجسم.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)﴾
[ سورة الحجرات ]
السخرية أحياناً تسبب كل المتاعب، طبعاً ليس المجال متسعاً لذكر الحكم التي في القرآن، القرآن طافح بالحكم، إذا قرأت القرآن، وكشفت الحِكم، أو القواعد، أو الثوابت، أو القوانين، أو السنن، هذه من عند خالق الكون، فإذا عرفتها في الوقت المناسب، وأخذت بها، سعدت بالدنيا والآخرة، وإن توهمت شيئاً خلافها كشفت بعد فوات الأوان أنك في خطأ كبير، ووهم كبير، هذا المعنى الثاني ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)﴾ أي ذو حكم.
3 ـ ذو حكمة في مخاطبة الإنسان:
والمعنى الثالث: ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)﴾ أي ذو حكمة في مخاطبة الإنسان، يخاطب عقله تارة، ويخاطب قلبه تارة، ويخاطب عقله وقلبه معاً تارة أخرى، يذكر له أخبار الأقوام السابقة كي تستخلص العِبَر والحقائق، يذكر ما كان قبل الحياة، وما سيكون بعد الممات، يذكر الدار الآخرة بمشاهد رائعة، مشاهد محببة عن أهل الجنة، ومشاهد مخيفة عن أهل النار، يذكر الآيات الكونية، فهو محكم في نظمه وفي معانيه، ذو حكم تنفعك في حياتك، وفي سعادتك، وهو ذو حكمة في التنويع في مخاطبة الإنسان، وفي الترفق به، في الإيجاز تارة، في الإطناب تارة أخرى، في التفاصيل، في أخبار الأمم السابقة، فيما سيكون، هذا كله متعلق بالحكمة.
القرآن الحكيم يدل الإنسان على أن النبي عليه الصلاة والسلام هو رسول الله:
ربنا عز وجل يقسم بهذا القرآن الحكيم المحكم، وذو الحكم، وذو الحكمة، يقسم بأنك يا محمد﴿لمن المرسلين﴾ و قد نستنبط من أن الدليل القاطع على أن النبي عليه الصلاة والسلام هو رسول الله هو هذا الكتاب الذي جاء به، حينما يمسك سيدنا موسى العصا فتنقلب ثعباناً مبيناً، أليس هذا دليلاً قاطعاً على أن هذا الإنسان هو رسول الله؟ لأنه جاء بشيء يعجز عنه كل البشر، كذلك نبينا عليه الصلاة والسلام جاء بهذا القرآن، فالقرآن الكريم والقرآن الحكيم والقرآن المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي إعجازه مستمر إلى يوم القيامة لقوله تعالى:
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)﴾
[ سورة فصلت ]
هذا القرآن الحكيم يدل على أنك من المرسلين، فالنبي رسول، هنا ليس المقام مقام تمييز رسول عن رسول، المقام أن هذا الإنسان الذي تعرفون نسبه، وتعرفون أمانته، وتعرفون صدقه، وتعرفون عفافه، وتعرفون ماضيه، وتعرفون نقاءه ونظافته، هو رسول الله، القرآن الذي بين يديه يؤكد أنه رسول رب العالمين.
مهمة النبي الكبرى إقناع الناس بأفعاله وكلامه:
﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)﴾ منهم، معنى ذلك أن الرسل كثيرون، وأن الله عز وجل اقتضت رحمته ألا يدع العباد معطلين عن الأمر والنهي، ألا يدع العباد معطلين عن توجيهات الخالق جلّ وعلا، فربنا عز وجل خالق رحيم، هو نور السماوات والأرض، لذلك خلقها ونورها بكتبه التي أنزلها على أنبيائه المرسلين: ﴿يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)﴾ إذاً النبي عليه الصلاة والسلام هو رسول الله، جاء بالحق من عند الله، عرَّفنا بحقيقة الكون، وحقيقة الدنيا، وحقيقة الإنسان، وما مهمة الإنسان في الدنيا؟ أين كان؟ وإلى أين المصير؟ لكن لا يكفي أن تكون مهمة النبي عليه الصلاة والسلام فقط مهمة إبلاغية، ليست فقط مهمة علمية، ليست فقط مهمة كلامية، مهمته الكبرى أنه قدوة، يقنعك بلسانه وبأفعاله.
انعدام قيمة الدعوة إلى الله إن لم يرافقها تطبيق عملي:
لذلك: ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)﴾ وهذه حقيقة مهمة جداً، أي ما قيمة الدعوة إلى الله إن لم تكن على أساس من التطبيق؟ ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)﴾
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)﴾
[ سورة فصلت ]
إذاً مهمة النبي عليه الصلاة والسلام كقدوة حسنة وأسوة حسنة ومثل أعلى لا تقل عن مهمته كمُبَلِّغ وكرسول.
