وضع داكن
28-03-2024
Logo
تربية الأولاد إصدار 1994 - الدرس : 25 - التربية الإجتماعية -12- آداب المزاح
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 


 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الأخوة المؤمنون مع الدرس الخامس والعشرين من دروس تربية الأولاد في الإسلام ننتقل إلى أدبٍ جديد وهو أدب المزاح.

آداب المزاح:

  الحقيقة حياة المؤمن ليست قاسية، فحياته فيها مرح وتفاؤل وسرور وثقة بالله عزَّ وجلَّ، وفيها تودد وحب، فالمزاح أحياناً يعبِّر عن هذه، المزاح والود له فوائد كثيرة فهو يؤلّف القلوب ويجمع الشمل ويجعل الجو لطيفاّ، فالأب الذي في بيته شيء من المرح وشيء من المزاح وشيء من التسامح يصبح بيته كالجنّة.
 أما البيت الذي فيه قسوة وعبوس ومتابعة ونوع من السيطرة القمعيّة، هذا البيت أمنية الأولاد فيه أن يخرج أبوهم من البيت، فنجاحك في البيت مؤشّره أن يتمنّى أولادك أن تكون بينهم، وعدم نجاحك في البيت أن يتمنّى أولادك أن تكون بعيداً عنهم.
 كان النبي عليه الصلاة والسلام هو القدوة في البيت كواحد منهم، في التواضع والعفويّة وعدم التكلُّف وعدم القمع وعدم التصنُّع وهذا يجعل البيت روضة من رياض الجنّة، أما إذا دخلت السيطرة والقمع والعبوس والجديّة المستمرّة، فهذا من شأنه أن يُنفّر الأولاد من أبيهم.
في الحقيقة المزاح له آداب، والمزاح شائع بين الناس جميعاً ولكنّه كالملح في الطعام ـ دققوا في هذا المثل ـ فالملح في الطعام إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه.
 قد تحدث أخطار كبيرة بسبب المزاح نحو ضعف الهيبة، والاستخفاف، وعدم المبالاة، والتساهل، والتسيّب، وهذه من آثار المزاح السلبيّة، لكن كالملح في الطعام إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه.

1ـ أول أدب من آداب المزاح عدم الإكثار منه:

  أول أدب من آداب المزاح عدم الإكثار منه، أي لو جلس الإنسان ساعة من الزمن وروى طرفة أو طرفتين فلا بأس، أما طرفة ووراءها أخرى فليس هكذا، فإذا أكثرت من المزاح ذهبت هيبتك، واستخفّ بك، وأقول مرّة ثالثة فهو كالملح في الطعام إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه.

 

(( لست من دَدٍ ولا دَدٌ منّي ))

 

[ رواه البخاري والبيهقيُّ عن أنس بن مالك رضي الله عنه]

  ما معنى: دَدٍ ؟ قال: لست من أهل اللعب واللهو.
 المؤمن له مهمّة وهدف كبير في الحياة، يحمل رسالة وهدفه أن ينشر الهدى، لذلك يأتي المزاح كواحة في الصحراء فالدرب شاق وطويل من الحرّ والرمال، لكن إذا اشتدّ التعب فيأتي المزاح كواحة وكاستراحة يرتاح بها المؤمن ليستأنف السير، فإذا كثر المزاح أصبح الأمر على خلاف ما هو مطلوب،  إذاً:

 

(( لست من دَدٍ ولا دَدٌ منّي ))

 

[ رواه البخاري والبيهقيُّ عن أنس بن مالك رضي الله عنه]

 أي لست من أهل اللهو والمزاح والفكاهة والضحك.

 

الجوانب المتنوِّعة من علامات الشخصيّة المتفوِّقة:

 

 كيف أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(( إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين. ))

[أحمد عن معاذ رضي الله عنه]

  المؤمن يتنعّم ولكن ليس التنعُّم هدفاً استراتجياً من أهدافه، لا فالهدف الأساسي مرضاة الله عزَّ وجلَّ ويأتي التنعُّم عرضاً، وهدفه نشر الحقّ وتأدية الرسالة وحمل الأمانة، لكن يأتي المزاح ليلطّف الجو جو الأسرة، فالمدرس الناجح يمزح مع طلاّبه، والطبيب الناجح تجده مرحاً، وقد تجده يصعب الأمر فيزداد المريض مرضاً، وتجد طبيباً مؤمناً بالله فيطرح طرفةً ويؤانس المريض ويطمئنه، ويعطيه أملاً فيشفي الله عزَّ وجلَّ المريض بسبب هذه المعنويّات المرتفعة، فالمزاح يجب أن يكون في كلِّ مجال ولكن كالملح في الطعام إذا زاد عن حدِّه انقلب إلى ضدّه.
 سأذكر لكم نقطة دقيقة، الحقيقة من السهل أن تكون متطرِّفاً، ومن السهل أن ترخي العنان، مزاح وضحك، ومن السهل أن تكون قاسياً جبّاراً في البيت، التطرُّف سهل ولكنّ البطولة أن تجمع بينهما، البطولة أن تكون بين الإفراط والتفريط، أن تكون بين القسوة والقمع وبين التسيُّب، كان أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يترامون أحياناً.
 أحياناً يكون الثلج متساقطاً وترى الناس يتقاذفون به كنوع من المرح، لكن إذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال، فالإنسان العظيم يمزح ويكون مرحاً مع أصدقائه وأهله وأخوانه، لكن إذا جدّ الجد كان كما قال ابن المقفّع: " فهو الليث عادياً "، وقد ذكر أحد أصدقائه فقال: " من أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما عظّمه في عيني صغر الدنيا في عينيّه، كان خارجاً عن سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان خارجاً عن سلطان الجهالة فلا يتكلّم بما لا يعلم، ولا يماري فيما علم، وكان أكثر دهره صامتاً، فإذا جدَّ الجدُّ فهو الليث عادياً ".
 أي أنّ الشخصيّة العظيمـة تجدهـا متنوّعـة الجوانب، ففي البيت وديعاً، ومع أصدقائه متواضعاً، وفي حديثه مزح وطرافة، وإذا جدَّ الجدُّ فهو الليث عادياً، الجوانب المتنوِّعة من علامات الشخصيّة المتفوِّقة.

 

أخطر ما في المزاح أن يمسّ إنسان أو يجرحه:

 

 النبيُّ عليه الصلاة والسلام نهانا عن الإكثار من المزاح.
 سيّدنا عمر رضي الله عنه يقول: " من كَثُرَ ضحكه قلّت هيبته، ومن مزح استُخِفّ به ".
 ولاسيّما المناصب القياديّة، كالمعلِّم في صفّه، أو الطبيب في المشفى، أو المدير العام، فإذا أكثر من المزاح استخفّ به، وقلّت هيبته، وإذا كان القمع هو ديدن هذا الإنسان نفر الناس منه، فإذا كان الإنسان قاسياً وقمعيّاً تجد في غيبته من يسخر منه ويتندّر به ويكال له الشتم، أما إذا كان مرحاً وواقعياً وطبيعياً وكانت معاملته فيها لطف ورحمة، تجد الثناء يكال له كيلاً في غيبته.
 الحقيقة أنّ مقياس نجاحك في عملك وفي بيتك لا ما يقال في حضرتك، فأغلب الناس يجاملون، ولكن مقياس نجاحك هو ما يقال عنك في غيبتك لا في حضرتك.
 الآن أخطر ما في المزاح هو أن يمسّ إنسان أو يجرح إنسان أو يوجّه المزح لشخص فيمزح على شكله، أو على عاداته، أو على ما فيه من طباع، أو على مهنة من المهن، ولذلك على المعلّمين أن يكونوا دقيقين جداً فليس من حقِّ المدرّس أن يتناول مهنة بالسخرية على الإطلاق، لأنّه ما من مهنة إلا  ويمكن أن توظّف في طاعة الله، فليس للمعلّم أو المربّي أو الأب أن يتناول حرفةً بالسخرية، أو أن يتناول إنساناً ويذكر عيباً من عيوبه، فهذه أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي قالت عن أختها وضرتها أنّها قصيرة. فقال النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم:

(( لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته. ))

[أبو داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها]

  المزاح إذا مسّ إنساناً في شكله، أو طبعه، أو بعض صفاته، أو مسّ فئةً أو جهةً أو قطاعاً، فالإنسان يعظم عند الله بمعرفته وطاعته، وقد يوجد بعض الأشخاص الذين يتندّرون من فئات معيّنة، أو الذين يسكنون أماكن معيّنة، أو من حرف معيّنة، وهذا من الجاهليّة، وقد قال أحد الصحابة لغلامه: يا ابن السوداء، فقال له النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم:

 

(( إنّك امرؤٌ فيك جاهليّة. ))

 

[متفق عليه عن أبي ذر رضي الله عنه]

الإنسان يعلو بطاعته ويسفل بمعصيته:

 الإنسان إما رحماني أو شيطاني، فلمجرّد أن تقدح بإنسان أو بفئة أو بقطاع أو بطبقة أي قدح فهذه جاهليّة جهلاء، لذلك أنا أقول كلمة: المؤمن لا يمكن أن يضاف على اسمه ولا كلمة، مؤمن تحبُّه غنياً، تحبُّه فقيراً، تحبُّه متعلّماً، تحبُّه غير متعلّم، تحبُّه حرفياً، تحبُّه من المدينة، تحبُّه من الريف، لأنّه مؤمن وقد هذّبه الإيمان وارتقى وسما به، وتخلّق بأخلاق الإسلام، لذلك أيّ كلمةٍ تضاف إلى كلمة مؤمن جاهليّةٌ جهلاء، فقد قال عليه الصلاة والسلام له:

(( إنّك امرؤٌ فيك جاهليّة. ))

[متفق عليه عن أبي ذر رضي الله عنه]

  لأنّه قال له: يا بن السوداء، لا يكون القدح بلون ولا بجنس ولا بعرق ولا بشعب ولا بأمّة ولا بطبقة ولا بحرفة ولا بأهل حيّ ولا بأهل عشيرة، وأساس الحروب والمآسي والدماء عبارة عن افتخار لا أصل ولا وجود له، كان العرب في الجاهليّة يمدُّ أحدهم رجله ويقول: من كان أشرف منّي فليضربها، فيقوم إنسان فيضربها فتنشب حرب قد تدوم عشر سنين، الهدف سخيف والسبب أسخف.
 يا أخوتي الكرام المؤمن الراقي يعيش عمره كلّه فلا يطعن بإنسان، ولا بحرفة، ولا بشعب، ولا بأُمّة، ولا بحقبة، ولا بمذهب ـ فلان كذا، ولا يطعن بطبقة من الطبقات فالإنسان يعلو بطاعته ويسفل بمعصيته فإذا لم يكن مقياسك قوله تعالى:

 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكـُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13) ﴾

 

( سورة الحجرات: آية " 13 " )

  إذا لم يكن مقياسك قوله تعالى:

 

﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13) ﴾

 

( سورة الحجرات )

  فأنت لست مؤمناً، لذلك فالمزاح مندوب بين الأهل والأقرباء، والأخوة والأصدقاء بشرط ألا يكون فيه أذىً لأحد، أو استخفاف بمخلوق، فأحياناً يمزح الأخ مع أخيه فيجرحه، فيجوز أن يضحك أخوه من ذكائه ويمتصّها، ولكن أنت هل تعلم ماذا أحدثت في نفسه ؟ أحدثت جرحاً عميقاً، ولو ابتسم أو جاملك فقد جرحته، لذلك سنعيد الحديث الشريف عن السيّدة عائشة رضي الله عنها قالت عن أختها صفيّة: إنّها قصيرة. فقال عليه الصلاة والسلام:

 

(( يا عائِشَة لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ البَحْرِ لَمَزَجَتْه ))

 

[ رواه أبو داود والترمذي عن عائشة رضي اللّه عنها ]

  انتبه: فلا تقل: فلان طويل أو فلان قصير أو أسمر أو أبيض أو فلان عيونه صغيرة أو جبهته عريضة فهذا كلّه من كلام الجهلة وقيمة الإنسان بأخلاقه وبعلمه، وقيمته بمعرفته بالله عزَّ وجلَّ، فلا تستخفّ بأحد.

 

معاملة الناس جميعاً بمقياس واحد وهو مقياس التقوى:

 

 مثلاً في مصر إذا أرادوا أن يستخفّوا بإنسان يقولون عنه: صعيدي، أي من أهل الصعيد، فهذه من الجاهليّة الجهلاء، وفي كلّ بلد فيها من المناطق التي يستخفُّ بها، وهذه عنعنات جاهليّة ما أنزل الله بها من سلطان، جبلة بن الأيهم عندما داس بدوي على طرف ثوبه قام بضربه على أنفه ضربةً هشّمتها، فلما اشتكى إلى عمر بن الخطاب قال له: أصحيحٌ ما ادّعى هذا الفزاريُّ الجريح ؟ قال له: نعم، لست ممن ينكر شيئاً، أنا أدّبت الفتى أدركتُ حقّي بيدي، فقال عمر رضي الله عنه: أرضِ الفتى ـ لا بدَّ من إرضائه ـ ما زال ظفرك عالقاً بدمائه، أو يهشمنّ الآن أنفك وتنال ما فعلته كفُّك ـ ليس من المعقول ذلك فجبلة ملك وهذا الفتى من عامّة الناس ودهمائها وسوقتها ـ فقال له جبلة: كيف ذاك يا أمير ؟! هو سوقةٌ وأنا عرشٌ وتاج !! ـ أي ما هذا الذي تقوله ؟ كيف ترضى أن يخرّ النجم أرضاً ـ فأجابه عمر رضي الله عنه قائلاً: نزوات الجاهليّة ورياح العنجهيّة قد دفنّاها وأقمنا فوقها صرحاً جديداً، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً، فقال له: كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى وأعزّ، أنا مرتدٌ إذا أكرهتني، فقال له عمر رضي الله عنه: عنق المرتدّ بالسيف تحز عالم نبنيه كلُّ صدعٌ فيه بشبا(أم بشذى) السيف يداوى، وأعزُّ الناس بالعبد وبالصعلوك تساوى.
 أخواننا الكرام ما الذي يجمع الناس حولك ؟ نزاهتك، احترامك للناس، أدبك معهم جميعاً، إذا لم تعامل أي إنسان بمقياس واحد مقياس التقوى فلست مؤمناً فقد قال الله تعالى:

﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13) ﴾

( سورة الحجرات )

  إذا أدخلت مقياس المال فأنت لست مؤمناً، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم:

 

(( من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه.))

 

[البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود]

 إذا كنت تعامل الأقوياء معاملةً خاصّة فأنت بذلك لم تعرف الله عزَّ وجلَّ، لم تر القوي، ولم تر أقوى الأقوياء.
 عليك أن تعلم أن الناس كلهم سواسية وإلا فأنت بعيد عن الدين وعن أخلاق المؤمنين:

 

 قال تعالى:

(( أنا الله لا إله إلا أنا مالك الملوك، و ملك الملوك.))

[غريب من حديث مالك مرفوعاً تفرد به علي بن معبد عن وهب ابن راشد]

 إن رآك مالك الملوك تعامل الأقوياء باحترام ولكن من دون نفاق، وتعامل الأغنياء باحترام ولكن من دون تملُّق، إذا لم يكن مقياسك:

 

﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13) ﴾

 

( سورة الحجرات )

  أنت بعيد عن الدين وعن أخلاق المؤمنين.
 أخواننا الكرام حدّثني أخ كان معاراً لبلد عربي ليُدرّس بها، وفي المدرسة صبّ كأساً من الشاي ليشربه فقرع جرس الدرس، فوضعه كما هو وكاد ينطلق إلى غرفة الصف رأى آذِناً يقوم بمسح الأرض، فقال له: خذ هذا الكأس واشربه، وهذا الفَرَّاش من بلاد شرق أسيا، فلفت نظره هذا العمل، وفي اليوم التالي قال للأستاذ: لماذا قدّمت لي هذا الكأس فأنا هنا منذ سنتين ولم يسلّم عليّ أحد ولا قدّم لي شيئاً ـ فهو آذن أو فرّاش من الطبقة الدنيا ومن بلد فقير ـ ؟ فقال له: والله ديني يأمرني بذلك، فقال له: أتسمح لي أن أجلس معك في جلسة لكي أتعرّف على دينك، وقد كان مذهبه هندوكياً، عابداً للصنم، وقد دعاه إلى جلسة وكانت لغته الإنجليزيّة ضعيفة فدعا أخاً ذا لغة أقوى، فقال الفرّاش له: أنا أحمل بكالوريوس في الكيمياء، فتعجّب الأخ من ذلك وفي الأسبوع التالي أحضر معه معجماً باللغة الإنجليزيّة وافتعل أنّ ابنه سأله عن قضيّة كيميائيّة وطلب إليه أن يشرحها له واتضح فعلاً أنّه حاصل على البكالوريوس، لمدة شهرين في كلّ أسبوع جلسة حتى دلّه على الله وأقنعه بالدين فأسلم هو وخمسة من أصدقائه، والسبب هو كأس من الشاي.
 احترم الآخرين فهذا الفرّاش يحمل بكالوريوس في الكيمياء، ومن فقره يعمل فرّاشاً، وعندما احترمته هديته إلى الله عزَّ وجلَّ، فأنا لا أعتقد أنّ مؤمناً لديه ذرّةٌ من الإيمان ويحتقر إنساناً، فحينما تحتقر أحداً فأنت لست مؤمناً، فما هذا الإيمان ! هذا عبد لله لو عرف الله لارتقى عند الله إلى أعلى عليين.
الذي أُحبّ أن أركّز عليه إيّاك ثم إيّاك ثم إيّاك أن تمزح مزاحاً يجرح إنساناً، فإذا كنت معلّماً وذكرت أنّ المهنة الفلانيّة كل من يعمل بها من الأراذل وكلّهم لصوص، وكان عندك في الصف تلميذ يعمل أبوه في هذه المهنة، فماذا حدث لهذا الابن ؟ لقد صغّرته وعقّدته، فهل أنت متأكد أنّ كلّ أصحاب هذه المهنة أرذال ولصوص ؟ هذا كلام فيه جهل.

 

الإنسان بطاعته لله يرقى إلى أعلى عليين ويصبح فوق الناس أجمعين:

 حدّثنا أستاذ لنا في الجامعة فقال: التعميم من العمى، فإذا عممت فأنت جاهل، حينما تعمم فأنت جاهل كأن تقول: أهل المدينة الفلانيّة كلّهم كاذبون، فما هذا الكلام !! ومن قال لك ذلك ؟ هذا هو الجهل بعينه فإيّاك أن تعمم، كل بلد فيها أناس طيبون ومستقيمون وفيها ورعون وأناس ذوو أخلاق عالية، وكذلك فيها أناس ذوو أخلاق سيّئة، فالتعميم على مدينة أو جهة أو منطقة أو طبقة أو على أصحاب حرفة هذا من الجهل والتعميم من العمى، حينما تعمم فأنت أعمى ولا تعرف، فلا تتناول أحداً بسخريتك فهذا ليس من أخلاق المؤمن.
  أنت مؤمن وكلُّ مخلوقٍ عبدٌ لله يرقى عند الله بطاعته، فأنا لا أنسى ولن أنسى قوله صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه وهو سيّدنا سعد بن أبي وقاص:

(( ارمِ سعد فداك أبي وأمّي. ))

[متفق عليه عن علي رضي الله عنه]

  هذا ليس بقليل، النبيّ لم يفد أحداً بوالديه إلا سيّدنا سعد، وإذا دخل سيّدنا سعد كان يقول:

 

(( هذا خالي فليرني امرؤ خاله.))

 

[الترمذي عن جابر بن عبد الله]

 أي أنّ المحبّة والود يفوق حدّ الخيال، فلما توفّي النبيّ عليه الصلاة والسلام ـ انظروا إلى هذا الفهم العميق ـ قال سيّدنا عمر رضي الله عنه: يا سعد لا يغُرنّك أنّه قد قيل خال رسول الله، فالخلق كلُّهم عند الله سواسية، ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له، أنت بطاعتك لله ترقى إلى أعلى عليين، وتصبح فوق الناس أجمعين:

 

﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13) ﴾

 

( سورة الحجرات )

  لا نرقى، ولا نتقدّم، ولا يرضى الله عنّا إلا إذا حكّمنا بيننا مقياساً واحداً وهو التقوى.

 

نماذج من المزاح المؤذي:

 

 الآن نماذج من المزاح المؤذي:

(( لا يأخُذنّ أحدُكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً، ومن أخذ عصا أخيه فليرُدّها ))

[رواه الترمذي عن عبد الله بن السائب عن أبيه عن جدّه]

 في بعض الأحيان يمزح أحدهم مزاحاً ثقيلاً، كأن يخفي سواراً أو غرضاً من الأغراض، أو يخفي حذاء طفل وهو يقوم بالبحث عنه وأبوه ينتظره في السيّارة وهو غاضب، هذا ليس من المزاح، والنبيّ نهى عن مثل هذا المزاح، أو الجندي بالثكنة العسكريّة يخفون عنه سلاحه، وفي ذلك محاكمة عسكريّة ميدانيّة فيمكن بسبب ذلك أن يصاب بالجلطة، فهذا ليس من المزاح كأن تخفي عنه سلاحه أو تخوّفه فهذا نوع من المزاح المؤذي، وقد نهى عنه النبيّ.
 المزاح أحياناً أن يكلّفك أحد الأشخاص بقضيّة ما ويكون عصبي المزاج، فيقول لك: هل أنهيت هذه القضية ؟ فتقول له: لا لم أنته منها وقد نسيتُ، فيقوم منفجراً، وقد تكون أنهيتها وقدمتها له جاهزة ولكنّك أحببت أن تراه وهو منفجر أو غاضب أمامك، فلماذا تفعل مثل ذلك ؟ ما دمت قد أنجزت القضية قل له: نعم لقد أنجزتها، فيشكرك على عملك، أما بعملك السابق جعلته ينفجر ويتكلّم بكلمات قاسية، وربما بكلمات قبيحة، وبعد ذلك قلت له: لا تصدّق فهي جاهزة وتفضّل بأخذها، فهذا من المزاح الثقيل، فإذا كان الإنسان عصبي المزاج وطلب إليك خدمة ما وكنت قد أنجزتها فأخبره بأنّك قد أنجزتها.
 أو إذا تكلّم بالهاتف فقلت له: من المتكلم ؟ يقول لك: خمِّن، ما هذا الكلام ؟ أحياناً يكون المخاطب مشغولاً أو مضطراً أو مستعجلاً قل له: على الفور أنا فلان.
 حدّثنا أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أنّهم كانوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنام رجلٌ منهم، فانطلق بعضهم إلى حبلٍ معه فأخذه، ففزع، فقال عليه الصلاة والسلام:

 

(( لا يحلُّ لمسلمٍ أن يُروّعَ مسلماً ))

 

[رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلى]

  النبي لم ينْهَنا فقط عن ترويع مسلمٍ، بل نهانا أيضاً عن أن نحمّر وجهه فقال:

 

(( لا تحمّروا الوجوه ))

 

[ورد في الأثر]

  لا تحرجه أو تضعه في موقف حرج، قال لك: بالأمس كانت الحرارة ستاً وخمسين، غلط في درجتين أو ثلاث، فتجاوز عن هذا الخطأ، أما أن تقول له: غلطان، دائماً تجد أشخاصاً يحبّون أن يفنّدوا الأقوال، ويحرجون من أمامهم، أما إذا كان الكلام بالعقيدة فهنا يجب عليك أن تردّ وتتكلّم، فكلّ ما يمسّ العقيدة أو يمس الحديث الشريف أو تفسيراً لآية، أما إذا كانت القضيّة لا علاقة لها بالعقيدة أو الحديث أو التفسير أو السنّة، فتجاوز عنها، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

 

(( لا يحلُّ لمسلمٍ أن يُروّعَ مسلماً ))

 

[رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلى]

نهي النبي الكريم عن المزاح المؤذي:

 يوجد مزاح شديد القسوة، كأن يختفي أحدهم عنك ثم يظهر فجأةً أمامك، بعض الأشخاص تُحدث الصدمة له أمراضاً وبيلة، فهل تصدّقون أنّ بعض أسباب السرطان ضعف جهاز المناعة، ومن أسباب ضعف جهاز المناعة الشدّة النفسيّة ـ الخوف ـ فأحياناً الخوف المفاجئ يسبب ضعفاً في جهاز المناعة فيصاب بالسرطان، أحدث بحثٍ في مرض السرطان هو حينما يضعف جهاز المناعة لدى الإنسان تنمو الخلايا نمواً عشوائياً، فما الذي يقوم بضبط نمو الخلايا ؟ جهاز المناعة، وهذا الجهاز تضعفه الشدّة النفسيّة أي الخوف، فقمت بإخافته، والإنسان أحياناً يخاف خوفاً شديداً:

(( لا يحلُّ لمسلمٍ أن يُروّعَ مسلماً ))

[رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلى]

 قد يكون أحد الأشخاص لا يجيد السباحة فيلقوه في مكان عميق، فيجوز أن يخاف أو يعلو صوته بالصراخ فأيضاً هذا مزاح منهيٌ عنه، الشيء الذي يخيف ويحدث صدمة منهيّ عنه، دققوا في هذا الحديث الشريف في يوم الخندق كان زيد بن ثابت ينقل التراب مع المسلمين فأصابته سنةٌ من النوم ـ أي نعس ـ فجاء عمارة بن حزم فأخذ سلاحه دون أن يشعر فنهاه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فهذا ليس مزاحاً بأن يسحب له سلاحه.
 رجلٌ أخذ نعل رجلٍ غيّبهـا وهو يمزح ـ أي أخفاها ـ فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال عليه الصلاة والسلام:

 

(( لا تُروّعوا المسلم، فإنّ روعة المسلم ظلمٌ عظيم ))

 

[رواه البزّار والطبراني وابن حبّان عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه]

  أحياناً اثنـان في السفر يخفي أحدهم للآخر جواز سفره، وأخطر شيء جواز السفر أو هويّته وبإخفائك له فقد أهلكته، وكذلك محفظته يكون بها كلّ وثائقه الرسميّة، فإخفاء الحاجات الخطرة ليس من المزاح، هذا من المزاح المنهي عنه.
 أما الذي يستهزئ مازحاً، ويغتاب مازحاً، ويُحقِّر مازحاً، وينتهك حرمة الدين مازحاً فإنّه آثمٌ وواقع في الحرام من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم.

2ـ من آداب المزاح تجنّب الكذب وقول الزور:

  الآن يوجد لدينـا أدب آخر من آداب المزاح وهو تجنّب الكذب وقول الزور فالنبيّ عليه الصلاة والسلام كان يمزح ولا يمزح إلا حقاً.

 

(( ويلٌ ـ أي الهلاك ـ للذي يحدّث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويلٌ له ويلٌ له ))

[رواه أبو داود والترمذيّ والدارمي عن بُهزُر بن حكيم عن أبيه عن جدّه]
 أي أنّ إضحاك الناس عن طريق الكذب لا يجوز، أحياناً يكون لدى بعض الناس خيال مبدع فيقوم بتركيب وتلفيق قصّة من عنده ويدخل فيها شخصاً من الحاضرين أو غائباً، ويقوم برواية هذه القصّة بحيث توحي إليك بأنّه صادق فيُضحك الناس، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول:

 

 

(( ويلٌ للذي يحدّث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويلٌ له ويلٌ له.))

 

[الترمذي وأبو داود والدارمي عن بهزر بن حكيم عن أبيه عن جده]

  يوجد شيء آخر في هذا الحديث وهو من أخطر الأحاديث، يقول عليه الصلاة والسلام:

 

(( كبُرت خيانةً أن تُحدّث أخاك حديثاً هو لك به مصدّق، وأنت له كاذب ))

 

[ رواه أبو داود عن سفيان بن أسيد الحضرمي رضي الله عنه]

  المستمع لك بريء ومصدّق لك، وأنت تقوم بالكذب عليه، أخواننا الكرام يقول صلّى الله عليه وسلّم:

 

((المؤمن يطبع على كل خلق إلا الكذب والخيانة.))

 

[البزار عن سعد بن أبى وقاص]

  إذا كذبت فلست مؤمناً، وإذا خنت فلست مؤمناً، يمكن للمؤمن أن يقع في كثير من الأخطاء إلا الكذب والخيانة، كأن يكون مؤمناً عصبي المزاج، أو انطوائياً، أو اجتماعياً، أو مؤمناً أنيقاً، أو مؤمناً أقلّ أناقة، أو مؤمناً ينفق الأموال بغير حساب، أو مؤمناً أقلّ إنفاقاً، كلّ هذا على العين والرأس إلا أن تكذب أو أن تخون:

 

((المؤمن يطبع على كل خلق إلا الكذب والخيانة.))

 

[البزار عن سعد بن أبى وقاص]

(( كبُرت خيانةً أن تُحدّث أخاك حديثاً هو لك به مصدّق، وأنت له كاذب ))

[ رواه أبو داود عن سفيان بن أسيد الحضرمي رضي الله عنه]

  بالطبع من باب المزاح لاحظت أنّ بين طلاّب المدارس من يحدث الطفل بأشياء ليس لها أصل ولا وجود، أو أن تكون ذاهباً للنزهة فتقول له: لن نأخذك معنا، فيبكي الطفل ويُسَرّ أنّه أبكاه وقام بإزعاجه، هذا كلّه من المزاح المنهي عنه، أو يأتيه هاتف كاذب أو يسمع خبراً سيّئاً أو يكتبون نعوة ويطبعونها لأحد الأشخاص وهو ليس بميّت، أو أحد الجنود أراد أن يأخذ إجازة فيقوم بطبع نعوة كاملة بأن جدّه قد مات، فموضوع الوفاة المزاح فيه قبيح جداً.

 

الزواج والطلاق والعتق مزحُهنّ جد وجدّهُنّ جد:

  بالمناسبة بالزواج والطلاق والعتق هذه الثلاثة مزحُهنّ جد وجدّهُنّ جد، كأن يقول: والله إني أفكر أن أتزوّج فلانة، مازحاً، أعوذ بالله من ذلك، فلانة عندما بلغها الخبر لم تنم ليلتها من فرحها، وهي تنتظر وتقول الآن سيأتي أو غداً، وأنت تمزح.
 وإذا طلّق مازحاً فقد وقعت الطلقة وحسبت عليه وهو مازح، فإيّاك أن تقترب من هذه الموضوعات الثلاثة، أو أن تقـول إنّ فلاناً سيخطب فلانة، والقصّة لا أصل لها، يحدث للإنسان بذلك حالة تسمى الإحباط، فقد بلغ هذه المرأة أن فلاناً وهو شخص جيّد سيقوم بخطبتها، فهذه المسكينة تفرح من هذا الخبر ولا تنام من شدة الفرح وتنتظر يوماً ويومين وأسبوعاً وأسبوعين ولم يأت أحد لخطبتها، وبعد ذلك يقولون لها: هل صدّقتِ ما قلناه لقد كنا نمزح معك، هذا المزاح قبيحٌ بل من أقبح أنواع المزاح إذا تناول الخطبة أو الطلاق أو العتق.
 قد يقول صاحب العمل لصانعه سوف أجعلك شريكاً لي في المستقبل، فيقول الصانع لأبيه فيمدحه الأب ويقول: جزاه الله كلّ الخير فهذا الإنسان صاحب أصل، وهم بذلك قد دخلوا بالأمل، وتكون هذه الكلمة كلّها مزاحاً فلا شريك ولا هم يحزنون.
 لا تمزح مزاحاً كأن تقول: سأجعلك شريكاً لي أو سأقوم بتوظيفك في العمل، أو سأمنحك منحة، فهذا كلّه لا يجوز.

 

 

(( لا يؤمن العبدُ الإيمان كلّه حتى يترُكَ الكذب في المِزاحةِ والمراءِ وإن كان صادقاً ))

 

[رواه الإمام أحمد والطبرانيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه]

  لا مزاح مع كذب، فهذا ليس في الدين، تمزح من دون كذب، كان يمزح ولا يمزح إلا حقاً، لذلك المؤمن كلمته مسجّلة، كلمته تصريح رسمي لأنّه لا يكذب أبداً، ووعده قطعي، وبشارته صحيحة، وتحذيره صحيح، وتصريحه صادق لأنّه مؤمن، فإذا مزح استُخِفَّ به، وهذه الكذبة التي يطلقون عليها كذبة نيسان ليس لها أصل عندنا فهي مستوردة من أوروبا.

 

مزاح النبي عليه الصلاة والسلام:

  الآن كيف كان يمزح النبيّ عليه الصلاة والسلام:

 

 

(( رجل من أهل البادية كان اسمه زاهراً، وكان يُهدي إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هديّةً من البادية، والنبيّ كما علّمنا كان يقبل الهديّة ويرُدُّ عليها، فيُجهّزه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يخرج إلى البادية، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنّ زاهراً باديتُنا ونحن حاضره. وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحبّه، وكان زاهرٌ رجلاً دميماً فأتاه النبيّ يوماً وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره. فقال زاهر: من هذا ؟ أرسلني ـ أي اتركني ـ فالتفت زاهر فعرف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره في صدر النبيّ. فقال: من يشتري هذا العبد ؟ فقال: يا رسول الله إذا تجدُني كاسداً. فقال عليه الصلاة والسلام: ولكنّك عند الله لست بكاسد..))

 

[رواه الترمـذيّ عن أنسٍ رضي الله عنه]

  أنت عند الله غالٍ، فإذا أحضر لك أحد من الريف هديّة فأنت مقابل ذلك قدم له علبة من الحلوى، فقد قدّم لك هديّة فأصبحت بينكما مودّة فبادر أنت بالردّ عليها، هو عنده الفاكهة بكثرة ومبتذلة ويهمّه علبة من الحلوى مثلاً، فهو قدّم لك فاكهة وأنت قدّم له من الحلوى الموجودة في المدينة، " إنّ زاهراً باديتُنا ونحن حاضره "، هذا من نوع المداعبة أي هو يجلب لنا من حاجات البادية ونحن نؤمّن له حاجات من المدينة.

 

(( إنّ زاهراً باديتُنا ونحن حاضره ))

 

[رواه الترمـذيّ عن أنسٍ رضي الله عنه]

 هذا من نوع المداعبة ونوع من المزاح اللطيف.
 فقال: يا رسول الله إذا تجدُني كاسداً ـ أي لن يشتريني أحد ـ فقال عليـه الصلاة والسلام: ولكنّك عند الله لست بكاسد ـ أنت عند الله غالٍ ـ هذا هو مزاح النبي اللهمّ صلِّ عليه.

 

المزاح ينشّط المجلس بشرط أن يكون حقاً ولا يؤذي أحداً:


 من المزاح ما يذوّب الإنسان وهو كثير اللطف فيقرّب القلوب، ويحبب الناس ببعضها، والآن يحضرني بعض هذه النماذج:

 

 

(( قال أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك وهو في قبّةٍ من أدم صغيرة - أي من جلد - فسلّمتُ فردَّ عليّ السلام وقال: ادخُل. فقلت: أَكُلّي. قال: نعم كُلُّك ادخل ))

 

[رواه أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي]

  الصحابي بدأ بالمزاح، فمزح معه النبي صلّى الله عليه وسلّم.

 

(( أتى رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلـّم يستحمله - أي يطلب منه دابّة - فقال عليه الصلاة والسلام: إنّي حاملك على ولد النّاقة. فظن الصحابي أنّه شيء صغير، قال: يا رسول الله ما أصنع بولد النّاقة ؟ قال: وهل يلد الإبل إلا النوق ؟ ))

 

[رواه الترمذيّ وأحمد عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه]

  ولد الناقة: أي الجمل.

 

(( أنّ امرأةً يقال لها أمُّ أيمن الحبشيّة جاءت إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إنّ زوجي يدعوك. فقال: من هو، أهو الذي في عينه بياض ؟ فقالـت: ما بعينه بياض!!. فقـال: بلى بعينه بياض. فقـالت: لا والله. فقال عليه الصلاة والسلام: ما من أحدٍ إلا بعينه بياض ))

 

[رواه ابن بكّار عــن زيد بن أسلم]

  هل يوجد أحد ليس في عينه بياض ؟!!

(( أتت عجوزٌ إلى النبيّ صلّى الله عليـه وسلّم فقالت : يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنـّة . فقال : يا أُمّ فلان إنّ الجنّة لا يدخلهـا عجوز . قـال : فولّت وحزنت . فقال عليه الصلاة والسلام : أخبروها لا تدخلها وهي عجوز إنّ الله تعالى يقول :إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً(35)فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً(36)عُرُباً أَتْرَاباً(37) ( سورة الواقعة ) ))

 

 هذا نموذج من مزاح النبي اللهمّ صلِّ عليه، فقد كان يمزح مع أصحابه، ويلطّف الأجواء، والمزاح أحياناً ينشّط المجلس، ولكن أن يكون حقاً، وثانياً أن لا يؤذي إنساناً أو فئة أو طبقة أو أصحاب حرفة.
 أتألم أحياناً إذا رأيت مزاحاً قاسياً، إذا ذهبوا مثلاً إلى نزهة فالمزاح القاسي، والكلمات النابية، وأحياناً تبادل الشتائم، أو تبادل الأوصاف غير اللائقة فهذا ليس من أخلاق المؤمن.

(( لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ))

[أحمد عن أنس بن مالك]

  على كلٍ إذا كان الإنسان أحياناً في بيته وفي عمله ومع أصدقائه مرحاً ومازحاً كما مزح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فهذا حسن، وكذلك يوجد نوع من المزاح بابتسامة وبطلاقة الوجه والتعليق اللطيف فهذا مما يجعل الجو مريحاً.

 

الإنسان الذكي الموفّق تأتي سعادته من سرعة تكيّفه مع الظروف:

 

 تجد بعض أصحاب الأعمال دوام الموظفين عنده ثماني ساعات فإذا كان صاحب العمل مرحاً معه تجده يعمل بنشاط ولا يتعب، فما دام الجو مريحاً في العمل بمزاح بسيط، أو مداعبة أو تعليقات لطيفة بين ربِّ العمل والعامل أو الموظّف تجده سيعمل بنشاط ويؤدّي عمله أضعافاً مضاعفة، أما جو الكهنوت وجو العبوس والقسوة، وجو اللوم الدائم والنقد والتجريح كأن يقول للعامل: إنّك لا تفهم، فهذا ليس بالجو المريح للعمل، هذا الجو يبعد العامل عن تأدية واجبه، فإذا كان للإنسان عمل فيجب أن يكون لطيفاً، وإذا كان رباً للعمل فيجب أن يكون ألطف، لأن سعادة الإنسان تأتي من سرعة التكيُّف.
سمعت عن مدرّس كبير في العمر ووقور وأديب كبير وشاعر، ولسبب أو لآخر جعلوه مدرّساً في أحد المدارس الثانويّة، والمدير في عمر ابنه وذو عقل خفيف، أراد أن يزعجه فقرر له برنامجاً للدوام بحيث يكون بعد الظهيرة، وهذا الوقت للتعليم يكون متعباً ومرهقاً، فهذا الوقت وقت للنوم، يكون الطلاّب قد بدأت استراحتهم، فهذا المدرّس الذكي لم يتكلّم بكلمة واحدة، جاء بعد فترة وقال للمدير: والله إنّ هذا التعليم جيّد جداً، نذهب للسوق ونتسوّق ونأخذ أطيب الفاكهة والخضراوات من أعلى الصناديق ثمّ نعود إلى البيت مطمئنين ونأتي إلى المدرسة، لكن المدير لا يريد ذلك فانزعج كثيراً، وكان قصده أن يزعج الأستاذ بهذا الدوام الصعب فلم ينزعج، بعد حين افتعل مناسبة وقام بتغيير البرنامج وجعل دوام هذا الأستاذ في الصباح فلم ينطق بكلمة، وبعد أسبوع قال للمدير: والله التعليم جيّد جداً مثل الموظفين، نداوم ثم نأتي ظهراً نتناول طعام الغذاء ثم ننام، فلم يستفد المدير من إزعاجه بشيء، ولم يتبقّ من الحالات إلا حالة كثيرة الصعوبة وهي تدريس ساعة وراحة ساعة، أي فراغات بين الحصص، وهي أصعب شيء بالتعليم، فإذا انتهت الحصة الأولى الساعة التاسعة فالحصّة الثانية في الحادية عشرة، ماذا تفعل في الساعة العاشرة التي بينهما ؟ لا تستطيع الذهاب للبيت والعودة، فليس لك سوى الانتظار في غرفة المدرسين، فأعدّ له برنامجاً مليئاً بالنوافذ والفراغات، وبعد فترة قال له الأستاذ: والله التعليم جميل جداً، فلن تجد مهنةً كمهنة التعليم ساعة للعمل وساعة للراحة.
 الإنسان الذكي يمتص الإجراءات الموجّهة ضدّه ويحولها إلى طرفة، أما من يظن أن كلّ شيء ضدّه ويخرج عن طوره فهو بذلك يعذّب نفسه ويشقيها ولا يستفيد شيئاً، وهذه يسميها العلماء التكيُّف، فالإنسان الذكي الموفّق المؤمن يتكيّف مع الظرف.

لا يرقى بالمجتمع إلا قيم أصيلة تستنبط من كتاب الله:

 أكثر شيء أحبّ أن أُركّز عليه في هذا الدرس أن لا يؤذي المزاح الإنسان، فلا شكله أو طولـه أو أهله ولا صنعة والده ولا حرفة معيّنة ولا فئة ولا طبقة اجتماعيّة ولا إقليم مدني أو ريفي فهذا كلّه باطل في الدين، فإذا كانت هذه موجودة فيك فهي عنعناتٌ جاهليّة، هذه جاهليّةٌ جهلاء، وهذا يتناقض مع الدين، فأنت كمؤمن توقّر الناس جميعاً، فلا يوجد سوى مقياس واحد علمهم وعملهم فقط، وإذا لم نحكّم هذا المقياس كنا متخلّفين، وأساس العالم المتخلّف أن تحكمه مقاييس غير صحيحة، كمقاييس القرابة، والعشائريّة، والقبليّة، والإقليميّة، كل ذلك يفتت المجتمع، ولا يرقى بالمجتمع إلا قيم أصيلة تستنبط من كتاب الله:

﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13) ﴾

( سورة الحجرات )

  كذلك قوله تعالى:

 

﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ(9) ﴾

 

(سورة الزمر: آية " 9 " )

  إن شاء الله في درس قادم ننتقل إلى أدب مهم جداً هو أدب التهنئة، وأدب التهنئة أدبٌ يجب أن نحرص عليه في مناسبات الزواج، أو النجاح، أو في تأسيس عمل، أو نيل شهادة، فهذا أخوك له حق عليك، يحب أن تزوره، وأن تهنّئه، وأن تكرّمه، وأن تقدِّم له هديّة حتى يبقى المجتمع كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضاً.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور