- أحاديث رمضان
- /
- ٠13رمضان 1427هـ - صلاح الأمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الإخوة الكرام، مع درس جديد من دروس صلاح الأمة في علو الهمة:
الورع:
1 – بين الورِع والمخلِّط:
والموضوع اليوم الورع.
(( وركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط ))
2 – مَن هو المخلِّط:
والمخلط هو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وهذا حال معظم المسلمين، المسلمون بمجموعهم قلما يرتكبون جريمة قتل أو جريمة الزنا، أو جريمة شرب الخمر، أو ما شاكل ذلك، لكن معظم المسلمين وقعوا في الشبهات خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
2 – حجاب الشبهات وحجاب المعصية:
إن الشبهات تحجب عن الله، والحجاب عن الله بفعل الشبهة يساوي الحجاب عن الله بفعل الكبيرة، لأن المؤدى انقطاع عن الله عز وجل، لكن الذي ينقطع عن الله لأسباب صغيرة يندم أشد الندم، إنه لم يرتكب جريمة حتى يحجب عن الله، ارتكب شبهات هي صغائر في ظنه، فلما أصر عليها انقلبت إلى كبائر، بمعنى أنك إذا كنت على طريق عريض، وعن يمينه واد سحيق، وعن يساره واد سحيق، لو حرفت المقود سنتمترا واحدا، وثبت هذا الانحراف كان المصير في الوادي، إنما الكبيرة أن تحرفه تسعين درجة فجأة، الصغيرة أن تحرفه سنتمتراً، وأن تثبت هذا الانحراف، فمصير الصغيرة التي أصررت عليها كمصير الكبيرة.
لذلك أيها الإخوة، الشيطان يئس أن يعبد في أرضكم، ولكن رضي فيما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم.
هناك صغائر، ومخالفات، و تقصير، وحجاب، السبب أن التقصير والمخالفات والصغائر أدت إلى حجاب، و والكبائر تؤدي إلى حجاب، المحصلة أن العبد محجوب عن الله عز وجل.
أحاديث نبوية عن الورع:
الحديث الأول:
أيها الإخوة الكرام، الحديث عن الورع حديث طويل، من أقوال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( كن ورعاً تكن أعبد الناس ))
وفي حديث آخر يقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع ))
الدين مستويات، أعلى هذه المستويات الورع، وقد جمع النبي عليه الصلاة والسلام الورع كله في كلمة واحدة فقال:
(( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ))
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
(( إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة ))
والورع أفضل العبادة.
أقوال اللعلماء في الورع:
1 – قول إبراهيم بن أدهم:
وقال إبراهيم بن أدهم: " ما أدرك من أدرك إلا من كان يعقل ما يدخل في جوفه ".
أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، كيف يكون الطعام طيباً ؟ إذا اشتريته بمال حلال، وكيف يكون المال حلالاً ؟ إذا كسبته بطريقة مشروعة.
والله التقيت بإنسان توفي ـ رحمه الله ـ والد صديقي، زرته في العيد، قال لي بالحرف الواحد: والله أنا عمري ستة وتسعون عاماً، وقد أجريت تحليلات كاملة قبل أيام، الجواب كل النسب طبيعية، ثم قال: والله لا أعرف الحرام، لا حرام المال، ولا حرام النساء في حياتي.
2 – قول التستري:
يقول بعض العلماء التستري: " ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام ".
3 – قول الحسن البصري:
والإمام الحسن يقول: " يؤتي الحكمة من يشاء "، أي الورع.
رأس الحكمة أن تكون ورعاً.
4 – قول آخر لبعض العلماء:
وسئل أحد العلماء: " ما تقول في الورع ؟ قال: رأس الأمر كله ".
نقل عن السيد المسيح ما معناه: " لو صليتم حتى تصيروا مثل الحنايا، وصمتم حتى تكونوا أمثال الأوتاد " وجرى من أعينكم الدموع أمثال الأنهار، ما أدركتم ما عند الله إلا بالورع ".
5 – قول آخر :
وقال بعض العلماء، وقد سأله أحدهم، قال له: " عظني، فأخذ حصاة من الأرض، فقال: زنة هذه من الورع يدخل قلبك خير لك من صلاة أهل الأرض، قال: زدني، قال: كما تحب أن يكون الله لك غداً كن له اليوم ".
مستويا الورع:
أيها الإخوة الكرام، حديث الورع حديث طويل، ولكن الإمام الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ صنف الورع في أربعة مستويات.
المستوى الأول: ورع العدول:
تعرفون أيها الإخوة أن الإنسان المؤمن يتصف بصفتين، الضبط والعدالة، الضبط أن يكون واعياً، قدراته العقلية جيدة، لذلك لا يقبل حديث شريف من إنسان لا يتمتع بالضبط، قد يزيد كلمة، أو قد ينقص كلمة، أما العدالة فهي الاستقامة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته ))
قالوا: فإن عاملهم فظلمهم، أو حدثهم فكذبهم، أو ائتمنوه فخانهم سقطت عدالته، سقطت ـ بالتعبير المعاصر ـ حقوقه المدنية، لا تقبل له شهادة.
العدالة بين السقوط والجرح:
لكن العلماء أدرجوا حالات كثيرة لا تسقِط العدالة، لكنها تجرحها، تماماً كما لو عندك آنية زجاجية، إما أن تحطمها بمطرقة، أو أن تشعر.
ما يسقِط العدالة:
عندنا سقوط عدالة بالكذب، والظلم، والخيانة ز
ما يجرح العدالة:
وعندنا جرح عدالة.
ـ مما يجرح العدالة أكل لقمة من حرام، أنت لا تنوي أن تشتري هذه الفاكهة، لكنك أكلت قطعة منها موهماً البائع أنك تتذوقها، وفي نيتك ألا تشتري، بل أكلت لقمة واحدة، لقمة واحدة من حرام تجرح العدالة.
ـ تطفيف بتمرة، ألقيت الحاجة في الكفة بقوة، فرجحت، فأمسكتها، وقدمتها للشاري، الميزان لم يستقر، رجحت الكفة بفعل قوة الاندفاع، طففت بتمرة تجرح عدالتك.
ـ من أكل في الطريق.
ـ من بال في الطريق.؟
ـ من مشى حافياً.
ـ من علا صوته في البيت.
ـ من تنزه في الطرقات، لأن في الطرقات كاسيات عاريات.
ـ من كان حديثه عن النساء وعن أشكال النساء وعن خصائص النساء.
ـ من أطلق لفرسه العنان، أسرع في مركبته السرعة الزائدة تجرح العدالة.
ـ من قاد برذوناً، أي ربى حيواناً مخيفاً يمشي في الطريق مع هذا الحيوان يخيف الأولاد، أو اقتنى كلباً كبيراً، وبيته أرضي على مدخل البناء وفيه أطفال، مثل هذا الإنسان تجرح عدالته، لذلك عدّ العلماء أكثر من ثلاثة وثلاثين صنفاً تسبب جرح العدالة.
فورع العدول يعني أن كل مؤمن يجب أن يتصف بالعدالة والضبط، الضبط إدراك والعدالة نزاهة، وكل مؤمن ينبغي أن يكون عدلاً وضابطاً، ومن أساء الظن بأخيه فكأنما أساء الظن بربه.
ورع العدول هو الورع الذي يجب الفسق باقتحامه، هناك فتوى لو لم تعبأ بها لكنت فاسقاً، هذه أدنى مستوياتها، دفعت ثمن البضاعة، وردّ لك البائع التتمة، فإذا هي تزيد على ما تستحق، لكنك تابعت المسير، طبعاً حرام أن تبقي هذا المبلغ في جيبك، هذا ورع أدنى أنواع الورع، لأنك لو لم تفعل ذلك لاقتحمت باب الفسق، وهذا الذي صعد المركبة في بريطانيا، وأعطى السائق ورقة نقدية كبيرة، ورد له التتمة عدها، فإذا هي تزيد عشرين بنساً على ما يستحق، وهو إمام مسجد، قال: سأرد التتمة إليه، وجلس على أحد المقاعد، فجاءه خاطر، إنها شركة عملاقة، وإن دخلها فلكي، والمبلغ يسير، وأنا بحاجة إليه، فلا علي أن آخذه، لكن لما أراد أن ينزل دون أن يشعر مد يده، ونقد الشائق هذه الزيادة العشرين بنساً، ابتسم السائق، وقال له: ألست إمام هذا المسجد ؟ قال: بلى، قال: والله حدثت نفسي قبل يومين أن أزورك في المسجد لأتعبد الله عندك، ولكنني أردت أن أمتحنك قبل أن آتي إليك، وقع هذا الإمام مغشياً عليه، لأنه تصور عظم الجريمة التي كاد يرتكبها لو أبقى المبلغ في جيبه، الحد الأدنى الأدْنى من الورع أنك إن لم تكن بهذا المستوى من الورع فأنت فاسق، هذا اسمه ورع العدول، تسقط به العدالة، ويثبت اسم العصيان، ويتعرض للنار، وهو الورع عن كل ما تحرمه فتاوى الفقهاء، هذا الحد الأدنى الذي ينبغي أن تتمتع به من الورع، يقابله الحرام، يعني تركت الحرام فقط، الواضح الجلي، كإنسان دخل إلى مطعم، وأكل، ولم يدفع الثمن، لو قال: نسيت فلا مانع، عُد وادفع الثمن، لم يعبأ دخل بأكل المال الحرام، هذا الورع الأول.
المستوى الثاني: ورع الصالحين:
الورع الثاني هو ورع الصالحين، وهو الامتناع عما يتطرق إليه احتمال التحريم، ولكن المفتي يرخص في التناول بناء على الظاهر.
الإشارة حمراء، وتابع السير في الليل، فإذا بشرطي يكمن للمخالفين، ضبطه بمخالفة، أعطاه مبلغاً من المال كرشوة، يقول لك: هذه الرشوة بلوى عامة، لا، كان بإمكانك أن تتقيد، لكنك آثرت أن تتجاوز، فلما ضبطت دفعت رشوة لست مضطراً أن تدفعها، الفتوى عند الضرورة من أجل أن تتلافى ظلامة يمكن أن تدفع المال، لكن هذه ليست ظلامة، أنت بإمكانك أن تتلافى هذه المخالفة، هذا الورع ورع الصالحين، كان من الممكن أن تتلافى، وما تلافيت، وقعت في ظلامة، وقد تكون حجز مركبة، وقبيل العيد، وأنت بحاجة إليها، ولكنك خالفت، طبعاً هناك أمثلة كثيرة.
هناك حالات نادرة جداً، أن إنساناً أمين صندوق جمعية تعاونية معه مئة مليون، أين يضعها ؟ هناك فتوى بوضعها في البنك، لكن حينما تدفع المبلغ، وفي مكان آمن مئة بالمئة، فأنت معك فتوى، لكنك كان من الممكن ألا تحتاج إلى هذا الوضع، هذا ورع الصالحين.
المستوى الثالث: ورع المتقين:
أما ورع المتقين فما لا تحرمه الفتوى، ولا شبهة في حله، ولكن يخاف منه أداءه إلى محرم.
هناك جهاز مفيد جداً، وفيه ضرر كبير، وأنت واثق من نفسك أنك لا تستخدمه إلا في الوجهة الصحيحة، لكن يمكن أن يأتي ضيف أو أن يستخدم في غيبتك هذا الجهاز في جهة أخرى، مادام تحت السيطرة، وأنت تمسك به فما مِن مشكلة، لكن يمكن أن يتطرق احتمال أن يستخدم هذا الجهاز في وجهة لا ترضي الله، هذا الورع الثالث ورع المتقين، وهو ما لا تحرمه الفتوى، ولا شبهة في حله، ولكن يخاف منه أداءه إلى محرم، وهو ترك ما لا بأس به مخافة مما به بأس، وهذا ورع المتقين.
التورع عن الطعام المشبوه:
أخذ الحسن رضي الله عنه تمرة من الصدقة، وكان صغيراً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: كَخ كخ، ألقها، طفل غير مكلف، واشتهى تمرة، لكن النبي أدّبه بأدب الإسلام، هذا من مال الصدقة، ويروى أن النبي عليه الصلاة والسلام وجد تمرة على سريره، فقال: يا عائشة، لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها.
قد يأتيه طبق من تمر الصدقة، وقعت منه هذه التمرة، فقال:
(( لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها ))
فهذا ورع المتقين.
التورع عن الزينة:
من ذلك: التورع عن الزينة، لأنه يخاف منها أن تدعو إلى غيرها، وإن كانت الزينة مباحة في نفسها.
هناك أشياء حلال مئة بالمئة، لكن فيها احتمال أن يتطرق إليها الحرام، فتركها ورع المتقين.
من هذا الورع امتنع الإمام أبو حنيفة عن أن يستظل بظل بيت مرهون عنده.
بالمناسبة، الرهن ينبغي ألا ينتفع به، فإذا انتفع به اقترب من الربا، فأبو حنيفة النعمان ورعه دعاه إلى ألا يستظل بظل بيت مرتهن عنده.
ومرة ثانية أيها الإخوة،
(( وركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط ))
ومرة ثالثة: من لم يكن له ورع يصدّه عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله.
(( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ))
والنص الآخر: ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام.
لأنك إذا كنت ورعاً كان الطريق إلى الله سالكا، والخط بينك وبينه سالكا، وهاتفك فيه رنة إذا كنت ورعا، وإذا لم يكن لك ورع فهو مقطوع الخط، مهما كان هاتفك غاليا، وله قيمة، مادمت بورع فالخط ساخن، وهناك اتصال مع الله عز وجل.
قليل من الورع خير من كثير من العبادة، لأن الورع موصول، والدين كله اتصال بالله عز وجل، وغير الورع محجوب، ولو أدى عبادات ظاهرة.
خلاصة الورع:
أهم شيء ورع المال، الورع كله يلخص بكلمة واحدة: يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، وأشد أنواع الورع في الدخل، حرر دخلك من الحرام، والمعاصي كلها تنصب في حقلين، معاصي كسب المال، ومعاصي النساء، فكل الورع في هاتين الحقلين، فكن عفيفاً، ولا تنظر إلى الحرام نظرة ريبة، وكن ورعاً في كسب المال، والله عز وجل يكافئ الورع مكافآت كبيرة جداً، وهو أساس الدين الورع.