- التربية الإسلامية / ٠4تربية الأولاد في الإسلام
- /
- ٠1تربية الأولاد 1994م
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وأرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
القسوة البالغة من الآباء تحمل الأبناء على الكذب:
أيُّها الأخوة الكرام: مع الدرس الرابع من دروس تربية الأولاد في الإسلام، وقد كنَّا في الدرس الماضي في موضوع التربية الخُلقيَّة، وقد ذكرت لكم أنَّ من المفاسد الخطيرة التي تصيب أولاد المسلمين.. ظاهرة الكذب وقد تحدَّثنا عنها، والآن نتحدَّث عن ظاهرة السرقة، لكن أودُّ أن أذكر عنها شيئاً دقيقاً هو أنَّ الأب القاسي على أولاده يدفعُهم إلى الكذب، فحينما يكون العقابُ أليماً يلجأُ الطفلُ إلى الكذب لينجوَ من العقاب بحكمِ الدفاعِ عن نفسه، أمّا إذا كان الأب متفهماً لابنه فإنه يُشعِرَهُ أنَّ الصدقَ منجاة، وأنَّه إذا أخطأ ينبغي أن يذكر خطأه، وأنَّ الأبَ لا يملك إلا أن ينصحهُ ويبيِّن له.
إن القسوة البالغة من الآباء كثيراً ما تحمل الأبناء على الكذب، لينجوَ الطفلُ من عقاب الأب، هو لا ينوي أن يكذب ولكن يريد أن ينجوَ من العقاب الأليم، ولذلك فإن أحد أسباب الكذب قسوة الآباء في معاملة أولادهم المذنبين، وأُذكِّركم دائماً بالحديث الشريف:
((علِّموا ولا تعنِّفوا ))
ظاهرة الكذب أحياناً تعود إلى المربي:
رُبَّما كان التعنيف أسهل ولكنَّ التعليم يحتاج إلى نفسٍ طويل.. ويحتاج إلى بيان، وإلى حنان، و إلى صبر وتروِّ، و إلى تأنٍِّ، والثمارُ اليانعة التي يقطفها المعلِّم لا تُقدَّر بثمن، أمَّا الثمار التي يقطفها المعنِّف رُبَّما أَدَّت إلى الكذب، وإلى تركِ المنزل، وإلى الخوفِ من الأب، وإلى أن يصبح وجود الأب في البيت مكروهاً، وإذا خرج الأب من بيته تنفَّس أولاده الصُعداء فإذا عاد صار جوُّ البيت عبوساً قمطريراً، فأنت لا تنجح كأبٍ إلا إذا كان دخولك إلى البيت عيداً لهم، وعُرساً، وإلا إذا كان غيابك مأساة، وهذا هو الأب الناجح.
والإنسان حينما يرعى أولاده وأهلهُ، أقول لكم دائماً هذا الكلام: الغيرُ أنت له وغيرُك له، لكنَّ أولادك من لهم ومن يرعاهم، ومن يعلِّمهم، ومن يحرِصُ على مستقبلهم غيرُك ؟ أنت أبوهم.. بحكم أبوَّتك وحكم المسؤوليَّة التي أُنيطت بك، فلذلك ظاهرة الكذب أحياناً تعود إلى المربي توجد عندنا قاعدة في التربية ربَّما نفعتنا هنا: يجب أن يوقن المعلِّم أنَّ أكثر المشكلات التي يعاني منها في تربية تلاميذه تعودُ إليه، فلو كان ليِّناً صار الصف فوضى وإذا صار فوضى اشتدَّ اضطراب المدرِّس وكان عنيفاً جداً معهم، لينهُ سبَّب الفوضى، والفوضى سبَّبت له هذه الشدَّة النفسيَّة، وهذه سببت له القسوة البالغة في معاملته، فلذلك ترى المعلِّم الناجح لا يعزوها إليهم، بل يعزو أخطاء تلاميذه إليه.
بطولة الإنسان أن يجمع بين الرغبة و الرهبة معاً أثناء التربية:
الأب الناجح كُلَّما رأى من ابنه انحِرافاً أو تقصيراً أو خُروجاً لا ينبغي له أن يقول: يا أخي جيل صعب.. لا تقل ذلك، بل اتَّهم نفسك واتَّهم أسلوبك في التربية، واتَّهم تقصيرك مع أبنائك قبل أن تتهم الأبناء هذا هو الأصل، أي إنَّ أخطاءَ الأولاد تُعزى إلى إهمال الآباء، أو إلى لينِهم الشديد، أو إلى قسوتهم البالِغة،( لا تكُن ليِّناً فتعصر ولا قاسياً فتُكسر)، فليس من الصعوبة أن تكون قاسياً، ولا أن تكون ليِّناً فكلاهما سهل، ولكنَّ الصعوبة البالغة أن يحارَ ابنُك فيك، لين يشفُّ عن رحمة وقسوة تشِفُّ عن حزم، وهكذا علَّمنا الله عزَّ وجلَّ.. والأنبياء الكرام يعبدون الله رغباً ورهباً، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، وربنا عزَّ وجلَّ يعاملك معاملةً ترى أنَّه رحيم رحيم، فإذا توسَّعت في الرَّحمة وتجاوزتَ الحدود رأيت قسوةً لا حدود لها، ربُّنا عزَّ وجلَّ يؤدِّبك، لا يريدك أن تكون منبسطاً إلى درجة التجاوز، ولا منقبضاً إلى درجة اليأس، بل يُريدُك أن تكون راغِباً وراهِباً، راجياً وخائِفاً. وهذا هو الأكمل (لا تكن ليِّناً فتعصر ولا قاسياً فتكسر )
هذا الكلام موجَّه للأبِّ، وللمعلِّم، ولمدير الدائرة، ولمدير الثانويَّة، ولأيِّ منصب قيادي، من السهل أن تكون عنيفاً، ومن السهل أن تكون ليِّنا، ولكنَّ البطولة أن تجمع بينهما، وأن يحارَ فيكَ مرؤوسوك، أي ليِّن وقاسٍ.. حازم ورحيم.
ظاهرة السرقة و صحبة قرناء السوء شيء خطير جداً في المجتمع:
والآن ننتقل إلى ظاهرة السرقة.. من قبل سنتين أو ثلاث لزم المسجِد شاب قد أقبل على الدين إقبالاً عجيباً، والله حين أُحدِّثه كنت أرى الدموع تنهمر على خدِّه، وحينما كان يجلس في الدرس أشعر أنَّه يتلقَّف العلم بشغفٍ عجيب، ثمَّ فجأةً غاب عن الأبصار، سألتُ عنه.. فقيل لي: إنه في السجن. قلتُّ: لم ؟! قيل: قبل أن يتوب إلى الله كان له رفقاء منحرفون، أو بالأصح كانوا عصابة سرقة، فمرَّة كان معهم فكلَّفوه أن يقف في هذا المكان ليرقُبَ شيئاً ما، وصعدوا إلى البيت إلى الطابق الثالث، وسرقوا بيتاً، وأُحيلوا إلى محكمةٍ ميدانيَّة فأقرّوا عن زميلهم الذي وقف على الطريق يراقب لهم شيئاً ما، فكان نصيبه ثماني سنوات سجن، والآن هو في السِّجن.
وصحبة قرناء السوء شيء خطير جداً، لا شيء يشغل الآباء كأن ترى من هو صديق ابنك ؟ ولا يوجد عمل أعظم من هذا العمل، فلا شيء تسعد به في الدنيا سوى أن تربِّي ابنك، فمثلاً إن وجدَّت مع ابنك ممحاة جديدة فاسأله من أين ؟ هذا اليوم لم يأخذ منك مصروفاً، فمن أين أحضرتها يا بنيّ ؟ أغلب الظَّن أن رفيقه أعطاه إياها، وأنت قبلت هذا الكلام.. لا هذا كلام غير صحيح، ولو كلَّفك أن تذهب إلى المدرسة وتطلب إحضار رفيقه وتسأله مرَّة واحدة فيتعلَّم الابن أنَّه قبل أن يكذب يعدَّ للألف، ودائماً الآباء يجدون مع أبنائهم إمَّا مالاً أو حاجات أو أقلاماً أو دفاتر، فيوجد آباء لا يسألون أبداً ولا يهتمُّون، فيطرح الأب سؤالاً فيتلقى جواباً تقليدياً.. وجدها في الطريق، أو رفيقه أعطاه إياها، فأين أنت سائر، هذا قبول ساذج، فيجب أن تحقّق.
الأمانة و الصدق و العفاف أشياء لا تُجزأ:
يقولون عن إنسان بدأ حياته سارقاً، ثمَّ تلبَّس بجريمة قتل، وأذكر قصَّة تقليديَّة صيغت في خمسين بيتاً من الشعر، فيوم أن حكم على هذا السارق القاتل بالقتل وجيء به إلى المشنقة، والمألوف فيمن سيشنق أن يسأل: هل لك من طلب ؟ فقال: نعم أُريدُ أن أرى أُمِّي. وهو طلب معقول، فتوقَّف تنفيذ حكم الإعدام وجيء بأُمِّه، وهكذا تُروى القصَّة وهكذا صيغت شعراً يقول لها:
يا أمِّي مُدّي لسانك كي أُقبِّله، فلمَّا مدَّت لسانها قطعه، وقال: لو لم يكن هذا اللسانُ مشجعاً لي في الجرائم ما فقدّتُ حياتي. هذا الرجل سرق بيضة في صغره من بيت الجيران، فالأمُّ حينما رأته أتى ببيضة أكبرت عمله وفرحت لأنه أصبح رجلاً فقد أحضر معه بيضة، وهذه البيضة جرَّت إلى دجاجة، ثمَّ إلى حاجات، ثمَّ أصبح محترفاً للسرقة، ثمَّ تلبَّس بجريمة قتل، فحكم عليه بالإعدام، فقال لأُمِّه:
لو لم يكن هذا اللسان مشجِّعاً لي في الجرائم ما فقدتُ حياتي
* * *
والآن أقول لكم: الأب الذي يغضُّ النظر عن غرضٍ أو حاجةٍ عند ابنه.. يجب أن يسأله: من أين جئت بها ؟ فيجيب: اشتريتها. فتسأله: من أعطاك المال ؟.. لأنَّ معظم النار من مستصغر الشرر. ويقولون: أمَّهات الفضائل.. الصدق والأمانة. تذكَّروا قول سيِّدنا جعفر عندما سأله النجاشي ملك الحبشة عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال:
أيُّها الملك كنَّا قوماً أهل جاهليَّة، نعبدُ الأصنام، ونأتي الفواحش، ونسيءُ الجوار، ويأكل القويُّ منَّا الضعيف، ونقطعُ الرَّحم. تكلَّم عن الجاهليَّة، قال: حتَّى بعث الله فينا رجُلاً نعرف أمانته وصدقه وعفافه.. وهذه أُمَّهات الفضائل، وبصراحة أقول لكم: من عنده أمانةٌ وصدق، ولم يكن عنده عفاف..بالتعبير الشائع (نفسه خضراء).. لأن غضُّ البصر أمانة، أيضاً هناك قاعدةٌ في الأخلاق: إن الأخلاق لا تُجزَّأ.. فالأمين على أموال الناس أمينٌ على أعراضهم في الوقت نفسِه، فالذي يخونُ الناس في أعراضهم ليس بعيداً أن يخونهم في أموالهم، فالأمانة لا تجزَّأَ.
على الأب أن يبين لابنه الخطأ قبل إنزال العقاب به:
إذاً الشيء الّذي أتمناه أن تراقب.. أحياناً الابن يسرق دون أن يكون سارقاً، أي توجد عنده رغبةُ تملُّك دون أن يعي، فقد يزور أقاربه فيجد لعبة تعجبه فيأخُذها، أو يجد حاجةً فيضعها في جيبه ويذهب، فلا تعدُّه سارقاً..لا، ولكن نبِّهه وقل له: هذه ليست لك. علّمه قبل أن تعاقبه، وبالمناسبة فكثيرٌ من الآباء يُنزِلون أشدَّ العقاب بأولادهم قبل أن يبيِّنوا لهم أن هذا ممنوع. وعندنا قاعدةً في الدين: لا معصية دون تكليف وهو لم يكلَّف.. ليست هناك معصية فالأب الذي ينهال ضرباً على ابنه لأنَّه رأى معهُ حاجةً ليست له، فقبل أن يضربه يجب أن يبلِّغه ويقول له: يا بني هذه ليست لك، وهذه مخالفة للشرع، والله عزَّ وجلَّ هكذا علَّمنا: أدُّوا الأمانات إلى أهلها، لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، ذكِّره بالآيات وبالأحاديث، وبيِّن له.. ثمَّ حاسبه، ولا تحاسب قبل أن تبيِّن، ولا تنزل العقاب قبل أن تشرح، وقبل أن تبيِّن أمر الله عزَّ وجلَّ.
أسباب انتشار ظاهرة السرقة بين الأولاد:
الآباء يستثقلون التحقيق في حاجات يجدونها مع أبنائهم:
إذاً أحد أسباب انتشار ظاهرة السرقة بين الأولاد، أن الآباء يستثقلون التحقيق في حاجات يجدونها مع أبنائهم، وقد يسألون فيأتي جوابٌ ساذج، أو جواب تقليدي، إنّه التقطها من الطريق أو أعاره إياها صديقه في المدرسة، فيقتنع الأب بهذا الجواب، ولا يتابع التحقيق، أمَّا الأب الذي يخاف على مستقبل أولاده، فيتابع التحقيق إلى أن يضع يده على حقيقة ما جرى، ثمَّ يوجِّه ثمَّ يحاسب.
وسيدنا عمر رضي الله عنه أصدر قانوناً يمنع غشَّ اللبن بالماء، القصَّة المشهورة: وهي أنَّ الأمَّ التي أرادت أن تخلط اللبن بالماء ليزداد ثمنه، ورفضت ابنتها ذلك، قالت أمَّها: إنَّ عمرَ لا يرانا يا بنيَّتي. فقالت ابنتها: إن كان أميرُ المؤمنين لا يرانا، فربُّ أميرُ المؤمنين يرانا.
الإنسان يتحرَّك إمَّا بوازع باطني أو برادع خارجيّ:
فأنت عندما تنمِّي الوازع الباطني عند ابنك، هذا أرقى من أن تنمِّي الوازع الخارجي، وسأقول لكم نقطةٌ دقيقة: الإنسان يتحرَّك إمَّا بوازع باطني أو برادع خارجيّ. فلو فرضنا من باب المثل المضحك: أن أحدَ الأشخاص يسبح في المسبح، وأراد أن يتبوَّل لم يحدث شيء، ولم يشعر به أحد، الآن يقال إنَّ بعض المسابح أضيفت لمائه مادةٌ تتفاعل مع البول، فإذا فعلها أحد السابحين، طفت حوله دائرةٌ بنفسجيَّة اللون، ويوجد حارس معه مكبِّر شديد للضوء، فيأخذونه ويدخلونه غرفةً خاصَّة على مدخل هذا المسبح، ومعلق على جدرانها عباراتٌ قاسية جدَّاً بحقِّه.. وضع المادَّة التي تتلون مع البول في المسبح هذا رادع خارجي، وأُوربَّا كلُّها والغرب كلُّه النظام الدقيق المطبَّق عليهم أساسه الرادع الخارجي.
فلمّا قطعت الكهرباء عنهم ليلةً، تمَّت في هذه الليلة مئتا ألف سرقة، السرعة الآن في الطرقات.. يوجد رادار مخفي يكشف السرعة الفائقة، فاخترعوا جهازاً يشوِّش على الرادار، فاخترعت الدولة جهازاً يكشف عن أجهزة التشويش، فالحياة الغربيَّة كلَّها، والحياة المادِّية كلُّها، وحياة أهل الإعراض عن الله، أساسها الرادع الخارجيّ، ولكنَّ الدين الإسلاميّ إضافةً لوجود الرادع الخارجيّ هناك أساس الالتزام الوازع الباطنيّ، فالمربِّي الناجح يربي أبناءه على الوازع الباطنيّ قبل أن يربِّيهم على الوازع الخارجيّ.. فالوازع الباطنيّ، علِّمه الخوف من الله عزَّ وجلَّ، علِّمه أنَّ الله يراقبه، وعلِّمه الخشيةَ من الله دون رقيب.
المؤمن الحقيقي هو المؤمن الذي يخشى الله في سره قبل علانيته:
المثل الشهير الذي تعرِفونه والذي رويته كثيراً، عندما رأى سيدنا عبد الله بن عمر راعياً ومعه شياه فقال له: بعني هذه الشاة وخذ ثمنها، يريد أن يمتحنه. قال له: ليست لي. قال له: قل لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب. قال: ليست لي. قال له: خذ ثمنها. قال له: والله إنّي لفي أشدُّ الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدَّقني فإنِّي عنده صادقٌ أمين، ولكن أين الله ؟!
يا إخواننا الكرام هذا الراعي وضع يده على جوهر الدِّين، عندمَّا تقول لي: أين الله ؟ أَعدُّك فقيهاً وأَعدُّك عالماً، ومتديناً حقيقياً، وإن كانت معلوماتك قليلةً جداً، وطالما أنك قلت: أين الله ؟ فقد وضعت يدك على جوهر الدين، هذا هو الدين.
(ركعتان من ورِع خيرٌ من ألف ركعةٍ من مخلِّط )إلى أن تراقب الله، وإلى أن تخشاه في سرِّك قبل علانيتك.
من لم يكن له ورعٌ يصدُّه عن معصية الله إذا خلا، لم يعبأ الله بشيءٍ من عمله. عوِّد نفسك أن تقول: أين الله ؟ المؤمن يؤَدِّي ما عليه دون قضاء، ويؤدِّي ما عليه دون إزعاج، لأنَّه يعرفُ أين الله، الله مراقب.
من الظواهر السيئة أيضاً الكلام البذيء والسباب والشتائم:
توجد عندنا ظاهرةٌ أُخرى سيِّئة جداً.. الكلام البذيء والسباب والشتائم، فالحقيقة ولو كان الكلام فيه قسوة.. أن أحد أكبر أسباب بذاءة لسان الصغار، هو أنَّ الأب أحياناً يتكلَّم كلاماً بذيئاً إمَّا في ساعة غضبه الشديد، أو في ساعة انبساطه، فالكلمات البذيئة التي يقولها الأب في البيت مازحاً أو جاداً، غاضباً أو راضياً، هذه تُحفَر في نفس الأبناء، فهل من الممكن أن طفلاً يسبُّ الدين ؟ نعم.. إذا سمعها من أبيه، وهل من الممكن أن طفلاً يتكلَّمَ بأسماء العورات صراحةً ؟ نعم.. إذا سمعها من أبيه. فأوَّل سببٍ رئيس لبذاءة اللسان ولظاهرة السباب والشتائم.. هو الأب نفسه.
(الحمَّى: الحرارة )، ما رضيَ النبيّ من ابنته أن تلعن الحمَّى فإذا كان الأب يلعن كلَّ شيء والأمَّ تلعن كلَّ شيء مع كلام مجاوزٍ للحدود، وهذا الطفل موجود ويسمع، والطفل يتكلّم بما يسمع.
أوَّل أسلوب في تربية الأقوال تهذيب اللسان:
إذاً أوَّل أسلوب في تربية الأقوال تهذيب اللسان أن يكون الأبُ والأمُّ على أعلى مستوى من تهذيب اللسان، هناك كلمات ليست معصية.. مثلاً أين هو وماذا يفعل ؟ أُجيب: والله في الحمام، هذه كلمة لطيفة، توجد أسماء أخرى مثلاً: يتوضَّأ أيضاً كلمة لطيفة. ومثلاً ألبسته الداخليَّة تلوثت هذه أحلى من كلمات أُخرى، وبالمقابل يمكن أن تعوِّد ابنك أن يتكلَّم الكلمات التي يقولُها معظم الناس بأسمائها الصريحة.. فهبط بذلك مستواه.
ولم يتكلَّم كلمة تثير الشهوة، والقرآن كلُّه آداب وحياء، الكلمة التي لا أُطيقها أن يقول الإنسان: لا حياء في الدين ويتكلّم أشكالاً وألواناً، الدين كلُّه حياء، وهذه الكلمة: لا حياء في الدين بمعنى أنَّك ينبغي أن تسألَ عن حكمٍ فقهيّ. فلو رأى مثلاً ماءً شفافاً على ثيابه الداخليَّة ترى هل يحتاج إلى غسل ؟ نقولُ له: لا هذا ليس منيّاً هذا مذيّ، فإذا استحى الإنسان أن يسأل إمّا أن يقع بالشك في صلاته، أو يرهق نفسه بما لم يكلِّفه به الشرع، فكلَّما رأى هذا السائل يغتسل، لا ليست له حاجةٌ في الاغتسال بل يجزئه الوضوء، هذا معنى لا حياء في الدين، واسأل على انفراد، بعض الناس يشترون كتاباً فقهيّاً ويضعه في البيّت، فمهما طرأ عليه من أسئلة يجد الجواب فيه، وبذلك حُلّت القضيَّة.
من أسباب الكلام البذيء و السباب و الشتائم:
1 ـ المربي نفسه:
أوَّل نقطةٍ إذاً: الكلام البذيء، السباب، الشتائم، هبوط مستوى الكلام.. يعودُ في بعض أسبابه إلى المربّي، إلى الأمِّ والأب.
2 ـ الخلطة الفاسدة بأولاد الأزِقَّة:
وفي أسباب أُخرى يعودُ إلى الخلطة الفاسدة بأولاد الأزِقَّة والله يسمع الإنسان من أولاد الأزقَّة كلاماً شَهِدَ الله أن الحجر يستحي منه، تجد رجُلاً في الستين من عمره يخجل منه، طفلٌ صغيرٌ يتكلَّم كلاماً بذيئاً، فأين أبوه وأين أهله ؟ فالعوام يقولون: المربَّى غالٍ، أما هذا فلا شأنَ له لا عند الله ولا عندَ الناس.
شهادةُ المرأة أولادها:
أحياناً يخطر في بالي أن الأب قيمته الحقيقيَّة: أولاده، والأم قيمتها الحقيقيَّة: أولادها، فلو كانت معها أعلى شهادة علميَّة، وأولادها مهملون فهي جاهلة، ويوجد بالجيل السابق أمَّهات وكلكم تعرفون ذلك، عندهن حرصٌ على أولادهن، وعلى تربيتهن وعلى تهذيبهن وعلى تأديبهن مع أنَّهن أُميَّات - عندهن حرصٌ بالغ لا حدود له، فأقول لكم: شهادةُ المرأة أولادها.
توجيهات النبيُّ في هذا الموضوع:
1 ـ احترام الطرف الآخر:
سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر، فالَّذي يحضرني الآن أنَّ معظم الناس إذا حاورَ إنساناً يستخدمَ أساليب التجريح مثل: أنت لا تفهم، ماذا تفهم عن هذا الموضوع ؟ هذا سباب.. لكنَّ الإنسان الرَّاقي يدير المناقشة عشر ساعات ولا يتكلَّم كلمةً واحدةً فيها جرحٌ للطرف الآخر، من أين هذا الأدب نقتبسه ؟ من القرآن:
﴾قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) ﴿
أعوذ بالله.. النبيُّ يجرم ؟! قال:هذا من تأديب القرآن للنبيّ، دائماً احترم الطرف الآخر لا تسألون عمَّا أجرمنا ولا نسأل عما تعملون وقال تعالى:
﴾وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) ﴿
2 ـ عدم سباب الطرف الآخر لأن سباب المسلم فسوق:
اسمعوا من سيِّدنا يوسف:
﴾وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) ﴿
إخوته أجرموا بحقِّه، ولكنِّه جعل الشيطان هو المسؤول لئلا يحرجهم، فإذا ناقش الإنسان وحاور، يمكن أن يجعل المناقشة عشر ساعات ولا يحتاج لكلمةٍ فيها تجريح، وطعن وسباب، أو سخرية أو انتقاص، أو احتقار، إذاً سباب المسلم فسوق.
3 ـ على الإنسان ألا يعمل عملاً سيِّئاً لِئلا يجلب لوالديه السباب والشتائم:
ويقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام البخاريّ:
(( إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالَ يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ ))
وقد نفهم هذا الحديث بشكلٍ موسَّع، أي إذا أساء الإنسان ربَّما جلب سباباً لأُمِّه وأبيه، وعند العوام فوراً يصل في سبابه إلى الأب والجد وسائر أفراد الأُسرة، فكلَّما كان الإنسان محسناً جلب لوالديه السمعة الطيِّبة، فإذا أساء لعن الناس والديه، وقد كان أحد الأشخاص سائراً في الطريق فسبَّ الناس والديه، فسأل أُمَّه: ماذا فعل أبي ؟ فقالت له: ماذا تريد من هذا السؤال ؟ فقد مات أبوك رحمه الله. فأَلحَّ عليها فقالت له: كان أبوك كلَّما مات ميِّت قام بحفر قبره، وأخذ كفنه ثمَّ باعه. فأصبح الابن كلَّما مات أحد حفر قبره، وأخذ كفنه، ووضع الميت على ظهر القبر، ثمّ سار في الطريق فبدأ الناس يترحَّمون على أبيه. هذا العمل عمل سلبيّ.. فعندما يسيء الإنسان يتذكَّر الناس عمل السابق، وهذه طرفة لا علاقة لها بالدَّرس.. أمَّا الإنسان فعليه ألا يعمل عملاً سيِّئاً لِئلا يجلب لوالديه السباب والشتائم.
(( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّار ))
الرَّجُل قيمته بعلمه وأخلاقه لا بشكله و مظهره:
كنت أقول لإخواننا في بعض المدن الساحلية الكبرى، المياه المالحة تسير في البحر حوالي ستين كيلو متراً، فإذا ركبتَ الطائرة، وحلَّقت على شاطئ أمريكا الشرقي، تجد خطاً أسود متَّصلاً في نيويورك، هذا الخط طوله ستِّون كيلو متراً، هذه هي المياه المالحة التي تخرج من هذه المدينة، التي يزيدُ سكَّانها على سبعة عشرَ مليوناً، ومع ذلك فالبحرُ لا ينجُس، ماؤه طاهر.. ولننظر الآن إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا قَالَ غَيْرُ مُسَدَّدٍ تَعْنِي قَصِيرَةً فَقَالَ لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ ))
تجد ابنةً تدرس في المدرسة، أعطاها الله شيئاً وحرمها من شيء آخر، تجد البنات من حولها و دون تربية يسخرن منها، بسبب ما تفقده، فتجد في المجتمعات المسلمة مجتمعاً مقصِّراً، فيه تراشق بالتهم، وفيه تعيير وغمز ولمز، أي حينما قالت عنها إنَّها قصيرة، " قال: يا عائشة لقد قلت كلمةً لو مزجت بمياه البحر لأفسدته ".
فمثلاً أن تذكر شيئاً عن شخص ما بأن تقول: طوله كذا. فهذا الكلام يجب ألا نتكلم به إطلاقاً لأنَّ هذا خلق الله، فالإنسان يملك صفاته ولا يملك شكله، فمن منَّا له خيار بشكله ؟ لا أحد له خيار في ذلك، وعلى كلٍ فالنبيّ الكريم عندما كان ينظر إلى المرآة يقول: اللهمَّ كما حسَّنت خَلقي فحسِّن خُلُقي.
هذا شيءٌ لطيف جدَّاً.. أما إذا كان شكل الإنسان.. طويلاً أو قصيراً أو أبيض أو أسمر اللون فهذا من خلق الله.
يروى أن الأحنف بن قيس كان: قصير القامة، أسمَرَ اللون، مائل الذقن، غائر العينين، ناتئ الوجنتيّن، أحنفَ الرجل، ليس شيءٌ من قبح المنظر إلا وهو آخذٌ منه بنصيب، وكان مع ذلك سيِّدَ قومه، إذا غضِبَ غضِبَ لغضّبته مئة ألف سيفٍ، لا يسألونه فيم غضب، وكان إذا علِمَ أنَّ الماء يفسِدَ مروءته ما شربه.
لا يجوز للإنسان عقد مفاضلة في الشكل بل يجب أن تكون المفاضلة في الخلق و التديُّن:
الرَّجُل قيمته بعلمه وأخلاقه، وهذا ينبغي له، أن يُرسَّخ حتَّى في عالم النساء، فالأم التي تتحدَّث دوماً في مجلسها عن عيوب الأخريات وصفاتهنَّ، فقد عقَّدت ابنتها، فيا أيها النسوة تحدثن عن دينهنَّ وعن أخلاقهنَّ وعن ورعهنَّ، وما يحفظن من قرآن وعن إخلاصهن لبيتهن وزوجهن وأنَّهن من الطراز الأوَّل، اجعلنَ مجال التسابق في الأخلاق، لا في الجمال.. فعندما تتكلَّم الأم عن جمال بناتها وقريباتها وصديقاتها، وهذه رغبوا فيها لأنَّ صفاتها كذا، وابنتها الصغيرة تسمع ذلك فماذا سيحدث لها ؟.. يجب أن لا نطرح هذه الموضوعات والموضوع الجمالي دائماً، بل يطرح الموضوع الكمالي.
فالأم الجاهلة حديثها دوماً عن جمال من حولها، فإذا كانت ابنتها تفقد شيئاً مما ذكرته أمُّها من صفات الجمال فقد تصاب بعقدةٍ نفسِيَّة وتتحطم، فلا يجوز عقد مفاضلة في الشكل بل يجب أن تكون المفاضلة في الخلق و التديُّن.
جعل الله نظام الحياة نظام أسرة ليمنح الآباء فرصة للعمل الصالح:
أيها الأخوة الكرام: الأبوَّة مسؤوليَّة.. فالأب مسؤول إن كان قد ربَّى أولاده تربيةً صالحةً دخل الجنَّة بسببِهم، وسعد إلى أبدَ الآبدين، وما شاء الله أن يكون نظام الحياة نظام أُسرةٍ، إلا ليمنح الآباء فرصةً للعمل الصالح.. هذا ابنك، فقد كان الرسول اللهمَّ صلِّ عليه إن لم يعجبه اسم قام بتغييره فوراً.. قال له: من أنت ؟ قال: أنا زيدُ الخيل. قال له: لا بل زيد الخير. غيَّر اسمه على الفور، أعرف معلمين حكماء إن وجدوا اسماً من أسماء الطلاب يثير الضَّحك فيغير له اسمه فوراً وطوال العام.
يهمنا أن تكون كرامة الإنسان موفورة، إذ توجد أسماء فيها خطأ، فقد كان صلَّى الله عليه وسلَّم يغير الاسم..
(( عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ قَالَ لَقَدْ سَأَلْتَ عَظِيمًا وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ قُلْتُ بَلَى فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ تَكُفُّ عَلَيْكَ هَذَا قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ قَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ))
كلام المؤمن أطهرُ من ماء السماء:
الكلام أكبر عمل سيئ، إذ ليس المؤمن بالطَعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحشِ، ولا البذيء. والمؤمن لا يكون بذيئاً، بصراحة هل في مزحه يوجد جنس أو غمز ولمز وكلام مغشوش؟ هذا والله بعيد عن الإيمان، فكلام المؤمن أطهرُ من ماء السماء، وأنقى من الثلج، ولا يلفظ كلمة مغشوشة أو معيبة إطلاقاً، وهناك كلام يغشه الناس، كيفما تكلَّمَ يغشَّه ويحوِّره ويقول: هكذا تقصد ؟ فتجيبه: والله لم أقصد هذا الكلام. وهؤلاء هم أهل الدنيا بسبب بعدهم عن الله عزَّ وجلَّ، يضحكون لهذا المُزاح الرخيص، الَّذي يحوِّل الكلام إلى معانٍ كلُّها مما يكون بين المرءِ وزوجه.. وبالمناسبة إذا تحدَّث الإنسان لمن حوله عمَّا يجري بينه وبين امرأته فهذا فاقد الشرف وهناك أحاديث كثيرةً جداً تنهى عن ذلك.
قصة درواس مع هشام بن عبد الملك:
قد رويت لكم قصَّةً بشكلٍ مختصر وسأرويها الآن تفصيلاً.. قال: قحطت البادية في أيَّام هشام بن عبد الملك، فقدمت القبائل إلى هشام ودخلوا عليه، وفيهم درواس بن حبيب وكان عمره أربع عشرة سنة، فلمَّا دخلوا على هشام ارتبكوا، فأحجمَ القوم وهابوا هشاماً، ووقعت عين هشامٍ على درواس فاستصغرهُ، فقال لحاجبه: ما يشاءُ أحدٌ أن يصل إليَّ إلا وصل، حتَّى الصبيان !! فعلِمَ درواس أنَّه يُريده فقال: يا أمير المؤمنين: إنَّ دخولي لم يُزرِ بك ولكنَّه شرَّفني وإنَّ هؤلاءِ القوم قدموا لأمرٍ أحجموا دونهُ، وإنَّ الكلام نشرٌ، والسكوتَ طيٌ، ولا يعرفُ الكلام إلا بنشره. فقال هشام: فانشُر لا أبا لك.
قال: يا أميرَ المؤمنين أصابتنا ثلاثُ سنين، فسنةٌ أذابت الشحم، وسنةٌ أكلت اللحم، وسنةٌ دقَّت العظم، وفي أيديكم فضولُ مال فإن كانت للهِ ففرِّقوها على عباد الله المستحقّين لها، وإن كانت لعبادِ الله فعلامَ تحبسونها عنهم، وإن كانت لكم فتصدَّقوا بها علينا فإنَّ اللهَ يجزي المتصدِّقين، ولا يضيع أجرَ المحسنين، واعلم يا أمير المؤمنين أنَّ الوالي من الرعيَّة، كالرُّوحِ من الجسد، ولا حياةَ للجسد إلا به. فقال هشام: ما ترك الغُلامُ في واحدةٍ من الثلاثِ عذراً.. وأمرَ أن يعطى إلى باديَته مئة ألف درهم، وأمرَ لِدرواسَ وحدهُ بمئة ألفٍ أُخرى. فقال: يا أميرَ المؤمنين ارددها إلى أعطيةِ أهلِ البادية فإني أكره أن يعجزَ ما أمرت لهم بهِ عن كفايتهم. قال له: ما لك من حاجةٍ تذكُرُها لنفسكَ ؟ قال: لا.. ما لي من حاجةٍ دون عامَّة المسلمين.
السلف الصالح كان لا يطلب لنفسه شيئاً بل لعامَّة المسلمين:
السلف الصالح إذا التقى بمسؤول، كانوا يطلبون طلباً عاماً للمسلمين، لا يطلب طلباً خاصاً له، أو حاجات شخصيّة، والعلماء العاملون المخلصون لا يطلبون لأنفسهم شيئاً، بل لعامَّة المسلمين.. فأنا الآن أُمثِّل الذين كلَّفوني أن أصل إلى هذا المسؤول، فهل ينبغي لي أن أطلب حاجةً شخصيَّة ؟. قال له: فما لك من حاجةٍ تذكرها لنفسك ؟ قال: ما لي من حاجةٍ دون عامَّة المسلمين.
ظاهرة الميوعة والانحلال أساسها تقليدُ الأجانب:
في الحقيقة عندنا ظاهرةٌ أُخرى وهي: ظاهرة الميوعة والانحلال، و أساسها تقليدُ الأجانب.. روى البخاريُّ ومسلم.
(( خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَوْفُوا اللِّحَى ))
أي خالفوهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تشبَّه بقومٍ حُشرَ معهم.. ومن هوي الكفرةَ حُشر معهم، ولا ينفعه عمله شيئاً، تجد شاباً بأيَّام بطولاته كل همّه زينته الظاهرة، يجلس ساعات وراء المرآة كأنَّه فتاة، هذا من الميوعة والانحلال، وفي حديثٍ آخر:
(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا لا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلا بِالنَّصَارَى فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الإشَارَةُ بِالأصَابِعِ وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الإشَارَةُ بِالأَكُفِّ))
وروى الترمذي عن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنَّه قال:
(( لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلا تَظْلِمُوا))
يمكن للإنسان أن يقلد الأجانب لكن في العلم لا في الأخلاق والسلوك:
لا يكن الإنسان مقلِّداً، بل يجب أن ينطلق الإنسان في تصرّفاته من دينه، لا بالتقليد الأعمى، وفي الحقيقة توجد نقطةٌ دقيقةٌ.. نحن يمكننا أن نقلِّدَ الأجانب ولكن في العلم لا في الأخلاق والسلوك، وتحضرُني كلمة وهي لأحد الأُدباء قال: ثقافة أيَّة أمَّة بمثابة عسلٍ، استُخلِصَ من زهرات مختلف الشعوب على مرِّ الأجيال، وهل يعقل إذا لدغتنا جماعة من النحل أن نقاطع عسلها.
الثقافات تؤخذ، والعلوم تؤخذ، لكن العادات والتقاليد لا تؤخذ فماذا نأخذ وماذا ندعُ من الغربيين ؟ قال: نأخُذ ما في عقولهم، وندعُ ما في نفوسهم.
وبمناسبة أنَّ ثقافة كلَّ أُمَّةٍ ملكُ الأمم جميعاً، يقول النبيُّ عليه الصلاة والسلام:
(( طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَوَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرَ وَاللُّؤْلُؤَ وَالذَّهَبَ ))
وكذلك قال:
(( اطلبوا العلم ولو في الصِّين ))
وقال:
((الحكمةُ ضالَّةُ المؤمن، فحيث وجدها فهو أحقَّ بها ))
من أساليب مكافحة الميوعة والانحلال:
1 ـ عدم التقليد الأعمى لأهل الغرب:
لو أنَّ لنا أعداء وعندهم إنجاز حضاريٌّ، أو علمي، فيمكننا أن ننقله إلينا، ولا يمنعنا من أخذه أنَّهم أعداء، خذ ما في عقولهم ودع ما في نفوسهم، فالعلم ليس له وطن، ومن التعصُّب أن تنسب علماً ما إلى وطن.. لأن العلم عبارة عن كشف لقوانين قد قننها الله عزَّ وجلَّ، فمن يكشف القانون نأخُذه منه مهما كان، فنحن نحارب التقليد الأعمى بالعادات والتقاليد، أمَّا في شؤون العلم والتقدُّم الحضاري فهذا نقتبِسُه، فالإسلام مرن سمح لنا أن نأخُذَ ما لا يتعارض مع ديننا ولا سيَّما أنَّ الله سبحانه وتعالى يقول:
﴾وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴿
فإذا لم يكن عندنا قوَّة تكافئ قوَّتهم فكيف ننتصر عليهم ؟.. إذاً من أساليب مكافحة الميوعة والانحلال، عدم التقليد الأعمى لأهل الغرب.
2 ـ النهي عن الاستغراق في التنعُّم:
الشيء الثاني: النهي عن الاستغراق في التنعُّم.. دقِّقوا في هذه الأحاديث أيُّها الأخوة، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين:
عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أنَّه كتبَ إلى المسلمين المقيمين في بلاد فارس فقال: إيَّاكم والتنعُّم وزِيَّ أهل الشرك.
((عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ بِهِ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ ))
ليس أبعد عن النفس من شاب غارق في النعيم، فهو يزعج كل إنسان وينزعج من كل شيء، فالذي يحبُّه الإنسان عادةً أن يكون شاباً مخشوشناً، يتحمل شظف العيش، والنبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
(( اخشوشنوا فإنَّ النِعم لا تدوم))
أمّا الاستغراق في النعيم فمشكلةٍ كبيرة.
الابن ذخيرةٌ الأب وهو وسيلته إلى الجنَّة:
وفي درسٍ آخر إن شاءَ الله تعالى نتابعُ الحديثَ عنِ التربية الخُلُقيَّةِ، الَّتي ينبغي أن يربِّيها الأبُ المسلم لأولاده، ونيتنا أن يستوعب الإنسان هذه الدروس و يستمع إليها مرة ثانية، أو ثالثه ويكتُب بعض الملاحظات، حين تتراكم عنده التصوُّرات والقناعات، فيجد نفسه من غير شعور يقوم بتوجيه أولاده التوجيه الصحيح، وهذا التوجيه الصحيح أساسيّ، وحينما يرى الإنسان ابنه على دينٍ قويم، وعلى أدَبٍ رفيع وعلى أخلاق رضِيَّة. وعلى همَّة عالية وإنتاج حسن فهذا الابن هو ذخيرةٌ للأب وهو وسيلته إلى الجنَّة.