المؤمن الحقيقي من استقام على أمر الله والتزم بما أمره:
لذلك جاء في هذه الآية هذا الجمع بينهما: ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)﴾ ويكفينا قول الله عز وجل:
﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)﴾
[ سورة هود ]
وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، أي هذا الذي يقوله عامة الناس: يا أخي أنا لست نبياً، من قال إنك نبي؟! إنك مؤمن، وأنت كمؤمن مأمور بالاستقامة على أمر الله عز وجل ﴿فاستقم كما أمرت ومن تاب معك﴾ من حيث الأعمال الصالحة افعل منها ما تطيق، ابذل بقدر استطاعتك، أما من حيث الاستقامة والالتزام لابد من أن تلتزم أمر الله عز وجل، حتى تستحق أن تكون مؤمناً مخاطباً كما خوطب النبي عليه الصلاة والسلام: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ (112)﴾، ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)﴾ .
النبي عليه الصلاة والسلام المَثَل الأعلى للإنسان:
يا أيها الأخوة الأكارم؛ القرآن الكريم يأمرنا أن نأخذ ما آتانا النبي:
﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)﴾
[ سورة الحشر ]
القرآن الكريم يجعل النبي عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾
[ سورة الأحزاب ]
إذاً أنت مأمور أن تأخذ بأقواله، وأن تتبعه بأفعاله، إذاً لابد من أن تعرف هذا النبي العظيم:
﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)﴾
[ سورة المؤمنون ]
لابد من أن تعرفه، من خلال أقواله، ومن خلال أفعاله، كي تأخذ أقواله كأمر ونهي، وكي تأخذ أفعاله كقدوة ومثل أعلى في حياتك، وكل إنسان له في حياته مثل أعلى، والمؤمن مثله الأعلى النبي عليه الصلاة والسلام.
على الإنسان أن يتعرف على أفعال النبي الكريم حتى يقتدي به:
الإنسان عادةً في ذهنه إنسان يُعَظِّمه، فإن كان من أهل الدنيا قلده في انغماسه في الدنيا، وإذا كان هذا المثل الأعلى النبي عليه الصلاة والسلام قلّده في أفعاله، وفي أقواله، النبي عليه الصلاة والسلام كيف يدخل على أهله؟ كيف كان متواضعاً؟ كيف كان حليماً؟ كيف كان عذب الروح؟ كيف يتصابى للصبيان؟ كيف إذا دخل بيته بساماً ضحاكاً؟ كيف كان يفعل مع أهله؟ مع إخوانه؟ مع أصحابه؟ كيف كانت مواعيده؟ كيف كان كلامه؟ كيف كان حياؤه؟ كيف كانت شجاعته؟ يجب أن تقرأ أقوال النبي حتى تأخذ بها كأمر ونهي وكمصدر تشريعي، ويجب أن تأخذ بأفعال النبي حتى تقتدي به.
نزول القرآن الكريم من عند خالق الكون:
إذاً: ﴿يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)﴾ هذا القرآن من عند مَنْ؟ ﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)﴾ من عند خالق الكون، العزيز.
العزيز كلمة لها عدة معان منها:
معنى العزيز الذي لا يُنال جانبه.
العزيز في اللغة: هو الذي يحتاجه كل شيء في كل شيء، ويصعب الوصول إليه.
العزيز هو الذي لا يُنال جانبه، هو الفرد الذي لا ثاني له، العزيز الرحيم ليس إلا الله عزيزاً، وليس إلا الله رحيماً، وهذا الكتاب من عنده، فالعزيز تشير إلى صفة العظمة، والرحمة تشير إلى صفة الكمال، فإذا أردت أن تلخص أسماء الله الحسنى كلها في ثلاث كلمات: الله موجود؛ إذا أيقنت بوجوده تقول: ما صفاته؟ تقول: عزيز، رحيم، أي قوي أي لا شريك له، كامل لا ند له، موجود وواحد وكامل.
الله عز وجل رحيم لا يدع عباده من دون إنذار وتوجيه:
﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)﴾ ، في بعض التفاسير توجيه لطيف جداً لهذه الآية: لتنذر قوماً إنذاراً كما أُنْذِر آباؤهم، هذه الـ (ما) موصولة، وليست نافية، لتنذرهم كما أنذر آباؤهم، لأن الله سبحانه وتعالى رحيم، لا يدع عباده من دون إنذار، فعباده يتلقون التوجيهات من الله والإنذارات بشكل مستمر: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا﴾ أي أهل مكة ﴿مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ﴾ لتنذرهم إنذارا كالذي أنذر به آباؤهم: ﴿فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ غافلون عن الله عز وجل، غافلون عما ينتظرهم من عقاب أليم، غافلون عما أُعِدّ لهم من نعيم مقيم، غافلون عن هذا التشريع العظيم.
من يُكَذب برسالات الله عز وجل يشقى في الدنيا والآخرة:
﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)﴾ أيها الأخوة؛ أتمنى على الله جلّ وعلا أن نفهم هذه الآية فهماً دقيقاً: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ﴾ أي قول هذا؟! ربنا سبحانه وتعالى له سنن في الحياة، وله قوانين، هذه نواميس الكون، هذه سنن الخلق، مثلاً: لو أن مادة تقول: إذا انقطع الطالب عن المدرسة أسبوعين يُفْصل، فإذا سأل مدير المدرسة أحد الموجهين: ائتني بدوام هذا الطالب، فجاءه بغياب سبعة عشر يوماً، يقول له: لا حول ولا قوة إلا بالله، لقد انطبقت عليه المادة الثانية من النظام الداخلي بوجوب فصله.
معنى ﴿حق القول على أكثرهم﴾ أي هذه السنن التي سنّها الله عز وجل، هذه القواعد التي قَعَّدَها الله عز وجل، هذه القوانين التي قننها الله عز وجل، هذه المبادئ التي وضعها الله عز وجل، تقتضي بأنه من يكذب برسالات الله عز وجل يشقى في الدنيا والآخرة.
الهلاك عاقبة من اتبع أهواءه ونزواته:
﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ﴾ حقت هذه القاعدة عليهم، انطبقت عليهم، هذا المعنى الذي يُفْهم من هذه الآية، لا كما يقول بعضهم: إن هذا الإنسان خُلِق كافراً، وقد حقّ القول عليهم أن يكونوا كفاراً.
ما معنى إذاً إنزال هذا الكتاب؟ مادام هذا الكافر ما كفر إلا لأن الله قدّر عليه الكفر وانتهى الأمر، ما معنى إبلاغه؟ ﴿لقد حق القول على أكثرهم﴾ أي القواعد التي قُعِّدت، القوانين التي قننت، النواميس التي سُنّت، الثوابت التي ثبتت، هذه انطبقت عليهم، ما هذه الثوابت؟ ما هذه القوانين؟ أن كل من يكذب برسالات الله عز وجل، ولا يعبأ بها، وينطلق في الحياة وفق شهواته، وأهوائه، ونزواته سيشقى في الدنيا والآخرة، سيهلك في الدنيا والآخرة.
من انحرف عن منهج الله عز وجل وُجِب له العقاب:
إذاً: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِم﴾ حق القول بأنه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا (124)﴾ حق القول بأنه:
﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)﴾
[ سورة يونس ]
لو أنك استنبطت القواعد التي قَعَّدها الله في القرآن الكريم لرأيت أنها تنطبق على هؤلاء، لو أن إنساناً ارتكب جريمة بقصد وتصميم وإصرار وسابق تصور، وجاء القاضي ليحاكمه، فقال له: المادة العاشرة من قانون العقوبات تنطبق عليك إذاً لابد من حكم الإعدام، ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)﴾ حقّ القول على أنهم إذا اتبعوا الشهوات لا يؤمنون، إذا انحرفوا عن منهج الله لا يؤمنون، إذا اتبعوا الشهوات ينحازون إلى شهواتهم، ويُعْرضون عن الحق، إذا اتبعوا الشهوات واستمرؤوها يرون الحق ثقيلاً عليهم إذاً يكفرون به، إذا جعلوا من شهواتهم دليلاً أنهم على حق كانوا في خطأ كبيرٍ.
من صدق برسالات الله سعد في الدنيا والآخرة ومن كذب بها دفع الثمن باهظاً:
﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)﴾ إذا غاب طالب، ولم يحضر الامتحان، نقول له: لقد انطبقت عليك مواد النظام الداخلي، وقد اقتضت ترقين قيدك هذا العام، هكذا المعنى!! فإما أن تُصَدق برسالات الله عز وجل فتسعد في الدنيا والآخرة، أمَّا إذا كذبتها فسوف تدفع الثمن باهظًا: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)﴾ كيف يؤمنون ولم يفكروا في هذا الكون؟ كيف يؤمنون ولم يبحثوا عن منهج الله عز وجل؟ كيف يؤمنون ولم يطبقوا منهج الله عز وجل؟ كيف يؤمنون وجعلوا من شهواتهم آلهة لهم؟ كيف يؤمنون وقد جعلوا مصالحهم هي التي توجههم إلى مستقبلهم؟
من رفض الحق قَبِل الباطل ومن رفض العقل سَيَّرته الشهوة:
﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)﴾ كأن الله جلّ جلاله في هذه السورة يبين لنا أنك إما أن تستجيب لرسالات الله عز وجل: ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)﴾ وإما أن يَحُق القول على الإنسان الذي رفض رسالات الله، ورفض منهج الله عز وجل، وسار في الدنيا وفق أهوائه، لقد حقّ القول عليه أنه لا يؤمن، الله عز وجل الآن يبين لنا أن هذا الكافر حينما أعرض عن ذكر الله، وحينما رفض رسالات الله، وحينما رفض منهج الله، وحينما انطلق في حياته وفق شهواته، وفق نزواته، وفق مصالحه، حينما فعل هذا، ما الذي حصل له؟ استحكمت فيه شهواته، الإنسان إما أن يقوده الحق، وإما أن تقوده شهواته، قلب الإنسان إما أن يمتلئ حباً لله، وإما أن يمتلئ حباً للدنيا، إما أن تكون عبداً لله، وإما أن تكون عبداً لشهوة أو لنزوة أو لإنسان لئيم، لا يوجد حالة وسط، فحينما رفض الإنسان الحق، قَبِل الباطل، حينما رفض الإنسان العقل سيّرته الشهوة.
تصوير حال الكافر الذي اتخذ من شهوته قدوة له:
الآن الله عز وجل يصور لنا حال هذا الكافر الذي أعرض عن الله عز وجل، وجعل إلهه هواه، وشهوته قائداً له، قال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)﴾ الأغلال وضعت في أيديهم، وسُحِبت أيديهم إلى أعناقهم، وحينما سُحِبت إلى أعناقهم، رُفِعت رؤوسهم، وغضوا أبصارهم، إنسان معطل عن أن يرى أمامه، مقيد عن أن يفعل شيئاً، أي الشهوات كالأغلال، يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، الشهوة غل، قيد: عن أبي هريرة رضي الله عنه:
(( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ. طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّع. ))
[ صحيح البخاري ]
سَعِد عبد الله عز وجل، فالشهوات أغلال، فالغارقون في الزنى، الغارقون في شرب الخمر، الغارقون في المخدرات، الغارقون في حبّ المال، الغارقون في حبّ النساء، هذه الشهوات جعلت منهم عبيداً مقيدين، عبيداً لشهواتهم، ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾ لكن جعلنا هذه على رأي علماء التفسير تحصيل حاصل، أي طبيعة الإنسان إن لم يستنر بنور الله سوف تقوده شهوته، إن لم يمتلئ قلبه حبًا لله سيمتلئ شهوة خبيثة، هذا قانون الله عز وجل، هذا من: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ﴾ .
من استحكمت به شهوته وجعل إلهه هواه خسر الدنيا والآخرة:
الآن الوعاء لابد من أن يكون ممتلئاً، فإذا فرغته من الهواء عندئذ عنده قابلية سحب أي شيء، فنفسك كالوعاء المفرغ من الهواء، إما أن يمتلئ حقاً، وإما أن يمتلئ باطلاً، إما أن يمتلئ قيماً، وإما أن يمتلئ شهوات، فلذلك حينما رفض الإنسان الحق، ورفض منهج الله، ورفض ما عند الله من نعيم مقيم، هذه النفس الفعّالة امتلأت شهوات مستعرة، حاله وقد استحكمت به شهوته، حاله وقد جعل إلهه هواه كإنسان قُيِّدت يداه، ورُبِطت إلى عنقه، فهو لا يستطيع أن ينظر أمامه، ولا أن يفعل شيئاً، لا يرى ولا يفعل، الإنسان إدراك وحركة، تعطل إدراكه فالشهوة حجاب، تعطلت حركته فالشهوة قيد: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)﴾ مقمح: أي رفع رأسه وأغمض عينيه، ورفع رأسه بسبب تقييد يديه إلى عنقه:
﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)﴾
[ سورة الإسراء ]
وصف دقيق، تشبيه تمثيلي لحال الكافر الذي رفض الحق واتبع الباطل، رفض العقل واتبع الشهوة، رفض حبّ الله عز وجل وأحبّ الدنيا، رفض أن يكون العقل رائده فجعل الشهوة قائداً له.
الشقي من ضيع دنياه وآخرته:
﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ(9)﴾ سدّ أمامهم يحول بينهم وبين سعادة الدنيا، وسدّ خلفهم يحول بينهم وبين سعادة الآخرة، بالإضافة إلى أنهم مقيدون لا يستطيعون حراكاً، ولا رؤية، شهوتهم أعمت أبصارهم، وقيدت أفعالهم، بالإضافة إلى ذلك جعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً، أراد الدنيا فشقي بها، وفاتته الآخرة، ضيع الدنيا والآخرة، سدّ أمامهم، عاشوا في الدنيا أشقياء، ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾ وحينما رُدُّوا إلى الله مولاهم الحق رأوا مصيرهم المحتوم في جهنم وبئس المصير، إذاً: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ ، وهذه حقيقة واضحة، اسأل أهل الدنيا، اسأل ملوك المال، اسأل عظماء الدنيا ممن جاءتهم الدنيا من كل جانب، هل أنتم سعداء؟ أنا أقول لكم وأنا متأكد من كلامي أنهم من أشقى الناس، لأن الله عز وجل يقول:
﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)﴾
[ سورة الروم ]
ما عرفوا حقيقة الدنيا، عرفوا ظاهرها، ظنوا أن المال فيها هو كل شيء، أو أن المتعة هي كل شيء، أو أن العلو في الأرض هو كل شيء، أو أن تألق الإنسان في سماء الشهرة هو كل شيء.
من أعرض عن الله عز وجل شَقِي في الدنيا قبل الآخرة:
لماذا ينتحر من بلغ أوج النجاح في حياته؟ لماذا ينتحرون؟ سمعت بالأخبار ملكة حاولت الانتحار ست مرات لماذا؟ الإنسان إذا أعرض عن الله عز وجل يصبح شقياً في الدنيا، ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)﴾ وصف دقيق، صورتان صارختان معبرتان لمن امتلأ قلبه بالشهوات، يداه مقيدتان تمنعانه من الحركة، مقيدتان إلى عنقه، ورأسه مرفوع يمنعه من أن ينظر، لا يدرك ولا يفعل، هكذا شأن الشهوة، أعمت بصره، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "حبك الشيء يعمي ويصم"، شهوته أعمت بصره، وقيدت حركته، شقيّ في الدنيا، وشقيّ في الآخرة، سدّ بينه وبين سعادة الدنيا، وسدّ بينه وبين سعادة الآخرة، هذا الذي يرفض رسالات الله: ﴿يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)﴾ ..
من آثر الدنيا على الآخرة سَوَاء محياه ومماته:
حينما انطبقت عليهم قوانين الله عز وجل، حينما رفضوا دعوة الله عز وجل، لم يستجيبوا لها، رفضوا منهجه، آثروا الشهوة، آثروا الدنيا: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)﴾ عندئذ ترى حالهم كحال الذي: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ(9)﴾ عندئذ ماتت قلوبهم:
﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)﴾
[ سورة النحل ]
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)﴾
[ سورة فاطر ]
عدم إيمان الإنسان الذي أغلق عقله وأدار ظهره للحق:
﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)﴾ ..
لقد أسمعت لو ناديت حيــاً ولكن لا حيـاة لمن تنادي
ونار لو نفخت بها أضاءت ولكنك تنفــــخ في رمـــاد
[ عمرو بن معدي كرب بن ربيعة الزبيدي ]
* * *
هذا معنى قول الله عز وجل: ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)﴾ أنت يا محمد تنذر مَنْ؟ إنما تنذر من اتبع الذكر، هذا الذكر.
من جعل القرآن أمامه قاده إلى الجنة:
هذا الذي قرأ القرآن فأحلّ حلاله وحرم حرامه، اتعظ بآياته، اعتبر بأخباره، هذا الذي قرأه ليلاً ونهاراً، هذا الذي قرأه قراءة كما أراد الله عز وجل، قرأه على النحو الذي أراده الله:
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)﴾
[ سورة البقرة ]
هذا الذي فهمه، هذا الذي تدبر معانيه، هذا الذي طبقه، قرأ وفهم وتدبر وطبق، هذا معنى: اتبع الذكر، هذا الذي جعل القرآن إماماً له، مَنْ جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار.
﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)﴾
[ سورة الفرقان ]
من اتبع القرآن الكريم سَعِد في حياته وبعد مماته:
يكفي أن تقول لإنسان قال الله عز وجل، يقول: يا أخي هذه الآيات ليس وقتها، هذا الكلام جعله وراء ظهره، يكفي أن يقول الله عز وجل:
﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)﴾
[ سورة البقرة ]
شخص خطب فتاة، الأب سأله: الأب واع جداً عندك بيت يا بني؟ قال: عندي، قال: أريد الطابو، أحضر ورقة الطابو، أريني البيت، رأى البيت، عندك سيارة؟ عندي، أين الميكانيك؟ أين السيارة ؟ رآها، عملك؟ قال: عندي معمل، أين الرخصة هي باسم من؟ فرآه مناسباً جداً، بيت وسيارة ومعمل فوافق، فمرةً دخل لعنده شخص قال: هذا صهري، نظر هذا الشخص وقال: هذا إنسان من غير ملتك، قال له: تعال إلى هنا، قال له: ما سألتني أنت عن ديني سألتني عن عملي وعن سيارتي فقط!! فالإنسان حينما لا يعبأ بكلام الله عز وجل، يدفع الثمن باهظاً والله يقول: ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ فالذي لا يتبع القرآن الكريم، قال:
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)﴾
[ سورة الإسراء ]
هكذا قال الله عز وجل.
علامة المؤمن أنه يتبع ما في القرآن الكريم:
الذي أريد أن أقول لكم: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ المؤمن دائماً وقّاف عند أمر الله عز وجل، في هذا الموقف ما أمر الله عز وجل؟ ما نهيه؟ ماذا يريد؟ ما الحكم الشرعي؟ ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ قبل أن تسافر، قبل أن تتاجر، قبل أن تتعين في هذه الوظيفة، هل هذه الوظيفة ترضي الله عز وجل؟ هل فيها نفع للمسلمين أم فيها إيذاء لهم؟ قبل أن تتاجر هل هذه التجارة مشروعة أم غير مشروعة؟ وقبل أن تمارس هذه التجارة المشروعة هل في هذه الممارسة انحراف عن الحق أم اتباع له؟ ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ أي علامة المؤمن أنه يتبع ما في القرآن الكريم، هذا الإنسان إذا أنذرته ارتعدت فرائصه، هذا الإنسان إذا أنذرته بادر إلى التوبة، هذا الإنسان إذا أنذرته استجاب لك.
الإنسان إذا فكر بالكون عرف الله عز وجل وعرف عظمته وقدرته:
﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾ أي في هذه الآية شيء متعلق بالإيمان بالله، الله عز وجل غاب عن أبصارنا، وغاب عن حواسنا، ولكن هذا الكون يدل عليه، إذا فكر في الكون عرف الله عز وجل، فخشيه بالغيب من دون أن يراه، العوام يقولون كلمة: الله لم ير بالعقل عرف، فالإنسان إذا فكر بالكون عرف الله عز وجل، فإذا عرف عظمته، وعرف جلاله، وعرف قدرته، وعرف رحمته، وعرف حكمته، وعرف أنه هو الفعّال، وأنه الواحد المتعال، وأن الكون كله بيده، خشيه، وهذا كلامه فاتبعه، هذا الإنسان الذي عرف الله متفكراً، واتبعه مستقيماً، هذا الإنسان إذا أنذرته تراه يعطيك أذناً صاغية، هذا الإنسان إذا ذكّرته بالله عز وجل ذكر، إذا خوّفته خاف، إذا بشرته استبشر، إذا حذرته يحذر، إذا أنذرته يتبع، يقف عند حده، قال: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ﴾ ..
من فكّر في ملكوت الله عز وجل آمن به واتبعه:
الله عز وجل قال:
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾
[ سورة القصص ]
كأن الله عز وجل يبلغنا بشكل غير مباشر، أي يا عبادي فكروا بالكون، وآمنوا بي حتى تخشوني، واقرؤوا القرآن واتبعوا ما فيه، حتى إذا ذكّرتكم ذكرتم، وإذا خوفّتكم خفتم، وإذا بشرتكم استبشرتم، وإذا حذرتكم وقفتم عند حدّكم: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)﴾ .
الإنسان إن استجاب لهذا القرآن أو لم يستجب لابد من أن يموت ويدفع الثمن باهظاً:
مرة ثانية: هذه السورة كما قيل: "إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا وَإِنَّ قَلْبَ الْقُرْآنِ يس" ، إخوة كثرً أتمنى على الله عز وجل أن يعطوا هذه السورة حقها.
﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى﴾ أي الإنسان إن استجاب لهذا القرآن أو لم يستجب لابد من أن يموت، لأن كل مخلوق يموت، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت:
والليل مهما طال فلابد من طلوع الفجر والعمر مهما طال فلابد من نزول القبر
[ صالح بن محمد بن عبد الله ]
* * *
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
فإذا حملت إلى القبــور جنـازة فاعـلم بأنـك بعدهـــا محمـول
[ كعب بن زهير ]
* * *
﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى﴾ أنت أيها الإنسان إما أن تستجيب أو لا تستجيب، إمَّا أن تتبع هذا الهدى وإما أن تتبع الشهوة، إمَّا أن تستجيب لله عز وجل وإما أن تستجيب للطواغيت من الإنس والجن، على كلّ: لابد من الموت وبعد الموت تدفع الثمن باهظاً.
من عرف الله عز وجل وأناب إليه أحياه الله بعد الموت:
﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى﴾ بعضهم فسر هذه الآية، أن الإنسان إذا كان ميتاً قلبه، ميتة نفسه، وعرف الله عز وجل وأناب إليه، يحييه الله بعد الموت:
﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)﴾
[ سورة الأنعام ]
هذا المعنى الآخر: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا﴾ ..
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)﴾
[ سورة النساء ]
﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)﴾
[ سورة الفجر ]
كل أقوال الإنسان وأفعاله مسجلة عليه ليحاسب يوم القيامة حساباً عادلاً:
﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)﴾
[ سورة الإسراء ]
كل أقوالك مسجلة، كل أفعالك مسجلة، كل نواياك مكشوفة عند الله عز وجل، كل أسرارك معلنة، كل طويتك منشورة، كل أفعالك ممهورة، هذا هو المرقوم، كتاب مرقوم: أي مُرَقَّم، لا تند عنه صفحة، وكتاب مرقوم من رَقْم، أي كل مخالفة مع صورتها، كأن الإنسان يوم القيامة تُعْرض عليه أعماله وكأنها شريط سينمائي، فعلت كذا، وقفت هذا الموقف، ذهبت إلى هذا المكان، كذبت هذه الكذبة، احتلت هذا الاحتيال، أخذت مالاً حراماً، اعتديت على أعراض الناس، كله مسجل: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)﴾ أحياناً المذنب يُصَور وهو لا يدري، فإذا دخل للتحقيق عرضوا عليه فيلماً عن كل حركاته المشبوهة، ماذا يفعل؟ يسكت، كذلك الإنسان يوم القيامة، فأنت إما أن تؤمن وإما ألا تؤمن، إما أن تتبع الهدى وإما أن تتبع الضلال، إما أن تكون الشهوة رائدك وإما أن يكون الحق رائدك.
من سنّ سُنَّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة:
على كل: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا﴾ ما قدموا من أعمال قبل أن يموتوا، ماذا فعلت؟ ماذا قدمت لآخرتك؟ ما العمل الذي ادخرته للقاء الله عز وجل؟ إذا قال الله لك: يا عبدي، ماذا فعلت في الدنيا ؟ أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه؟ أعطيتك جاهاً ماذا فعلت به؟ أعطيتك علماً هل أنفقته؟ كيف أفنيت شبابك؟ كيف أمضيت عمرك؟ ماذا عملت بما علمت؟ كيف اكتسبت مالك وكيف أنفقته؟ هكذا قال عليه الصلاة والسلام: عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عن عُمرِهِ فيمَ أفناهُ؟ وعن علمِهِ ماذا عمِلَ بهِ؟ وعن مالِهِ مِن أينَ اكتسبَهُ؟ وفيمَ أنفقَهُ؟ وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ؟ ))
[ صحيح الترغيب: حسن صحيح ]
﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾ الكلمة عند وآثارهم، أي هذه الفتاة التي أغواها فلان من الناس كان يمكن أن تكون زوجة صالحة، وأن تكون ربة منزل مثالية، وأن تكون في كبرها جدة، أغواها زيد من الناس فجعلها ساقطة، فأنجبت ذرية ساقطة، وقد تُنْجب إلى يوم القيامة مئات الألوف من الساقطات، كل هذا السقوط في رقبة من أغواها أول مرة، هذه آثارها. عن المنذر بن جرير:
(( مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَمِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ لا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا. ))
[ صحيح ابن ماجه ]
شيء مخيف، أي عمل فاسد، كل من فعله، كل من اقتدى به، كل من قلده، إلى يوم القيامة هذا من آثار العمل.
أضرب لكم مثلاً: رجل كان مسافراً من مكان إلى مكان، في الطريق اضطُر لإصلاح مركبته، صاحب هذا الكراج ما أتقن العمل، في الطريق قطعته مركبته، وكان الجو حاراً، أصابته ضربة شمس فمات، يحاسب هذا الإنسان على إهماله بحسب الآية، يحاسب على أن إهماله سبّب موت هذا الإنسان، ضع هذه الحقيقة في ذهنك، أي عمل تفعله ستحاسب لا عنه بالذات، لا عن حجمه، عن آثاره الخطيرة الخيرة أو الشريرة، الإيجابية أو السلبية، أحياناً الإنسان دون أن ينتبه يفعل شيئاً يُقَّلده الآخرون، فإذا قلدوه وكان مُبْطلاً في هذا العمل، فكل من قلده في صحيفته، هذا من آثار الأعمال.
كل إنسان ميت لا محالة وسيحاسب على أعماله ونتائجها:
﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾ أخطر ما في هذه الآية أنك تحاسب لا على المعصية فقط، على المعصية وآثارها، على الانحراف وآثاره، والآية واضحة جداً، فقبل أن تَسُنّ سنة سيئة، وقبل أن تنحرف انحرافاً بسيطاً، أنت أب أو معلم أو صاحب متجر أو صاحب معمل أو موظف كبير، يكفي أن الإنسان إذا قصر في أداء طاعة لله عز وجل على مرأى من أولاده يتبعونه، فمن آثار تقصيره انعكاس هذا التقصير على أولاده، يكفي أن تسلك سلوكاً منحرفاً في تجارة وأنت يشار لك بالبنان في هذا السوق، فإذا اتبعك التجار في هذا الغش، أو في هذا الاحتيال، أو في هذه الطريقة في كسب المال، فــ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾ أي أنت إن استجبت لله عز وجل فلك، وإن لم تستجب فعليك، لابد من الموت، ولابد بعد الموت من حساب دقيق، ولابد من أن تحاسب لا عن أعمالك فقط، بل عن نتائجها، لا عن انحرافاتك فقط بل عن أبعادها ومضاعفاتها.
من أفسد عقيدة الناس وأخلاقهم تحمل وِزر من اتبعه إلى يوم القيامة:
قال تعالى:
﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)﴾
[ سورة المائدة ]
إذا شخص أضلّ إنساناً، هذا الضال قد يُضِل أقواماً، إذا أنت أفسدت عقيدة إنسان يعمل في التعليم مثلاً، علّم ثلاثين سنة، عنده كل سنة خمس شعب، خمس ضرب خمس الناتج مئتين وخمسين طالباً بثلاثين سنة أفسد حوالي عشرين ألف إنسان، أفسد عقيدتهم، إذا ألقى الشبهات، أنت أفسدت عقيدة واحد فقط، هذا الواحد صار مدرّساً، دخل على الطلاب وألقى هذه الشبهات في أذهانهم، فكل هؤلاء الطلاب في صحيفة المُفسد الأول، إن كان إفساد عقائد، إن كان إفساد أخلاق، إن كان إفساد فتيات، إفساد شباب، يكفي شاب إنسان يفسده في بعض المخدرات، هذا الشاب ومن أفسد ومن اتبعه وأسرته كله في صحيفة الأول.
على الإنسان أن يعدّ للمليون قبل الإقدام على أي عمل لأنه سيحاسب عليه:
الآية خطيرة جداً أيها الأخوة؛ ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾ قد يكون العمل صغيراً في مظهره، لكن كبير في آثاره، ومعظم النار من مستصغر الشرر، قد تكون أنت أردت أن تستمتع ببعض الشهوات قليلاً على مرأى من أولادك، أنت الأب أفسدتهم وأنت لا تدري، فقبل أن تُقَصر في أمر إلهي، قبل أن تقترف مخالفة للقرآن الكريم نصّ عليها القرآن الكريم عُدْ للمليون، لأن آثار العمل محاسب عليها ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)﴾ .
الأحاديث المتعلقة بهذه السورة الكريمة:
أيها الأخوة الأكارم؛ في ختام هذا الدرس أُلقي على مسامعكم بعض الأحاديث الشريفة المتعلقة بهذه السورة الكريمة: قيل: "مَنْ قَرَأَ يس فِي لَيْلَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ غُفِرَ لَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ" ، و: "من قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن" ، و: "إن في القرآن لسورة تشفع لقارئها ويغفر لمستمعها وهي سورة يس" ، و: "مَنْ قَرَأَ يس حِينَ يُصْبِحُ أُعْطِيَ يُسْرَ يَوْمِهِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَرَأَهَا فِي صَدْرِ لَيْلِهِ أُعْطِيَ يُسْرَ لَيْلَتِهِ حَتَّى يُصْبِحَ" ، و: "من قرأها نهاراً كُفِيَ همه ومن قرأها ليلاً غُفِر ذنبه" . و: "من قرأ سورة يس ليلاً لم يزل في فرح حتى يصبح، ومن قرأها حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي" ، و: "ما من ميت يُقْرأ عليه سورة يس إلا هون الله عليه" ، و: "اقْرَؤوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ" ، هذه بعض الأحاديث التي وردت في كتب التفسير حول قيمة هذه السورة.
إذاً لابد من أن تُحْفظ، وأن تقرأ في كل يوم صباحاً أو مساء أو صباحاً أو مساءً، والذي يلفت النظر أن فيها من كل موضوع، فيها آيات كونية، وفيها ذكر لما بعد الموت، وفيها بيان لرسالة النبي عليه الصلاة والسلام، وفيها بشارة، وفيها إنذار، النبي عليه الصلاة والسلام قال: هي قلب القرآن.
وأرجو الله تعالى في دروس قادمة أن يعيننا على فهمها وفهم ما تنطوي عليه من حكم ومن دلالات والله الموفق.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين